-->

رواية لازلت أتنفسك الفصل الرابع

 

 دلف يعد القهوة مرددًا وراء كوكب الشرق أم كلثوم "وقسوة التنهيد والوحدة والتسهيد لسه مهمش بعيد لسه مهمش بعيد "
ارتفع صوته عن صوتها وهو يقول "وعايزنا نرجع زي زمان قول للزمان ارجع يا زمان"
ابتسم عماد بتعجب من حالته وهو يدلف إلى المرحاض يمسح وجهه ببعض الماء متمتمًا بتعجب:
_ زين على أول أبواب الجنان يا حرام.



مسح على وجه وغادر إلى بلكون المنزل قاطعه صوت رنين هاتف مريضه وشقيقه وصديقه معلنًا عن اتصال هاتفي من اسم مدون ب "داليدا" فرصة ذهبية أتت إليه أغلق بوجهها سريعًا وهو يدون رقم هاتفها لديه ويمسح مكالمتها لزين قبل أن يراها وقبل أن يضع الهاتف مكانه مرة أخرى دلف زين متسائلًا باستغراب:
_ بتعمل إيه بالتليفون يا عماد
هتف بتوتر وشهقة مضحكة:
_ ايه يا زين ما تقول احم ولا أي حاجة قطعتلي خلفي يا راجل مبعملش حاجة أنا كل ما أبص لتليفوك ألاقيه بينور هو ملبوس...؟!

صدح صوت ضحكته الرنانة بالمنزل قائلاً:
_ البعيد جاهل هقول إيه يعني ده أوبشن فيه يا عمده.. أحلى قهوة يارب تعجبك
جلس معه يحتسي قهوته وتجلده ذكرياته المرهقة أصبح أسيرها قلبه يرتعش بعنف على عكس الإبتسامة التي تزين ثغرة وعيناه التي يحتلها الحزن والسواد متخفيًا فى نظاراته الشمسية في الخارج وإحدى نظارات العصر ليلاً تعطي له جذابية كبيرة تجعله وسيمًا يحدث بداخله معركة دامية ..لا يعلم هل ستنتهي على خير أم ستترك أثر سلبي

يهتز جسدها بعنف من كرامتها التي تبعثرها معه كل يوم يغلق الهاتف بوجهها يطردها كل يوم من حياته وهى لا تستوعب ذلك بكت بحرقة تشعر بتلوي في أحشائها وهى تعض على شفتيها مبتلعة غصة مؤلمة أخذت دفترها تدون به:
_ أشعر وكأني قطعة خبز صغيرة لا تقوى على تلك الأسنان الحادة التي تمضغها وتجثو الأيام على قلبي بقوة تجثو وتجثو وتجثو حتى تفتفت تلك المسكينة ...،أشعر وكأني عجوز سبعينية ألقى بها أولادها بدار مسنين لثقل حملها
وعلى الرغم من أن سيكون عمودها الأسبوعي باللغة العامية هي تفضل اللغة العربية الفصحى وتدون كل ما في صدرها بالفصحى.

عاودت تدون مرة أخرى وهى تبكي:
_ إلى ذلك البعيد القريب .. إلى ذلك الراحل يؤلمني قلبي أشعر بالعجز مما تفعله بي وبقلبي
إلى ذلك البعيد القريب قلبي ممتلئ بمشاعر مختلطة تجاهك إليك يا أنا وعُد مني لي .. لا تحاول عبثًا الخروج من تلك الحلقة التي نطوف بها .. ف إن كنت الأمير الحائر أنا صاحبة الحذاء الزجاجى ستبحث عني فى جميع النساء وفي النهاية ستعود لي
..، إلى ذلك البعيد القريب عُد أرهقنى الفراق.

أغلقت الدفتر وهى تبكي بقوة كطفل فقد والديه ولما كطفل هى في عمر الطفولة فقدت والدها ومن بعده والدتها عند زواجها بذلك الرجل الذي صاحب كل صفة سيئة مسحت دموعها وهى تشهق مغمغمة:
_ يارب ريح قلبي يارب
نادتها والدتها قائلة:
_يلا يا داليدا علشان تتغدي
وصوت إسماعيل يصدح هو الآخر بخبث:
_ يلا يا ديدا يلا يا حبيبة عمو
مجرد سماع صوته يجعلها تشعر بالغثيان ويمر عليها كل لحظة صدر منه فعل شنيع لها.

مساءاً
يجلس وحيدًا لا يوجد معه سوى بضعه صور..، لقطات من لحظات مضت لحظات سعيدة لن تمر مرة ثانية يتذكر عندما كان في الخامسة ووالدته تبدل له ملابسه وهو يقبلها ووالده يلتقط صورة لهذه اللحظة .. ما أجمل تخليد اللحظات السعيدة ..؟! وما أقساها عند رحيل من هم معنا بهذه اللحظة ..؟!
تحشر صوته وهو يقول:
_ الغاليين هما بس اللي بيفارقوا .. هما بس اللي بيوجعوا قلوبنا عليهم
وقعت عينيه على صورة له معها ومن سواها يلتقط الصور معه ..، من سواها يجعله يبتسم هكذا في صورة..، من سواها تعشقه ويعشقها
"يعشقها" صدحت الكلمة برأسه مئات المرات
وشرد في يوم ما قبل الفراق ببضعه أيام...

يجلس معها أعلى الصخور يحتضن كفها الصغير بكفه وشعرها يتطاير على وجهه ومستمتع هو بذلك يبتسم لها بهدوء لا يتحدث
"فإذا وقفت أمام حسنك صامتاً فالصمتُ في حَرَم الجمال جمالُ كَلِماتُنا في الحُبِّ .. تقتلُ حُبَّنَا " نزار قباني
هتفت هى بسعادة:
_ بتحبني يا زين
ردد هو بغمغمة:
_ على دروب العشق التقينا فكيف بربك لا أعشقك أيها الجميلة صُدمتِ بقلبى تربعتيه على الفور ..!
شردت في عمق حديثه هل يمكن للإنسان أن يحب إنسان أخر أكثر من نفسه وهل يوجد من يضحي بعمره من أجل شخص يعشقه التضحية جزء لا يتجزأ من الحب مرتبط كل منهما بالآخر ولو وضعت فى اختيار بين حياتها وحياته لقدمت حياتها من أجله على طبق من فضة
رفع كفها لشفتيه يقبله من باطنه مغمغمًا وهو ينظر لعينيها: تتجوزيني يا داليدا ..!؟

عاد من ذكرياته عندما مرت من أمامه رؤيتها بالأمس تجلس مع غيره والتساؤلات تتكاثر بعقله
لماذا ثار عليها وهو من تركها ؟! وهل هى تخطت عشقها له في هذه المدة القصيرة ؟! لماذا ضرب الشخص الذي رآها معه ؟!
أنقذه من جنونه مرة أخرى بسبب تفكيره المستمر صوت هاتفه معلناً عن إتصال من "فريدة" جاءت فى وقتها فالذكريات كادت تقتله أجابها مرددًا:
_ قمر إسكندرية كله بيكلمني مخصوص.

صدحت ضحكتها الأنثوية بالهاتف وهى تقول:
_ بكاش أوي يا زين أنت فين
هتف بعبث:
_ في الشقة
_ اجيلك ؟!
عبث فى خصلاته قبل أن يردف:
_ تنورى يا قمر مستنيكي
أغلق معها شئ داخله يرفض ما يفعله يرفض حياته بأكملها يرفض فريدة وعالمه يرفض نفسه بدون داليدا هز رأسه بضيق واستقام يعد المنزل لاستقبال فريدة وعلى ثغرة إبتسامة عابثة.

صباحاً
استقيظت والحدق وشر النفس متملكًا منها عزمت على القضاء عليه تمامًا هو من جعل قلبها المسكين يؤلمها هو من رسم لها أحلام وردية معه هو من اختطفها من نفسها له هو من رفعها إلى السماء السابعة وفي لحظة سحب يده من تحتها لتقع على جدور رقبتها
هو من أذاقها من الألم والخذلان كاسات هزت رأسها عدة مرات واستقامت تبدل ملابسها مغادرة إلى نقطة البداية ..،نقطة بداية انتقامها ... دلفت بخطى واثقة وقفت أمام السكرتيرة وقبل أن تردف هتفت السكرتيرة بترحيب:
_ فايز بيه أعطاني أوامر أول ما تيجي في أي وقت تدخلي اتفضلي يا فندم.

دلفت وهي تبتسم وكلها ثقة أنها على الطريق الصحيح:
_ صباح الخير فايز بيه
_صباح الورد اتفضلي
جلست بعنجهية مرددة:
_ مش عايز تعرف هساعدك ازاي
ابتسم بتلاعب مرددًا:
_ عايز طبعا
ردت بجدية:
_ قدامك حليين تقضي بيهم على زين السباعي الأول هو إنك توصل لفريدة رشوان عكاز زين هى اللي مسانداه في كل حاجة لو وصلتلها زين هيقع من غيرها والتاني هو إنك تحرق المخازن وورش الإنتاج بتاعته كلها إيه رأيك.

عم الصمت لدقائق يفكر في حديثها ثم قال بسعادة:
_ وليه منلعبش على الجانبين
_إزاي
_ نحرق المخازن والورش ونحاول نوصل لفريدة بما إن المخازن هتتحرق علاقتهم هتبقى مش مستقرة وهنقدر نوصلها بسهولة جدًا ونبقى ضربنا عصفورين بحجر بس بس أنا عندي سؤال
ردت باستغراب:
_ دماغك سم ..، إسأل
_ مصلحتك إيه من ده كله ...؟!

تصفق بسعادة ووالدها يمشط لها شعرها الثقيل ومن سواه يمشطه ترفض أي شخص يفعل به شيء غيره هتفت بطفولية:
_ القطتين حلوين أوي يا بابا
ضمها إلى صدره بحنان فهى ابنته الوحيدة ومدللته يريد أن يفعل من أجلها الكثير ولكن ما باليد حيلة يفعل ما في مقدرته فقط وتقدر هى ذلك رغم صغر سنها تبتسم له كلما رأته تغفو في أحضانه دومًا تقطف له الزهور من بستان مدرستها الرائع تفعل أفعال طفولية رائعة فقط من أجلة
رد بحنان أبوى:
_ مش أحلى منك يا داليدا.

واستقيظت هى أصوات كثيرة تصدح فى الخارج غير قادرة على تمييزها من كثرة المتحدثين في آن واحد.

" في فندق بالجيزة "
أشعة الشمس تسللت من بين فجوات الستائر الخشبية الملقاه على النوافذ، بمجرد رؤيتي للضوء استشعر وكأنني للتو لمست حزمة ضوئية للحب، أرى بين الضوء والحب علاقه قوية، الضوء مثالًا لابد أن يُحتذى به الحب من حيث الإصرار والعناد في الوصول إلى هدفه، ولو بُنيت الصخور بينه وبين مقصده نصب خيام انتظاره أمامه متأملًا في أن يلين الصخر أو يميته الغروب مشفقًا عليه ليرحمه من شيب انتظاره .. وأظن على الحب أن يكون هكذا !...
يمرر وردة حمراء على وجنتيها بحب وهو يتأملها بعيون محب، تبسمت ليشرق من بين شفتيها نورًا يُضيئه بهجة مردفة
- Bonjour ..
- Bonjour mon amour ..

