-->

رواية بين شباكها الفصل الرابع والاخير

 

 لم يكن العالم مُنصف معها، القى بها للتهلكة دون إشفاق..
دفعها للجنون..
أصحبت مظلومة، وظالمة أيضاً.

22/09/2019
الجلسة الاولى
ضغط نادر على زر المُسجِل ونظر لهذه المُشتتة التي تتلاعب بأصابعها دون وعي، تنقل بصرها حولها بتوتر وظلت مُلتزمة الصمت، ابتسم مُطمئناً اياها


- استاذة اروى، انا سامعِك، اتكلمي براحتِك عن نفسك، عن المشكلة من وجهة نظرك، فتحبي تبدأي بأية؟
حركت حدقتيها لتستقر عليه، سألته بتذبذب.

- هتعرف تعالجني؟
هز رأسه مؤكداً..
- بإذن الله، بس اتعاوني معايا
اشاحت بوجهها وصمتت مرة اخرى، انها متوترة وخائفة، انها مرتها الاولى.
- انا عايزة اعيش حياة طبيعية
اخرجت حروفها بعد فترة قصيرة من الصمت، استقبل قولها بصدر رحب وسألها بنبرة ودودة
- اية نظرتِك للحياة الطبيعية؟
- إن يكون ليا أهل يحبوني، واني اقدر اعيش مع يونس
تنفست بقوة بعد إنهاء جملتها الحزينة، اسند نادر مرفقيه على فخذيه وطلب منها.

- طب ممكن تحكيلي عن نفسك؟
إنها حذرة، عينيها مُضطربة بريبة، تتحدث مع غريب عن حياتها ولأول مرة، لا تشعر بالراحة، لكنها ستحاول من اجل نفسها واجل يونس، ستُعالج وستطرد السم المُنتشر بداخلها، السم الذي حقنها به الاخرين.
تحدثت بمهل...

- انا اروى، طفلة أهلها اتخلوا عنها، انا يتيمة اصلا، كبرت في ميتم، مكنش عندي مشكلة انهم اتخلوا عني لأن كنت متأملة ان هلاقي اهل تانين يعوضوني، وياخذوني من الميتم اللي الناس فيه كانت وحشة وقاسية عليا وعلى الاطفال اللي زيي
طالبها بالتفاصيل..
- لية اصحاب الميتم وحشين وقاسية؟ عملوا اية؟
- كانوا بيضربونا من اقل غلط، مكنوش بيراعونا، مكنتش بلاقي حد اتكلم معاه، كانوا بيتجاهلونا وبس، خاصةً اللي في سني.

- وبعدين؟
- مشيت من هناك وانا عندي ست سنين، جم ناس واتبنوني، بس..
توقفت عند نقطة تؤلمها، حقيقة رافقتها وترافقها للان.
- بس؟
- مش هما اللي اختاروني
- اومال؟
- لولا اني مسكت أيد بابا اسماعيل مكنش لاحظني وخدني من الميتم
ضمت كفيها لبعضهما وقد لمعت حدقتيها بالدموع وهي تخفض رأسها، اضافت بألم
- كنت حاسة دايماً اني مرفوضة، واتأكدت بعد ما روحت مع بابا اسماعيل
- لية بتقولي عن نفسك كدة؟

ردت بعد تنهيدة ثقيلة
- اهلي الحقيقيين سابوني في ميتم واهلي التانين بينفروا وبيخافوا مني، ودة بيدل ان وجودي مش مرغوب فيه، واني منبوذة
- وانتِ شايفة نفسك اية؟
- شايفة اني شخصية مُخيفة مش مفهومة، انا نفسي مش فاهمة نفسي، بتصرف بدون تفكير، بمشي ورا غضبي زي العامية ومقدرش اتحكم فيه، احياناً ببقى عدوانية
اندفع جسدها للأمام وهي توضح له بضعف
- بس انا مكنتش كدة، انا بقيت كدة بعد ما بقيت بنتهم.

هز رأسه مُتفهماً مانحها الراحة، ثم سألها بتعاطف
- عملوا فيكِ اية يا اروى؟
ظلت تنظر له بصمت، سالت دموعها ومساحتها بقهر وهي تُعيد ظهرها للخلف، نظرت للسقف هامسة
- احياناً بخاف من نفسي، بتجيلي افكار بشعة ممكن اقتل فيها حد او اقتل نفسي، احياناً بشفق عليها لاني ضحية، ضحيتهم
- انتِ ضحيتهم، فممكن تقوليلي عملوا فيكِ اية؟
- محبونيش، كانوا عايزين يرجعوني للميتم بعد سنتين بس من حياتي معاهم
اضافت بتفكير..

- ممكن عشان مكنتش طبيعية وانا صغيرة!، كنت مُزعجة ومنعزلة
تساءل نادر..
- ازاي مُزعجة ومُنعزلة؟
- كنت بعيط كتير، كنت بخاف ابقى لوحدي وكنت ورا ماما خديجة في كل مكان حتى في الحمام، وكمان كنت بخاف من الناس الغريبة، كنت بخاف من اي حاجة، اكتر حاجة كنت بخاف منها اني ابقى لوحدي
علق بهدوء
- شعور طبيعي من اي طفل، خوفه من الوحدة وتعلُّقه بأمه، فدي مش حاجة تخليكِ مش طبيعية.

حركت رأسها بعدم اقتناع بمعنى ما قاله، فهي ترى نفسها غير طبيعية، انها مُريبة.
سألته بحيرة وفضول، سؤال مر عليها الان..
- هو في أشخاص بيتولدوا بطبيعة مُخيفة؟
شرح لها ببساطة
- الطفل عبارة عن عجينة، بيشكله اهله او الجهة المُربية، سواء طلع الطفل دة سوي او عنده كسور فـ دة مش بسببه، دة نتيجة للمعاملة اللي اتعرض لها منذ الطفولة
هزت رأسها وشردت، جذب انتباهها بسؤاله
- كانوا بيعاملوكِ ازاي؟

نظرت له وقد ظهر الحنين على كل حرف أخرجته اثناء إجابتها
- كانوا بيعاملوني كويس اوي، بيحبوني ويعملولي كل حاجة اطلبها، لما كنت اغلط كانوا ينصحوني بالهداوة وكمان كانوا بيقفوا في صفي لما كنت اتخانق مع يونس، كانوا بيخافوا عليا وبيهتموا بيا، بس كل دة اختفى بعد تاني سنة
انهت جملتها وصمتت، طرح عليها سؤاله
- امتى يونس دخل حياتِك؟

- انا اللي دخلت حياته، هو كان جزء من حياة خديجة وإسماعيل، هو اخو خديجة بس كان اكبر مني بأربع سنين، كان عايش معانا
- علاقتِك معاه كانت ازاي خلال السنتين؟
تهللت أساريرها وهي تتحدث عنه..
- كنا زي الأخوات، كان بيعاملني كأني اخته الصغيرة من اول يوم دخلت فيه حياته وكأنه كان مستنيني، كنا بنتخانق احياناً بس كان بيصالحني علطول ولو عانِد ودة قليل كانت ماما تخليه يصالحني
مالت برأسها قليلاً وهي تهمس بحزن.

- هو الوحيد المتغيرش
دوّن شيء في دفتر الملاحظات الذي معه ثم سألها بدقة
- يونس النهاردة يُعتبر اية بالنسبالك؟
لم تُفكر في الإجابة حتى..
- هو كل حياتي، هو الوحيد اللي اتمسك بيا وحسسني ان ليا قيمة، ان وجودي بيفرق، معاملنيش كأني مش موجودة زيهم..
ثم نظرت لندب ظاهر بوضوح على رسغها واضافت بخفوت وكأنها تُحدِث نفسها
- وانا متمسكة بحياتي عشانه.

تابع خط سير نظراتها ولاحظ ذلك الندب لكنه لن يُعلق الان حتى لا يشتت تركيزها، انتقل لنقطة اخرى، ليُلِم ببدايتها.
- كلميني عن بقية عيلتِك..
اتت بردها المثير للشفقة
- انا معنديش عيلة
- مبتعتبرهُمش عيلتِك بعد اللي عملوه؟
صمتت، عاجزة عن الرد، بل مُحرجة، مُحرجة من احتياجها المُثير للشفقة الذي يجعلها تتمسك بهم وتتتمنى حبهم رغم بعدهم وبغض تصرفاتهم.
رأى ترددها بوضوح، ابتسم وطلب منها.

- اية رأيِك تكلميني عن خديجة!
- ماما خديجة..
همست بها والتقطت انفاسها بثُقل، هز رأسه بتأكيد لِم أدركه عقله، ترك دفتر المُلاحظات بجواره وسألها بمُراعاة
- تحبي نكتفي النهاردة بالكم دة؟
بدلاً من منحه موافقة وجدها تسرد عليه بقية إجابة سؤاله الاول.

