رواية لروحك عطر لا ينسى الفصل الخامس
في غرفة عمر
وقفت يارا امامه تضم كفيها لبعضهما البعض بتوتر لم تُظهره له، يجب ان تكون قوية او تنجح في إظهار ذلك حتى تستطيع تقبل اي رد فعل منه، لن تلومه لكنها تتمنى عدم حدوث ذلك.
- ها سامعك، في اية؟
ازدردت لُعابها ببطء قبل ان تُفرق شفتيها بشجاعة لتتحدث مُباشرةً ودون مقدمات
- في شخص بيهددني ومعاه رقم ماما سهام و..
قطع حديثها بخشونة اثر اندفاعه الحاد
- بيهددك ازاي؟، ومعاه رقمها ازاي ولية؟
ابعدت بصرها عن ملامحه التي أصبحت حادة، عينيه ترمقها بترقب وغضب، اجابته
- بيهددني انه يقول حقيقة اني مش سلمى
جحظت عينيه بغضب جامح، كيف يحدث شيء كهذا؟، هل ستُهدم خطته بسبب حقير مثله!، اقترب منها يسألها بإنفعال خشن
- مين الحقير دة؟، وإزاي عرف حقيقتك؟
جفلت جين امسك بذراعيها يهزها لتُجيبه حين أطالت في صمتها، اخرجت حروفها بخزي شديد
- ابويا
- نعم!
هتف بها بدهشة لم تستغرق ثواني حتى يتخلص منها ليضحك بعدها في غضب وهو يترك ذراعيها بعنف، استدار حول نفسه يفكر بعدم إستيعاب، لماذا يجب ان يكون والدها؟ لماذا هو بهذه الدرجة من الحقارة حتى يهدد ابنته للحصول على المال فقط؟
توقف اخيراً مُقابلاً لها، طرح سؤاله بإقتضاب
- عايز كام؟
لم ترفع نظراتها له حتى الان، لا تُريد ان ترى نظرات مُحتقرة او إتهام لها، اجابته بأسى
- نص مليون.
شتم وهو يتنفس بغضب، بينما وضحت بخفوت موقفها
- معرفتش اتصرف لوحدي فقولت ا..
قاطعها بإتهام قاسي صدمها وآلمها في نفس الوقت، كان بارد حقير وهو يقول
- بس انا اية الضمني انك مش بتضحكي عليا عشان تاخدي الفلوس دي ليكِ؟
رفعت رأسها سريعاً تنظر له بصدمة، لماذا دائماً يتهمها بنفس الامر؟ لماذا لا يثق بها؟، شعرت بنيران تسري بداخلها وقد انعكست على حدقتيها، هدرت بإنفعال اثر شعورها بالظلم.
- فاكر إن سهل عليا اني اجي اقولك ان ابويا بيهددني عشان اجي وأمثل عليك مثلاً؟، لو عايزة اضحك عليك واخد فلوس مش هتجه لحجة بابا ابداً لانه مساعدنيش في الحقيقة عشان يساعدني في كدبة انت بتتهمني بيها!
لا يشعر بإحراجها من إخباره ان والدها يهددها، كم انه امر قاتل ان تُعلِم الناس حقيقة كره والدها لها وتصرفاته معها التي أوصلته لهذه النقطة.
قاومت ألالم ألذي يدفعها للبكاء، لن تبكي امامه، حاولت الحفاظ على حدة حروفها دون تكسرها وهي تُضيف
- وانا قولتلك عشان تساعدني وتقولي اتصرف ازاي، الموضوع مش انا فيه لوحدي إنما اهلك وانت فيه وممكن يحصل حاجة لماما سهام لو عرفت، وقتها هتحمّل مين المسؤولية؟، هتحملهاني انا وانا معنديش طاقة اشيل ذنب حد
خانتها دموعها التي لمعت في حدقتيها جنباً الى جنب، قالت آخراً بصرامة.
- انا عملت اللي عليا وعرفتك، عايز تصدقني أهلاً وسهلاً مش عايز يبقى أتحمل انت مسؤولية اللي يحصل.
اتت ان تتخطاه بعد قولها لكنه قبض على ذراعها بقوة موقفاً اياها، اضطرت ان تنظر له وتقابل حدقتيه الغاضبة، كان ينوي ان يقول شيء لكنه تراجع حين رأى دموعها ونظرة الإنكسار التي تحاول التغلب عليها بحدة بندقيتها، ترك ذراعها فأكملت طريقها للخارج بصمت، إذ أكملت حديثها معه ستسقط باكية في النهاية وهذا اخر ما تريد حدوثه خاصةً، امامه.
فور مغادرتها ضرب عمر الحائط بقبضته ضربات مُتتالية غاضبة، غاضب من نفسه ومن اتهامه السخيف لها، لقد خرج اتهامه منه في لحظة غضب وثوران لا اكثر، لم يقصد اتهامها حقاً.
بينما في الناحية الأخرى، مع إغلاقها لباب غرفتها كانت دموعها قد سالت على وجنتيها، ادارت المفتاح في القفل حتى لا يدخل عليها احد ويراها بهذه الحالة الضعيفة، اتجهت للفراش لتجلس عليه وقد أصبحت دموعها كالشلالات، لن تستطيع إيقافها حتى إذ ارادت، فكم ارادت البكاء سابقاً لكنها تحملت وتحملت، اما الان لقد أُتيحت لها الفرصة حتى تتخلص من الثقل الذي تشعر به على قلبها.
التقطت الوسادة لتدفن وجهها بها وتكتم بها صوت شهقاتها التي تتعالى بطريقة مثيرة للشفقة، كم تكره شعورها الذي يعتريها الان، ألم يقبض على قلبها وروحها اليتيمة، ضجيج بين الكثير من المناقضات داخل عقلها يكاد يجعلها تنفجر صارخة بظلم، مشاعر متضاربة بين الكره والنفور والاشتياق والتمني، لماذا يجب عليها ان تُعاني للان؟، لقد كبِرت بشكل كافي حتى تستطيع إصلاح قلبها المُنكسر لكن لماذا، لماذا لا تستطيع؟
سحبها حزنها لتذكُر ماضيها المثير للشفقة، طفولتها التي شوهها لها والدها وجعلها تكبر على خوف عدم قبول الآخرين لها، فقد كان يرفضها منذ البداية، منذ ولادتها وحين اكتشف انها فتاة وليست صبي وان الطبيب اخطأ في كشف جنس الطفل.
كبرت حتى أصبحت في عمر السابعة لتستطيع تذكر معاملة والدها الجافة لها وتوبيخه لها من اقل فعل يصدر منها، وما زاد رفضه لها هو تأخر عمر عقلها، فلم تكن صاحبة ذاكرة قوية او صاحبة درجات مرتفعة في الدراسة مما اثار جنونه، تتذكر توبيخه القاسي حينها
( - انتِ جايبة بنت حمارة مبتفهمش حاجة وعندها تخلف
عانقت كوثر يارا من الخلف وهي تُعاتبه بحدة
- متقولش كدة قدامها غلط.
- غلط؟، خليها تسمع ممكن مخها الخربان دة يشتغل، دي مش نافعة في حاجة، اطلب منها تجيب حاجة تقف متنحالي، اجي اشوف درجاتها مش درجات واحدة سليمة عقلياً
أضاف بحنق وهو ينكز كتفها بخشونة
- انتِ غبية معندكيش مُخ تفكري بيه
اردف موجهاً كلامه ل كوثر
- وعشان تعرفي اليوم اللي هسيبكم فيه اعرفي انه بسبب بنتك الغبية دي).
كانت تبكي بحرقة كلما قال لها تلك الكلمات السلبية التي جعلت نفسيتها مريضة، دائماً ما كان يخبرها انها لا تروق له وانه يبغضها، وقد انتشر الامر حين أعلن هو بجبروته انه يرفض ابنته وسيغادر لأنه سئم منها، حينها تعرضت للتنمر في المدرسة وقد ابتعد عنها أصدقائها ولم يرغب احدهم في مصادقتها، فأصبحت تنزوي بمفردها ولا تتجرأ من الاقتراب لأحد.
رغم ذلك تمنت وجوده في أمل ان يتغير ويحبها، دائماً ما كانت تشتاق لشعورها بوجود أب ليس هو تحديداً، حتى حين عاد كان لديها نفس الأمل الأحمق في تغيره.
لكنها تعترف، لولا مواسات وتشجيع والدتها لها لكانت الان شخصية اخرى ضعيفة منبوذة، وكذلك ل ملك دور في تحسنها، فقد أصرت الاخيرة على التقرب منها ومُصادقتها حين كانا في الحادية عشر.
رفعت وجهها وهي مازالت تنتحب لكن بصمت، وضعت كفها على صدرها ناحية قلبها الجريح، انه يؤلمها، استلقت على السرير بنفس حالتها ونامت دون ان تخف دموعها.
اليوم التالي
اتجهت ملك لداخل المطعم، قابلت المدير فور دخولها والذي اوقفها ليتحدث معها بل ليحذرها
- رجعتك للشغل اة بس مش هقبل اي غلطة منك، سمعاني؟
تمتمت بخفوت
- حاضر
تركته واتجهت للمطبخ، القت التحية على زميلاتها فبادلوها اياها مع نظرات خبيثة، التقطت مزأرها وأثناء ارتداءه كانت تقول إحدى زميلاتها
- مش هتقوليلنا علاقتك اية ب إياد الحديدي؟
رفعت ملك نظراتها الى الأخرى سريعاً وهي تقول بتلقائية مُستنكرة.
- مفيش علاقة مابينا طبعاً
اتى قول اخر من زميلة اخرى
- اومال لية اتوسطلك عند المدير؟
تنفست ملك بضيق، قالت بإقتضاب وهي تتجه للخارج لتأخذ طلبات الزبائن
- معرفش
توقفت بتوتر فور خروجها من المطبخ فقد رأت إياد وهو يدخل للمطعم، توقف هو بدوره ينظر لها بود وإبتسامة صغيرة تعلو شفتيه، اشاحت بوجهها سريعاً وأكملت طريقها لإحدى الطاولات مُتجاهلة اياه بصعوبة.
في فيلا إبراهيم السويفي
خرجت يارا من غرفتها بهدوء، سارت خطوتين وتوقفت حين سمعت صوت صرير باب إحدى الغرفتين، استدارت لتقابل سهام لكنها لم تكن هي كما توقعت، كان عمر، تلاشت إبتسامتها فور رؤيتها له ثم استدارت لتكمل هبوطها لدرجات السلم.
لاحظ عمر رد فعلها، عَلِم انها مُتضايقة منه، تنهد واتبع خطواتها للاسفل، توقف مع نهاية السلم عاقداً حاجبيه بإستغراب وهو يتابعها بنظراته تتجه لمكتب والده!