تغنجت في منتصف مخدعها بدلال قائلة باللغة العربية
- أظن إنك انتهيت من أغنيتك .. حقًا ؟!
قبّل فريد أنامل زوجته صاحبة العيون الزرقاء والشعر الكستنائي الملوّن باللون - الأشقر الزبدي - لتردف بحب
- لدي الشغف أنني أسمعها الآن ..
ضحك فريد وهو يتحرك نحو الخزانة ليخرج ( قيثارته ) بحماس كي يطرب آذان زوجته صاحبة الفضل عليه .. ثم عاد ليجلس بجوارها وهو يعد مفاتيح آلته الموسيقية، ظلت مارتن مسترخية في فراشها تنتظر الموسيقى التي انتظرتها أكثر من ستة أشهر .. أرسل زوجها إليها نظرة تلقتها عيناها وترجمها قلبها بأنه سيبدأ الآن .

شرع فريد في العزف على أوتار الحب ليصدر صوت أنين متألم بداخله لم يسمع ضجيجة غيره، صوت بصيص من الأمل حاوط جدران الغرفة، دائما يرى أن قيثارته لسان قلبه عندما قلبه يستغيث يرتفع صوت آلته، وعندما يرهقه أمر ما .. فهى تصدر صوت رقيقًا تمر على جدار روحه ليستكين .. خضعت مارتن بانتشاء تحت تأثير موسيقته فظلت تتأمله بشغف وحب، تستلذ بحركاته وحركة أنامله الانسيابية وعينيه المقفوله دائمًا كأنه ترك زمام الأمر لجماد يستحس ما بداخله فيترجمه .. سافرت معه على بُساط قيثارته شاردة الذهن سكيرة لألحانه التي كانت سببًا كافيًا أن تغرقها فيه حُبًا .

انتهى فريد من عزف أغنيته التي استغرقت ثلاث دقائق كانت أشبه بمسرحية خلود مؤقتة في الوجود ألفاني، تنهد فريد تنهيده طويلة تكاد تسحب أكسجين الغرفة ثم وضع آلته جنبًا وهو يتأمل ملامح زوجته المستجمة قائلًا بالفرنسية
- Que pensez-vous ?
- ( ما رأيك )
لازالت تحت مخدر ألحانه مردفة
- Il me semble que je ressens ce que tu ressens ..
- ( يبدو لي أننى أشعر بما تشعر به ).

كانت كلماتها دائما تشحنه بطاقة أمل لديها القدرة على انتشاله من مكانه متوجهه به لأعلى قمم النجاح .. أحيانًا يصبح كل ما يُنقصنا هو فن الكلمات، كل منا بداخله طاقة تائهه بجسده تحتاج فقط إلى بُوصلة وخريطة للوصول إليها، فالبوصلة هى شمس وجود شخص بعينه مقربًا لقلبك يملأك بشعاع الطاقة ويرسم لك بكلماته خريطة طريقك المنقوشة بالورد ليجعلك تظن أن نهايته فردوس عليك أن تظفر به .

تبسم فريد لفلسفية زوجته التي تأثر بها صاحبة الذوق الرفيع والحس الترفيهي العاطفي ثم أردف قائلًا
- ما اشعر به الان هو حبًا لا ينبض إلا لكِ .
اعتدلت في جلستها لتطبع قُبلة الحياه على ثغره، ثم ابتعدت عنه بوجه يشع منه نور الحب:
- ماذا ستُسميها ؟!
فرك باطنه كفها بحب مردفا بحزن
- داليدا .. أول هدية حابب تكون ليها يمكن تغفرلي .
تبسمت بحنو
- ستغفر لك فريد .. أنت زوج رائع، بالطبع ستكون أبًا أروع ..
حاول تغير مجرى الحديث
- طيب يلا قومي نفطر وا
أفرجك على جمال مصر، عشان اليومين الجايين ديدا هتاخدني منك ..
طافت عيناها بحيرة محاولة ترجمة كلماته بداخل ذهنها ولكن حركاته التلقائية لم تسمح لتفكيرها أن يطول لأنه جذبها من فوق فِراشها إليه بعفويه وحب .

في حي إمبابة
صوت صراخ عويل، أصوات كثيرة تنبعث من الخارج، فلم يكفي صوت العويل بداخلها بل أصبح الصوت من الخارج أيضًا، تشعرها كأنها مثل البلون المنتفخ على وشك الانفجار، فتحت عينيها بخوف تتسائل نفسها، من أين تلك الأصوات المزعجة، إنه صوت أمي، تستغيث وتستنجد بأهل الحارة ! أيكون ربى استمع لدُعائى فاخذ زوجها إسماعيل لرحلة طويلة عنده لكي أستطيع أن أتنفس قليلًا .. ولكن طافت عيناها برعب مرددة .. ألا يكون أصاب إخوتي مكروهًا

فزعت داليدا من فراشها سريعًا لتفتح بابها المغلق لتتفاجئ بأمها ملقيه أرضًا وشعرها كمن وجه نحوه صاعق كهربي ليبدو في تلك الحالة، دارت رأسها لتجد إخوتها الصغار منكمشين حول بعضهما بجسد مرتعش اغتسلهما الدمع، لم تلتفت لبركه الدماء التي تسيل أرضاً حتى استشعرت بشيء ما كالمياه يتغلغل بين أصابعها ملطخ باللون الأحمر، رفعت أنظارها بجسد مرتجف لترى من أين منبع تلك البركه الدامية، بللت حلقها وأصيبت بجحوظ في حدق عينيها عندما فوجئت بالمنبع هو جوف أمها أعلاه مرخرة سكين، أنامل كفها ترتعش فوق فمها، ذرفت بشلالات من الدمع لم تعلم من أين أتت، وطأطأت رأسها لتنظر للدم الذي كسى قدميها ونظرة أخرى على أمها الملقاه أرضًا تلفظ أنفاسها الأخير ة وهى تنظر نحوها ..

أصيبت داليدا بشلل كلي، تشعر كأن صوت طنين من سرابيل النحل يتراقص على نغمات حُزنها، تقدمت نحو أمها بخطوات سُلحفية بصدمه حتى جثت على ركبتيها بتثاقل شديد، فتحت فمها لتنطق ولكنها لم تجد صوتًا بداخلها كأن حدية صدمتها قطعت حبال صوتها ..

أخذت سعاد نفسًا بصعوبة بالغة لتردف قائلة بصوت هامس
- طلع وحش .. أنتِ ماكدبتيش يابتى .. د دا دالييدا سامحينى ..
كانت تلك آخر جملة أردفتها سعاد قبل ماتصعد روحها لأبواب السماء .

ظلت تراقب أمها بسكوت، بعيون متسعة، بجسد فقد عظامه لم يتبق منه إلا رخو، توقف الهواء عند بوابة أنفها لم تجد ممرًا لتنفذ بداخلها، أتت سيدة عجوز لتربت على كتفها
- قومى يابتى قومى .. ربنا يقويكى .
لم تستشعر بأى شيء يحدث حولها كالغارق في غيبوبته، وضعت أذناها فوق قلب أمها لتستمع لنبضها فلم تستمع لأي شيء، مدت كفها لتمسك كف أمها ببطء وتثاقل وجدته باردًا، ذرفت دمعة من عينيها لتردف بصوت مرتعش
- ماااما .. ردى عليا ..

اقتربت سيدة أخرى
- قومي يابتى عشان تلحقي تبلغي عن جوزها قبل مايفلت بعملته .
لم تستقبل أذانها أي كلمة كأنها أغلقت حصونها منتظرة صوت واحد فقط ليُفتح
- أنتب هتسبينى لمين ! قومي عشان خاطري وأنا هتجوز العريس اللي عاوزاني أتجوزه، طيب بصي قومي عشان أفرحك وبعدين امشي تاني .. أنتي أنتي بتختبرينب صح ! بطلي بقى الحركات دي قلبي معدش مستحمل،، أقولك على حاجة قومي زعقيلي اضربيني اقتليني بس ماتسبينيش، كنتي العكاز اللي باقيلي همشي إزاي أنا دلوقتي ! لو بتحبيني قومي متعمليش فيا كدة، عارفة قلبي حاسس بإيه دلوقتي !

ثم مسكت كف أمها المُلقاة أرضًا ووضعته فوق قلبها
- اسمعغى كدة... شايفاه بيصرخ إزاي! أنا وجعي دلوقتي زي اللي وقع في عينه رمش ومش عارف يخرجه لأن إيديه مقطوعين .

رفعت نبرة صوتها بصراخ وألم
- يااااااماما كفاااااية هزار بقى كفاية قووومي ...

في شركة فايز نصر الله
فايز وهو يجلس فوق مقعد مكتبه ليقول بصيغة آمرة لمديرة أعماله
- ريم عاوزك تجمعيلي كل المعلومات اللازمة عن زين السباعي ..
كتبت ريم ما يلقيه على مسامعها ثم أومأت ريم إيجابًا ثم أردفت قائلة
- أي أوامر تانية حضرتك ؟
- اااه عاوزك تعرفيلي كل حاجة عن فريدة رشوان، بتعمل إيه، نشاطاتها الحالية، علاقاتها الشخصية كله كله ..
رفعت حاجبها باندهاش
- وأنا هعرف كل دا منين ؟!

رمقها فايز بنظرة حادة أربكتها جعلتها تردف بقلق
- ااه ااه تمام حضرتك اللي تأمر بيه !
- عاوز المعلومات دي في أقرب وقت ممكن .. فاهماني !
نظرت ريم للورقة التي أمامها بشك ثم عاودت النظر إليه بعدم تأكد
- هااا ... اااه قصدي حاضر يافندم حاضر .
فايز باهتمام وهو يشير لها بسبابته:
- ااه وعاوزك تعرفيلي مين جهاد محمود، والبت دي عوج ولااا !
نظرت له بعيون ضيقة تحمل الدهشة والخوف، تنحنح فايز بقوة قائلًا
- امشي يلا شوفي شغلك ..

في مطعم الفندق
- فيما تُفكر ؟!
أردفت مارتن جملتها بعدما تركت ما بيدها لأنها لاحظت شرود فريد طويلًا .. ألتفت فريد نحوها كالفائق من غيوبة أفكاره للتو .
- آسف يامارتن سرحت شوية ..
تبسمت بحنو ثم قامت من مقعدها الذي كانت تجلس فوقه المقابل له لتجلس بجواره واضعة كفها الرقيق فوق كفه قائلة بمزاح
- هل تعلم أن .. إذا الزوج شرد لدقيقة أثناء تواجده مع زوجته فهو لا يُحبها !
تبسم رغم عنه ثم أردف قائلا بالفرنسيه
- إذًا .. وماذا إذا كان شروده فيها ؟!
اتسعت ابتسامتها لكلماته العذبة
- إذًا، فهو يُحبها أكثر .
ربت فريد على كتفها العاري بحنان قائلًا باللهجة المصرية
- ربنا يخليكِ ليا ..
- لدي اقتراح، هل يُمكننى أن أقوله ؟!

رفع فريد حاجبه قائلًا
- Bien sûr que oui .. !
- نحن الآن بمصر، إذًا لا نتحدث إلا العربيه دون الفرنسية ؟!
ضحك بصوت مسموع قائلًا
- اتفقنا يا أميرتي الجميلة ..
شعرت بسعادة بالغة تملأها، طافت عيناها بحيرة قائلة
- أسأل سؤال آخر .. !
- ربنا يستر .. قولي .
صمتت قليلًا كي تجمع الكلمات بذهنها ثم أردفت قائلة بصوت متردد
- هل تفكر بزوجتك الآن ؟!

لم يتعجب لسؤالها لأنه توقعه، فمن ارتباكها ظن أن السؤال بخصوص زوجته السابقة .. أومأ رأسه إيجابًا قائلًا
- ااه، لسه بفكر فيها ..
تبدلت ملامحها لحزن يرتسم فوقهما ثم أكمل فريد قائلًا
- بفكر ياترى قالت عليا إيه لداليدا، ياترى قالتلها الحقيقة ولا طلعت نفسها الضحية من الموضوع وأنا السبب في كل حاجة !
سألته بصوت فضولي
- لم يعد لدي الحق لأسألك ما الأمر ولكن سأسالك فيما يعنينى، إذا رأيتها هل يمكن أن يحدث اللقاء إحياء مشاعر مدفونة بداخلك نحوها ؟
أجابها بدون تفكير.