- على السنة التالتة بدأت احس فجأة بتغيُّر في معاملة ماما خديجة وبابا إسماعيل ليا، مكُنتِش عارفة السبب في الاول، بس لمجرد اني حسيت ببُعدهُم خوفت، فاكرة الشعور ليومي دة لانه ملازمني كل يوم، ولما بخاف بتصرف بطريقة غريبة، ببقى عدوانية جدا، اكتشفت دة، لمجرد شعوري انهم ممكن يتخلوا عني خلاني أهيج، أعيط كتير وشوية أكسر وابوّظ كل لعبي، اتحولت تماماً خاصةً بعد ما عرفت سبب جفاءهم معايا، اصل بقى في حد هياخد مكاني.

علّق بتفهم
- كأي طفل، هيغير على أُمه ويخاف ان مكانة يتاخد، بيحس بالتهديد لما الأُم تحمل بطفل تاني
اندفعت للأمام بعنف هاتفة بعذاب
- بس انا مكنتش زي اي طفل، انا كنت هموتها...
لاحظ تشنجها وارتجاف شفتيها، طلب منها بهدوء
- طب اهدي..
لم تسمعه، أكملت بتقطع وأنفاس لاهثة بجانب عينيها المُضطربة التي يُعرض امامها لحظات ذلك الحادث.

- فاكرة حالتها، كانت مرمية على الارض وفي دم بين رجليها، بقت تكرهني، بتصرخ في وشي، بتقول عليا مجنونة ومُخيفة، بقت تكرهني
انها تخرج عن السيطرة، نهض طالباً منها
- طب اهدي يا اروى
- كانت في الشهر الرابع...
امسك بكتفيها ليُقظها هذه المرة، هزها هاتفاً
- اروى، انتِ هنا مش هناك، خليكِ معايا، ركزي معايا
نظرت له بتشتت واضح، مسحت وجهها بكفيها وهي تهز رأسها
- عايزة أمشي، يونس، مستنيني، عايزة..
قاطعها.

- حاضر، بس استجمعي نفسك الاول
امآءت برأسها عدة مرات، قدم لها كوب ماء فأحتست القليل منه بتعجل وهي تقف على قدميها، سألها بلطف مع ابتعادها
- هشوفِك تاني؟
ردت عليه بجفاء مُفاجيء
- مش عايزة
ارتفعا حاجبيه مُتساءلاً
- غيرتي رأيك؟ مش عايزة تتعالجي؟
اخبرته بنبرة مُرتفعة شرسة
- انا مش مجنونة
رد بذكاء
- وهو كل اللي بيجي هنا مجنون؟

رمقته بضيق وغادرت؛ التقط دفتر ملاحظاته وكتب جملة تقلبات ميزاجية عنيفة اسفل الجُمَل السابقة رعب من فكرة الهجر - أذية النفس - الأستسلام للغضب.
اتجه لمكتبه وجلس خلفه، يشتبه بحالاتها، وربما عرفها.
بينما في الخارج، توقفت اروى تنقل نظراتها حولها، اين يونس؟ اين ذهب؟ لقد اخبرها انه سينتظرها لحين ان تنتهي.

تباً تُريد رؤيته، تُريد ان تشعر بوجوده بجوارها لتطمئِن، لتتلاشى المشاعر البغيضة التي اندفعت بداخلها مُجدداً؛ أسرعت للسكرتيرة لتسألها بتوتر
- يونس، يونس فين؟ اللي جه معايا
- أستاذ يونس مشي من بدري
- مشي! مشي ازاي؟

هتفت بفزع وهرّعت للخارج دون إنتظار اي توضيح منها؛ إنقبض قلبها بخوف وتزعزع، توقفت امام العقار، تنقل بصرها حولها بتعجل واضطراب وخوف شديد من الفكرة الوحيدة التي عصفت برأسها، قد تخلى عنها، هل حقاً تخلى عنها؟ هل تركها ورحل؟

سارت بخطوات مُتسارعة دون هوادة، تأخذها قدمها لأماكن قريبة من موقعها هذا لعلها تجده، تنظر حولها بجنون وعيون لامعة بالدموع، تكاد ان تبكي وتنهار، تذكرت هاتفها، ستتصل به، وفعلت لكن هاتفه خارج نطاق التغطية، أعادت الكَرى وكانت النتيجة واحدة؛ انخفضت يدها المُمسكة بالهاتف بإحباط تبعه صرخة خرجت منها بقهر مع ضربها للأرض بقدمها بغضب، فتركزت العيون من حولها عليها، نظرات مُرتابة ومُندهشة.

أخذت تلهث وهي تضع كفيها على وجهها تنتحب، ثم أبعدتهم واكملت سيرها ودموعها تنساب بحرقة على وجنتيها.
وصلت للفندق التي أصبحت تقطن به منذ اسبوع، لقد حجز يونس غرفتين، واحدة له والأُخرى لها؛ فقد انفجرت الأمور ولم تعُد تحت السيطرة، كان يجب إنهاء كل شيء رغم صعوبته.

خرجت من المصعد الكهربائي بحركة بطيئة فارغة، اتجهت لغرفته بدلاً من غرفتها، دخلتها بسهولة فهي معها كلمة السر، لقد أعطاه لها بنفسه ودون ان تطلُبه.
- انت فين!

همست بها بوهن وألم وهي تقف خلف الباب التي عبرت من خلاله للتو، رائحته التي تملأ الغرفة اخترقت انفها لتُشعرها بوجوده، تقدمت لتجلس على فراشه وظلت ثابتة، تنظر أمامها بضياع، تشعر بألم حاد في نصفها الأيسر، انه ينزف من هجر جديد وخوف مُعتاد من الوحدة، لكنها وثقت به، لقد وعدها انه سيبقى معها ولن يتخلى ابداً، لقد اختارها هي أذاً ماذا حدث؟ هل كلن يخدعها؟

تذكرت ما حدث منذ اسبوع، ما حدث قبل تركهم لمنزل إسماعيل واختياره لها..

- انا سكتّ، انا استحملت كل السنين دي عشانك، عشان انت متعلق بالمجنونة دي بس لهنا وكفاية يا يونس، الحقيرة دي هتخرج برة بيتي وحياتي، ولوحدها، تهديدك انك هتسيبنا عشانها مبقاش ياكل معايا، لاني مش هسمحلك تبعد عن اختك وعن عيلتك عشان لقيطة ومجنونة زيها.

كانت خديجة صاحبة ذلك القول القاسي والهائج أيضاً، بينما ثار جنون يونس لنعت اروى بالمجنونة خاصةً انها تسمع هذا الحديث من داخل إحدى الغُرف، فقد أدخلها حتى لا تواجه غضب اخته لكن الاخيرة مُصِرة على إخراجه عن صمته.
حذرها بنبرة مازال يُسيطر عليها، على عكس نظراته التي اشتعلت بغضب
- متقوليش عنها مجنونة ووطي صوتِك..
ثارت أكثر، وأرتفع صوتها أكثر من السابق.

- مش هوطي زفت صوتي، انت محسسني ان عندها دم!، ياما سمعت كلامي، حصل حاجة؟ مشيت؟ لسة بتقول لي يا ماما، بتكرهيني في نفسي ياخي
صرخت بثورة مع كلماتها الاخيرة والنابعة من قلبها، انها تبغضها بحق، وتخاف منها أيضاً، انها مُقتنعة بأن اروى مريضة.
لم يتحمل يونس الصمت اكثر، انها تدفعه ليصبح قاسي معها لذا سيجعلها تنال ذلك، سيلقي بكل ما بداخله من حقد في وجه أُخته الظالمة.

- مش هي السبب في انك تكرهي نفسك، اروى مكانتش عايزة حاجة غير انكم تحبوها زي الاول، تعتبروها بنتكم، مش تتخلوا عنها اول ما ربنا كرمك بأنك تحمّلي..
رفع سُبابته صارخاً بعتاب وألم..

- لو عاملتوها كويس كان كل شيء أتغير، كُنا عشنا كعيلة سعيدة، لو مكنتوش بتضربوها من غير سبب وبسبب مكنتش هتبقى عدوانية كدة، لو اهتميتي بيها زي شهد كانت هتبقى على علاقة كويسة جداً معاها، كان كل دة متوقف عليكم، عليكِ انتِ وإسماعيل
هتفت مُقاطعة اياه وهي تضرب على فخذيها بقوة
- كان يوم اسود يوم ما إسماعيل جابها، كان يوم أسود...
لم يكترث لقولها وأكمل بحرقة.