طرقت يارا بخفة على الباب ثم دلفت حين سمعت إذنه لدخولها، قالت بنشاط مُصطنع
- صباح الخير
رفع إبراهيم رأسه عن الأوراق التي ينشغل بها لينظر لها، ابتسم بحبور وهو يقول
- صباح النور يا حبيبتي
جلست في الكرسي المقابل له وهي تطلب بلطف
- كنت جاية استلف كتاب اقرأه، ممكن؟
- طبعاً، اعتبري المكتب مكتبك.
شكرته وهي تنهض بحماس مُتجهة للرفوف للبحث عن كتاب يروق لها، راقبها وهي تتحرك، يدرس كل حركة تقوم بها، سألها وهو يبتسم بهدوء
- الوحمة اللي في ضهرك لسة موجودة؟
توقفت يدها عن تقليب صفحات الكتاب التي أخذته منذ وهلة، حركت حدقتيها حولها وهي تُجيب بحذر
- الوحمة!، اكيد لسة موجودة
رفع زاوية فمه وهو يتمتم
- اكيد
وعاد لينظر للأوراق بهدوء، رفعت الكتاب الذي بيدها سريعاً، استدارت له لتخبره
- انا هاخد الكتاب دة.
سألها دون ان يرفع نظراته لها
- اسمه اية؟
- قواعد السطوة
هز رأسه قائلاً بتشجيع
- حلو، ينفعك
ابتسمت ثم استأذنت لتغادر، توقفت فور خروجها حين رأت عمر واقفاً على جنباً مُنتظراً اياها، كادت ان تتخطاه لكنه أعاق طريقها قائلاً بصوت منخفض حذر
- كنتِ بتعملي اية جوة؟
لم تكلف نفسها الرد، كادت تُكمِل طريقها كأنه لم يُعيد طريقها لكنه لم يسمح لها بقوله المُنزعج
- بكلمك عفكرة.
تنفست بقوة وهي ترفع نظراتها المُقتضبة له، كقولها
- وانا مش عايزة اتكلم معاك، وياريت منتعاملش مع بعض إلا قدام اهلك
ثم تخطته بخطوات حازمة، فلم يُعيق طريقها هذه المرة.
في المطعم..
خرجت ملك من المطبخ وهي تحمل الصينية لتتجه بها للطاولة المقصودة، لمحته بطرف عينيها، مازال إياد جالساً في مكانه ولم يغادر، تباً له لماذا يُصر على جعلها متوترة!، وضعت الأطباق على الطاولة بيد مُرتجفة، وحين حملت طبق الحساء الساخن سقط منها في جانب الزبونة التي تلطخت ملابسها بعض الشيء فصرخت بغضب وهي تنهض
- ما تحاسبي، اية الغباء دة!
اعتذرت ملك بتوتر وحرج عدة مرات، لم تكترث الزبونة لإعتذاراتها واكملت توبيخها
- مدام انتِ مش قد الشغل دة بتشتغلي لية؟
- اسفة جدا بجد، اسفة
اتت عاملة النظافة لتنظف الارض ومازالت ملك تعتذر لكن الأخرى مازالت توبخها مما اثار جنون إياد الذي كان يتابع ما يحدث بحنق، حاول التماسك وألا يتدخل لكن تلك الزبونة الحمقاء تُثير غيظه، أشعرته ان ملابسها مصنوعة من الذهب.
نهض ليتجه ل ملك ويقف خلفها، قال بكبت وهو يضع كفيه في جيوب بنطاله
- مالِك مأفورة الدنيا كدة لية؟، دي طرطشة شوربة مش حوار يعني
نظرت له الزبونة بغضب من إستهانته بالموقف التي هي فيه، قالت بصوت مرتفع حانق
- وانت بتدخل لية؟ وغير كدة همشي بالشكل دة ازاي؟
رمقها بإستخفاف قبل ان يسخر بنبرته الباردة المستفزة
- شكل البلوزة كدة احلى صدقيني البقعة دي عملتلها شكل فأشكريها
جحظت حدقتيها وهي تهتف بشراسة.
- نعم!، انت عارف البلوزة دي م...
قاطعها بملل مُحرِجاً اياها
- مش عايز اعرف، مش هنتصاحب احنا
تسارعت انفاس الزبونة اثر غضبها وغيظها من هذا الأحمق الذي تدخل في امر لا يعنيه، صرخت بثورة
- فين المدير؟ فينه؟
فزعت ملك وحاولت تهدأتها بجزع
- اهدي لوسمحتي اهدي
دفعت الزبونة يد ملك بعنف التي مدتها لتربت على ظهرها، فغضب إياد وهتف بجدية وصوت جهوري
- على فكرة انتِ قليلة الذوق.
جفلت ملك من صوته وصُدِمت من جديته المُفاجئة، لم تكن الوحيدة التي صُدِمت فلم تكن الزبونة اقل منها صدمة، انه يتطاول عليها!
اتى المدير ينظر لهذه الاجواء المُشتحنة، فأتاحت ملك له الطريق وهي تُحدِث نفسها بخوف وإستياء
- هتطرد وش.
قصت عليه الزبونة ما حدث وكان كل تركيزها على إياد فتحولت المشكلة بين زبونين، استدعاهم المدير لمكتبه بتهذيب فذهبا معه، نظر إياد نظرة سريعة ل ملك التي كانت تنظر للاسف بأسف، استدار عائداً لها فرفعت نظراتها له حين رأت قدمين تقترب منها، سألها بخفوت
- انتِ كويسة؟
رمقته بحنق وهي تُجيبه بحدة بجانب نبرتها الخافتة
- لما تبعد عني هبقى كويسة.
تختطه بخطوات غاضبة عائدة لعملها، بينما ظل واقفاً للحظة يفكر، هل تدخله جعل الوضع يسوء اكثر؟
في حديقة الفيلا، كانت يارا جالسة مع سهام يتحدثان الاثنان عن امور عدة، اتى عمر وجلس مُقابلاً لهم بهدوء، كان يرفع نظراته من حين لاخر ل يارا التي تضحك وتبتسم ل والدته، تدخل في حديثهم فجأة مُبدياً رأيه
- مش هيليق عليكِ
لم ترفع نظراتها له، بينما قالت سهام بثقة
- بنتي حلوة في كل حاجة
- طبعاً طبعاً
قالها بإستخفاف وهو يخفض حدقتيه لهاتفه بإحباط، لم تستجيب لمحاولة إستفزازه لها، نهضت يارا ناظرة لساعة يدها.
- الساعة تلاتة، هروح لماما كوثر زي ما قولتلك
نبهتها سهام وهي تُثقل على حروفها
- بس متتأخريش
تمتمت وهي تميل لتُقبلها
- حاضر
فور اعتدالها وجدت عمر يقول
- تعالي هوصلك
- ربنا يبارلك يا حبيبي
قالتها سهام له، فإبتسم وهو ينهض ليلحق ب يارا التي ابتعدت هاربة فور عرضه لإيصالها.
توقف للحظة حين وصلا لبوابة الفيلا، رفع زاوية فمه بسخرية حين لاحظ خطواتها السريعة التي تدل على انها تهرب منه ومن إيصاله لها، هتف بخبث وإستمتاع
- حاسبي تُقعي بس وانتِ بتجري كدة.
وكأنه كان يتنبأ بسقوطها لتتعثر وتسقط ارضاً، مال بجسده وهو يضحك بقوة من بعيد بينما ضمت هي قبضتها بحنق لكن ألمها كان يُشغلها اكثر، نظرت لبنطالها الذي تمزق عند ركبتها تمزُق طفيف، انها تؤلمها، همت للنهوض لكنها وجدت كفيه يمسكان بذراعها من الخلف ويُنهضها برفق، سألها وهو يبتسم كالأحمق
- كويسة؟
نظرت له بطرف عينيها بغيظ، ابتعدت لتتخلص من كفيه المُمسكان بها لتستدير بحدة له.
- لية قولت انك هتوصلني؟ مش كنت بتضايق من توصيلي؟
اخفض كتفيه مُجيباً بصراحة
- عشان اتكلم معاكِ
ابتسمت بتهكم وهي تسأله بضيق لم تستطع إخفائه
- تتكلم مع واحدة حرامية ونصابة؟
حدق بها للحظة قبل ان يُجيب مُبرراً بحرج
- كنت متعصب وقتها، فمتاخديش بكلامي
ردت بخشونة وإستياء لمع في حدقتيها
- لا هاخد بيه لان دة تفكيرك عني
اخفض رأسه صامتاً لثوان، قال اخيراً مُعتذراً
- اسف على اللي قولته، فعلاً مكنش قصدي.
اشاحت بوجهها عنه حين شعرت بصدق إعتذاره، قالت بجفاء تصنعته
- خلصت؟، عايزة امشي
ابتسم بهدوء مُغيظاً اياها برده
- خلصت، يلا عشان اوصلك
يعلم انها ستعترض لذا اسرع ليمسك بكفها ويسحبها خلفه، اتسعت مقلتيها قليلاً وهي تنظر لكفه الذي يضم كفها، شعرت بالتوتر، سحبتها بعنف وهي توبخه بخشونة تخفي بها توترها المُفاجئ والجديد.
- بعرف أمشي لوحدي.
توقف رافعاً كفيه مُعلناً إستسلامه، انتظر ان تسبقه ببضع خطوات للسيارة ليكمل سيره خلفها.
- هديكِ الفلوس بكرة
قالها وهو يُدير المقود، اخبرته بعد صمت وهي تنظر امامها
- مش هروح لوحدي
رد ببساطة وهو ينظر للطريق
- مكنتش هسيبيك تروحي لوحدك
تساءلت بريبة، لماذا اصبح يتعامل معها بشهامة؟ هل يحاول إصلاح علاقته معها؟ لكن هذا تصرف بعيد عنه، تباً انه يجعلها مُضطربة.
قالت بعدوانية بعد صمت.
- لو عليا مش عايزاك بس عشان تشوف يعينك ان الفلوس دي مش هاخدها
تنهد بإستياء بداخله، لن تنسى ما قاله وستظل تُذكِره وتُشعره بالذنب، لم يرد ليتجنب جدال لا حاجة له.
مساءً
كانت يارا ووالدتها جالستان يتحادثان عن عملها، كانا يتناقشان، فليس من السهل إقناع كوثر وجعلها ترضى عن عمل يارا.
نهضت يارا لتحضر لوالدتها دواءها وتجعلها تتناوله، بعدها جلست مُقابلة اياها شاردة الذهن، تفكر في التحدث عن والدها للمرة الاولى مع والدتها، كانا يتجنبا ذِكره في حديثهما، كان سبب كوثر هو حماية ابنتها من تذكُر تلك الايام السيئة والتي تؤذي يارا، اما الاخيرة كانت تتجنبها حتى لا تُحزن والدتها فحين تأتي سيرة والدها تشعر بحزن وحسرة والدتها.
لكن هذه المرة ارادت فتح الحديث معها عنه، ليس لتذكر الماضي بل لترى رد فعل والدتها وهل ستتقبل فكرة موافقتها على مُقابلتها لوالدها دون علمها!، حتى انها تُريد إرشاد والدتها لها في تهديده لها.