- لو في مشاعر ناحيتها عمري ما كنت هسيبها دقيقة، أنا محبتش سعاد يامارتن، جوازنا كان تقليدي اللى هو اتجوزوا يلا والحب هيجى بعد الجواز .. بس اللي لقيته غير كدة لقيت شخصية شكايا دايمًا قيادية عاوزة هى تمسك زمام كل حاجة، كانت دايمًا تستقل مني بما إنها مدرسة لغة عربية مجتهدة وبتدي دروس وهى اللي بتصرف وأنا مدرس موسيقى أخري مرتب آخر الشهر كام مليم، كانت دايمًا مصممة تبينلي إنها صاحبة فضل عليا، دايما بتسخر من الموسيقى والعزف وبتشوفهم تفاهات، عشان كدة الحياة ما بينا كانت مستحيلة، مافيش راجل يستحمل كل دا، إحنا كرجالة بنتجوز عشان نستريح مش نتعب أكتر !

حاولت تركيب كلماته التي أردفها بسرعة لتفهم مغزاهم، نظر إليها بتبسم
- فهمتي حاجة ؟!
أجابته بثقة محاولة التحدث باللهجة المصرية
- فهمت كُل هاجه على فكرة !
ضحك على أسلوبها الطفولي وعاد ليستكمل تناول طعامه ولكنها كانت تستجمع صيغو سؤال آخر وبعد بُرهه أردفت قائلة
- لدي سؤال آخر !

سقطت الملعقة من بين إصبعي فريد قائلًا بطريقة ممازحة
- نهارك زي الفل يامري ! أنا بدأت اشك إن في حاجه فالجو هى اللي مأثره على الستات عندنا، شايفك من أول ما قعدنا وأنتي بتزني وبتسالي كتير ! في إيه ياحبيبتي هو احنا لحقنا دا يادوب تاني يوم، أنا بقيت أخاف منك ..
تبسمت بخفوت وهى تقول
- آخر سؤال ! في فرق بين الست المصرية والأجنبية ؟!
أجابها ممازحًا
- طالما كل واحدة فيهم في بلدها ففي فرق السما والأرض، إنما أول ما الأجنبية بتيجي هنا الفرق دا بينعدم ومابنعرفش نفرقه !

رفعت حاجبها ثم زمت شفتيها متصنعة الضيق أكمل فريد حديثه قائلًا
- خلاص خلاص ياستي متزعليش هجاوبك وأمري لله، الست المصرية بتتجوز عشان هدف واحد بس إنها تكون أم، فأول ما تحقق هدفها بتهمل جوزها والحب دا لو كان موجود يعني مابينهم بيقل جدًا، أما الست الأجنبية فالحياة بالنسبلها أوبن شوية، يعنى إنها مش جريمة تتبنى طفل، تجيب طفل من غير جواز فهماني طبعًا!، فالست الأجنبية مش بتتجوز غير لما تكون مقتنعة وحابة تكمل مع الشخص دا عشان تسعده وبس .. فهمتي الفرق الأجنبية بتختار بعقلها وقلبها، أما المصرية بتختار بودنها " خايفة أحسن تكبر وماتلاقيش حد يتجوزها " وبفضولها لاكتشاف الحياة المجهولو ..
فكرت لبرهه في كلماته حتى شرعت أن تحرك شفتيها لتتحدث ولكنه سبقها بوضع ثمرة فراولة في فمها قائلًا
- إيه هنضيع اليوم في مناقشات ولا ايه ! كلي يلا وبلاش أفكار مجنونة .

في حي إمبابة
احتشاد جمهوري من أهل القرية في منزل سعاد، ليشاهدوا تلك الفاجعة التي وقعت ذلك اليوم، لازالت جالسو أرضًا كالقرفصاء تتأمل الأقدام وهى تتحرك أمامها بدون وعي منها، اقترب منها الشرطي
- ممكن تتفضلي عشان ناخد أقوالك !
التزمت الصمت كأنه عكاز القوة الباقي لها، اقتربت منها جارتهم أم سعيد لتساعدها في النهوض
- قومي يلا يابتى اصلبى طولك ..
تحركت معها بدون أي مقاومة منها لتجلس فوق أقرب مقعد تبحث بعينيها عن إخوتها الصغار لم تجدهم، أرادت أن تطمئن عنهما ولكنها فوجئت بثقل لسانها عجزها عن النطق، بدأ المحقق في اتخاذ أقوال أهل القرية كالآتي
- ياباشا أصلاً هو كان سكران .. قبل الحادثة جيه اشترى مني علبة سجاير وكان مش مظبوط وحتى سألته مالك زاحنى وقالي وأنت مالك أنت .

*يابيه أنا كنت بطبخ سمعت صوت صراخ ست سعاد الله يرحمها، فتحت طاقة المنور أنادي على أم إبراهيم أشوفها سامعة اللي أنا سماعاه ولا لأ .. لحد ما جينا ولقيناها مصفية دمها ياحبة عيني !

= يابيه جوزها دا كان راجل مش مظبوط .. أنا جارتهم من زمان، كان يدلعها ويجيبلها الحلو كدة، جيه في آخر أيامه كدة واتقلب وبقى واحد تاني .

- ست سعاد دي أميرة الأمرة كانت ولا تهش ولا تنش، هو اللي كان متفرعن وشايف نفسه عليها. .. اكمنها يابيه بتحبه وكدة فكانت سايباله السايب في السايب .

انتهى المحقق من أسئلته على صوت العسكري
- ياباشا احنا لقينا الورقة دي مقطعة نصين جوه .. وكمان علبة الدهب دي لقناها فاضية ومرمية .

نهض الشرطي بحماس ليقرأ الورقه الممزقة محاول استكمال الصورة ثم أردف قائلًا
- دا عقد تسجيل الشقة باسم إسماعيل محروس .. رمقت الظابط بنظرة حزينة خلف ستائر دموعها
الظابط: داليدا خدى وقعي هنا ..
حاولت أن تمسك القلم كي توقع لكن هو الآخر خذلها وسقط من يدها، راقبها الظابط بنظرات شفقة، حاولت كثيرًا كي تستجمع قوتها لحمل القلم ولكنها أصبحت هشة للغاية، تنهد الظابط بكلل قائلاً
- بصمها يابني خلينا نكمل شغلنا ..

في شركة زين
- ياباشا شغل أد كدة متراكم ومعاليك مبلط في العسل .
أردف أكرم جملته بحماس وهو يقترب من مكتبه ليجلس أمام مكتبه .. دار زين بمقعده المتحرك قائلًا
- ماتصبح يابني .. حد يدخل ع حد كدة !
- ياحنين ! أنت مش واخد بالك إن الشغل كله فوق كتافي وأنت ولا على بالك
زين بلا اهتمام
- أدها وقدود يابطل ..
- أنت يابني عاوز تشلني ! بقول ورانا شغل متلتل ! تقولي أدها وقدود بدل ما تقولي نهبب إيه ..
شمر كُم قميصه الأبيض بتثاقل
- أها .. سامعك .. قول اللي عندك ..نظر أكرم في الورق الذي أمامه قائلاً
- اسمع ياسيدي، فريدة درويش مدير أعمالها اتكلم وطلبت شحنتين زيادة، في سبيل إنها هتوفرلنا المكونات واحنا علينا التصنيع من الأول ... ممم بس اللي مستغرب له واحده زي فريدة دي سايبة ليه أكبر الشركات وحابة الشغل معانا ! أنت عملتلها إيه يابني !
قهقهة زين بثقة ثم أردف بفخر شديد
- منا بشتغل زيي زيك،، فااكرنى نايم على ودانى .. والله ياأكرم كلنا بنتعب أنت اللي مش واخد بالك بس ..

ضحك أكرم بسخرية مردفًا
- ونعم التعب يااخويا !
- طب كمل كمل .. قول اللي عندك .
أكمل أكرم قراءة الشحنات المتطلبة منهما على آذان زين وفي نهاية حديثهم
- أنت عارف الشحنات دي كلها لو تمت هتنقلنا كلنا نقلة كبيرة أوووي، وبالذات الراجل الإماراتي اللي فتح شركته في مصر .. زين بص أنا متفائل أوي .. شد حيلك معايا والنبي الفترة دي .. عاوزين نعلى أكتر .. وفرصتنا وجات .
فكر زين لبرهه قائلًا
- تنزل تشرف على المصنع وتشوف إيه اللي ناقص نجيبه ..ونزل إعلان محتاجين موظفين، وهنبدأ شغل من بكرة .. وهنخلص قبل المعاد كمان .
- والله يازين لما بتفكر بتبهرنى .. ورحمة أمك ياشيخ ماتحرمنا من أفكارك ..

غربت شمس يوم مُر كحواف سكين على قلوب البعض والبعض الأخر كان يومهم لطيفًا وغيرهم انغمس في شغله حتى لم يتدارك كيف مرت عقارب الساعة بدون مايستشعر بلدغة ملل عقاربه المتباطئة .

وصل فريد بصحبة زوجته إلى غرفتهم أخيرًا بعد يومًا طويلاً استمتعوا به كثيرًا، كان يستحس بلذه مبهجة وهو يقوم بمهمة مرشدها السياحي وهى أيضًا كانت تجد عبق رائحة خاصة تغمرها باهتمامه البالغ بها .
- هذا اليوم استمتعت به كثيرًا ..
أردفت مارتن جملتها بهدوء وفرحة تملأها من الداخل، وقف زوجها أمامها وهو يمسك كفيها بحنو
- وأنا استمتعت به كثيرًا لأنك كنتي معي ..

هُناك حُب يُشيب وآخر يشبب، كن حريصًا على اقتناء الموضع المناسب لقلبك لأنك لو زرعته في غير أرضه ستذبل أنت !

في شقة زين
شقة امتلأت عيون جدرانها من جميع أنواع النساء، وشهدت أثاثها على أعدادهن، يجوب غرفته ذهابًا وإيابًا بحيرة مردفًا
- هى مفكرتش حتى تتصل تطمن عليا ! كلكم كدابين، كلكم أنانين مش بتحبوا غير مصلحتكم، أنا أصلاً غلطان إني عطيتها أكتر من حجمها، وأصلاً خسارة إني بفكر فيها دلوقتي ..

قرب من هاتفه ليبحث عن إحدى فتياته ليقضي معهن ليلته، غبيٌ من يحاول أن ينسي امرأة بأخريات لم يعلم أنه كذلك يبحث عنها بين أخرياته بدون إدراك !

صوت رنين جرس شقته جعله يتوقف عن رحلة البحث بين العشرات على هاتفه، غادر غرفته متجهًا نحو الباب غير مهتم بهوية الطارق، فتح الباب مطلقًا صفيرًا قويًا من بين شفتيه وهو يتأمل حذاء نساء فاخر ذو كعب مرتفع بداخله عيدان من المرمر، رفع بصره ببطء على ساقيها الأشبة بأنبوب السقي المذلل مرتدية تنورة قصيرة للغايه كأنها قاصدة لإظهار مفاتنها الجذابة، وصل حد عيونها قائلا بتنهيد.