- انا الوحيد اللي اهتميت بيها وحبيتها وحميتها، لولايا كنتوا هترموها كأنها ولا حاجة! لولا تمسُكِ بيها، لولا اني كنت بدافع عنها..
قاطعته بجنون وهي تنغزه في كتفه
- دي حاولت تقتلني وكانت هتموت شهد وكانت تكة وهتولع في البيت، انت نسيت كل دة!
كان اكثر جنوناً منها، غضب عنيف قد تملكه دون تراجُع.
- وكانت هتنتحر بسببكم، كانت هتموت تحت إيد إسماعيل، كانت مُضطهدة منكم.

حدقت به بكبت وأدركت ما أوصلت أخيها له، تقدمت خطوة منه ووضعت كفها على كتفه، عينيها ترجوه، حدّثته بنبرة خافتة مُناقضة لسابقتها تماماً
- أنت مش هتتخلى عننا عشان شعور الشفقة اللي متملكك ناحيتها، صح!
تنهد وهو يمسح وجهه بإرهاق، ثم نظر لحدقتي خديجة بتعمق، هدر بهدوء
- انتِ عارفة اني بحبها
احتدت ملامحها وعاد غضبها من جديد
- دة مش حُب..

لن يُجادلها فكم مرة فعل ذلك؟، ابتعد مُتجهاً للغرفة الذي وضعها فيها، حين فتح الباب وجدها منزوية في زاوية الغرفة، تعلقت حدقتيها به، حدقتيها الذي يسكن فيهما الحزن وكم يتمنى أن يبترُه، تقدم منها وانهضها برفق..
- يلا؟
تعلقت به مُتساءلة
- لفين؟
عادت لتهتف خديجة
- دي مريضة، مشؤومة، هتخرب حياتك زي ما خربت حياتنا
لم يقطع أتصال بصره مع أروى، رد على خديجة بثقة وإبتسامة دافئة منحها لـ أروى.

- لو هي مريضة هعالجها، ومش هسيبها، هعالجها من كل اللي عملتوه فيها، وبعدها هنبني حياة جديدة بعيدة عنكم
- بعيد عن اختك اللي ربيتك!
نقل بصره لـ خديجة، صمت لوهلة، همس بخيبة
- مكنتش اتمنى يكون عندي اخت ظالمة قلبها اسود وقاسي يخليها تظلم يتيم
انهى جملته واتجه للخارج، مُغادراً حياتها بالكامل، جحظت خديجة بعينيها برعب، أنه يرحل حقاً!، أخذت تصرخ وهي تُخرِب وتكسر ما تطوله يدها.

- متقولش كدة، انا أُختك، انا خدت مكان ماما بعد ما ماتت، انا اللي ربيتك، هتسيبني عشانها؟
أنهارت باكية على الارض، ستخسر أخيها الوحيد، التي وصتها عليه والدته، أنه طفلها الاول، تعتبره هكذا لأنها ربته.
توقف يونس أثر توقف اروى خلفه والذي كان يُمسك بيدها، سألته بتفكير
- بيتنا فوق، فـ رايحين فين دلوقتي؟
ابتسم لها مُجيباً
- مش كان نفسِك تسافري؟
اتسعت مقلتيها بعدم تصديق وسعادة!
- هنسافر دلوقتي؟

- مش دلوقتي بظبط، بس هنروح مكان تاني نقعد فيه، حالياً.

اومأت برأسها موافقة، ستذهب معه إينما يأخذها، فهي تثق به، لطالما منحها هذا الشعور الذي يبث لها الثقة والسعادة، ان يكون لديك احد مُتمسك بك، كم هو شعور رائع كفيل جعلها تخلص لمن يمنحها اياه، وتمسكه بها تعده وعداً منه.

استيقظت من الذكرى الاخيرة التي تجمعها بـ خديجة، وبأختياره لها، هل اقنعته الاخيرة بالعودة لهم وتركها بلا أحد؟ هل خضع لها؟، القت بجسدها على الفراش ودموعها تسيل بصمت، رفعت يدها بالهاتف وعاودت الاتصال به، استمرت هكذا كثيراً حتى تمت الخمسين اتصال او اكثر!

في النهاية يأست، أنه فشل آخر وتخلي آخر، رمت بهاتفها جانباً بعنف ثم رفعت ذراعها لتنظر للندب الواضح عند رسغها، تلمسته وقد لمعت فكرة واحدة داخل رأسها، نهضت وقد ترسخت تلك الفكرة، دلفت للشرفة بإندفاع واعتلت السور بتهور وجُرأة، اصبحت واقفة على الناحية الاخرى من السور، يدها تمسك بالسور وتُثبت قدمها عند نهايته، لا ينقصها سوى إفلات قبضتها لتتهاوى وتُنهي حياتها، ما فائدة حياتها إذ بقت بمفردها؟

اغمضت عينيها وهي تستنشق الهواء بقوة، ولآخر مرة، مر أمامها شريط حياتها المأساوي سريعاً، لم يكن هناك شيء جيد سواه، وتلاشى الان.
قبل تركها للسور بثانية، ثانية واحدة فقط، كان قد اتى، سمعت صوته الفزع من خلفها..
- اروى!
جحظت عينيه بخوف حقيقي عليها، وتوقف قلبه لرؤيتها هكذا، أدرك سريعاً ما تنوي فعله وهذا آلم قلبه أكثر، لماذا تحاول الأنتحار هذه المرة؟ ألم يختارها؟ هل ترى حياتها فارغة حتى وهو معها؟

- أبعد
صرخت بها حين ركض وكاد يصل إليها، توقف بعد خطوة واحدة من دخوله للشرفة، مد ذراعه وحدثها بنبرة قلقة وعينين تهتز بإلتياع
- بتعملي اية هناك! تعالي هنا، تعالي عندي نتكلم
نظرت له بعيون دامعة، هتفت بغضب لامس أعتاب القهر أيضاً
- رجعت لية؟ امشي، مش عايزاك
تقدم خطوة اخرى وهو يترجاها بأنفاس لاهثة
- تعالي من هناك، ممكن توقعي، خليني اجيلك طيب و..
صرخت بإنفعال اكثر
- انت هتمشي وهبقى لوحدي.

ارتفع صوته قليلاً وهو يؤكد لها
- عمري ما هسيبِك، أنا هنا، جمبك دايماً، مش همشي
هزت رأسها نفياً، لا تصدقه، فصرخ هذه المرة بنفاذ صبر، يكاد قلبه يتوقف، لماذا تُعذبه هكذا!
- أنا ممشيتش اصلاً، أنا...
قاطعته باكية..
- انت كداب، انت
نقل بصره لكفها المُمسك بإهمال للسور، ماذا إن سقطت؟، دار حول نفسه وهو يتنفس بخشونة، يجب ان يتصرف، سيتقدم منها ليسحبها إليه، لن يخاطر بها..
- غبية، غبية.

قالها من بين اسنانه بحرقة ثم باغتها بإقترابه السريع وإمساكه لذراعها بقوة، فصرخت بجنون مُطالبة اياه بتركها، اسرع ليحاوط خصرها النحيف بذراعيه القويتين ليحملها ويأخذها إليه، كانت تحاول بغباءها التملص منه لكنه أقوى.
تمسك بها ولم يُفلتها حتى دلف للغرفة وأغلق باب الشرفة بغضب، نظر لها بحدة صارخاً بها بعتاب.

- لية بتعملي كدة؟ لية بتفكري بأنانية؟ مش بتفكري حالتي هتبقى اية بعدِك؟ أشوفك بتنتحري قدامي!، بعد كل اللي عملته عشانك تعملي انتِ فيا كدة؟
تأملت ملامحه القلقة الحادة والصادقة أيضاً، لا يبدو كشخص تخلى عنها، هذا الخوف التي تراه في عينيه وصل اليها وأشعرها بغباء تفكيرها، فرقت شفتيها هامسة بخجل
- افتكرتك مشيت، افتكرتك سيبتني.

مازال هائجاً، يريد توبيخها بقسوة على تهورها التي قد تُلقي حتفها بسببه، هدر بعذاب مُعانقاً وجهها بكفيه
- انا اخترتِك انتِ، بحبك انتِ، وعدِّك عُمري ما هسيبيك عشان مقدرش، روحي فيكِ؛ مش وعدتيني انك مش هتأذي نفسك تاني؟
رفعت كفها لتضعه فوق كفه، تمتمت بضعف
- آخر مرة..
لا يثق بها، فكم مرة اخبرته انها المرة الاخيرة وأعادت الكرى!

- احنا في الدور العاشر، عارفة يعني اية؟، لو رميتي نفسك يبقى خلاص مفيش فرصة تانية، هتموتي، هخسرك وهنخسر أحلامنا
تريد أن تُخبره بأنها لا تستطيع التحكم بنفسها، تجد نفسها تندفع بتهور دون ان تجد فرصة للتفكر، الأفكار السلبية تُسيطر عليها بوحشية خاصةً فكرة التخلي عنها.
عضت شفتيها بحرج وأدارت ذراعيها حوله مُعانقة اياه، اعتذرت منه
- انا اسفة..