تشجعت وسألتها ببطء
- هتعملي اية يا ماما لو بابا رجع؟
حدقت بها والدتها وقد اظلمت حدقتيها، همست والدتها بعد لحظات من الصمت
- مش هيرجع، مش هينفع يرجع
ازدردت يارا لُعابها قبل ان تمتم بخفوت
- بقول لو يعني.
تنهدت كوثر وهي تجول بنظراتها حولها بتوتر، هدرت بأسى
- معدش ينفع نحط الاحتمال دة يا بنتي
- لية؟
شعرت بالفضول حول رد والدتها الغامض، لماذا لا ينفع؟ لقد عاد، انه عاد.
استقرت حدقي كوثر على نقطة بعيدة جداً عن يارا، شعرت بصعوبة خروج كلماتها لكنها مُضطرة، يجب على ابنتها ان تعلم الحقيقة، لقد حان الوقت.
- ابوكِ مات يا يارا من سنتين.
اتسعت مقلتي يارا على مصرعيها غير مستوعبة ما قالته والدتها، من مات؟، هل والدها ميت؟ ماذا؟ كيف؟
أكملت كوثر حديثها مُبررة تكتمها على الامر
- محبتش اقولك وقتها عشان حسيت ان ملهوش لازمة تعرفي لان هو كدة كدة مش موجود في حياتك
فرقت يارا شفتيها لتخرج حروفها وهي مازالت تحت تأثير الصدمة
- بس، بس هو..
قاطعتها كوثر بسرد ما حدث يومها.
- جالي الخبر يومها من اخته، عمتك اللي مفكرتش تتصل بينا ولو مرة تطمن علينا واتصلت لما مات، مش عارفة كانت مستنية منا اية؟ نزعل عليه مثلاً!
تشتت يارا، أصبحت تنظر حولها تحاول جمع شتات نفسها وتفكيرها، والدها ميت، إذاً ذلك الشخص الذي حدثها ليس والدها؟ انه نصاب؟ لكن كيف علِم بحقيقتها ولماذا يفعل بها ذلك وكيف يستغل ذلك؟ من المؤكد انه شخص يعرفها.
- ورفضت الميراث، نصيبك ونصيبي.
اتسعت مقلتي يارا وقد استيقظت من صدمتها حين سمعت قول والدتها، رفضت حقها؟، لماذا؟، قالت بخفوت مُرهق وقد بدأت انفاسها تتسارع
- لية عملتي كدة؟
- مش عايزين حاجة منه
اجابتها كوثر بهدوء، جفلت الاخيرة حين نهضت يارا بخشونة صارخة بثورة
- دي اقل حاجة يقدمهالنا لية رفضتيها؟، لية رفضتي اخد حقي منه!، مش كفاية انه مدانيش حقي فيه عشان تحرميني من حقي في فلوسه اللي استخسرها فينا؟
سالت دموعها بقهر مع تهدج وإنخفاض صوتها تدريجياً، كم تشعر بالظلم في هذه اللحظة
- مات بالبساطة دي من غير ما يعتذرلي؟، من غير ما يبوس راسي يقولي حقك عليا انا اسف؟ لسة مشوفتش في عينيه الدموع بسبب شعوره بالذنب، لسة معتذرليش، ازاي مات وهو لسة معملش كل دة؟ مات وارتاح وانا اية؟ انا اية؟
اندمجت حروفها الاخيرة مع بكاءها المرير الذي مزق قلب والدتها عليها، سقطت جالسة تضرب الارض بقبضتها بقهر، تتمتم وهي تنتحب.
- انا اية! انا اية؟
رفعت كفها لصدرها تضرب عليه بقوة مع خروج صرخة غاضبة مكبوتة بداخلها، فبكت كوثر بألم لرؤية ابنتها تتألم بهذه الطريقة القاسية.
في منزل ملك
خرجت ملك من غرفتها لتساعد والدتها في إعداد العشاء، اخذت تقطع السلطة الذي يحبها والدها، بدأ والدتها الحديث معها
- جالك عريس
ادارت ملك حدقتيها في مقلتيها بضجر مُتسائلة دون حماس
- مين المرة دي؟
- ابن صاحب ابوكِ، من البلد
توقفت يد ملك عن تقطيع الخضراوات لتنظر لوالدتها بإستنكار
- البلد؟، مستحيل
اتى صوت والدها الحاد من خلفهم
- ومالها البلد يا ملك؟
استدارت له ملك موضحة ببساطة.
- مش عايزة اتجوز واحد من البلد عشان مش هعيش هناك، صعب عليا اعيش عيشتهم
قالت والدتها بضيق
- مالها عيشتهم؟، دي عيشتهم تجيب الراحة النفسية للواحد، تصحي تلاقي الزرع قدامك والفراخ هناك و...
قاطعتها ملك بتهذيب
- لوسمحت مش عايزة اتجوز دلوقتي، ممكن؟
هتف والدها بضيق
- هتفضلي قاعدة معانا يعني؟
صمتت ملك وعادت لتقطيع الخضراوات، فعاد والدها للصالون بينما رمقتها والدتها بلا أمل.
مغرب اليوم التالي
خرجت ملك من المطعم بعد ان انتهت من عملها، كانت تسير على الرصيف بفكر شارد، لقد اختفى إياد ولم يأتي اليوم، ولم تره أمس بعدما تركته غاضبة لكنها سمعت من زُملائها انه دافع عنها امام المدير وانه لم يرحم تلك الزبونة من إنتقاده، تباً انها تفكر به رغماً عنها.
تباطأت خطواتها فجأة حين رأت من كانت تفكر به يقف امامها مُستنداً بجسده على سيارته، انها ترى جانبه فقط، تسارعت دقات قلبها الغبي من رؤيته فقط، هل اتى لرؤيتها؟، اتتها الإجابة سريعاً وكم كانت صادمة، فقد رأته يفتح ذراعيه ليستقبل فتاة تركض اليه مُعانقاً اياها مع إبتسامة واسعة على شفتيه.
سقطت ذراعها المُمسكة بحقيبتها بصدمة وهي تحدق به من بعيد، ألم يُخبرها انه مُعجب بها؟ لقد اهتم بها وساعدها كثيراً، لماذا كان يتصرف هكذا معها وهو مع اخرى؟، اشاحت بوجهها الناحية الأخرى موبخة نفسها، لماذا تشعر بالخيبة والخيانة؟ لا يجب عليها الشعور بذلك، فهو لا احد بالنسبة لها.
اجبرت نفسها على السير دون ان تلتفت مرة اخرى لتنظر له، حتى انها سارت في طريق مُعاكس عن طريق عودتها حتى لا يراها.
شعرت بدمعة تسيل على وجنتها، تباً لماذا تبكي؟ كم هي حمقاء.
صعدت يارا بجوار عمر في السيارة وانطلقا الى المكان الذين اتفقوا على مقابلة والدها المُزيف فيه.
كان ينظر لها من حين لآخر وبداخله فضول شديد حول ما حدث لها فجأة، فمنذ ان عادت من زيارة والدتها وهي صامتة مع الجميع حتى والدته تختصر معها الحديث، كذلك هو حاول ان يستفزها اكثر من مرة لكنها لا تستجيب ابداً.
أراد ان يفتح معها حديث، لذا سألها بحيرة
- لية السيد الوالد اختار مكان مقطوع زي دة؟
اجابته بجفاء وهي تنظر لأصبعها الذي تُلاعب به ميدالية
- انا اللي اخترت المكان دة
عقد حاجبيه بإستنكار
- انتِ؟، لية؟
نقلت بصرها للطريق بحدقتين مُظلمتين، اجابته بخفوت غامض
- لانه مناسب
تعجب من ردها، فلم يفهم كيف مُناسب؟
وصلا للمكان المقصود، التقطت الحقيبة التي بداخلها النقود وفتحت الباب لتترجل، اوقفها عمر بقوله
- متقلقيش، هياخد الفلوس من هنا وهدخله السجن من هنا.
اومأت برأسها وترجلت لتقترب من ذلك الرجل النصاب الذي يقف على مسافة منها، بينما ظل عمر مُنتظراً داخل السيارة بناء على رغبة يارا.
مع كل خطوة كانت تخطوها له كانت النيران بداخلها تتلظى، والحقد بقلبها يزداد، تُقسم انها لن ترحمه، توقفت امامها بينما قال برضا
- جبتي الفلوس، شاطرة بتسمعي الكلام
ابتسمت بشراسة وهي تقول بهدوء
- طبعاً لازم اسمع الكلام وإلا هتكشف حقيقي
- حلو، يلا هاتي الفلوس.
مد كفه مُنتظراً تقديمها للحقيبة، اختفت ابتسامتها تدريجياً مع تبدُل ملامح وجهها لتصبح قاسية، قالت بخفوت مخيف
- طبعاً هدهالك اومال اية!
وما لبثت ان انتهت من جملتها حتى رفعت يدها المُمسكة بالحقيبة لتضرب رأسه بها بكل قوة تملكها فصرخ بألم وهو يسقط أرضاً، فهل تهدأ!، ابداً، تقدمت منه وأكملت ضربُه بالحقيبة وهي تهتف بغل
- تضحك عليا؟، فاكرني مش هعرف انك واحد نصاب؟، هتضحك عليا بالسهولة دي يا حقير؟
شهق عمر بصدمة واتسعت مقلتيه غير مستوعباً ما يراه، ماذا يحدث؟ لماذا ضربت والدها؟ كيف ضربته؟، ظل مصدوماً يتابع ما يحدث بحماقة، لم يتحرك إنشاً واحداً، لكن حين رأها تُلقي بالحقيبة جانباً لتلتقط بدالها صخرة متوسطة الحجم فزع، هرع ليترجل ويركض لها ويمنعها صارخاً
- بتعملي اية يا مجنونة؟
- انت مين يا حقير عشان تديني امل ان بابا رجع؟، مين عشان تخليني أتعذب كدة؟، انت مين يا حقير رد عليا.
كانت تصرخ بجنون نابع من قهرها، تضربه بكل غل دفين بداخلها، توقفت عن ضربه للحظة تلهث بقوة، رؤيت هذا الحقير وهو مُمتدد على الارض يتلوى من الألم لم تُريحها بعد، هل تريد قتله حتى ترتاح؟، القت بالحقيبة جانباً لتلتقط بدالها صخرة متوسطة الحجم وهي تنوي ضربه بها ليسيل دمه وترتاح!، لم تتوقف ولم تهتز حين سمعت صراخ عمر الذي يقترب منها، بل أكملت اقترابها منه
- بتعملي اية يا مجنونة؟
أعاق عمر طريقها واقفاً امامها وهو يلهث وعينيه مُتسعتين، اسرع ليأخذ منها الصخرة لكنها لم تسمح له، حاولت التمسك بها فلن تترك فرصتها تذهب، هدرت بغضب جامح
- أبعد، أبعد بقولك
كان أقوى منها، اخذها منها وألقاها خلفه بغضب صارخاً بها
- هتموتيه بالطريقة دي
نظرت له بقسوة وهي تصرخ مثله
- خليه يموت، دة واحد حقير
تمتمت بخشونة وهي تنقل نظراتها لخلف عمر، تباً انه يهرب
- بيهرب، بيهرب.