- ليلتنا صباحي !
أطلقت فريدة رشوان ضحكة أنثوية صاخبة جعلته يجذبها فورًا لداخل شقته ويغلق الباب خلفها
- في جيران وناس وأنا بخاف على سمعتي مش عاوز حد يفهمنا صح ولا ايييييه !
ضحكت فريده أكثر ثم أردفت قائله
- هموت من الجوع وأنا مابحبش آكل لوحدي، روحت فكرت كدة شوية ممكن آكل مع مين عشان يفتح نفسي، لقيت قلبي جابني على هنا ..
- يازين مااااختار والله .
عقدت كفيها حول عنقه قائلة
- زين باشا يسمحلي أعزمه على العشا !
وضع كفيه فوق خصرها معتليًا على وجهه ابتسامه انتصار
- تؤتؤ ماتتقالش كدة .. اسمها فريدة هانم رشوان منارة الإسكندرية كلها ممكن تتنازل وتتعشى معايا ..

في حي إمبابة
مع مغادرة آخر شخص من شقتها بعد انتهاء إجراءات العزاء والدفن شعرت بارتياح الحريه، حان الوقت لكي تفجر كبت حزنها، آت الوقت الذي ينفجر به بركانها المتوق، تأملت أركان الشقة الخالية أصبحت تضمها هى وأحزانها بمفردها،ظنت أن اليوم ستنام بارتياح لأن نفس ذلك اللعين لم يعد يحاصرها ولكنه كي يغادر اصطحب أمها معه لم يتركها لها، كان وجوده متعلق بوجودها وحتى عندما غادر أخذها معه، أخذها وتركني .

جثت فوق الأرض خلف باب منزلها الخشبي بعيون طائفة لم تكُف عن البحث على أمها، تعتقد أنها خارجة من الغرفة لتسائلها هل أتت ؟ لماذا تأخرت ؟ هل هى جائعة ؟ دارت رأسها نحو باب المرحاض المفتوح معتقدة أنها ستخرج منه لتطلب منها أن تصفف لها شعرها لأنها مرهقة تلك الليلة ! صوت أخر صدر من المطبخ يُناديها كي تعد معها الطعام ؟ دارت برأسها نحو الباب الخشبي معتقدة أن أمها لازالت بالسوق وستعود الآن كعادتها تظل تبحث لى عن فاكهتي المفضلة قبل أن تأت وهذا ما كان يؤخرها .. انتفض جسدها بمجرد سماعها لصوت دق الباب .. قامت سريعًا لتجفف دموعها وجدت أم إبراهيم جارتهم.

- افتحى ياداليدا .. دي أنا يابتى !
اكتفت أن ترمقها بنظرات استفهامية، أكملت جارتها
- يابتى إخواتك من صبحية ربنا مع عيالي خوفت عليهم عشان مايترجفوش، هما ناموا تحبي تيجي تنامي جمبهم ولا اجيبهملك .
ردت بخفوت
- زينه وعمر .. لا أنا هاجي أخدهم ..
سارت نحو غرفة جارتهم مردةه لنفسها
- أنا إزاي نسيتهم ! إزاي ملاحظتش غيابهم ! إزاي كنت تايهة عنهم كدة ! ربنا يرحمك ياماما سبتيلي حمل أنا مش أده ..

حملت أختها على كتفها وحملت جارتها أخيها وساروا نحو غرفة سعاد لتريحهم فوق مخدعها .. انصرفت جارتهم بعد ما أكدت عليها إن احتاجت لأي شيء تطرق عليها ..

قربت داليدا من إخوتها النيام في سُبات عميق تتأملهم بحب، شعرت بشيء من الطمأنينة ينبعث من داخلها، أغلقت أنوار الشقه وتسللت بهدوء بجوارهم كمن يختبئ من مخاوفة، كانت لهم حصن أمان من العالم الخارجي، بل الأصدق الذي يجب أن يقال كانوا لها الأمان المحصن من أي حزن لتختبئ بداخله .. مرت أمام عينيها صورة أمها باسمة ذرفت دمعه حارة على وجنتها وهى تحتضن أختها بدفء وأغمضت عينيها، لم تعلم من &ي فجوة بين جبال أحزانها تسللت صورة زين ! ربما ألمها كان يحتاج لأحضانه، وحدتها تلجأ له لتأنس به، كان لها بمثابة مياه تطفي بداخلها نيران عذابها .. وأخيرًا خلدت لنوم مضطرب .

بعد منتصف الليل أصوات غريبة تخترق أذانها، ستائر الغرفة تزاح أمامها بدون فاعل، أصوات ضجيج بالمطبخ، صوت قفل وفتح باب الغرف يرهبها كأن شخص ما تولى تلك المهمة ليرعبها، أصوات آدمية غير مفهومة تحاصرها، لجأت لحضن صغيرتها لتدفن وجهها به لتشعر بكف آدميه تمر فوق جسدها ببطء حتى وصلت لعنقها لتطبق عليه بكل قوته.

شعاع الشمس كان بالنسبة لها كسفينة النجدة التي انتشلتها من الغرق في متاهة مخاوفها، فزعت من فراشها بجسد مرتجف مما عاشته ليلة الأمس، بدون تفكير وضعت مقعد مكتبها بجوار خزانة ملابسها ثم وقفت فوق لتتناول الحقيبة من فوقها، سرعان ما دلفت من أعلى لتلملم ملابسها بداخل الحقيبة الجلدية على عجل، وأثناء انشغالها بتجهيز الحقيبة لم تخل عينها من ذرف دموع الوجع والخوف معًا.

استيقظ عمر أخيها بجسد هزيل مردفًا بتباطئ
- داليدا ! ماما جات ؟
دارت بجسدها لتخفي دموع عينيها محاول استجماع شتات قواها ثم عاودت النظر له محاولة رسمت ابتسامة زائفة:
- ممكن تصحي زينة جنبك عشان هنمشي .
قضب الصغير حاجبيه بخوف وقلق
- هى ماما خلاص مش راجعه تاني زي ما إبراهيم قالي .. !

سكينة أخرى تمر على ماتبقى من فُتات قلبها ثم تنهدت بمرارة
- ماما في مكان أحسن كتير دلوقغتى ياعمر .. ادعيلها .
ذرفت دمعة من طرف عين الصغير
- طيب هى لما توحشني أعمل إيه ؟!
تنهدت بمرارة وجع وألم، فكيف تُجيب على سؤال يسكنها ! فماذا نفعل عندما نفتقد ونشتاق إلى أشياء لم يعد لها وجود ! الاكتفاء بذكريات !.. أم البكاء على أطلال الماضي .. ! أم نعيد ترميم أرواحنا لمواكبة السير في السباق الدنيوي ! الاشتياق مؤلم ولكن إلى أي درجة من الألم نصل عندما نشتاق لأناس اختفوا من عالمنا !

قربت من أخيها لتقبل جبينه بحنان قائلة
- يلا قوم عشان هنمشي ..
أردف عمر بصوت به نبره البكاء وهو يجفف دموع عينيه بكفيه الصغيرين
- داليدا .. أنا عاوز ماما دلوقت !
احتضنته بحنو وهى تذرف دموع قلة الحيلة والألم قائلة
- حرام عليك ياعمر !
ثم مدت كفها لتوقظ أختها قائلة
- زنون يلا قومي ..
دافنه رأسها تحت وسادتها قائلة بصوت باكى
- أنا صاحيه ياداليدا .. بس خايفة أقوم ملاقيش ماما في البيت ..

كلما غادر ألم أتى غيره ركضًا نحوها، كلما حاولت أن تستقوى تأتي رياح همومًا عكسًا فترجعها للخلف .. أصبح الحزن بالنسبه لها صديق مخلص، مترسخ في صلبها دائما كأنه أقسم على عدم الفراق، تنهدت بتنهيدة رجاء متوسلة له كى. يغادرها، بداخلها أصبح ظلام، كهف هجره الناس من ظلمته، لم تجد عكازًا تستند عليه إلا حزنها ..

نصبت عودها بحماس محارب ممزق الجسد ولكنه وقف في ساحة الحرب ليعاود الصراع بشرف وبسالة، تسلحت بسلاح بسمتها الزائفة قائلة
- وبعدين فيكوا بقى ! احنا من النهارده سوا ومحدش هيقدر يفرقنا أبدًا .. تعالوا نتفق على اتفاق !
اعتدلت زينه من وضعية نومها وهى تجفف دموعها، رفع عمر عينيه ناحيتها باهتمام، كملت داليدا كلماتها لتعيد شحن قوتها مجددًا كأنها قاصده أن تلقي على أذانها الكلام لتنفذه، لعدم استسلامها لضعفها
- أي رأيكم لما ماما توحشنا نقوم كلنا نصلي وندعيلها بالرحمة ..
زينة بحزن: هى ماما خلاص راحت عند ربنا ..

عبثت داليدا في شعرها بحنو
- ااه ياحبيبتى .. وربنا أحن عليها من أي حد، ماما دلوقت قاعدة فالجنة وبتراقبنا من فوق تشوفنا هنعمل إيه ! هنبقى أقوية ونفرحها ولا نضعف وهى تزعل مننا !
عمر ببراءة طفولية: يعني ماما هتزعل مننا لو عيطنا ؟
- ااه ياعمر هتزعل مننا .. وأنت طبعًا مش هيرضيك زعلها !
زينة بتلقائية وبصوت طفولى:
- لا خلاص احنا مش هنعيط تاني خالص عشان ماما متزعلش ..
داعبت شفتيها شبح بسمة انتصار قائلة
- طب يلا قوموا جهزوا لبسكم عشان هنمشي ..
عمر بفضول:
هنسيب بيتنا ونروح فين ؟!
- هنمشي ياعمر .. هروح الشغل نطلب شقة صغيرة كدة ويارب يوافقوا .. المهم إننا مش هنرجع هنا تاني .. يلا قوموا قبل أهل الحارة مايصحوا ..

نهض زين من نومه بحماس ونشاط لتقع عيناه على عبوات النبيذ الفارغة فوق الطاولة الزجاجية، شعر بشيء من الانتصار يملئه،، طيف من ذكريات ليلة أمس مر أمام عينيه كشريط سينمائي معسول، قرب من خزانة غرفته ليختار البدلة التي سيرتديها قائلًا بفرحة
- الستات دول نوع خمرة فاخر هما بس اللي قادرين يغيبوا الجسم كله عن الوعي ..

ألقى رداءه فوق مخدعه ليلتفت نحو مصدر رنين هاتفه .. ليرد بتبسم
- والله ياعم صحيت .. مافيش ثقة فيا خالص ؟!
أكرم وهو خارج من باب غرفته بنشاط
- نص ساعه ياسباعي لو ملقتكش فالشركة مش هيحصل طيب ..
ضحك زين بصوت عالي
- خلاص ياعم .. أهو أنت اللي معطلني .
- أنا بردو ! طب أنا نزلت ..
- وأنا نص ساعه وهتلاقيني عندك ..

انتهت مكالمته مع أكرم لتسقط عيناه على خلفية شاشة هاتفه ليجد صورتها .. ظل يتأملها طويلًا بعيون عاشت طول عمرها في الظلام متعطشة لشعاع نور
- كل مرة كنت أسيبك وبترجعي .. اشمعنا المرة دي مرجعتيش ! اااه ياداليدا لو تعرفي إني عملت كدة عشان احميكي من أنانيتي وظلمي .

شبح كبريائه وغروره ظهر أمامه في المرآه ليقول بصوت قوي
- تستاهل .. مكنش ينفع إنها تحبني ؛ أنا ما أتحبش كان لازم تاخد بالها من تمثيلي وتفهم ..

ليردف صوت آخر بداخله قائلاً
- بس أنت حبيتها ! اشمعنا هى اللي كانت ليك خط أحمر ! اشمعنا هى اللي كنت بتخاف عليها من نفسك ؟
احنا مش بنخاف غير لما نحب ! اعترف ياخى وبطل عند .. أنت مش عاوز تعيش شخص طبيعى أبدًا ! عاجبك القرف اللي أنت فيه ؟! مش يمكن هى شعاع النور اللي عينيك مستنياه !