تنهد بتعب وهو يُطبق جفونه براحة لسلامتها، من الجيد أنه وصل في الوقت الصحيح وإلا كان سيستلم جُثتها الان؛ ربت على ظهرها بينما قد أتخذ قرار جديد، لأجلها.

26/9/2019
الجلسة الثانية
- عاملة اية النهاردة يا أروى؟
سألها نادر بلطف فأجابت
- كويسة
- تحبي نبدأ؟
لم تستجيب لسؤاله، فطرح آخر..
- طب تحبني نتكلم عن مين النهاردة؟، إسماعيل؟
نظرت له، كانت تنوي مُعاندته لكنها كانت ترغب في التحدث، لذا اومأت برأسها وبدأت في السرد.

- بابا إسماعيل، كنت انا اللي مسكت ايده في الميتم، كان بيحبني اوي في الاول، كان الأب اللي اتمنيته، عرفت بعدين أنه اللي اقنع ماما خديجة بيا، كان اتغير شوية مع تغير ماما خديجة بس أتحول تماماً لما أتولدت شهد، على عكس ماما خديجة اتغيرت اول ما بقت حامل، هو كان لسة بيهتم بيا ولو قليل
هز رأسه بتفهم وسألها
- وعلاقتك كانت ازاي مع الطفلة الجديدة، شهد؟
احتقن وجهها غيظاً وهي تتحدث عنها.

- مبحبهاش عشان خدت مكاني، سرقت حياتي، وكمان وهي مبتحبنيش، مش مكفيها خدت مني ماما وبابا وعايزة تاخد مني يونس
- محاولتيش تحسني علاقتِك معاها؟!
ردت بعدوانية
- طبعاً لا، مش عايزة ابقى صاحبة عدوتي، دي سوسة
- لية بتقولي عنها سوسة؟

- كانت بتغيظني كتير، واحنا صغيرين لما كانت ماما تجيبلها لبس أو أي حاجة تجيلي تضايقني بيها، كانت تغيظني عشان ماما بتعاملها حلو وبتحبها وانا بتعاملني وحش ومش مدياني وش، كانت بتضحك عليا وتفرح فيا لما أتضرب أو أتعاقب، وحاجات كتير من دي
إنه تصرُف وارد من أي طفل لكن من واجب الوالدين توجيه طفلتهم وتعليمها أن هذا الفعل خاطيء.
أنتقل لنقطة آخرى، لسماع بقية حديث المرة السابقة.

- فاكرة يا اروى وقفنا كلام الجلسة اللي فاتت عند اية؟
صمتت للحظة تُفكر وقبل ان تخبره سألها
- تحبي نكمل كلامنا من النقطة دي؟
نظرت له، فمال بجسده للأمام قائلاً بشفافية
- لما عرفتي ان خديجة حامل، عملتي اية؟
ضمت كفيها وهي تتذكر، ضاق صدرها، مازالت تشعر بالذنب وتطلب السماح منها لكنها لم تمنحها إياه.

- سمعتها بتتكلم على التليفون وبتقول انها محتارة في اسم البيبي وبتتكلم انها مبسوطة جدا بإن ربنا رزقها أخيراً، بعدها لقيتها بتتكلم عني انها ندمانة انها سمعت كلام إسماعيل اتبنتني، بتحبني اة بس عدم وجودي كان هيبقى احسن، انا سمعت كدة ومش عارفة اية حصل، رجعت ل اوضتي وقفلت عليت الباب وفضلت اعيط، انا عارفة انها مش هتنتبهلي ولا هتعرف اني عرفت فقولت وخرجتلها وجاتلي حالة صويت وصريخ، لقيتها جاتلي بتجري وبتسألني مالِك لقيت نفسي بضربها عند بطنها بكل غل.

- وانتِ كنتِ واعية لنفسك؟
- محستش بنفسي، لما فوقت لقيتها واقعة على الارض والدم حوليها
- وقدروا ينقذوها؟
- ايوة، كان بابا ويونس رجعوا من مشوارهم، لحُسن الحظ يعني
- وبعدها؟

- ماما كرهتني، مبقتش طايقة تشوف وشي حتى، والتوتر والعصبية كل دة غلط عليها، كانت عايزة ترجعني الميتم وحصلت خناقات كتير، بابا كان مُتردد ومُشتت بين انه يسبني ولا يريحها، كان قرر انه يريح مراته وخوفاً ان يحصل حاجة للبيبي اللي ربنا رزقهم بِه بعد روحتهم لدكاترة وعلاج كتير، بس لولا تمسُك يونس بيا، عمل كل حاجة تتخيلها عشان ممشيش، وعشان هو غالي عندهم مقدروش يكسروه فتراجعوا عن قرارهم، ففكروا تاني ووصلوا لـ إن ماما تروح تقضي فترة الحمل عند أُخت بابا.

غمغم مُتفهماً، وطالبها بأن تُكمِل..
- بعدها بقينا انا ويونس بنقضي معظم الوقت لوحدنا، بابا كان بيروح الشغل ويجي على بليل فكان يونس المسؤول عني وانا بقيت مُتمسكة جدا بِه، كان كل وقتنا مع بعض، نروح المدرسة سوا ناكل سوا، نلعب سوا كل حاجة مع بعض وكنت مبسوطة بحياتي كدة..
- عدت التسع شهور، عملتي اية لما شوفتي شهد لأول مرة؟
ابتسمت قائلة.

- كانت صغيرة اوي وحلوة اوي، كنت بلعب معها عادي، رغم خوف ماما عليها مني ومش عارفة السبب، حتى بابا، بس كانوا بيخلوني ألعب معاها مع يونس
- طب لية كرهتيها؟ بعيداً عن تصرفاتها لما كبرت
أوضح سؤاله، أجابت.

- هما كرّهوني فيها، كنت بلعب لوحدي بالبلي بتاع يونس، هي كانت بتزحف وجت لعندي، خدّت بلية وحطيتها في بوقها، روحت انا جريت على ماما عشان اقولها، جت جري عشان تلحق شهد، بعدها اتهمتني اني انا اللي حطيتها في بوقها واني بكدب واني حاولت اقتلها، وقتها بابا لما عرف ضربني ومحدش صدقني غير يونس لأنه عارف اني مبكدبش
- أتعاملتِ مع إحساسك إنك مظلومة ومش عارفة تاخدي حقك؟

- كنت بطلّعُه على زمايلي في المدرسة، كنت بتخانق كتير في المدرسة وأضربهم، حتى اني أذيت نفسي
لقد وصل للنقطة الذي يريدها، أشار لرسغها..
- الجرح اللي في إيدك دة، كانت المحاولة الكام؟
- الأولى..
- كانت محاولة إنتحار؟
- لا..
- أومال؟
- عشان أجذب الأهتمام ليا
قطب جبينه مُتساءلاً
- مخوفتيش تجازفي بحياتِك؟

نظرت له وصمتت، هل خافت من فعل متهور كهذا؟ لا تتذكر إنها فكرت بهذا الأمر حتى؛ طال صمتها، فأتى بقول آخر
- سمعت إنك حاولتي تنتحري إمبارح
لم تندهش من معرفته بالأمر..
سألها بذكاء
- أية وجهة نظرِك عن المصحة العقلية؟
- الناس المجانين هما اللي بيدخلوها
إنه رد متوقع منها، ربما معظم الناس يعتقدون ذلك.
- غلط، دة ينطبق على بعض الحالات، بس تعرفي إن البعض الآخر بيدخلها عشان نحميه!
- تحموه؟

عقدت حاجبيها بحيرة وتفكير، فأوضح لها أكثر
- من أنهم يأذوا نفسهم، بيبقى عندهم ميول للأفكار الإنتحارية، أو جربوا طُرق الإنتحار أكتر من مرة، فـ في الحالة دي ولي أمر المريض بيدي صلاحية بإن المريض يدخل مصحة عقلية لحمايته من نفسه
لا تعلم لِم شعرت أنه يُلمح لها، يُمهد لها الأمر!؛ نهضت ببطء وهي تسأله بشك
- أنت بتتكلم عني! يونس إدى الصلاحية دي؟
- يونس خايف عليكِ
هزت رأسها رافضة بعنف صارخة.

- مستحيل، أنا مش مجنونة
في تلك اللحظة، دلف رجلين، تأكدت أنهما سيأخذانها المصحة العقلية، صرخت مُنادية على يونس لينقذها
- يونس، يونـ...
إبتلعت بقية حروفها حين وجدته يدلف خلفهم، إذاً قد وافق على إرسالها لهناك؟؛ عبس وجهها وامتلأت روحها بالخيبة، همست بصوت مُتحشرج وقد إنسايت دموعها على وجنتيها بقهر.

 - يونس!