همت لتركض خلف ذلك النصاب لكن امسك بذراعها بحزم عمر موقفاً اياها، صرخت بجنون
- ابعد، بيهرب ابعد
اخذت تضرب كتفه وذراعه حتى يُحررها، وفجأة توقفت عن محاولتها حين هتف بصوت جهوري صاخب ايقظها من نوبة الغضب التي كانت تعتريها
- سيبيه، هوصله ومش هسيبه، بس بعدين مش دلوقتي، فأهدي
بسهولة تجمعت الدموع في مقلتيها وارتخت قسمات وجهها بضعف وهي تقول بقهر اثناء مُقابلتها لحدقتيه الصارمة
- دة نصاب، ضحك عليا
- نعم!
سالت دموعها على وجنتيها وهي تهمس بألم
- بابا مات من سنتين، وانا كنت فاكرة انه رجع...
لانت ملامح وجهه ناظراً لها بشفقة، لقد فهم الامر ولم يحتاج لسرد اكثر، قاطعها
- هشش
ترك ذراعها ليقترب منها ويُحيطها بذراعيه مُعانقاً اياها بتعاطف، ربت على ظهرها بحنان هامساً بدفئ مُعاكس لحروفه المتوعدة لذلك النصاب
- مش هسيبه يهرب، هربيه لأنه فكر يلعب بيكِ ويمثل عليكِ، ويديكي امل كداب.
لم تُمانع، بل لم تكن في حالة تسمح لها برفض مواساة احدهم لها حتى إن كان هو، همست من بين شهقاتها
- ملحقتش أعاتبه حتى، كنت عايزاه يعتذر مني
فهم انها تتحدث عن والدها الحقيقي، اسند رأسه على رأسها وهو يشعر بالشفقة عليها والتعاطف، انها المرة الثانية الذي يراها بهذا الضعف، وهذا يجعل قلبه يخفق بألم.
كم أراد ان يواسيها ويبثها بكلمات تُريحها لكنه لم يعرف، تجمدت الكلمات في حلقه فلم يقل كلمة واحدة، ظل يُربت على ظهرها بلطف حتى بدأت تهدأ.
اخذ نحيبها يقل رويداً رويداً وبدأت تدرك الوضع الذي هي فيه، انتفضت دافعة نفسها بعيدا عنه وهي تتنفس بتوتر، كيف وصلت لحضنه بهذه الطريقة المحرجة!، كانت تجوب بنظراتها حولها بعيداً عنه، تشعر بالحرج الشديد.
ادرك ذلك من إحمرار وجنتيها فلم يتحدث، انحنى ليلتقط الحقيبة من على الارض ثم اتجه بصمت لسيارته، فسارت خلفه وهي مُخفضة الرأس.
في فيلا إبراهيم السويفي
سبقته يارا للداخل بخطوات مُتعثرة، كانت تدعو الله أن تصل سريعاً وقبل ان يفتح معها حديث او تتقابل أعينهما معاً، صعدت درجات السلم بتعجل وكانت قد وصلت لغرفتها حين دخل هو من باب الفيلا.
- جيت لوحدك؟ اومال فين سلمى؟
اتاه صوت إبراهيم الذي يقف عند باب غرفة مكتبه، استدار عمر مُجيباً
- دخلت قبلي وراحت لأوضتها اكيد
غمغم إبراهيم ثم سأل
- هتعمل اية دلوقتي؟
- هطلع استحمى بعدها انام، ورايا مشوار مهم بكرة الصبح
- في المطار؟
كذب عمر
- ايوة
هز إبراهيم رأسه بشرود
- ماشي
- كنت عايز حاجة ولا اية؟
اسرع إبراهيم لينكر ذلك بهدوء
- لا لا مش مشكلة
ثم دخل لغرفة مكتبه، فصعد عمر لغرفته.
دقت الساعة منتصف الليل..
دفعت يارا الغطاء عنها بضجر، تباً انها لا تستطيع النوم بسبب تفكيرها المُرهِق، فلم يكُف عقلها عن تذكيرها بعناق عمر لها ثم يقذف لها بقية مواقفه الرجولية معها، كمشهد حمايتها من الصحفيين وكذلك ذلك الحقير الذي كاد ان يؤذيها وأيضاً إهتمامه بها حين عمِلت في المتجر.
وضعت كفها ناحية قلبها تستشعر نبضات قلبها التي تتسارع لمجرد ذِكر تلك المواقف؛ ينبع من داخلها جرس إنذار ينبهها انها في خطر، تعرف نفسها جيداً فإذ فكرت في شخص بكثرة تعلم حينها انه تسلل لحصونها بخفية، وهو في الفترة الاخيرة يغزو تفكيرها بطريقة مُخيفة، فهل بدأت تنمو مشاعر بداخلها له؟
انتفضت جالسة من تلك الفكرة المُفزعة والغير مقبولة بالمرة، ضحكت بقوة وهي تنكر ذلك.
- مستحيل، شكل هرموناتي شغالة عليا الفترة دي
شرد عقلها للحظة لذلك العناق اللعين الذي هز كيانها بعد إدراكها للأمر، كم كان دافئ!
اتسعت مقلتيها بصدمة، دافئ!، صفعت نفسها بقوة لتستيقظ، يبدو انها مريضة او شيء من هذا القبيل، عقلها ليس بحالته الطبيعية، فتساءلت، هل يجب عليها الذهاب للطبيب؟
أشرقت شمس يوم جديد
رد عمر على اتصال إياد وضغط على مكبر الصوت ليستطيع التحدث معه وهو يرتدي ملابسه، اتاه قول الاخير الساخط
- اية يابني فينك من امبارح، عمال اتصل بيك مش بترد؟
- معلش كنت مشغول، في حاجة ولا اية؟
اخبره إياد دون اي مقدمات
- قابلت رضوى إمبارح
توقفت أصابع عمر عن إغلاق أزرار قميصه بعد ذِكر اسمها، بينما اكمل إياد حديثه.
- كانت مع روز اللي كلمتني امبارح الصبح وقالتلي انها جت مصر ومجابتش سيرة عن رضوى اصلا، اتفاجأت لما روحت ولاقيت رضوى معاها، تقريباً رجعوا سوا
ظل عمر صامتاً دون ان يُبدي اي رد فعل، فهتف إياد
- سامعني؟
عاد عمر ليكمل إغلاق أزرار قميصه، قال بشرود
- يعني هتظهر قدامي خلال كام يوم
- اكيد
غير عمر مجرى الحديث بقوله
- انا رايح مشوار دلوقتي، عايز اقابلك بعد ما اخلصه
- اشطا.
انهى عمر المكالمة، وقف امام المرآة يرتب خصلات شعره المُبلل بأصابعه وقد شرد ذهنه للحظات، ما رد الفعل الذي يجب عليه ان يتخذه حين يقابلها؟ لماذا يشعر بثقل في مُقابلتها، لماذا الان؟ هل اتخذ اخيراً حِمل تركها له على كرامته؟
التقط هاتفها ومفاتيحه ليتجه خارجاً، توقف للحظة امام غرفة يارا يفكر، هل يذهب لها ويطمئن عليها؟، اتخذ قراره سريعاً ليتقدم ويطرق على الباب بخفة ثم يبرم المقبض ليدخل، اغلق الباب خلفه وهو يجول بنظراته حوله باحثاً عنها لكنه لم يجدها، يبدو انها في الأسفل، استدار ليغادر لكن صوت صرير الباب الموجود في الداخل جعله يلتفت بتلقائية لينظر، وجدها تخرج من المرحاض وهي تلف شعرها المُبلل بمنشفة.
كانت قد انتهت من ارتداء ملابسها داخل المرحاض ثم قامت بتجفيف شعرها لتلفه بعدها بالمنشفة وتخرج، توقفت فور خروجها حين لمحت احدهم، اتسعت مقلتيها قليلاً حين رأت عمر يقف عند الباب يحدق بها فداهمتها سريعاً ذِكرى امس، فسرت قشعريرة في جسدها فأسرعت لتُشيح بوجهها عنه.
ابعد عمر بصره عنها بتوتر انتقل له منها، طرح سؤاله بإضطراب
- عاملة اية النهاردة؟
طال صمتها بسبب توبيخها لذاتها، لماذا هي متوترة؟ اعتقدت ان حالة امس ستختفي بمجرد ان تأخذ قسط من الراحة لكن يبدو انها مُخطأة، ضمت قبضتها بقوة وهي تُجيب اخيراً لكن بإقتضاب
- كويسة
سارت للسرير لتُبعد المنشفة عن شعرها وتحرره على كتفها وهي تسأل عمر بتهكم لتنهي اجواء التوتر التي شعرت بها بينهما
- اية جيت عشان كدة بس؟
تخطى سؤالها بطرح سؤاله
- هتروحي في مكان النهاردة؟
- لا، لية؟
استقامت وهي تسأله بحيرة، فظل يحدق بها وقد شرد فيها، ملامح وجهها الصافية الرقيقة وخصلات شعرها المتمردة المُلتصقة بعنقها الطويل الناعم، تبدو جميلة بطريقة غريبة.
عقدت حاجبيها اكثر حين لاحظت تحديقه الأبله بها، قالت وهي تحرك كفها امامها
- روحت فين؟
ادرك انه يحدق بها بطريقة مُحرجة فحرك حدقتيه حوله وقد تلعثم في البداية اثناء إجابته
- عشان لو هتروحي في حتة كنت هوصلك.
لقد تأكدت الان، انه يتصرف بغرابة معها، لم تعتاد على معاملته اللطيفة معه، لحظة، هل يشعر بالشفقة عليها لذا يعاملها هكذا!، لمعت حدقتيها بغضب، لن تقبل ان ينظر لها احد بشفقة، هتفت بعدوانية
- متعاملنيش كدة، بكره ان حد يعاملني كويس لانه مُشفق عليا
دُهش من تغيرها المُفاجئ، لكن لحظة، شفقة؟ من يعاملها بشفقة؟، رغم تشتته كان هادئ وهو يسألها
- اية السبب اللي يخليني احس بالشفقة عليكِ؟
اجابته بإنفعال وهي تفكر.
- مفيش سبب تاني يبرر معاملتك الكويسة معايا واهتمامك
قال بخفوت وهو يقترب خطوة منها
- لا في
- اية هو؟
انها تنتظر إجابة منه، فهل يخبرها عن شكوكه بشأن مشاعره!، تنحنح مُجيباً بكذب
- قولت احسن علاقتي بيكِ عشان شكلنا هنطول مع بعض
ارتفعت زاوية فمها ببطء لتصل للسخرية، استنكرت قوله
- هنطول؟، هما شهرين وبس
- ل..