هز رأسه بقوة ليفوق من ضجيج أفكاره .. أصبح كل شيء يذكره بها حتى مرآته تشكلت بملامحها عندما ينظر بها يجد وجهها وليس وجهه ؛ طرد جيوش أفكاره بانشغاله فى ارتداء ملابسه لينغمس في أعماله معتقدا أنها ستساعدنا على النسيان .. للأسف إذا قتلت وقتك عملًا لنسيان من أحببت فذلك في حد ذاته تبصم له في ذاكرتك..

وصلت داليدا بصحبة أخواتها إلى موقف الأتوبيس لتلقي آخر نظرات وداع عليه، تتفقد أوجه الماره وحالتهم .. همس لها عمر
- داليدا .. احنا واقفين ليه مش هنركب !
هزت رأسها لأسفل ثم اتجهت نحو باب الأوتوبيس ..

وصلت أمام مبنى الجريدة الضخم، في يدها حقيبة ملابسها والأخرى حاضنة بها أخوتها ..
زينة: أنتي بتشتغلي هنا يا داليدا !
أومأت إيجابًا
- اااه .. بصوا هتقعدوا فالجنينه متتحركوش فاهميني، هطلع أشوف المدير وأرتب الدنيا وأنزلكم ماشي ؟

سارت معهم نحو حديقه المبنى لتجلسهم فوق أريكه خشبيه منادية على الجنايني
- عم عباس .. معلش ممكن تاخد بالك من إخواتى ! هطلع فوق نص ساعه ونازلة ..

عم عباس: في عنيا يابتى متقلقيش .. حطي في بطنك بطيخة صيفي ..
أرسلت نظرة عليهما وجدتهم يمرحون مع بعضهم ويركضون بفرحة ثم أردفت قائلة بتوسل
- عم عباس مش هوصيك والنبي ..

تركتهم وسارت نحو المبنى، دلفت داخلة بعجل صوب مكتبها
- سارة .. فؤاد بيه جوه !
هزت رأسها بالنفي
- لسه هيجي الساعه ٩ .. أما أنتى مالك لابسه أسود ليه ؟! ووشك مخطوف كدة ليه ..

ذكريات ليلة أمس تمر أمامها، جعلت جسدها يرتعد ليختل اتزانها فتجلس على أقرب مقعد، ركضت سارة نحوها بلهفة
- مالك يابنتى ! دانتى ضايعة خالص !
مسكت رأسها محاولة تجاوز ألآم رأسها
- ادعيلي ياساره ادعيلي ..
- حصل إيه بقى قوليلي ..
بللت حلقها من مرارة الذكريات التي تركض بداخلها قائلة ببكاء
- ماما اتوفت امبارح، وأنا مش قادرة أقعد فالشقة، شيفاها في كل مكان، جيت أطلب من فؤاد بيه يشوفلي شقة حتى ولو أوضة وحمام تبع الجريدة، المهم مرجعش البيت تاني ..

احتضنتها رفيقتها بحنان
- ياحبيبتي .. هوني على نفسك .. اهدي اهدي إن شاء الله هتتحل ..
جففت داليدا دموعها المنسكبة
- أنا بخير .. متقلقيش .. ادعيلي بس ربنا يسترها عليا ..
- يارب يارب ياحبيبتي .. ربنا يهونها عليكي ..

في فندق بالجيزة

يتقلب فراشه من شدة القلق والرهبة، تراقبه بعيون حائرة أثناء نومه، أرادت أن تسأله، تستكشف ما يقل راحته، ولكنها تعلم جيدًا أن الإنسان عندما يصل إلى مرحلة القلق المكتوم ليس من حق مخلوق أن يسأله عما يشغله، فقد يُحضن .. يُحضن ليطمئن ..

وثب فريد قائمًا فوق مخدعه متجهًا نحو المرحاض، رمقته بنظرة حزينه صامتة، بعد مرور عدة دقائق خرج فريد ليجدها مجهزة له ملابسه التي سيرتديها قائلة بحب بالعربية
- ملابسك جاهزة .. اتفضل .
نظر لها بامتنان واخد ما بيدها ليرتديه، عاونته في ارتداء ملابسه وبعد ما انتهوا صوت طرق على الباب، تبسمت مارتن بحب
- طلبت فطار، غير صحيح خروج بدون طعام ..

في مبنى الجريدة
دلفت داليدا إلى مكتب رئيس الجريدة بعدما انتظرته قرابة ساعة، تسير بخطوات بطيئة راجية إلى ربها كي لا يخيب ظنها .. تبسم فؤاد ثم أردف قائلاً بمزاح
- من أول شهر كدة غياب ياداليدا !
طأطأت رأسها أرضًا ثم أردفت قائلة
- أنا أسفة .. بس ماما اتوفت ووو
فؤاد مقاطعًا
- الله يرحمها ويصبرك .. مطلبتيش ليه أجازة !
أجابته بيأس قائلة
- أنا دلوقتي محتاجة الشغل أكتر من أي حاجة في الدنيا ..
نظر لها بشفقة قائلا
- لو احتجتى أي حاجة فاأنا تحت أمرك ..

تبسمت بامتنان ثم قدمت ما بيدها من أوراق قائلة
- مقال الأسبوع .. اتفضل حضرتك ..
أخد ما قدمته ليمرر عينيه عليهما باهتمام
- تمام ياداليدا .. شكلوا حلو ..
- يارب يعجب حضرتك ..
- كفاية أنتي اللي كتباه ..
فركت كفيها بتوتر ثم أردفت قائلة
- هو أنا ينفع أطلب !
اجابها بتلقائية: طبعا ياداليدا أنتي زي بنتي .. اتفضلي
- اللي أعرفه إن الجريدة بتقدم شقق بسعر مخفض للصحافين المغتربين .. صح .

أومأ راسه إيجابًا
- دا صحيح .. بس الحاجات دى بتحتاج وقت ..
أجابته بلهفة
- يعنى أد إيه !
- مش أقل من ١٥ يوم لشهر .. أنتي محتاجه شقة ..!
طأطأت رأسها بضعف محاولة إخفاء دموعها لتقول بخفوت
- محتاجة شقة ايجار بنص مرتبي .. عشان ظروفي صعبة أوي اليومين دول ..
شعر فؤاد بالأسف والحزن على حالتها قائلًا
- صعب أوي دلوقت ياداليدا .. بس أنا ممكن أصرفلك مرتب شهر مقدمًا .. تمشي بيه أمورك .. وأنا هحاول أدبرلك مع الإداره حوار الشقة دا ..

آخر حبل للأمل بالنسبة لها انقطع، بللت حلقها الجاف قائلة
- طيب ممكن آخد أجازة اليومين دول من الشغل، واشتغل إلكتروني،، والمقال هيوصل لحضرتك في معاده كل أسبوع ..
فكر فؤاد لبرهه ثم قال
- مع إنه ما ينفعش بس تمام .. إن شاء الله صحتك تتحسن وتعوضي كل دا .. أنا هكلمهم دلوقتي يصرفولك الراتب .. وأي جديد في موضوع الشقه هقولك ..

أومات إيجابًا ثم شكرته بامتنان وغادرت .
في إحدى أقسام الشرطة
صفعة قوية تهبط فوق عنق إسماعيل من أحد العساكر قائلًا
- كلم الباشا عدل يلااا ..
تألم إسماعيل من شدة الصفعة قائلاً تحت تأثير مخدره
- ياعم إيدك تقيلة ..
كاد أن يصفعة العسكري مجددًا ولكن الظابط أشار له بالتوقف ثم أردف قائلًا
- قتلت مراتك ليه ياإسماعيل ..
يقف مختل الاتزان أمامه ثم أردف قائلا
- يابيه كانت وليه زنانة فكنت بربيها ..

ضجر الظابط من برودة رده قائلاً
- تربيها تقوم تقتلها ياروح أمككككك !
ساد الصمت لبرهه ثم زفر الظابط بضيق قائلًا للكاتب
- اكتب يا بني، في صباح اليوم .. اكتب التاريخ، تم إلقاء القبض على إسماعيل محروس القط في إحدى إشارات المرور تحت تأثير جرعة عالية من المخدر بواسطة أحد ظباط المرور ملازم أول حمدى السيد ..

بعد ما أنهى الظابط من التحقيق معه أشار للعكسرى قائلاً
- خده يابني على الحجز أما نشوف أخرتها ..
انتهى زين من إعطاء شحنات الأوامر إلى الموظفين، وتدوين ماينقص بداخل مخازنه، وتقسيم الشحنات المطلوبة من أجهزة الكمبيوتر على أيام العمل .

جالسًا مع أكرم في غرفة مكتبه يتفقان على برنامج العمل، أردف أكرم قائلاً
- بص شحنات فريدة رشوان هتكون معايا هى والسيبر .. والراجع الإماراتي وطلبية القاهرة عليك .. تمام ؟
زين باهتمام
- لا مش تمام .. فريدة رشوان دي سيبهالي أنا .. وأنت خليك مع الراجل الإماراتي ..
رمقة بنظرة شك قائلًا
- مش مرتاحلك ياصاحب والله ..
- ياخي .. كله بزنس متقلقش .. ثق ف صاحبك ..
- المصيبة صاحبى مش محل ثقة ..
ضحك الصديقان ثم قطعت مزاحهم السكرتيرة قائلة
- زين باشا في موظفين تحت عشان الإنترفيو للشغل الجديد ..

نظر زين لأكرم باستغراب
- يابني وأنت لحقت !
ضحك أكرم بثقه وفخر
- ياعم مافيش وقت للجرايد والإعلانات .. هو بوست نزلته بالليل على صفحتي .. في ظرف ساعة كان مقفل الألف لايك .. وأهو النتيجة تحت ..
رفع زين حاجبه بتعجب
- لا ناصح .. طب انزل قابلهم واختارهم كويس .. اللي يستاهل بس، ولازم يكون عندهم خبره .. وأنا هعمل إتصال كدة وجاى وراك ..
وثب أكرم قائمًا بحماس
- بس على الله ماتخلعش بعادتك ..

انصرف أكرم ثم أجرى زين إتصالًا تليفونيًا بابن عمه الدكتور عماد
- فينك مختفي يعني !
عماد وهو يرسل نظرة لمراد بالتزامه الصمت
- مطحون فالشغل والله يازين ... مالك فيك حاجة !
تردد زين في حديثه ثم أردف قائلاً
- عماد .. هو انا ممكن أخف من سطوة أوهامي امتى ..
فكر عماد في حديثه مستغربًا لكلماته التي يردفها لأول مرة، فهو يبحث عن كونه إنسان طبيعيًا، إنسانًا مُكتفيًا بشخصٍ واحدٍ في حياته بدون ملل أو كلل، بدون نفور .
ضحك زين بصوت خافت:
- أنت اتصدمت ولا إيه !
- بصراحة جدًا ... احنا لازم نتقابل .

زين بتفكير
- مشغول أوي الفترة دي مش هينفع .. بس عاوز أسألك .. هو أنا ينفع أرجع طبيعي ..
- انت طبيعي يا زين .. مشكلتك مش عارف عاوز إيه، لو رميت نفسك في مكان وأنت عاوز غيره عمرك ماهتعيش مستقر .. فهمتني ؟!
- هرجعلها .. معاها أنا ببقي طبيعي ..
عماد رغم انه يدرك الاجابه ولكنه أردف قائلاً بفضول
- مين هى !
اجابه زين بتلقائية
- داليدا ... هرجع أكلمك بعدين سلام ..
مراد بفضول
- ماله ..