مساء ليلة محاولة إنتحار أروى
ذهب يونس لمقابلة نادر وأخبره بِما حدث ومدى قلقه الطبيعي.
- قول لي يا دكتور، أروى حالتها اية؟ اية مرضها؟، انا قلقي بيزيد عليها
اجابه نادر بوقار
- هي لسة بتتشخيص، بس الملاحظات اللي جمعتها بتدل على حاجة واحدة وبإلحاح كبير
اندفع جسد يونس مُتساءلاً بلهفة
- اية هي؟، حاجة خطيرة؟
- إضطراب الشخصية الحدية
كرر يونس ما قاله نادر بعدم فهم، فوضح له الأخير.

- هو إضطراب في الصحة العقلية وطبعاً بيأثر على تفكير المريض بنفسه، بيبقى صعب يتحكم في انفعالاته ومشاعره وتصرفاته، وأعراض أروى اللي بتتمثل فيه هي انها بتخاف من الهجر، عدم الاستقرار ومتقدرش تعيش لوحدها لانها بتخاف من الوحدة، كمان العدوانية الناتجة من خوفها من إبتعاد حد بتحبه عنها وممكن توصل لإنها تأذي نفسها
ثم رمقه نادر بنظرة وصلت له معناها دون نطق لسانه بها
- والسبب طبعاً انت عارفه.

هز يونس رأسه بأسف، أسرع ليسأله بإهتمام
- طب علاجها؟، أكيد في علاج.

- علاجها علاج نفسي، بتتكلم معايا تشاركني مشاعرها وتقلُباتها، في نفس الوقت أحاول أصحح بعض المفاهيم الغلط اللي عندها وأحاول أصحح من سلوكياتها، ممكن تنضم لعلاج جماعي هيفيدها، لكن في حالتها اللي وصلت لها النهاردة بنصح إننا ندخلها المصحة عشان هي خطر على نفسها، وأصحاب الشخصية الحدية مش مضمونين، ممكن تلاقيها بتضحك دلوقتي شوية تلاقي مزاجها أتقلب، وأروى جاهزة تقتل نفسها.

قالها صارحةً وربما كانت قاسية على يونس لكنها الحقيقة، فكّر الاخير بعناية وفي النهاية وافق، خوفاً عليها، خوفاً من فُقدانها.

27/9/2019
في مستشفى الأمراض العقلية
لم تهدأ منذ ليلة أمس، لذا كانت تُحقن بالمُهدِآت، لتذهب في سُبات إجباري أكثر قسوة، يأخذها لأفكارها الوحشية التي تسكن في أعماق عقلها، لتُحبس فيه لساعات حتى تستيقظ مرة أُخرى.

في المرة الثالثة من إستيقاظها كانت هادئة، رأت يونس يقف أمامها كالمرات السابقة، إنه معها، أشاحت وجهها بعيداً عنه رغم عدم إستجماعها لنفسها، تشعر بالدوران، لكنها مُدركة لِم حدث وتتذكره جيداً لذا لم تُرِد رؤيته.
- أروى!
وصل لها صوته الدافئ المُزين بإسمها، ثم سمعت وقع أقدامه وهو يقترب حتى أصبح أمامها، لكنها كانت تتجنبه، طبقت جفونها بقوة وهي تهمس بتعب وإحباط
- مخليتنيش أموت عشان تجيبني هنا؟

انتفضت مُتسعة عينيها الى مصرعيها بعنف حين لمست أنامله وجنتها، صارخة بجنون
- إبعِـد عني، متلمسنـيـــش
صُدِم من رد فعلها رغم توقعه له، تراجع خطوة للخلف ونوس يرفع كفيه مُعلناً إبتعاده، هدر بخفوت وعينين قلقتين
- ماشي، إهدي..
ثم عاد ليقترب الخطوة الذي تراجعها، أخبرها لعلها مُشتتة، لعلها تعتقده آخر
- أنا، يونس، يونس يا أروى.

أكملت نهوضها، لامست قدمها الدافئة الأرضية البادرة، اشارت إليه بإتهام ونبرة لامسها الضعف
- أنت جيبتني هنا عشان تخلص مني...
أنكر ذلك سريعاً..
- لا، انا خايف عليكِ، خايف تحاولي تموتي نفسك تاني
تهكمت بخشونة
- فاكر يعني هيحموني هنا!
جحظت عينيها بإصرار صارخة، مما جعل قلبه يرتجف بخوف، ربما تفعلها
- هموّت نفسي هنا وهخليك تندم إنك دخلتني مكان زي دة، سامعني!

إلتف حول السرير ليقف في جانبها لكنه ترك مسافة بينه وبينها، طلب منها برجاء وعجز
- إفهميني، أرجوكِ إفهمني، انا مش عايز أخسرِك، سمعاني! مش عايز أخسرِك بس انتِ..
قاطعته بنفاذ صبر، موضحة له للمرة الثانية
- عملت كدة عشان كنت فاكرة إنك..
أعاقها عن الإكمال بقوله الذي خرج بنبرة مُرتفعة لم يُلامسه الغضب أبداً.

- يعني تحاولي تموّتي نفسك في كل مرة متعرفيش توصليلي فيها! هتفتكريني اني مشيت واتخليت عنِك!، وأبقى أنا قلقان طول حياتي من إنك تغدري بيا وتسبيني؟
اهتزت حدقتيها وامتلأت بالدموع، نبرته الواضح خوفه فيها أثرت بها كالعادة، تعلم جيداً انه صادق، إنه لن يتخلى عنها لكنها لا تستطيع التخلص من خوفها اللعين.
وجد شرودها فرصة ليقترب منها، ليضمها إليه ويُشعرها بوجوده، بأن صدره يتسع لها فقط.

- عايزِك تساعديني اني أساعدِك، ساعديني تبقي كويسة، عايز نعيش حياتنا بسعادة، عشان تحسي بالسعادة اللي اتمنيناها، ننسا الماضي ونعيش حياة طبيعية
شعر بإنتفاض ضئيل في جسدها أثر بُكاءها الصامِت، دموعها الساخنة التي اخترقت قميصه شعر بإنها تحرق جلده.
أتاه هسيسها الباكي..
- وإزاي هعيشها وهما عايشين فيها؟

مسح على شعرها وبداخله يشعر بالذنب رغم أنه لم يفعل شيء، هل لأنه أخ من أذتها وعلى علاقة بِمن أذوها!
ضمت قبتضها تضرب ظهره في موضع كفها، كانت ضرباتها أضعف من أن تؤلمه، ليست ككلماتها التي تخترق قلبه من فرط الألم الذي يصل له منها.
- هفضل مستنية دايماً الحب منهم رغم زعلي منهم، هضعف وأروحلهم زي الغبية أطلب مسامحتهم ومش هنولها، كان المفروض أكرهم بس..

أعاقتها دموعها عن الإكمال، ضمها إليه أكثر لعل ألمها ينتقل له فترتاح هي.

فرّت دمعة مُعذبة من بين جفونه، فك أسرها من بين ذراعيه لكنه لم يبتعد، عانق وجهها مُحدقاً بعينيها بإصرار..
- هخرجِك من هنا في أقرب وقت، ودة وعد مني، بس اودعيني أنك هتساعدي نفسك وتتعالجي من الماضي والكسور اللي سببها ليكِ، وفي الفترة دي هكون أنا حليت الدنيا برة، مش هيبقى ناقص حاجة غير إننا نسافر ونبدأ حياة جديدة
مسح وجهها من الدموع برقة وهمس
- إتفقنا؟

أماءت برأسها موافقة وقد وضعت الحياة التي رسمتها لهما أمام عينيها، رفعت كفها لتضعه فوق كفه هامسة بعيون تترجاه بألا يتركها هنا
- بس مش عايزة أبقى هنا..
نظر لها بصبر، لماذا تُصعِّب الأمور عليه!

28/9/2019
الجلسة الثالثة
- حاسة بإية؟
سألها نادر مُحدقاً بها بعمق، بعد مغارة يونس ليلة أمس كانت هادئة جداً لدرجة مُريبة، لم تنظر له ولم تُعطيه إجابة، فسألها مُعطي لها حرية الاختيار
- تحبي نتكلم عن اية النهاردة؟
كانت جالسة على الفراش تضم جسدها لها، أضاف لسؤلِه السابق
- أو عن مين؟، شهد!
حركت حدقتيها ببطء لمجرد ذكر أسمها، هكذا علم انه استدرجها لأرضِه، طرح سؤال مُتعلق بمن ذكرها الآن.

- قوليلي، علاقتِك معاها كانت ازاي بعد ما كبرتوا؟
- شهد..
خرج صوتها بخفوت شديد وشردت، جذب انتباهها له بتكرار سؤاله، وقد نجح في سحب الحديث منها..
- كانت دايماً عايزة تاخد يونس مني، كانت بتغيظني بِه، كانت بتتكلم معاه كتير عن صُحابها في المدرسة ويومها وتستشيره في أقل تفصيلة في حياتها، كانت متعلقة بِه زيي
علّق نادر بهدوء
- بس كل دة عادي لأنه خالها.