سحب ما أراد قوله، لن يتطرق لذلك الحديث الان، انسحب كذلك مُغادراً دون قول اي شيء، فجلست على السرير وهي تحدث نفسها بضيق
- مين قال اني عايزة احسن علاقتي بيه؟، انا ناقصة لغبطة؟
في المطعم
وضعت ملك الأطباق على الطاولة المجاورة لطاولة إياد وهي تشعر بنظراته المصوبة ناحيتها، عضت شفتيها حين انتهت واتجهت لطاولته، تعلم انها لن تستطيع تجنبه في العمل.
توقفت امامه ناظرة للدفتر الصغير المُمسكة به مُنتظرة سماع طلباته، لكنه بدلاً من اخبارها بطلبه قال بهزء
- عملتيلي بلوك تاني
لقد لاحظ ذلك!، تشجعت ورفعت حدقتيها لتقابل خاصته بثبات، اضافت على قوله بهدوء
- ومسحت رقمك.
ابتسم بهدوء مُعاكس للضيق الذي يشعر به، سألها بسلاسة
- لية المرة دي؟، عملتلك اية؟
ادرات حدقتيها بمقلتليها بإنزعاج وهي تطلب منه بتهذيب
- ممكن تقول لي طلباتك؟
تخطى قولها بسؤاله
- عشان عارفة اني مُعجب بيكِ؟
ردت دون تفكير
- انا مش سهلة عشان تحاول تضحك عليا بالكذبة دي
اختفت ابتسامته وارتفعا حاجبيه، قال بكبت
- اية اللي خلى اعترافي كدبة؟
تنفست بضيق وهي تضغط على حروفها بإصرار
- حضرتك هتقول طلبك ولا امشي؟
انهت جملتها واستدارت لتغادر، فقال مُذكراً اياها
- متنسيش اني زبون هنا
لم تعود لتنظر له، ردت وهي تلويه ظهرها
- وعشان كدة مستحملة الكلام معاك
وأكملت طريقها للمطبخ، فضم قبضته بغضب، لماذا تعامله بجفاء ولامُبالاة؟ ألم يستطع جذب انتباهها ولو قليلاً؟ ألم ينجح معها أسلوبه؟، نهض ليغادر وهو يشعر بالضيق الشديد من اسلوبها معه.
بعد مرور ساعتين
نهض عمر وهو يمد يده ليصافح إحدى معارفه الذين يعملون مع الشرطة، شكره بحرارة وقال
- وهستنى رد منك، لازم اعرف الاسم الحقيقي للشخص دة ولازم ياخد جزاته
- اكيد دة اللي هيحصل
ثم غادر المكان مُتجهاً لسيارته وهو يفكر، ستكون مهمة صعبة والعثور على ذلك النصاب صعب لانه لا يملك صورة له، لكن وصفه له قد اوفى بالغرض ويتمنى ان يحصل على خبر خلال ايام قليلة لينتهي من الامر سريعاً.
اتصل ب إياد وهو يصعد السيارة واتفق معه على مكان ليتقابلا فيه.
وصل عمر للمكان المقصود، جلس وهو يُعلق بعد ان رأى إياد الذي وصل قبله وكان مُتجهم الوجه
- دة انت مقريف خالص، مالك؟
- فكك مني دلوقتي، طلبت تقابلني لية؟ في حاجة؟
هز عمر رأسه وتطرق لموضوعه
- رضوى، لما قابلتها اتكلمتوا في اية؟
- الصراحة كنت متجنب الكلام معاها، بس سألت عنك ورديت بإختصار
- احسن
هتف إياد بدهشة
- احسن؟، كنت متوقع تضايق من ردي عليها.
- بيني وبينك، مش حابب اشوفها اصلاً
- بسم الله، هو انت عمر!
قالها إياد بمزاح، فرمقه عمر بجدية قائلاً
- مبهزرش دلوقتي ياعم
نهض إياد بحماس ليجلس بجوار عمر ويسأله بخفوت وريبة
- ليكون موضوع يارا حقيقي؟ وهو اللي مغيرك ناحية رضوى؟
نظرة عمر أكدت ل إياد تلك الحقيقة التي اعتقد انها وهم، وقد برر عمر.
- مش عارف بظبط بس وجود يارا في حياتي خلاني اشوف انانية رضوى في حاجات كتير، اكتشفت دة لما ادركت اني مُعجب ب يارا، لقيت نفسي بقارن بين الاتنين، يارا بتعامل ماما كويس جدا رغم انها بتمثل بس بحس بصدق حبها ليها على عكس رضوى وانت عارف ان رضوى مكانتش بتحاول تصلح علاقتها مع ماما بس وقتها كنت بقف مع رضوى عشان بحبها وكنت بغلط ماما وبتهمها انها متحاملة على رضوى، والفكرة دي كانت لسة عندي قبل ما افوق من غبائي.
تمتم إياد براحة
- اخيراً عرفت انك غبي!
استطرد عمر حديثه
- ادركت كمان ان رضوى كانت بتستغلني، كنت شايف وقتها انه عادي تطلب مني اي حاجة مدام هي حبيبتي وهتبقى مراتي بس ادركت دلوقتي انها كانت جشعة، تقريباً انا كنت بصرف عليها!
سخر إياد وهو يرمقه بضجر، فكم اخبره انها تستغله لكن عمر كان معمي بحبه لها
- صباح الفُل
لم يكترث عمر لسخرية الاخر واكمل.
- اما يارا حريصة، اكتشفت من كام يوم لما دخلت اوضتها انها كاتبة كل حاجة اشترتها هي من فلوسي في نوت وناوية ترجعهملي، مُتخيل؟، ومع العِلم ان رضوى و يارا يُعتبروا في نفس المستوى...
أوقفه إياد بقوله الغير مستوعب
- فهمت كل دة بس برضه مش مستوعب مساعدة ناحية يارا، يعني ازاي حصل كدة وانت وهي...
قاطعه عمر بقوله الشارد وهو ينظر بعيداً.
- متسألش اسألة صعبة انا نفسي مش لاقي اجابة ليها، بس اللي اعرفه اني عايز اقرب منها، اعرفها اكتر
اعاد إياد ظهره للخلف وهو يقول بإعجاب
- بجد مش مصدق انك مش متمسك برضوى
ابتسم عمر بأسف، كم يشعر بالندم الان لتمسكه بها، كم اهدر من كرامته عليها!، وضح موقفه.
- مش عارف كنت بفكر كدة ازاي؟ ازاي اتمسكت بواحدة سابتني ومهمهاش؟، ازاي كنت متربس دماغي كدة؟، للأسف عارف الإجابة، حب رضوى كان حاجة مقدسة بالنسبالي مكنتش مُتخيل اني ممكن اكمل حياتي من او مع غيرها، كل ما كان عقلي بيحاول يوعيني كنت بسكته عشان لا، حب عشر سنين مش هينتهي، ازاي يخلص كل الحب دة من طرف واحد؟ لازم اعافر عشان ارجعها ليا ولو على حساب كرامتي!
ضحك عمر وهو يقول
- كنت غبي فعلاً، انت كنت صح.
رفع إياد رأسه بتكبر وهو يُصرِح بتعجرف
- انا دايماً صح في كلامي عن العلاقات والبنات
ابتسم عمر إبتسامة صفراء وهو يسبه بصوت منخفض، فضحك إياد بإستمتاع وسرعان ما هدأت ضحكاته ليقول بخبث
- مدام خدت يارا، خليها تظبطلي صاحبتها ملك، تعباني اوي
- أولاً مخدتش يارا لسة
- في المستقبل يعني
- ثانياً لو قربت من ملك يارا هتقطعك
رفع إياد زاوية فمه بسخرية وهو يرد بحنق
- لية بنتها؟، وغير كدة مش هسكتلها.
اندفع عمر بجسده قليلاً وهو يهدده
- جرب كدة وهنخسر بعض وقتها
مال إياد اليه وهمس بضحك
- والله حاسس في الاخر ان انا وانت هناخد على دماغنا منهم
ضحك عمر وهو يشاركه شعوره
- وانا حاسس بكدة، ربنا يستر.
في فيلا إبراهيم السويفي
تركت يارا كف سهام لتنهض وتتجه لخارج الصالون لتفتح الباب للطارق، قابلتها فتاة حين فتحت الباب..
- اتفضلي؟
سألتها الفتاة برقة
- عمر موجود؟
تساءلت يارا بداخلها، هل الفتيات يأتون لهنا أيضاً؟ ما هذه الوقاحة؟، تغيرت نبرتها للضيق وهي تُجيب
- لا، بس انتِ مين؟
- انتِ شغالة جديدة هنا؟
ارتفعا حاجبي يارا بغضب وهي تُصحح لها بشراسة
- شغالة؟، انا اخته حضرتك.
اتسعت مقلتي الفتاة بعدم تصديق، تمتمت ببطء
- اخته؟ سلمى؟
أكدت لها يارا بإقتضاب
- ايوة، تعرفيني؟
- انا رضوى
هذا الاسم ليس غريب عليها لكنها لا تستطيع تذكر اين سمعته، وضحت لها رضوى بحماس
- انا خطيبة عمر، قصدي اللي هبقى خطيبته
تصلبت يارا في مكانها بعد تصريح الأُخرى، إذاً هذه هي رضوى لقد عادت؟
مدت لها رضوى كفها لتصافحها، نظرت يارا لكف الأخرى للحظات قبل ان ترفع كفها من جانبها وتصافحها، لم تقل شيء، فقط اتاحت لها الطريق لتدخل.
سارت للداخل وهي تنظر حولها بإشتياق، لقد مر وقت كافي لجعلها تشتاق لما اعتادت عليه كهذه الفيلا التي كانت تقضي فيها الكثير من الوقت.
- ياه مفيش حاجة اتغيرت
- مين جه يا سلمى؟
صدح صوت سهام المُتسائلة، فأسرعت يارا للصالون ولحقت بها رضوى لترحب بمن هناك.
فرقت سهام شفتيها لتُكرر سؤالها على يارا التي وقفت امامها، لكنها لمحت دخول شخص اخر خلفها، تعرفت عليها سريعاً، هتفت بحدة
- انتِ؟ بتعملي اية هنا؟
منحتها رضوى إبتسامة وهي تُرحب بها بجفاء
- طنط سهام، عاملة اية؟
- مش كويسة بشوفتِك
علِمت يارا سريعاً ان العلاقة بينهما ليست جيدة، لا تعلم لِم شعرت بالانتصار!، ضحكت رضوى وهي تجلس مُقابلة ل سهام، طأطأت بأسف وهي تقول ببراءة مُصطنعة.