عماد بقلق: حالته بتدمر .. عاوز يرجع لداليدا ..
مراد بفرحة: طيب ما دي خطوة حلوة .. مالك بقى ..
عماد بخوف وقلق بالغ
- داليدا لو ظهرت لزين تاني يبقى بتدمره بتدمر نفسها ! فاهمني يامراد ..
مراد باهتمام
- لا براحة عليا كدة وفهمني ...
قرب عماد من ساعة البندول العالقة فوق الحائط
- زين عنده طفرة شاذة، الطفرة دي تملكيه زيادة بمعنى إن ماتخلقش اللي يقوله لأ ... حاجة جواه بتصحى تفكر وتلعب في دماغه عشان يوصل للحاجة اللي بعدت عنه .. زين كان طبيعي لحد ما طردها من حياته .. لأنه حب .. واللي بيحب من حقه يحمى حبيبه من نفسه، لكن زين اللي كلمني دلوقتى على أول سلمه الخطر .. زين عاوز ينتقم من داليدا بس خياله المريض دخله من حتة كونه إنسان طبيعي ..

فكر مراد بقلق قائلاً
- معاك حق .. هتعمل إيه ؟
- داليدا لازم تختفي من حياة زين .. لازززم .
- طب أنت معاك رقمها ؟
- مابتردش طول الوقت مقفول .. وأنا معرفش عنها غير اسمها وشكلها ..
مراد بثقه
- والجريدة اللي بتشتغل فيها ..
عماد بحماااس معاك حق .. لازم نروحلها قبل مايوصلها ونفهمها حالته .. يمكن توصلنا لحاجة ..

في حي إمبابة
وصل فريد إلى الحارة محاولًا استرجاع ذكرياته الأليمة التي قضاها في هذا المكان .. ظل يتفقد المنازل القديمة، والزحمة وتصادم المارين بين الأزقة، وصل عند بوابة العمارة مشققة الجدران مدلفًا داخلها بحماس مستعدًا للمواجهة التي في انتظاره .. صعد لأعلى محاولًا أن يتذكر الشقة .

وجد أمامه إحدى السيدات تضع سلة القمامه أمام شقتها مردفة
- أنت مين ؟ وعاوز مين !
أجابها فريد قائلاً
- الست سعاد أم داليدا .. فين! مش دي شقتها ؟
ضربت أم ابراهيم كف على الآخر قائلة
-ألف رحمة ونور عليها .. الموت خطفها من وسطينا .. إنما أنت فين يااخويا ..
صاعقة سقطت على آذان فريد، لم يستوعب ما قالت السيدة ردد بخفوف
- سعاد .. مااتت !

ألقت السؤال نحوه مرة أخرى بفضول
- ماقولتش أنت مين يابيه !
رفع عينيه نحوها قائلاً
- أنا طليقها وأبو داليدا ..
تفتنته باستغراب قائلة
- أنت لسه عايش! قصدي داليدا جوه استنى أخبطلك عليها ..

تركت أعتاب شقتها متوجهة نحو باب الشقة المقابل لتدق الباب بقوة
- ياداليدا اصحي .. أبوكى رجع .. عوضك يابتى على حرمان أمك ... افتحي كل دا نووم !
فريد بقلق: أنتي متأكدة إنها جوه ؟
- اااه دانا بنفسي سبتها بالليل .. تلاقيها نايمة وقافله باب الاوضو مش سامعة ..

مرت دقائق على انتظار فتح داليدا للباب دون جدوى، أصيب فريد بخيبه أمل جديدة ثم قال بقلق
- يمكن جرى ليها حااجة، انا لازم اكسر الباب ..
اخترق حديثهم قدوم صبي يحمل طاقة الخبز فوق كتفه قائلًا
- العيش ياأم إبراهيم ..
أم إبراهيم: شالله تعيش ياعبده .. إلا قولى أنتوا وبتفتحوا الفرن الصبح ماشوفتش ست داليدا
عبده: اااه مشت هى وأخواتها الصبح بدري، وكان في إيدها شنطة كبيرة .
ضربت السيدة فوق صدرها بقوة
- يامري .. البت راحت فين باخواتها وهى ليها مين تروحله .

قرعت طبول الخوف على فقدان ابنته مرة أخرى قائلاً بلهفة
- طب أنا ممكن أدور عليها فين !
أم إبراهيم: في الجريدة .. مكان شغلها ..
- شغلها !
- ااه دى بتشتغل صحفية كد الدنيا وهتطلع على التلفيزيون ..
- طب اسمها إيه الجريدة دي .. أو عنوانها اييه ؟
- استنى ياخويا آخد العيش من الولا وادخل اصحي ولدى أجيب منه العنوان.

على شاطئ إسكندرية
دلفت من _التاكسي_ الذي صف أمام شاطئ بصحبة أخواتها وهى تجر خيبات الوجع والألم بداخلها، لم تُدرك لماذا أقدامها تقودها دومًا لذلك المكان، ما العلاقة بين المكان وراحتها ! ربما الذكرى الوحيدة الملموسو الباقية لها، ملأت صدرها بهواء إسكندرية كي يطيب ما بداخلها من أوجاع ..

ظلت تتفقد البحر بعناية كأنها تروي عليه ما فعلته بها الدنيا، تشكي له همها، كانت تراه يصاب بهياج في أمواجه المتراطمة بمجرد ما تردف عليه أوجاعها .

أردف أخيها الصغير بصوت ممزوج الهواء القوي قائلاً
- احنا جينا هنا ليه ياداليدا .
رمقت أخيها بنظرة خاطفه فقالت
- هنعيش هنا كام يوم وهنرجع تانى القاهرة .
زينة ببراءة: أنتي عندك بيت هنا !
وطأطأت رأسها بخزي ثم أردفت قائلة
- اااه ياحبيبتى عندى .. وهنروحه حالاً .. يلا بينا.

وصل فريد إلى مبنى الجريدة ليبحث عن ابنته كالتائه، أوقفه نداء الحارس قائلاً
- انغت ياافندينا .. رايح فين ..
وقف فريد ليجيبه
- داليدا .. داليدا فريد فوق ؟!
طافت عيني الحارس بتردد
- هو في ناس كتير جات اشتغلت هنا جديد .. مش عارف إذا كانت فيهم ولا لا ... بس استنى اسألك عم عباس ..
نظر فريد لأعلى راجيًا ربه، فالتفت لنداء الحارس قائلًا
- في واحده هنا اسمها .. اسمهاا ..

أكمل فريد بلهفة
- اسمها داليدا فريد ..
عباس بتلقائيه: اااه ست داليدا .. كانت هنا الصبح ومعاها عيلين .. إنما أنت مين يابيه !
فريد بلهفة
-متعرفش راحت فين !
هز رأسه بالنفي قائلاً
- لا يابيه معرفش .
خيبه أمل جديدة صوبت نحو قلبه، جعلته يتألم من الداخل قائلاً
- سامحينى يابتي سامحيني أنا السبب.

غادر فريد مبنى الجريدة كالهائم على وجهه يبحث عن بنته، منسكب عليه شلالات من الحسرة والندم والوجع .

بعد مرور أكثر من ساعتين وصل عماد بصحبة مراد إلى مبنى الجريدة ليفقوا أمام بوابه المبنى باحثين عن حارسها ..
مراد باهتمام: أهو هو دا اللى هناك ..
دلف داخل المبنى نحو رجلين يجلسون بصحبة بعضهما فأردف عماد قائلاً
- كنت عاوز أسأل على واحدة بتشتغل هنا .
الحارس باهتمام: مين دى ؟!
عماد: اسمها داليدا .. داليدا فريد ..
ضرب الحارس كف على الآخر قائلاً
- هى الست دي كله بيسأل عليها ليه ..
مراد باهتمام: قصدك اييه .
أجابه الحارس بتأفف
- معرفش يابيه عنها حاجه ولا أعرف شكلها .. بس هى بتشتغل فوق .. على حسب كلام عم عباس .. ومحدش عارفلها طريق ..
تبادلت الأنظار بين عماد ومراد بقلق وحيرة ..

أمام شقة زين
في مساء اليوم صف زين سيارته أمام إحدى البُنيات الراقية ليدلف منها بجسد متعب وهزيل، يجر أقدامه بتثاقل من شدة الوجع، ألقى التحية على البواب الذي ركض نحوه بعجل
- يابيه في واحدة سألت عليك !
:مين دي؟
البواب: ماخابرش .. بس هى قالت هتستنى حضرتك فوق .. وأنا منعتها بس مقدرتش عليها ..

علامات استفهام تراقصت فوق ملامحه بفضول عن هوية الفتاة التي بانتظاره .. قرب من مصعد العمارو ضاغطًا على الزر الأيسر .. فتح الأسانسير ليدلف داخله، شبح طيفها رُسم أمامه ليفق من شروده على صوت فتح باب المصعد ..

اتسعت حدقة عينيه بذهول عندما وجدها جالسه أمام شقته بصحبة طفلين صغيرين كلاهما منغمسين في سُباتهم ..

تأملها بذهول وصدمة، رجفة قلبه تجذبه إليها، لمع بريق عينيه، شعر بشيء ما بداخله يغمره، لم يفهم مغزى شعره ولكنه كان سعيدًا جدًا ..

نكث على ركبته واضعًا كفه فوق وجنتها بحنان ليفقيها
- داليدا .. داليدا

رفعت عينيها بتكاسل شديد بعينين متورمتين، ترى منه طشاش، أضغاث أحلام ظله أمامها .. أردفت اسمه بخفوت ..

تأملها بشفقة بالغة ثم مرر إبهامه على عينيها ليزيح الدمعة الهاربة منها .. شعرت بأنامله فوق وجنتيها كبذور ورد ألقيت فوقهم أوشكت أن تزهر .

همس بخفوت: أنتِ هنا بتعملى إييه !
اعتدلت في جلستها، ورفعت رأس أختها الصغير لتريحها فوق الحقيبة، مسك كفيها برفق ليساعدها على النهوض، وقفت أمامه بجسد هزيل هرم وهى تنظر في عينيه لتستمد القوة منهما ..

بللت حلقها الجاف بصعوبة بالغة فضغطت على كفه أكثر ثم ذرفت دمعة أخرى خدشت بها وجنتها قائلة بتوسل
- عندي قلب ما بيجريش غير عليك .. لما يكون فرحان أو حزين أو خايف أو حتى زعلان منك، أعمى عن كل الطرق إلا طريقك .. وفي الوقت دا هو مش محتاج غير ليك يازين .. زين ما تسبنيش تاني أنا اتكسرت وأنت الحاجه الوحيده اللي بقيلي...
كل ما في الأمر أنه أصبح يسكنها، يركض بداخلها كطفل عابث غير مدرك سلبية عبثه، تتنفسه بعدد أنفاسها المُتصاعدة، عيناها مازالت لا تبحث إلا عنه، فكيف تتحرر امرأه من كنف رجل استعبدها عشقه، أصبح الحب لغيره نفور، غيابه كمن حجب نور الشمس عن سمائها، بعده أصبح المعنى الحقيقي لكلمة موت .

تقف بين ذراعيه مستندة بكوعيها على كفيه، كأنها متكئة عليه لأنها تخشى السقوط، هو العكاز المعاون لها على السير كي تقوى .. تطوف في بحور عينيه التي اشتاقت لهما كثيرًا فكان موجه يقودها للإجبار على الاعتراف له بضعفها وقلة حيلتها وعشقها الدائم له بالرغم أن ذلك يتعارض مع كبريائها وغرورها ولكنه ذلك الاعتراف بالإكراه المستلذ ..