اشتعلت حدقتيها بغيظ لتعليقه، وضحت أكثر له، وضحت بخشونة
- عارفة انه خالها بس هي عايزة تبعده عني، عايزة تاخده هو كمان، مكفهاش ماما وبابا، عايزة تاخد الباقيلي
حركت رأسها بعنف وأكملت سردها السابق
- كُنا بنتخانق كتير، طبعاً ماما وبابا كانوا بيُقفوا معاها حتى لو هي الغلط، حتى لو هي اللي جرت شكلي، يونس الوحيد اللي كان معايا، وهي كانت بتتضايق من كدة
إبتسمت بإنتصار وهي تُخبره.

- فاكرة مرة إن شهد عيطت لـ ماما تقول لها أنه خالها هي فـ لية هو مش بيُقف معاها ولية بيدافع عني، لية بيحبني انا اكتر!، وقتها اتأكدت انها بتغير مني بسببه
حرك رأسه قليلاً وهو يتوقف عند نقطة أستوقفته في إجابتها
- قولتي إنها خدت منك خديجة وإسماعيل، مش شايفة إنك مُتحاملة عليها؟ وإن في الحقيقة...
لم تسمح له بإكمال جملته مُندفعة بإجابتها.

- لا، مش مُتحاملة عليها، هي اللي بدأت تعاملني بتكبُر وتغيظني، هي اللي كرهتني فيها؛ أنا قبلتها بعد ما أتولدت وحبيتها أوي
أكد لها تفهمُه
- فهمتِك..
ثم تساءل..
- محاولتوش تحسنوا علاقتكم؟ مفكرتيش إن ممكن تكونوا على وفاق لو قربتوا من بعض؟ تبقوا أخوات بجد!
أتته إجابتها الثابتة سريعاً
- هي جربت بس أنا رفضت
- لية؟
أنخفض كتفيها مُجيبة بثقل
- مش قادرة أتقبلها خلاص، ومتسألنيش لية
- مش هسأل.

صمت لوهلة قبل ان يأتي بسؤال آخر مُتعلق بنفس الحديث
- أية كان رد فعل إسماعيل وخديجة على تصرفات شهد الخبيثة معاكِ؟
- قُلت لك، كانوا بيقفوا معاها مهما كان دورها في المشكلة، كانوا بيفضّلوها عليا ويجيبولها كل حاجة، أفتكرت نفسي لما كنت مكانها وزاد كُرهي لها، فهُما لِهم يد كمان في عداوتي مع شهد
دوّن شيء في المُذكرة وأعادها لجانبه، أنتقلت لحديث آخر
- إحكيلي عن حياتِك اليومية، علاقاتِك، شُغلِك..

- كلهم فاشلين، مفيش شُغلانة واحدة كملت فيها وكله بسبب عصبيتي، مكنتش بقدر أتحكم في إنفعالاتي، أما بالنسبة لعلاقاتي كلها فاشلة، ممكن فشلِت عشان كُنت صريحة أو عشان كنت مُتملكة!
- مُتملكة ازاي؟

- كان عندي صاحبة في ثانوي، حبيتها جداً واعتبرتها البيست، كنت عايزاها تبقى صاحبتي انا وبس، تكلمني انا وبس وتحكيلي عن أسرارها، أبقى مميزة عندها عن الباقي زي ما هي مميزة عندي، بس هي حست بالخنقة مني وبعدت عني في الاخر
نظرت للسقف بشرود مُتحدثة بعُمق
- قرأت قبل كدة إن الناس فترات، بس عندي أنا معدوش أصلاً عشان يبقوا فترات، كانوا بيبعدوا عني من غير ما يعرفوني!، ودة كان سبب في حيرة كبيرة ليا..

تقوس فمها ببطء بإبتسامة عذبة جميلة..
- بس يونس كان عوضي عنهم كلهم، خلاني مكُنش عايزة حد غيره، هو كفاية بالنسبالي
تلاشت إبتسامتها كأنها لم تكُن، يونس! أين هو؟ لم يأتي لزيارتها اليوم.
- هو فين؟
- مين؟
ردت بهزء لاذع
- ليا غيره؟
فرد ظهرُه مُجيباً
- في موعد للزيارة
قضبت جبينها قائلة بإعتراض..
- متفقتش معاه على كدة
- دي سياسة المُستشفى، زيارتين في الأسبوع
- هتحرموني منه!

أبتسم لها ناهضاً، إنه يستفزها، تابعته وهو يُخرِج ظرف من جيبه وقدمه لها
- من يونس
أخذته منه بلهفة لتفتحه بتعجل، بينما أوقف التسجيل وأخذ أغراضه مُغادراً بهدوء.
- أنا دايماً جنبِك ومعاكِ، حتى روحي للشُباك، هتلاقيني قُدامِك.

نهضت سريعا وبحماس شديد للنافذة لتقف خلف زجاجها وحدقتيها تبحث عنه في الأسفل، وقد وجدته؛ رفع ذراعه من الأسفل مشيرا لها وإبتسامة صغيرة تحتل شفتيه، إبتسمت هي أيضاً لكن بحزن قضى على الحماس الذي لمع في حدقتيها.

بينما هو في الأسفل، يرسم إبتسامة مُزيفة يخفي خلفها ألم يسكن بين ضلوعه وثُقل يزداد على أكتافه، لم يخبرها عما يحدث وما على وشك الحدوث، فقد أشنت خديجة الحرب عليه لتُعيده، بدأت في إسقاطه وأخذ كل ما يملك حتى تُعيده لها بطريقة مُذلة.
لم يتوقع أن الأمور قد تصل لهذا السوء، لكنه أدرك أنه فعل الصواب في إدخالها للمستشفى حتى يُبعدها عما يحدث ويواجهه هو لوحده، ودون أن يُشعرها بشيء.

1/10/2019
الجلسة الرابعة
- مش هنتكلم النهاردة عن حاجة مُعينة، هسيبيك انتِ تتكلمي عن أي حاجة عايزاها، حتى لو حاجات مش مُرتبطة ومُشتتة، عايزِك النهاردة تجمعيلي كلامك المُبعثر جواكِ وتشاركيه معايا، موافقة؟
أنتظر نادر ردها وقد أطالت حتى منحته إياه، تحدثت مُباشرةً، أخرجت ما يدور بداخلها.

- مش عارفة لية لسة مستنياهم يحبوني ويعاملوني كويس!، لية حاطة آمال فيهم بعد اللي عملوه؟، إزاي مستنية حاجة منهم؟ هو أنا عبيطة؟
رد عليها موضحاً
- انتِ لسة جواكِ الطفلة اللي أهملوها واللي مشبعتش منهم، جواكِ أروى الصغيرة اللي كانت بتتمنى تعيش حياة سعيدة مع أمها وأبوها اللي أختارتهم
أعترضت بضيق
- بس كان المفروض أكرههم
أنتقلت لحديث آخر.

- قبل كدة كنت هولع في البيت، معرفش ازاي الفكرة دي جتلي بس كنت عايزاهم يلاحظوا وجودي ويقلقوا عليا، بس دة زاد من كرههم ليا وبس
سألها...
- مخوفتيش على نفسك! أنك ممكن تموتي في الحريق دة وهما كمان؟
- مكنتش خايفة لأن كان هدفي اقلقهم عليا بس، مخي مراحش إني ممكن أموت
حركت حدقتيها له، أقرّت
- أنا عمري ما كنت عايزة أموت، كنت عايزة بس ينتبهولي، يهتموا بيا ويقلقوا عليا
تنهدت وهي تُضيف.

- كنت أحياناً بتعامل معاهم بقلة ادب بس لو لاقيتهم كويسين معايا بقلب لطفلة، برجع اروى اللي عندها ست سنين واللي كانت عايزة حبهم وبس
- كان بيحي عليهم وقت ويعاملوكِ كويس؟
- قليل جداً، كام مرة تتعد على الصوابع
هز رأسه بتفهم، وطرح سؤال من عنده هذه المرة
- مكنش عندك صُحاب خالص يا أروى!
- كان عندي واحدة
- مين؟
إبتسمت
- رهف، عروستي
كما توقع، طالبها بتفاصيل فأعطته.

- كنت بتكلم معاها وبشتكيلها عن تصرفاتهم معايا وخبثُهم، كانت هي ويونس أقرب اتنين ليا
تطلعت إليه تسأله بحيرة
- هو أنا كدة مجنونة؟
صحح لها..
- انتِ موجوعة
ضم نادر كفيه لبعضهم البعض سانداً بمرفقيه على فخذيه قائلاً
- تعرفي يا أروى إن مرضك سهل يتعالج!، وإن ممكن تتعايشي معاه وتعالجيه بنفسِك!
- وأية هو مرضي؟
- جاوبيني الأول، أمتى هتبقى حياتِك طبيعية؟ امتى هتحسي إنك قادرة تعيشي براحة؟
- لما يموتوا.