- للأسف رجعت وهتشوفيني كتير بعد كدة
رفعت سهام زاوية فمها بشراسة مع قولها المُستنكر
- فاكرة انك هترجعي لأبني بالسهولة دي؟
رفعت رضوى رأسها بتعجرف وهي تقول بمكر
- شكلك متعرفيش انه متمسك بيا للان وهو الخلاني ارجع برسايله ليا
قزفتها سهام بنظرات غاضبة فردتها اليها رضوى بتحدي، بينما كانت تنقل يارا نظراتها بينهم بحيرة، يبدو ان هناك حرب هتقام هنا، قالت قبل ان تتجه للخارج.
- هروح اقول ل أم محمود تعملنا حاجة نشربها
وفعلاً طلبت من أم محمود القهوة لثلاثتهم، توقفت عند السلم قبل عودتها للصالون لتتصل ب عمر الذي استقبل اتصالها خلال ثواني، سألته بصوت منخفض
- انت فين؟
- لية؟
- رضوى هنا
ابعدت الهاتف عن اذنها سريعاً حين هتف بصدمة
- نعم!، عندك في الفيلا؟!
اعادته لأذنها بحذر وهي تؤكد له
- ايوة، وشكل الدنيا هتولع بينها وبين ماما سهام
سمعت صوت صرير مكابح سيارته وهو يخبرها بتعجل.
- انا اهو في الطريق، عشر دقايق وابقى عندكم
تنهدت وهي تُعيد الهاتف لجيب بنطالها وتتجه للصالون.
جلست بجانب سهام، ومازال الصمت المُشتعل يعم الاجواء، وجدت يارا نفسها تُقيم رضوى من رأسها حتى اخمص قدميها، كانت ترتدي فستان صيفي يصل الى اسفل ركبتيها بقليل، تُحرر شعرها المصبوغ الطويل الذي يصل لمنتصف ظهرها، حدثت نفسها
- مش بطالة يعني.
خرجت ملك من المطعم، لقد انهت عملها اخيراً، نظرت للسماء التي بدأت تُظلِم، أكملت سيرها مُتجهة للمحطة، توقفت بعد مسافة قصيرة من المطعم حين أعاق احدهم طريقها وكان إياد الذي قال بجدية
- عايز اعرف سبب مُقنع لتصرفاتك
رفعت بصرها له بتشتت قبل ان تستعيد تركيزها مرة اخرى وتتراجع بضع خطوات، قالت بإرهاق
- ببساطة مش عايزة اتعامل معاك
- لية؟
هتفت بإنزعاج رداً على سؤاله
- هو بالعافية؟
اجابها بسلاسة ونبرة هادئة.
- مش بالعافية بس لو قولتيلي سبب وقتها هقدر اتعامل مع الوضع
ضحكت بسخرية وهي تُشيح بوجهها بحنق، تمتمت بتهكم لاذع
- تلاقي طريقة تانية تدخلي بيها
وصله كلامها بوضوح، فمال برأسه قليلاً وهو يطلب منها ان توضح له
- طريقة تانية ادخل بيها؟، قصدك اية؟
شعرت بالغيظ، لماذا يُصِر على خداعها وتميثل الجهل!، لذا واجهته بنبرة عدوانية
- مش عيب عليك تعلب بأتنين؟
عقد حاجبيه مُتسائلاً بحيرة
- اتنين؟ امتى لعبت بأتنين؟
احمر وجهها بغضب وهي تنهره
- كفاية تمثيل بقى عشان انا شوفتك امبارح
انفك عقد حاجبيه بجدية وتغيرت ملامح وجهه للحدة وهو يأمرها بصوته الأجش المُقتضب
- اتكلمي بوضوح
- عايز ت...
قطع حديثها نداء احدهم، انه صوت تعرفه جيداً، انه صوت والدها!
- ملك
استدارت سريعاً وقد اتسعت مقلتيها بخوف وهي تراه يقترب منهما وملامح وجهه تعرفها جيداً.
وصل عمر اخيراً للفيلا، طرق على الباب طرقات مُتتالية مُتعجلة حتى فتحت له يارا، سألها بخفوت وهو يدخل
- لسة جوة؟
تأملت ملامحه، تحاول ان تعرف إذ كان سعيد وملهوف لرؤية حبيبته السابقة ام لا؟، نهرت نفسها، لماذا تهتم؟، اجابته وهي تُبعد حدقتيها عنه
- ايوة.
توقف للحظة يستجمع شتات نفسه، لا يُريد ان يُظهر توتره ل رضوى، اكمل سيره المستقيم للصالون، اتجهت أنظار رضوى الملهوفة و سهام الحانقة له وظل الصمت سيد الموقف، بينما وقفت يارا خلفه تتابع ما سيحدث.
- عمر
همست بها رضوى وهي تنهض ببطء، استقامت واقتربت منه خطوة تلو الأخرى بلهفة لكن قوله الخالي من اي مشاعر صدمها
- جيتي لية يا رضوى؟
- جيتي لية يا رضوى؟
توقفت بصدمة من قوله الجاف، لاحظت نظراته الخالية من اي مشاعر، عادت لتكمل تقربها منه لكن ببطء وحذر وربما خوف!، سألته وهي تبتسم بريبة
- اية السؤال الغريب دة؟
- اية الغريب؟
اجابته بخيبة وهي تقف امامه مُباشرةً، تحدق به بتركيز
- كنت متوقعة انك تقابلني عكس كدة
رفع زاوية فمه بهزء وهو يتساءل بحيرة مُصطنعة
- هو انا كان المفروض اقابلك بطريقة غير دي؟
- طبعاً.
كرر قولها التلقائي بشيء من الغضب، بينما اضافت رضوى بإنفعال، فهي لا تستوعب رد فعله حقاً.
- رسايلك ليا كانت بتدُل انك عايزني ارجع وطبيعي أتوقع مُقابلة احسن من دي
اتاها رده الهادئ الغريب، كانت نبرته كالجليد
- اسف لاني خيبت ظنك بس شايف ان ملهوش لازمة رجوعِك.
لم تكن رضوى الوحيدة المصدومة من رد فعل عمر، كذلك سهام و يارا اصابتهم الصدمة، كانا يتوقعا ان عمر سيأخذها بين ذراعيه ويرحب بها بحرارة لكن حدث العكس تماماً! كيف؟، لكن رغم صدمة سهام إلا انها كانت تشعر بالرضا الشديد.
ابتسمت رضوى في غضب وهي تُكرر بإستهزاء
- ملهوش لازمة؟، اومال لية كنت بتبعتلي رسايل؟ لية كنت بتقول لي...
قاطعها مُعترفاً بصراحة وقد ارتفعت نبرة صوته قليلاً.
- كنت غبي، وعرفت دلوقتي اني لازم احترم رغبتك وان بُعدِك الأحسن لينا احنا الاتنين، معلش وصلت متأخر للحقيقة بس النتيجة اني وصلت ودة كويس
حدقت به بصدمة غير مستوعبة ما يقوله، أيمزح معها؟، قهقهت بقوة وهي تستدير وتلويه ظهرها للحظات، قالت من بين ضحكاتها.
- بتعمل فيا مقلب ولا اية!
- دة شكل واحد بيعمل فيكِ مقلب انتِ كمان؟
قطع قول يارا التلقائي ضحكات رضوى، دُهش عمر من تدخلها لكنه لم يُمانع، بينما إستدارت اها سهام وحيتها بالخفاء على دعمها لأخيها، فإبتسمت يارا عنوة وهي توبخ نفسها، فلم تتدخل عن قصد لكن رفض رضوى لإستيعاب موقف عمر استفزها ودفعها لقول ذلك.
التفتت له رضوى مرة اخرى لتواجه نظراته بغضب دفين، تقدمت منه بضع خطوات لتصبح قريبة منه، سألته بهدوء مُعاكس لإشتعال حدقتيها
- بتردهالي يعني؟
قطع اتصال نظراتهما وهو يُجيب بحزم
- انتِ عارفة اني مليش في حركات الستات دي
تحركت قليلاً حتى تقابل وجهه مرة اخرى، وقالت
- عارفة، بس هعتبرها كدة، وهاخد دورك دلوقتي وانا اللي هجري وراك، هتكون راضي؟
- ولية تعملي كدة؟ مش انتِ اللي نهيتي علاقتنا؟
صححت له بثقة
- منهيتهاش، كنت عايزة اخد فترة راحة عشان اعرف انا عايزة اية
احتدت ملامح وجهه وهو يؤكد ما قاله سابقاً.
- نهيتها، ومتحاوليش تألفي كلام جديد لاني فاكر كويس كل كلمة قولتيها
تراجع خطوة بعيداً عنها وهو يتذكر بوضوح ويسرده عليها
- مش عايزة اكمل عشان زهقت، قولتي كدة بظبط، انا مش ناسي
ابتسمت رضوى، لقد نست للحظة انه يحمل ذاكرة جيدة جداً، وأيضاً ثقتها في حبه لها جعلتها تكذب! اعتقدت انه سيصدقها بل سيتخطى ألم تركها له لأنه يحبها؟، حتى رسائله المُتمسكة بها جعلتها تصدق ذلك، لكن ماذا تغير الان؟ لا تعلم.
نقلت بصرها ل سهام وقالت له بلطف
- شايفة اننا نتقابل في مكان برة ونتكلم، هيبقى اريح، اية رأيك؟
- مفيش كلام تاني هيتقال
تجاهلت رفضه وقالت وهي تتخطاه
- نبقى نتفق مع بعض على الموعد
توقفت بجوار يارا وربتت على كتفها وهي تقول بصدق
- مبسوطة اني شوفتك يا سلمى
ردت يارا بداخلها بكبت
- كان نفسي اقولك وانا
لكنها احتفظت بذلك لنفسها واكتفت بالإبتسام.
تنهد عمر بعمق بعد ان غادرت، كأن وجودها خنقه!، تنحنحت سهام لتقول له برضا.
- كويس اللي عملته، متديهاش فرصة، دي متستاهلكش
اردفت مُتسائلة بتفكير
- بس انت كنت عارف انها راجعة؟ عشان حساك مش مصدوم؟
استدار عمر ناظراً لوالدتها، طلب منها بتهذيب
- نتكلم بعدين يا ماما، هطلع ارتاح
- بس...
ابتلعت إعتراضها حين رأته يغادر الصالون، تقابلت عينيه مع عيني يارا التي كانت تحدق به بترقب، مرت ثواني قبل ان تهرب هي بحدقتيها بعيداً، لماذا لم تعُد تستطيع مواجهة عينيه؟
تخطاها وصعد لغرفته بينما اتجهت هي ل سهام لتستفسر بالخفاء
- ما تقوليلي يا ماما اية اللي حصل بظبط بينهم؟، انتِ كنتِ قايلة لي المُلخص لقصتهم بس
- طب ناوليني كوباية المية دي عشان ابلع شوفة الوش العِكر اللي شوفته دلوقتي
ضحكت يارا بقوة على قول سهام الظريف، ناولتها ما ارادت ثم بدأت الاخيرة في سرد قصة عمر و رضوى بالتفصيل.