واقفًا أمامها منتظرها أن تردف بالحديث، فضوله يقتله كي يعرف ما السبب الذي يجعلها تقف أمامه بتلك الهيئة .. سألها بحنو
- أنتي بتترعشي كدة ليه ! مالك ..
كانت جملته بمثابة الضغط على زر شلالات الدمع بداخلها قائلة برجاء
- بلاش تبعد عني أنا محتجالك أووى ..
انتبه زين لوقوفهم أمام باب شقته، مسك كفها بحنو ثم دار نحو الباب ليفتحه قائلًا
- تعالي نتكلم جوه عشان الناس .
ألقت نظرة على كفه الصغير المُحتضن بكفها، شعور الأمان تسلل بداخلها تارة واحدة، دار برأسه نحوها وجدها تنظر على حال كفهما، للحظة مسروقة من الزمن التقيت عيونه بنظرة خاطفة، يبدو أن كلاهما كانا متعطشين إليها لأن البسمة على ثغرهم كانت ترجمه فعليه لشوق التقى في التو .

انحنت لتحمل أختها الصغيرة وهو الأخر حمل عمر علي كتفه وبكفه الأخر حمل حقيبتها .. دلفوا جميعا إلى الداخل، طافت عيناها في أرجاء المكان ثم قالت بهمس
- أنيمهم فين ؟! ..
أشار لها نحو غرفة ما متجها صوبها بحرص شديد، سارت خلفه بهدوء وخطوات سلحفية، كانت نظرات عينيها توحي بمتغرب لعشرات السنين وبعد سنوات من الركض والبحث للتو عاد إلى موطن أمانه الموطن الذي لا ينتمى إلا إليه ..

انحنت لتضع أختها على الفراش مثل ما فعل زين قبلها واضعًا أخيها بحنو بالغ، اغمضت عينيها لبرهه محاولة استجماع قوتها، شعرت بكفه فوق كتفها كماس كهربي صفعها من الداخل كأنه لحم ما تناثر من قلبها منذ فراقه .. همس قائلاً
- تعالي ..

تابعته بخطوات متباطئة، خرجا معًا من الغرفة ليدور زين بجسده ويغلق الباب بهدوء .. رمقته بنظرة إعجاب ثم أردف قائلاً
- هاا ياستي تعالي اقعدي واحكيلي .. مالك !
خلع زين جاكت بدلته العلوى ووضعه على أقرب أريكة جلس فوقها، فجلست بجواره بجسدها مرتجف مرتعد من أسهم عينيه ثم أردفت قائلة
- ماما .. ماما اتوفت امبارح .. وو

جملة واحدة مكونة من ثلاث كلمات جعلته يتذكر آلامه وأوجاعه، صراخ كالصغار على فقدان أمه، آخر لمسة من كفها، كلماتها وهى تتوسل له أن يعتني بنفسه وهى تستسبقه على مكان بعيد عنه لم يعلم متى يلتقي بها، سقطت عينيه على صورتها الباسمة أمامه متنهدًا بتنهيده قوية، لاحظت داليدا تغيره المفاجئ ثم أردفت
- روحت فين !

انتقل زين من مكانه ليجلس بالقرب منها ليقول
- البقاء لله ياحبيبتي ..

اتسعت حدق عينيها لكلمه حبيبتى أجل إنه لازال يحبها ! لازال يحلم بها كما تحلم به ! أصبح فراقهم كموس ذو حدين يجرحهما سويًا، بعدما كانت تظن أنه سكين لا يمزق إلا قلبها !

رفعت عينيها نحوه بحب
- أنت لسه بتحبني يا زين .. !
مرر إبهامه بحنو فوق وجنتها ليمسح دموعها المنسكبة
- أنا محبتش غيرك يا داليدا .. يمكن أصدق مرة أقولهالك فيها .. أنا محتاجلك زي ما أنتي محتجالي بالظبط ..

لم تصدق ما تسمعه أذناها، كان دومًا كلامه يسعدها إلا تلك المرة فكلامه ينتشلها من أرض الحزن إلى فوق سُحب المعجزات ..
- طب بعدت ليه !
احتضن كفها برفق وهو يقول بوجه متبسم
- فاكرة أول مرة اتقابلنا فيها !
تبسمت هى الأخرى بفرحة، انه لم يتناسي ذكراهم حتى الآن وكيف التقيان، هزت رأسها بشكل طفولي، أكمل زين حديثه قائلًا
- كان أول يوم ليكي في الجامعة وماشية زي التايهة، وأنا كان عندي حفلة تخرج وفجأة لقيتك قدام عربيتي، بصراحة كان نفسي أكلك بسناني من الغيظ، بس دلوقتي أنا عاوز أكلك بسناني من الحب .. انت عملتى فيا اييه !

للحظة تلاشت بداخلها كل هموم الحياة، أمطر ضباب حزن بأمطار بهجة تريد أن تروي العالم كله، عجيب ذلك الحب بكلمة منه يقفل بيبان الحياة وبأخرى تجعلني أزهر وردًا وياسمينًا ..
- بردو ما جاوبتش .. سبتنى ليه وبعدت ليه ! زين عاوزة أصفى من جوايا ناحيتك ..
ابتسم بحب قائلًا
- ياحبيبتى أنتي لو مكنتيش صفيتي مكنتيش جيتي !

- وأنت مادام مشتاق مرجعتش ليه !

- ساعات كتير بيصعب على العاصي يتمنى دخول الجنة .. وأنتي جنتي ياداليدا ..
كلماته أضاءت طريق آخر بداخلها تسلل من خلاله حب مختلف، حب تسلل من الجدار الخلفى لقلبها فاستحوذه رغمًا عن أنفه ..

مسك هاتفه ليسائلها بهدوء
- أكيد ماكلتيش .. تحبي أطلبلك إيه ؟
لازالت تنظر له بدهشة غير مصدقه بزوال آلامها فجأة، فهو الوحيد الذي يمتلك الداء والدواء، هو من يملك مفتاح فرحها وحزنها، ظل منتظرها تفيق من شرودها متبسمًا مستلذًا بملامحها التي تتشكل وتتبدل أمامه .. التفتت إليه قائلة
- بتبصلب كدة ليه !

- وحشتيني عاوز أملّي عينيا بيكِ وأعوضهم عن كل لحظو في غيابك ..
تنهدت بتنهيده خروج الروح كأنها تطرد كل همومها خارج قلبها
- أنا تعبانه أوي يازين ..
- أنا تعبان أكتر منك .. لأن تعبك بيقلتني ..
تبادلوا الأنظار طويلًا كأنهم يسترجعوا ذكريات حبهم المؤجل، حبهم الذي حكم عليه بوقف التنفيذ، قوة ما بداخله جعلته يرفع أناملها نحو ثغره ليطبع عليهما قُبلة طويلة قائلًا
- قومي يلا غيري هدومك واستريحي كدة، وأنا هنزل أجيبلك أكل بنفسي عشان تاخدب راحتك ..
تبسمت بخفوف شاعرة بأن الرذاذ غمر قلبها بالانتعاش، يقال أنه سقطت كل حروفه فلم يتبق منه إلا حرفي العين والشين سكنت آخرها قافًا لتبقى عشقًا ملكها واستحوذ على كيانها بمنتهى البهجة والحيوية ..

في فندق بالجيزة

يخر خيبات أمل التي رسمها على أوراق الورد، ظن أنه عندما يعود ستجده فاتحة ذراعيها له، تستقبلة بحنان وحب، للمرة الثانية خدعته دُنياه، ليس كل ما يترك يدُرك بسهوله، لا بد من فعل المستحيل من أجله، جلس على طرف مخدعة بملامح منعقدة مصابة بعجز، خرجت مارتن من المرحاض تطوف بعينيها في أرجاء الغرفة باحثة عن شيء بعينه
- أين داليدا ؟ هل رفضت أن تأت معك !
هز رأسه بالنفي قائلًا بحزن وندم
- ملحقتهاش يامارتن .. روحت ملقتهاش ..

جلست بجواره تربت على كتفه بحنو
- اخبرني ماذا حدث ؟!
تنهد بوجع فأردف قائلًا
- سعاد اتوفت امبارح، وداليدا سابت البيت ومشيت ومعرفش راحت فين !
شعرت بضيق على حالته على فقدانه آخر أمل، فألمه يؤلمها وسعادته تغمرها وتغمر قلبها بفرحة مضاعفة، هكذا هو الحب الصادق كما يجب أن يكون .. تبسم بتفاؤل قائلة.

- كي نظفر بالنتيجة النهائية بالاختبار لابد عليك باجتياز النقاط الصعبة بداخله، ربما يكون غيابها النقاط الصعبة التي تحتاج منك جهدًا كي تشعر بلذة الفوز .
رمقها بنظرة الغريق الذي يستنجد بقشاية الأمل
- يعني فيه أمل !
- طالما أنك لم تيأس وتبحث فمازال الأمل موجود ..
تنهد برجاء داعيًا ربه، أردفت مارتن بحنان
- يبدو عليك الكلل، لذلك عليك أن تترك لي مهمة إزالته بنفسي ..
فهم مغزى حديثها، فدار بجسده لينام على بطنه فيترك لها مهمة محو ما خطته الحياة على بدنه .. قربت منه بهدوء لتقوم بمرور أناملها بحركة دائرية فوق فقرات ظهره مما جعله يتأوه باسترخاء .

ثمة الحب هو ذلك الذى يُمارس بأنقى الكلمات التي يستكين لها الروح، وليس الطريق لتفرغ الغرائز الآدامية.

في شقة زين
تركت داليدا مهمة إنعاش وإزالة الهموم لجسدها الهزيل للمياه المتساقط فوقها، تذكرت أمها وحال إخوتها وماذا ستفعل معهما، وما القوة الداخلية التي تملكها كي يبتليها ربها بكل هذه الابتلاءات، فهو عز وجل لا يكلف النفس إلا وسعها، ولكن ما بوسعها طفح الكيل منه !

قفلت صنبور المياه، فتناولت المنشفة القطنية كي تجفف جسدها بعناء، ثم شرعت بارتداء ملابسها بتثاقل شديد، وضعت المنشفة الصغيرة الأخرى فوق رأسها ثم فتحت الباب مردفة نحو الغرفة التي بداخلها إخوتها .. التفتت لصوت مفتاح يخترق فوهة الباب، تسمرت في مكانها بجسد يتراقص فرحة فهى عاشت كثيرًا كي تصل لذلك اليوم الذي يقفل عليهما بابًا واحدًا حتى ولو مرة واحدهة فالعمر، فالمحب أناني يتمنى أن ينفرد بحبيبه بعيدًا عن العيون .. دائمًا حلم قلبها بتلك اللحظة ولكنها لم تحلم بتلك اللذة التي ارتعد لها بدنها ...

أغمضت عينيها بتنهيده قوية كأن أحلامها تحررت للتو لامسة بجناحيها بروج السما، فاقت على صوت غلقه لباب وهو يقول
- أتأخرت عليكِ !
شعرت بحيرة، دربكة بداخلها فهى لازالت تحت تأثير مخدر كلماته عليها، لم تدرك كم من الوقت مر كأنها تناست أن هناك وقت يمر عليها أرادت أن يتوقف عند تلك اللحظه، ذلك الإحساس، قلبها أصبح كافيًا لم يتحمل أى وجعًا أخر، أصبح متعطشًا لحب صادق يغمره .. تبسمت بخفوت
- لا عادي .. أصلاً مش جعانة أوي .

وضع ما بيده من اغكياس بلاستكية ومفاتيحه فوق الطاولة قائلاً بغمز
- بس أكيد جعانة لعينيا، لكلامي، لحضني اللي سامع لهفة قلبك عليه ..
ارتبكت من أسهم كلماته المعسولة المزينة بالورد فإنها التفتت للورد وتناست الأسهم التي لم تصوب إلا ناحية قلبها، احمرت وجنتاها قائلة
- هصحي عمر وزينه ..
أردف قائلًا وهو يتجه صوب المطبخ قائلًا بغمز
- بس لو أنتي مش جعانة .. أنا جعان أوي وهموت من الجوع ..
نظرت له بعيون ضيقة توحي بعدم تصديقه، أردف زين بمزاح
- لا متبصليش كدة ! مش مصدقة تعالي بنفسك اسمعى صوت عصافير قلبي وهى بتصوصو من الجوع ..