إنها تقصدهم لا غيرهم، خديجة وإسماعيل، سألها عن السبب
- لية؟
- لأني مش هبقى مُنتظرة حاجة منهم، ممكن أنساهم وأبدأ حياة جديدة
- يعني كل شيء هينتهي لما يموتوا!، طب لو مماتوش، هتفضلي عايشة كدة؟ هتضّيعي عُمرك وأحلامِك؟
نظرت له بضياع، إنه مُحق، هل ستنتظر ضياع حياتها الباقية ومُستقبلها!
حدثها بحماس وإصرار ليُشعرها بالدعم، لترى أن يونس والعالم معها فتشعر بالأمان والشجاعة.

- هساعدِك تتعالجي، وأنتِ هتساعدي نفسِك، هتقدري تعيشي في نفس العالم اللي هما عايشين فيه، هتاخدي القلم من الماضي اللي بيحركك وتبدأي ترسمي حياتِك بنفسِك وزي ما تحبيها
- بالنسبة للحُفر اللي في روحِك حوليها لمنبت، تُزهر فيه الزهور..
صمتت، ثم تدثرت أسفل الغطاء وقد لاوته ظهرها، هكذا تُنهي الحديث معه، وستُفكر بكل كلمة قالها، إنه مُحق لكنها هل تستطيع فعل ما قاله؟

مر شهر والأوضاع كالآتي..
كان يونس يقوم بزيارة أروى مرة كل أسبوع، وبقية الأسبوع كانا يُقابلان بعضهما عن بُعد من خلال النافذة، ينتظرها هو في الأسفل ويوصل لها الرسائل مع الممرضة أو نادر.
كانت زيارته مُشجعة لها، تزيد من رغبتها في العلاج ليس للعلاج ذاته، بل لتخرج سريعاً وتصبح معه من جديد.
وكانت قد بدأت في العلاج الجماعي، تنضم لمجموعة من المرضى ذو الحالات المُشابهة لها ويتناقشون.

شعرت بالتقدم في السيطرة على إنفعالتها قليلاً وذلك زاد من حماسها بجانب تشجيع يونس لها.
مع بداية الشهر الثاني..
بدأ يونس في التغايب، يزورها مرة والمرة التالية لا يذهبها، حتى مُقابلتهما من خلال النافذة باتت معدومة؛ وحين كانت تسأله كان يخبرها بأنه بدأ في مشروع جديد والوضع صعب، لم يأتي في بالها طرح سؤال عن سبب ذلك وإذ فعلت ما كان ليخبرها بذلك.

الاسبوع الثالث في نفس الشهر الثاني، في منزل إسماعيل
- يعني مُصِرة توقفي في طريقي!
صرخ يونس بغضب أمام خديجة التي أندفعت صارخة أيضاً
- قولتلك مش هخليك تبعد عني يا يونس، وهعمل كل حاجة عشان ترجعلنا وتسيب المجنونة التانية
رفع سُبابته مُحذراً أياها
- توقيفِك لشغلي هنا مش هيمنعني من أني اعمل اللي انا عايزه، وتصرفاتِك هتبعدني عنك أكتر، أفهمي
صرخ مع نهاية جملته ثم أخذ يلهث؛ تدخل إسماعيل بهدوء.

- يا يونس انت عارف اننا بنحبك وأختك بتعمل كدة عشان انت منها، انت واحد مننا..
قاطعه يونس مُشمئزاً رافضاً
- مش عايز أبقى واحد منكم، ميشرفنيش أصلاً
احتقن وجه إسماعيل غضباً، تقدم منه ليقف أمامه مُحدثاً إياه بحدة
- طب أتكلم بأسلوب أحسن من كدة وإلا مش هعمل حساب للعشرة اللي ما بينا
هز يونس رأسه مُشجعه على ذلك بنبرة مُرتفعة
- بظــبط، انا مش عايزة تعملوا حساب للعشرّة
واضاف بخشونة مُهدداً أياهم..

- ابعد مراتك عني وعن طريقي وإلا هتشوفوا تصرف مش هيعجبكم
كانت شهد في غرفتها تمنع نفسها عن الخروج، لكنها لم تستطع أن تصمد أكثر وخرجت راكضة لتعانق يونس مانعة أياه من المُغادرة، باكية
- مليش خال غيرك يا خالو، هتمشي وتسيبيني كدة! طب هتكلم مع مين؟ هفضفض لمين عن مشاكلي؟

ضم يونس قبضته مُحاولاً التماسك أمامها، انه يراها كطفلته، لقد ساهم في تربيتها، كيف سيُفرط بها؟، رفع قبضته وقد فردها ليربت على ظهرها بحنان دون ان يقول شيء، فماذا يقول؟
- يا خالو بقى، أمانة متمشيش..
ابتعدت عنه وقالت بلهفة ورجاء
- انا هقنعهم بـ أروى، هخليهم يعاملوها حلو، بس انت متمشيش
همس بعجز..
- مبقاش ينفع يا شهد
قبل ان تعترض وجدت والدها يسحبها بعنف من أمام يونس موبخها..

- سيبي قليل الأصل يمشي، متبقوش ضُعفاء قدامه، دة ميستاهلش
أخذت خديجة تبكي وهي تراه يتجه يغادر، أستدار قبل ان يخرج من عتبة الباب قائلاً
- أنا هسافر، فمحدش يدور عليا
ثم غادر دون أن ينظر خلفه، يجب عليه إغلاق هذا الباب.

في مستشفى الأمراض العقلية
كان يوم زيارته لها، جلس على الكرسي المجاور لسريرها التي تجلس فوقه مُقابلة اياه، تهز قدميها وهي تتأمله أثناء حديثه معها، مدت يدها فجأة لتتلمس وجنته بدفيء، هدرت بخفوت ناعم
- مال وشك بهتان كدة!، قولي المخبيه عني!
تعلقت حدقتيه بها وبداخلها يتخبط، أيخبرها أنه سيسافر لأجل العمل؟ ماذا سيكون رد فعلها؟ خائف من إعتقادها الخاطئ به، إنه تخلى عنها، إن سفره حجة للإبتعاد.

وحين يفكر في الحل البديل وهو عدم إخبارها، يرى أن نتيجة غيابه دون إخبارها ستكون أسوء.
- متترددش
منحته إبتسامة مُشجعة وهي تنطق بحروفها الناعمة، أمسك بكفها الآخر ضاممه لقلبه
- أتاكدي اني عمري ما هتخلى عنِك، انا دايماً هبقى معاكِ وجنبك
ازدرد ريقه بتوتر قبل أن يتشجع ويخبرها
- أنا هسافر..
صمت لوهلة ليرى تعبير وجهها لكنه كان جامد، تابع..

- هسافر عشان المشروع الجديد اللي حكيتلِك عنه، المشروع اللي هنبدأ حياتنا بِه هناك، هو شهر واحد بس وهرجع لك
أنتظر أي رد منها، لكنها ظلت صامتة تنظر له، ترقرقت الدموع في عينيها وقد اخفضت كفها لجانبها، تنهد بألم
- متصعبِهاش عليا، أمانة عليكِ، خليكِ واثقة فيا، عمري خذلتِك؟
هزت رأسها نفياً، عانق وجنتها بكفه
- وانا وعدتِك وهنفذ وعدي، بس استنيني الشهر دة، عايز امشي وانا مطمن عليكِ.

رفعت كفها لتضعه فوق كفه، بينما أضاف مُبتسماً
- بس عايز أرجع الاقيكِ كويسة، أحسن من دلوقتي، أرجع اخدِك علطول، توعديني؟
فرت دموعها لتمر بين كفيهما، اماءت برأسها هامسة
- أوعدِك
نهض مُعانقاً اياها بقوة، مودعها، ضمته بدورها وهي تبكي.

بعد اسبوع..
كانت أروى جالسة أمام نافذتها تنظر للشارع بهدوء، سمعت صوت فتح الباب لكنها لم تستدير لإعتقادها انها الممرضة، لكن انعكاس صورة خديجة على زجاج النافذة التي تجلس أمامها قطعت انفاسها، هل تتخيل؟ استدارت بفزع لتتأكد إذ كانت موجودة فعلاً وكانت كذلك، جحظت عينيها وتلاحقت انفاسها بعد إنقطاعها.
- وانا بقول هو مخبيها فين!، بس طلع حاطِك في المكان الصح.