- اتعرف عمر على رضوى بالصدفة في درس العربي في ثانوية عامة، كانوا صحاب عادي بس لما دخلوا الجامعة قربوا من بعض اكتر رغم ان هو في جامعة وهي في جامعة تانية خالص، من اول ما شوفتها وانا مش مستريحة ليها بس قولت مش مشكلة هما اصحاب وبس، بعدها بسنتين بظبط اكتشفت وبالصدفة انه ارتبط بيها، طبعاً رفضت واتخانقت معاه وهو عاندني، فترة شباب بقى
استوقفتها يارا لتستفسر بحيرة
- طب ولية كنتِ رافضاها؟
- زي ما قولتلك مكنتش مرتاحة ليها وغير كدة عشان مستواها، بصي انا عمري ما فرقت بينا وبين حد عشان في الاخر كلنا بشر بس في ناس كدة بتعرفي من اسلوبهم انه مينفعوش معانا ابدااا، يعني أول حاجة بتلقت انتباهي هي التربية والأخلاق والأهل، كل دول معجبونيش فيها
- بس مش ممكن تكوني انتِ متحاملة عليها شوية؟
- خليني اكملك الاول، اضطريت بعدها أوافق عليها عشان مبعدش اخوكِ عني، عدت عشر سنين وكل دة متخطبوش، اكتشفت بعدين ان هي الرافضة وانه عرض عليها اكتر من مرة وهي تقوله استنى شوية استنى شوية
كانت يارا تستمع لها بتركيز شديد وفضول، طلبت منها ان تُكمِل
- ها وبعدين؟
- في اخر مرة اتكلموا فيها عن الموضوع اتخانقوا خناقة كبيرة وفضلوا شهر كامل مبيكلموش بعض تقريباً، بعد الشهر لقاها بتتصل بيه عشان يتقابلوا ويتكلموا واتاريها كانت ناوية تنفصل عنه وقتها في حين ان اخوكِ كان ناوي يصلح الدنيا وجايبلها ورد كمان
ضحكت في حسرة على ولدها الطيب، استطردت بضيق.
- يابنتي دة مقعدش، كان لسة بيديها الورد لقاها بتقوله بوقف كدة مش عايزة اكمل معاك عشان زهقت، سألها اية السبب راحت قالتله انها عايزة تجرب حياتها من غيره، عايزة تسافر وتشوف شغل برة قالها انه مش هيعارضها وهيسبها تعمل اللي هي عايزاه بس مش لازم يسيبوا بعض بس هي رفضت، هي مش عايزة تبقى معاه.
توقفت لتلتقط انفاسها، عادت لتتحدث بصراحة
- عارفة لو عمر وحش وبيتحكم فيها بطريقة اوفر كنت هقول معاها حق، بس دة عمر كان شايلها على كفوف الراحة طول العشر سنين، مفيش طلب كان بيرفضه ليها، بس عارفة الناس اللي تتعود على انها تاخد وميكفيهاش! هي كدة
غمغمت يارا بتفهم، قالت سهام آخراً
- انا تعبت، هطلع ارتاح بقى
نهضت يارا معها لتوصلها لغرفتها، لم تتوقف سهام عن تكرار دعاءها حتى استلقت على الفراش.
- ربنا يبعدها عن ابني
وجدت يارا نفسها تردد خلفها بتلقائية!
- يارب
خرجت من الغرفة وقبل ان تخرج من الجناح كان إبراهيم يدلف للأخير، القت عليه التحية وهي تمنحه ابتسامة صغيرة، قابلها بإبتسامة مُقتضبة لاحظتها بوضوح، ودون ان يقول شيء تركها واتجه لغرفته، فتخطت تصرفه واكملت طريقها للخارج لتذهب لغرفتها.
- ملك
استدارت سريعاً وقد اتسعت مقلتيها بخوف وهي ترى والدها يقترب منهما وملامح وجهه تعرفها جيداً، تعلم ما يفكر به الان.
- بابا
همست بها بتوتر حين توقف بجوارها ونظراته مُعلقة على إياد، سأل بصوت غليظ
- مين دة؟
اجابته بتلعثم وهي تضم كفيها لبعضهما البعض
- دة، دة زبون، زبون عندي
رفع حاجبيه وهو يرمقهما بنظرات مُريبة، استنكر قولها
- زبون؟، وبتعملي اية مع الزبون برة مكان الشعل يا ملك؟
تدخل إياد مُقدماً نفسه بتهذيب
- انا إياد، اعرف بنت حضرتك...
سبقه والدها بقوله الخشن مُستعجلاً على الحصول على توضيح
- ايوة تعرفها منين؟، وبتكلمها برة حدود الشغل بصفة اية؟
تعرف جيداً معنى نظرته المريبة ل إياد، لذا قالت برجاء وخوف من إتهامها وإحراجها بأي شيء امامه
- هفهمك يا بابا في البيت، لوسمحت
وحدث ما كانت تخشاه، ارتفعت نبرة صوته تدريجياً وهو يضيق عينيه.
- لية؟ خايفة لية؟ مين دة؟ مش عارفة تعرفيه عليا لية؟
شعر إياد بتوتر الاجواء، وفهم ما يحاول ان يرمي اليه والدها، فتدخل مؤلفاً سبب للقاءهما
- حصلت مشكلة في الشغل بسببي فبعتذر من الآنسة ملك
نظرت له واكملت التمثيلية، لقد أنقذها حقاً وأعاد تشغيل رأسها، قالت برسمية
- خلاص يا أستاذ إياد حصل خير
ثم امسكت بذراع والدها وسارت به بعيداً، فلم يُعارض، بينما ظل إياد يتابع إبتعادهما بقلق.
- زبونك دة عينه منك على فكرة.
خرج قول والدها فجأة بعد صمت قليل، ولحق قوله بسؤاله الخافت الخبيث
- غني؟
اتت ان ترد لكنه سبقها بقول اخر
- متقلقيش مش همانع علاقتك بيه لو غني
تركت ذراع والدها بإنزعاج وهي تتذمر
- بابا لوسمحت
توقف وهو يرمقها بسخرية كقوله
- فاكرة اني صدقت انه زبون؟
هتفت بتلقائية مؤكدة
- هو فعلاً زبون
- اكيد؟
- اكيد
هز رأسه وحذرها بهدوء
- زبون زبون، بس لو اكتشفت بعدين حاجة غير كدة هدبسه فيكِ
- يعني؟
صاحبت قولها عقد حاجبيها بعدم فهم، فقال وهو يُكمِل سيره
- انا اديتك فرصة تقولي الحقيقة
ضربت جبينها بكفها، تباً ما الذي وقعت فيه؟ لماذا يجب ان يراها والدها من بين الجميع؟، تنهدت بإستياء، تعتقد انها فهمت ما يقصده بقوله (هدبسه فيكِ) لكنها تحاول الكذب على نفسها، الجهل افضل من تخيل ما قد يفعله والدها، قررت، يجب ان تكون حذرة وصارمة مع إياد وان تُبعده عنها.
اليوم التالي
استيقظت يارا بصعوبة، لم تستطع النوم جيداً، تباً لماذا اصبح عمر يشغل حيز كبير من تفكيرها في الفترة الاخيرة؟
خرجت من غرفتها وهي تنوي الذهاب لزيارة والدتها اليوم، فربما مازالت متأثرة بموقفها حين اخبرتها عن حقيقة والدها، كانت تسأل عنها بإستمرار في اليومين الماضيين لكن لن ترتاح إلا بعد ان تراها.
جذب انتباهها صوت عمر من خلفها حيث كان يخرج من غرفته وهو يتحدث عبر الهاتف.
- انت عارف اني بفكر في واحدة تانية و...
ابتلع بقية كلماته حين استدار ورأى يارا تقف خلفه، تبادلا النظرات والتي لم تتخطى الثوان حتى يعود هو لهاتفه.
- خلاص اكلمك بعدين
واغلق الخط، كانت مازالت واقفة، تقدم منها وهو يسألها
- عايزة تقوليلي حاجة؟
رفعت حاجبيها وهي تسأل ببلاهة
- نعم؟ لية اعوز؟
اجابها ببساطة
- عشان لسة واقفة وبتبصيلي
أنكرت ذلك سريعاً
- مكنتش ببصلك كنت سرحانة في حاجة بس.
إبتسم وهو يتمتم اثناء هبوطه درجات السلم
- ماشي
وصلا لحديقة الفيلا حيث طلبت سهام اليوم ان يتناول الجميع طعام الإفطار في الهواء الطلق.
شق إبراهيم الصمت الذي بينهم بقوله
- عرفت ان رضوى جت امبارح
رفع عمر نظراته ل سهام بعتاب
- لحقتي يا ماما تقوليله؟
- كنت عايزها تخبي عليا يعني؟
- مش قصدي اكيد بس كنت عايز اقولك بنفسي
ابتلع إبراهيم الطعام الذي يلوكه في فمه ثم قال
- المهم، ناوي تعمل اية معاها؟
- مش ناوي اعمل حاجة عشان موضوعنا منتهى
هز رأسه بتفهم وساد الصمت مرة اخرى، فتطرقت سهام لحديث اخر.
- صحيح، اية رأيكم نروح مصيف في إسكندرية ليومين كدة؟
أبدى عمر اعتراضه بمزاح
- من امتى بروح معاكم مصيف؟
سخرت سهام في البداية ثم قالت بجدية
- ودي حاجة جديدة؟، بس المرة دي عشان اختك معانا لازم تبقى معانا
ثم اقترحت بحماس
- ممكن تطلب من صُحابك يجوا وانتوا في شالية وإحنا في شالية
- هشوف كدة.
قالها عمر وهو ينقل نظراته ل يارا، بينما اقترح إبراهيم
- اية رأيكم نروح دهب؟
بينما ظلت يارا تتابع حديثهم وهي ترفض الفكرة بداخلها، كيف ستذهب معهم وتترك والدتها لأيام دون رؤيتها؟ وكيف تذهب معهم؟، تشعر بالغرابة.
في السيارة
كانا يتجادلان حول الامر، تخبره يارا انها ترفض الذهاب لأي مكان مع عائلته، بينما هو يحاول ان يعرف السبب فلا يرى اي مانع لذهابها.
- طب ما انتِ عايشة معاهم، ففهميني وجهة نظرك بعيداً عن حجة والدتك
- هو انا كدة
شعر انها تُعانده، لذا هز كتفيه وهو يترك لها الامر
- على كدة اتصرفي انتِ معاهم واعترضي
- بس ساعدني
نظر لها وهو يخبرها بشفافية
- اساعدك لية وانا عايزك تيجي!
حركت حدقتيها لتقابل خاصته بعدم فهم، هتفت بطريقتها التي لا تخلو من السخرية خاصةً وهي تتحدث معه
- عايزني اجي؟ هو انت عيان؟
هز رأسه بجدية وهو يتمتم
- شكلي كدة فعلاً
فمدت كفها بتلقائية لجبينه لترى إذ كانت حرارته مُرتفعه، فدُهش من تصرفها، قالت وهي تسترد كفها
- مش سُخن ولا ح...