ضحكت بصوت مسموع على عفوية حديثه فاردفت قائلة قبل أن تغادر
- طب والله أنت مشكلة !
- وحلها بين إيديكى ياديدا ..
تسمرت في مكانها بمجرد ما ألقى على أذانها اسم دلالها المفضل لقلبها، بؤرة قلبها كانت تجذبها من ظهر قلبها لتلقي بها في أحضانه، فهى اشتاقت لصوت قرقعة عظامها بين ذراعيه، كل الضغوطات مؤلمه إلا ضغط أذرع المحبين عظام من محبيهم .. تنهدت باشتياق ثم أكملت طريقها صوب الغرفة لتهرب من حديثه المهلك لقلبها..

في سيارة على الطريق السريع
عماد وهو يشعل سيجارته بتأفف
المصيبه لو زين وصلها قبلنا !"
مراد وهو يلف مقود السيارة
- أنا مش لاقي مبرر لقلقك دا، احنا يادوب بنحط احتمالات وبنمشي وراها، بس يمكن القدر لعبته صح .
عماد بضيق.

- أنا أكتر واحد عارف زين وتفكيره، استحواذي شيطانه راكبه، وبيرسمله الطرق مشجرة عشان يوصله لكهف عتمته فالأخر ..
- طيب هتعمل إيه !
- لازم ألقى داليدا .. لاززم ..
مراد باهتمام: طيب أنت مكنتش بتقول كده ليه مع أي واحدة تانية .. مازين بيعرف بالعشرة فاليوم .
سحب عماد نفس من سيجارته ثم زفر بضيق
- زين بيعرف بالعشرة عشان بيدور عليها هى، عشان هى الوحيدة اللي نسي مفتاحه معاها .. فهمتني !

- الحب دا غريب أوي ياخي !
- الحب دا أحلى حاجة في الدنيا بس احنا اللي بنستعملها غلط،، تعرف إن الطفل من يوم ما يتولد لحد ما يبقي راجل عجوز وهو بيدور علي الحب بمختلف مراحلة مدار حياته .. !
ضحك مراد بسخرية
- والله علم النفس هيجننا احنا !
- كل الناس مرضى نفسيين محدش خالي، بس فيه اللي عارف مرضه وبيعالجه، وفي اللي مكابر ومش معترف بيه وعايش في غيبوبة مرضه ..
مراد: معاك حق ؛ المهم هنروح على فين !
عماد بتلقائية: اطلع على العيادة واحنا لينا غيرها .. خلينا نفكر هنعمل إيه .. وإلا هضطر احجز زين في المصحة !
اتسعت عيون مراد بدهشة مما جعله يفرمل سيارته فجأة مردفًا
- معقولة !
- كمل كمل .. أنا بقولك آخر الاحتمالات بس ..

في شقة زين

خلف كاميرا سينمائي أربع أفراد يجلسون حول مائدة الطعام، حبيب وحبيبته وطفلين بهما تحلو طعم الحياة، تلك الحياة التي مرت أمامها للحظات كمشهد مبهج تفكر فيما سيحدث بعد تناول العشاء إذًا بمشاهدة فيلم رومانسي أمام التلفاز وإضاءة خافتة ورأسها تغفو على كتفه فيظل ثابتًا محافظًا على هدوءه حتى صوت أنفاسه تنخفض كي لا تزعج غفوتها، ينتهي بوجودها في منتصف مخدعة واضعة رأسها فوق ساعده لتختبىء من وحشية العالم الخارجي بين حصار ذراعيه .. تنهدت بصوت خافت عندما أردف عمر قائلًا
- داليدا أنا خلاص شبعت ..

أردف زين قبلها بتلقائية
- عااش يابطل .. تعالى اغسل إيديك يلا ..
ألقى عمر نظرة خاطفة نحو داليدا كأنه يستشيرها قبل الذهاب معه، أومأت له بخفوت قائلة
- روح مع عمو زين يا عمر ..
ظلت تراقب تصرفات الهادئة التي كانت ترعد قلبها حبا له، فهى أول مرة تراه بذلك الحنان والهدوء فاقت علي سؤال أختها الصغرى
- ديدو .. مين دا !
- هااا .. دا عمو زين يا زوزو .. وبيحبكم أوي .
ردت أختها ببراءة
- يعني هو جوزك ؟!

اتسعت عيناها لسؤال أختها الذي صعق قلبها بقوة، سمعها زين القادم من الخلف قائلًا
- طب والله يازوزو أنتي بتفهمب ! إن شاء الله قريب بس الحلو يرضى علينا ..
فزعت داليدا من مكانها قائلة
- يلا عشان تناموا الوقت متأخر ..
عمر بعناد: لا أنا هقعد مع عمو زين نلعب شوية ..
رمقت أخيها بنظرة تحذيرية مردفة
- عمررررر !

طأطأ الصغير رأسه بخزي، انحنى زين ليحمله على كتفه قال بمزاح
- مش أسلوب دا تعاملو بيه أطفال .. تعالى ياعمر باشا معايا أنت وزينة .. أنا بنفسي هنيمهم .. وخلي ديدا تقعد هنا لوحدها ..

تحمس الصغار لحيلة زين الذكية التي خدعهم بها وهللوا فرحين، ركضت زنية أمامه نحو الغرفة بفرحة وبراءة وخلفها زين حاملًا عمر .. رمقتهم داليدا بعيون لامعة محاولة إخفاء الضحك على تصرفاته الجنونينة .

انشغلت في لملمة الأطباق من فوق الطاولة وبداخلها شعور بالانتشاء مبهج، فهو الآن معها وبجوارها كلما تشتاق إليه عيناها تجده، لم يؤلمها الفرق بعد، لم تحمل هم حزن مجددًا .. لقد توهمت أن الحياة صفعتها بما يكفي حتى تورمت يديها فاخذت قسطًا من الراحة كي تهدأ وتتركها تتنسم بنعيم الحياة حتى ولو قليل ..

انتهت من تنظيف المكان بصدر رحب متسع وأقدام فرحة لا تلمس حواف الأرض فقط تحلق لأعلى، جلست أمام التلفاز تغير القنوات بلا اهتمام، فكل ما يشغلها الآن هو حديثها معه، تواجده المستمر أمام عينيها، ظلت تستمع إلى صوت ضحكاته مع إخوتها الصغار وذلك كان كافيًا أن تلتهب منه حبًا حتى تضيء ..

بعد عدة دقائق اختفى صوت الضحكات والضجيج واللهو، فوجئت به واقفًا بهيئته الفارهة الجذاب، مرتديًا قميصه الأبيض ذو الأزرار المفتوحة حتى نهاية صدره وبنطال بدلته الأسود قائلًا بمزاح
- طب أنا نيمت الولاد جوه .. مش جيه الوقت اللي أنيم فيه طفلتي ولا إيه !

تعمدت أن تتجاهل كلماته قائلة
- الفيلم دا حلو أوي .. تعالى اتفرج معايا ..
جلس بالقرب منها قائلاً
- أنا هقعد اتفرج عليكي أنتِ وبس .. وأنتي اتفرجي زي ماتحبي على اللي عاوزاه ..

صوت ما ينبح بداخلها مرددًا أنها لا تريد إلا إياه بجوارها وبداخلها، تود أن تبيت لأخر نفس بين ذراعيه تنهدت بحب قائلة
- الفيلم بدأ ..
أجابها بغمر وهو يدور بجسده ناحيتها
- وأنا كمان هبدأ ..
ضاقت عيناها باستغراب مرددة
- هتبدأ في إيه ...
تنحنح بخفوت قائلًا: هبدأ أملي عيوني منك ..

للمرة الثانية تعمدت أن تتجاهل كلماته لأنه لو أردف كلمة زيادة ستكون النتيجة هى أن ترمي جسدها بين ذراعيه غير مراعية لعواقب الأمر .. فسحت قليلاً ساندة ظهرها للخلف متصنعة انشغالها في شاشه التلفاز في حين الوقت الذي يتفتنها بحب وشوق ..

مرت قرابة نصف ساعة، تشعر بخيول تركض بداخلها، لم تستطع أن تتجاهلها أكثر، كان يصفف شعرها بهدوء بالغ مما جعلها تظل تحت تأثيره للأبد، شل قدرتها على المقاومة ولمساته غمرتها بكتلة نارية متوهجة تريد أن تلقي بجسدها في محيط أحضانه لتنطفيء ..

لم تتحمل الصراع الناشب بداخلها فوثبت قائمة فجأة قائلة
- أنا هدخل أنام جوه ..
وقف أمامها قائلاً
- جوه فين ! السرير صغير يادوب مقضي أخواتك !
تنحنحت بخفوت ثم أردفت قائلة بصوت منخفض
- أنا هتصرف .. تصبح على خير ..
قبض على ساعدها بسرعه ليقفها أمامه قائلاً
- طيب هاتي أخواتك وناموا فالاوضة الكبيرة بتاعتي وأنا هنام جوه ..

ذابتها سحر عينيه كما يُذيب الماء الملح، فلم تلتفت لكلماته، لاحظ شرودها به فأردف قائلًا
- على فكرة أنتى وحشتيني أوي .. طول الفترة اللي بعدتى فيها عنى وأنا كنت مدمر ..
ذرفت دمعة من عينيها قائلة بوجع
- وجعتني أوي يازين .. مكنتش أتخيل انى أهون عليك بسهولة كدة ..
وضع راحة كفه على عنقها بحنان قائلًا
- يبقي تسيبنى أعوضك عن كل دقيقة .. ممكن !
ظلت تنظر له بهدوء وعيون ثابتة .. قرب زين من أذانها فشعرت بحرارة أنفاسه تقرضها على مهل، فهمس قائلًا
- تتجوزينب !

اتسعت حدقة عينيها بدهشة قائلة بصوت متردد
- إيييه ..
كرر كلامه مضيفًا له
- تتجوزينب .. وتعيشي معايا لآخر العمر ..
لازالت عيناها متسعتين متفوهه لم تعد حساب تلك الكلمة، عاشت طويل تحلم بسماعها منه ولكنها اليوم ذاقت معناها وحلاوتها .. تبسمت بخفوت محاولة الهرب من حصار عينيه
- هدخل أنام ..

أزاح خصيلة من شعرها خلف أذنها
- هسيبك تدخلي تنامي .. وعشان تفكري وهستنى الرد بكرة ..
ثم قبع قبلة رقيقة على وجنتها قائلاً بحنان
- happy dreams my future wife ..

ركضت نحو الغرفة وقفلت الباب خلفها، فوضعت كفها فوق صدرها لتخفض ضجيجة، تشعر أنها بحلم جميل لا تريد الاستيقاظ منه، بسطت جسدها على الفراش بجوار أختها وصوته يرن في أذنها كجرس الكنيسة ..

شعر بملل وهو يتقلب في فراشه، شيء ما يجذبه نحوها، تسارع ضربات قلبه لم تهدأ قائلاً لنفسه
- ربنا يقدرني وأعوضك ..

نهض من فراشه على صوت رنين جرس منزله، تحرك نحو الباب ليعرف هوية الطارق مرددًا لنفسه
- ياتري مين اللي جاي الساعة دى !
قطع حبال فضوله عندما فتح الباب فوجد فريدة رشوان أمامه قائلة بدلال
- قولتلي كل ما قلبك يدق اعرفى إن قلبي بينادي عليكِ .. فمفكرتش ثانية عشان أجيلك...

 

تاااابع ◄