سقطت بقية حروفها حين وجدته يُمسك بكفها في منتصف طريقه للعودة اليها، التقطه بإحكام، قربه من انفه فسرت قشعريرة بجسدها حين شعرت بأنفاسه الحارة على كفها الرطب.
- غيرتي البرفان!
شعرت بحرارة تصعد لوجنتيها، انه يلاحظ كل شيء!، سحبت كفها بقوة نابع من توترها الذي لا تريد ان يشعر به، هتفت بعدوانية
- وانت مالك!
لم يكترث لعدوانيتها، قال بإعجاب لم يُخفيه
- بس حلو.
ضمت كفيها لبعضهما وهي تُشيح بوجهها للناحية الأخرى، هتفت بحدة
- هغيره مدام عجبك
ضحك وقال بإستمتاع
- غيريه وربنا يستر من ذوقك
قلدت قوله بغيظ بينما استمر هو في الضحك الذي قطعه رنين هاتفه، كان رقم مجهول لذا رد.
- الو، رضوى!
لمجرد ذِكر اسمها امتلأت روحها بالفضول، لماذا تتصل به؟، مالت بجسدها قليلاً بالقرب منه لعلها تسمع شيء لكنها لم تستطع فحاولت تخيل ما يدور بينهم من ردوده.
- تقريباً كنت قايل ان ملهوش لازمة نتقابل ونتكلم، انتِ عايزة فأتصرفي، متستننيش، السبب!.
توقف ونقل نظراته ل يارا الجالسة بجانبه والتي كانت توجه له اذنها محاولة استراق السمع، كانت وضعيتها واضحة جدا فضحك رغماً عنه، مد إصبعيه ليدفع رأسها بخفة فحركت حدقتيها اليه بحذر وابتسمت إبتسامتها الصفراء وهي تعتدل في جلستها، فأبعد بصره عنها وهو يقول بهدوء ل رضوى
- نتكلم بعدين، ايوة هكلمك، دي مش فرصة ليكِ، سلام.
وانهى المكالمة دون ان يُعلق على اي شيء، أوصلها للمحطة القريبة من منزلها وغادر لمقابلة إياد.
في المطعم
وضعت ملك الأطباق على الطاولة بعنف وهي ترمق إياد بنفاذ صبر، فسألها ببراءة مُصطنعة
- اية في اية؟
سألته بعتاب ونبرة بها شيء من الحدة
- مُصِر تضايقني يعني؟
ابتسم بإستفزاز وهو يخبرها بنبرة جليدية
- متفكريش كتير، مش جاي عشانك
- مدام مش عشاني روح في اي مكان تاني وقابل اللي عايزهم
رمقها بنظرة غريبة وهو يرد بنبرة منخفضة بعض الشيء
- لا المكان دة عاجبني
التقط كوب الماء وهو يُضيف.
- وغير كدة مكملناش كلام امبارح بسبب الوالد
- ملهوش لازمة الكلام..
اندفع جسده للأمام وهو يقاطعها بصرامة
- لا لِه لازمة، عايز توضيح لإتهامك ليا
- معنديش وقت
- انا هخلي عندك وقت
قالها وهو ينهض بحزم ويتخطاها، استدارت تتابعه يبتعد مع حاجبين مرفوعين، شهقت حين رأته يسلك طريق مكتب المدير فأسرعت لتركض مما جذب انتباه الأعيُن عليها، أعاقت طريقه في الرواق قبل ان يصل لباب الغرفة وهمست بين انفاسها المُتقطعة.
- بتعمل اية؟ انت اتجننت؟
- مش بتقولي معندكيش وقت؟ فهكلم..
قاطعته بأستسلام، فلا ينقصها شبوهات هنا في العمل
- ماشي ماشي، هقابلك بعد الشغل في الكافية اللي ورا المطعم..
هز رأسه وقد لمعت عينيه بإنتصار، استدار بهدوء وعاد ادراجه، تابعته بأعين مُستاءة حتى عاد لمقعده، تتمنى فقط ألا يحدث اي شيء سيء حين تُقابله.
في فيلا إبراهيم السويفي
- انا هحجز اسبوع لدهب
أخبرت سهام إبراهيم بذلك وهي تلتقط هاتفها، فقال الاخير
- استني بس نشوف عمر هيعمل اية
- مليش دعوة، مش هستنى عمر وهحجزله معانا واحطه قدام الامر الواقع
صمت إبراهيم للحظة قبل ان يُنبهها
- بس معرفتيش رأي سلمى، مش ممكن متبقاش حابة تروح؟
استنكرت سهام قوله
- مين اللي ميحبش يروح مصيف يا إبراهيم؟، مستحيل اللي بتقوله دة.
اغلق الجريدة الذي كان يقرأ فيها ووضعها جانباً، هم بالنهوض وهو يسرد توقعاته
- هتيجي النهاردة بليل وهتقولك انها مش عايزة تروح وتطلعلك الحجج الفطسانة، وهتشوفي
نظرت له وقالت بتعجل
- على كدة هحجز دلوقتي عشان احطهم قدام الامر الواقع
- يبقى احسن
تمتم بها وهو يبتعد ليغادر ويذهب للشركة.
مساءً
في منزل ملك
تجلس والدتها امام التلفاز وهي تخرط الملوخية، قطع مُشاهدتها وقوف والد ملك امام التلفاز فهتفت بسخط
- الحتة دي حلوة، وسع
- مش وقت الزفت التلفزيون، اسمعيني
نظرت له بضيق فتحدث
- انا مش مرتاح لرفض بنتك لكل العِرسان، ومعرفش هي بتعمل اية في الشغل وبتقابل مين هناك، ومش مرتاح للواد اللي شوفته معاها، حاسس ان في حاجة مابينهم
- مش انت قولت انها قالت انه زبون عندها؟
- قالت كدة بس..
سحب بقية كلماته وتطرق لقول اخر
- انا هروح أتأكد بنفسي، يارب تكون معاه
دُهشِت والدتها من قوله، بماذا يدعي هذا؟
- نعم؟!
اكمل حديثه دون ان يوضح شيء
- عشان أربطه بيها ونخلص
هتفت بنفاذ صبر
- انت بتتكلم ازاي؟
- باين عليه غني
همس بها بحماس وهو يبرم مقبض باب الشقة ثم غادر مُغلقاً اياه خلفه، فهتفت والدتها بجزع..
- يا ابو ملك، يا ابو ملك
تنهدت بإستياء وحدثت نفسها بقلق
- هيعمل اية لو شافها مع الزبون دة؟ ربنا يستر.
لا تستطيع تخيل ما قد يفعله، بل تخاف من تخيل شيء، تعلم ان زوجها مولع بالنقود ورغبته في تزويج ابنته الوحيدة من غني، قد يفعل اي شيء لتحقيق ذلك حتى إذ لم ترغب ملك بذلك.
ترجلت يارا من الحافلة وقررت اخذ المسافة من المحطة الى الفيلا سيراً على الأقدام بدلاً من اخذ سيارة اجرة، فهي تشعر بحاجتها لهذا النسيم الجميل النادر في هذا الصيف، فأقتراح والداتها التي اقترحته قبل مُغادرتها جعلها تتشتت رغم حزمها عند الرفض، ففي أي امر يخص والدها يهتز كيانها وتتذبذب.
- لو عايزة تروحي تزوري ابوكِ في قبره روحي، هكلم لك عمتك.
ذلك العرض الذي لم يخطر على بالها قد اصبح مركز تفكيرها، تشعر بالخيانة، انها تخون نفسها الجريحة، كيف تتذبذب بعد ان رفضت الذهاب!، كيف تترد في امر محتوم كهذا؟ ألم تتعهد انها ستتخطى مسألة والدها تماماً حتى تعيش بسلام؟
توقفت قدمها عن السير حين لمحت عمر واقفاً على مسافة بعيدة عنها وأمامه رضوى، كانا يقفان بجوار بوابة الفيلا ويبدو انها تُعيق طريقه، اضاقت عينيها وهي تُعود لتكمل سيرها اكن ببطء وحذر، تشعر بالفضول حيال ما يقولانه، وتشعر بالتحامل على رضوى والغضب بسبب ما فعلته ب عمر، وبررت شعورها بأنه شعور طبيعي فإذ سمع اي احد قصته سيحزن عليه وسيكرهها.
توقف تفكيرها مع توقف خطواتها، اتسعتا مقلتيها بصدمة مع تفريق شفتيها حين رأت اقتراب رضوى القوي من عمر وتقبيلها له، ليست قُبلة عادية، لقد قبلته من شفتيه!
في المقهى
جلست ملك امام إياد الذي كان ينتظرها، قالت بإقتضاب
- هما خمس دقايق وهمشي
- بدأت اشك انِك رئيسة الجمهورية
تخطت سخريته وتحدثت مُباشرةً
- عارفة انك مُرتبط بواحدة و..
قاطعها ضاحكاً وهو يهتف بدهشة
- نعم؟، امتى؟ هو انا ارتبطت وانا معرفش؟
- انا شوفتك وانت بتحضن واحدة شقرة كدة
عرف سريعاً عن من تتحدث هي، فأتى ان يوضح لكنها سبقته برجاء
- مش عايزة توضيح لوسمحت ولا عايزة اعرف هي مين بظبط، ولكن...
قاطعها بإنفعال وهو يأسر عينيها بقوة
- لا لازم تعرفي عشان الفكرة الغلط اللي عندك تتصحح
- صدقني ملهوش لازمة لأنه...
قاطعها صوت احدهم من خلف إياد
- مش هتطلبوا حاجة ولا اية؟
رفعت ملك نظراته بتوتر لوالدها الذي يرمقها بنظرات نارية مُعاكسة لإبتسامته الواسعة، رد إياد دون ان يلتفت
- شوية وهنطلب
- ب، ابا!
عقد إياد حاجبيه بعدم فهم وتابع خط سير نظراتها وصدم حين رأى والدها خلفه، تحرك الاخير وسحب الكرسي ليجلس بينهما، سألهم بتفكير وهو ينقل بصره بينهم
- لسة بتحلوا المشكلة بتاعة امبارح؟
رد إياد بغباء
- لسة
رمقته ملك بغضب، ماذا يقول هذا؟، هز والدها رأسه بتفهم وقد استقرت نظراته على إياد، استفسر
- وبتشتغل اية يا حضرة الزبون؟
- بشتغل مع والدي في شركته
- شركة!، يبقى انت غني على كدة؟
- بابا.
قالتها وهي تمسك كف والدها وتترجاه بعينيها، تترجاه بألا يُحرجها لكنه لم يهتم واكمل مُتسائلاً ببساطة
- امتى هتيجي تتقدم لبنتي؟
- نعم!
هتف بها إياد بذهول، ماذا يقول هذا الرجل الكبير؟
تااابع ◄ لروحك عطر لا ينسى