هدرت خديجة بخبث وشماتة استشفتها اروى بنبرتها وتألمت منها، أنه آخر شيء كانت تُريده، ان تراها خديجة هنا، وبهذا الوضع المثير للشفقة.
- بتعملي اية هنا؟
اخرجت اروى حروفها بألم ظاهر جلياً على صوتها، ابتسمت خديجة بسماجة
- جاية أطمن عليكِ
- نعم!
كادت ان تُصدقها، لكن سخريتها التي لحقتها كصفعة أفاقتها
- متصدقيش بسرعة كدة، جاية اشوف اخويا ازاي سابِك وهرب، ازاي مختارش حد فينا
هتفت اروى مُصححة لها.

- هو اختارني، هو سافر عشان...
قاطعتها خديجة بجحود مع اقترابها البطيء
- ضحك عليكِ يا غبية، هو هرب منِك
- انتِ كدابة، بتحاولي تخدعيني عشان..
ابتسمت خديجة بشماتة صارخة ليطغى صوتها على صوت أروى
- طول عمرِك عال علينا، محدش عايزِك
دفعتها أروى بقوة صارخة، رافضة ما تقوله خديجة، إنهارت على الارض وهي تصرخ وتبكي واضعة كفيها على أُذنيها، بينما كررت خديجة كلماتها دون إشفاق على حالتها.

دلفتا المُمرضتين راكضتين إليها، اتجهت واحدة منهم لتُحضر حُقنة مُهدأة بينما الأُخرى تحاول السيطرة عليها، بعد لحظات، وصل نادر، أخذ الحُقنة من الممرضة ليحقن اروى بها بمساعدة الممرضتين، خلال دقيقتين هدأ فركها وخملت حركتها حتى استقرت انفاسها، حملها ليضعها على الفراش، سأل الممرضة
- حصل اية؟ لية وصلت للحال دة؟
- كان عندها زيارة
- مين؟
- والدتها
كم هي وقحة!، احتدت نبرته وهو يسألها.

- ومين سمحلها تزورها؟، مين؟
جفلت الممرضة، أجابته
- اسأل في الريسبشن، انا بس وصلتها للاوضة
خرج بغضب لموظف الاستقبال وعلم ما حدث منه، صرخ بهم لإهمالهم فقد أخبرهم سابقاً بعدم السماح لأحدهم بزيارتها سوى يونس، نبههم مرة اخرى بذلك، وأكثر صرامة.

بدأت حالة أروى تتدهور بعد زيارة خديجة، لم يكن لها رغبة للعلاج، لقد نجحت الاخيرة في إدخال الشك مرة اخرى لقلبها ناحية يونس، حتى انها اقتنعت بأنه تخلى عنها وقد حاولت ان تنتحر لكنها لم تنجح بهذه المحاولة.

تغيرت حالتها، لم تعُد تقبل الحديث مع نادر وأخد جلساتها، حتى إنها توقفت عن الإختلاط مع مجموعتها، أنعزلت في غرفتها تأكل بقلة، وشاردة بقية اليوم حتى أن نادر بدأ يلاحظ شرودها الطويل حتى إنتابهُ الشك، وكان شكه في محله وقد تأكد من ذلك بعد مرور فترة ليست بالقصيرة، تأكد انها بدأت في الانغماس بأحلام اليقظة.

لقد لجئت لأحلام اليقظة حتى تستطيع إكمال حياتها بعد فشلها في التخلص من حياتها، لقد وجدت المُتعة فيها، تحقق أحلامها فيها ورغبتها والحياة التي تمنتها دائماً.
جعلت خديجة و إسماعيل شخصين جيدين، يُعاملانها بطيبة وكأنها أبنتهم، كما تمنت، وجعلت من شخصياتهم الكريهة في واقعها والدّين مجهولين في خيالها، يحميانها هما منهم.
جعلت من شهد شخصية حاقدة من وجهة نظرها، شخصية غريبة عنها تحاول سرقة يونس منها.

كما جعلت من دُميتها رهف صديقة حقيقة في خيالها.
أما يونس جعلت شخصيته مُختلفة تماماً عن واقعها لكنها ستجعله يحبها، بل يتعذب في حبها سراً، أرادت ان يصبح هناك دراما بقصتها معه، أم لأنه خذلها!
تظل شاردة لساعات طويلة، لا تعود للواقع ولا تستجيب لمنادات الممرضة أو نادر إلا قليلاً.
مر شهر على هذا الوضع، حتى أنها كانت ترفض العلاج، تُريد أن تُكمِل العيش في رسم سيناريوهات تُريحها وتُسعدها.

في إحدى الايام، جلس معها نادر كالعادة ليتحدث ويحاول إستدراجها للحديث، وقد نجح هذه المرة
- تعرفي أن خديجة وإسماعيل عملوا حادثة وهما دلوقتي في العناية المُركزة!
لاحظ صدمتها التي ظهرت في عينيها والتي تؤكد له أنها عادت للواقع، تسمعه ورُبما تنتظر بقية التفاصيل، لكنه لم يمنحها أياها، أنتظر ان تسأله بنفسها لكنها لم تفعل.
نهض تاركاً أياها، يجب أن تسأله بنفسها، أن تتبادل معه الحديث أيضاً.

أما هي، ربما رأت بصيص من الأمل! ربما شعرت بالسعادة؟، لكن أين يونس، أين هو؟ رغم تأكيد نادر لها بأنه يتصل به ليطمئن عليها إلا انها لن ترتاح إلا إذ رأته أمامها.

15/1/2020
عاد يونس من رحلته، عاد على إتصال شهد التي أخبرته أن والديها على مشارف الموت، وصل له الخبر مُتأخراً لتجاهله لإتصالاتها المُصِرة.
ترك علمه الذي لم ينتهي والذي كان قد أضطر لتأجيل رحلته التي مر عليها شهر، لكنه الان يتركه لأجل شهد أبنه أُخته.
مساء اليوم الذي وصل صباحه كانا قد فارقا الحياة.

في المستشفى..
سار نادر في رواق طويل، توقف أمام غرفة أروى وبرم مقبض الباب، استقر بجانب فراشها وأخبرها بعد صمت قصير
- خديجة وإسماعيل، ماتو
ظل وجهها جامد، حدقتيها مُعلقة ببقعة مُعينة، يبدو انها مازالت في عالمها، لكن بعد دقيقة كاملة حركت حدقتيها لتستقر عليه، ارتفعت زاوية فمها ببطء..
مر شهر على وفاة خديجة و إسماعيل، والأوضاع كالتالي..
لـ شهد..
كانت صفعة قوية مؤلمة بالنسبة لها، لقد فقدت والديها معاً!، أصبحت بلا والدين في لحظة! لا تصدق ذلك ولا تريد تصديقه، ما زادها ألماً أنها احزنتهما الفترة الاخيرة بسبب تذمرها وإتهامهما انهما سبب مغادرة خالها يونس، حتى انها نعتتهم بالظالمين لأجل أروى!

تشعر بالندم، تلعن نفسها لأنها اضاعت لحظات سعيدة واستبدلتها بـ هيجانها عليهما بسبب يونس الذي تخلى عنهم وانتهى، إذ لم تفعل ذلك ما كانت نادمة الان، كانت ستشتاق لهما ولذكرياتها معهم، ربما اشتياقها لعناقهما الدافئ لن يكون مؤلم لهذه الدرجة التي تشعر بها الان، ألم يقتلها ببطء ولا تتحمله.

كان يونس خلال هذا الشهر معها، يحاول مواساتها ومُساندتها بجانب أخت إبراهيم التي لم تتركها بمفردها، كذلك ساعدها في إنهاء بعض الإجراءات المطلوبة.
بينما الحال لدى يونس..
هل كان حزين؟ بالطبع، مهما حدث هي أُخته، رغم بغضه لتصرفاتها إلا انها كانت جزء من قلبه في يوم من الأيام، تمنى فقط أن ما حدث من بغض منها لم يقع، فربما حزن بصدق الان!

ظل مع شهد ولم يُفارقها، من ناحية اخرى، لم يذهب لـ زيارة أروى ولم يجعل نادر يخبرها بأنه عاد لأرض الوطن، لكن الاخير أعلمه أن حالتها ظهر عليها تحسن ملحوظ وأقبلت على العلاج بصدر رحب وحماس! وقد زادت رغبتها بعد مُكالمة يونس لها، مكالمة الفيديو الذي أجراها معها بعد اسبوع من وصول خبر وفاة أُخته.

اثناء المكالمة، لم يتطرق للحديث عن اخته التي وافتها المنية، وهي أيضاً، فقط اخبرها انه سيعود بعد شهر، واعتذر لإنشغاله وعدم اتصاله بها، ولم تتذمر!
بينما أروى...
كانت سعيدة وكأنها بدأت حياة جديدة!، ترى إشراق الشمس في حياتها بوضوح، فقد غادرها من دفعاها للقاع المُهلِك، كان هذا اول دافع لها للعودة للحياة، لإلتقاط انفاسها التي كادت ان تنقطع برغبةً منها.

بعدها وثقت في نادر وأقواله التي تخص يونس لرغبتها في الحياة، لرغبتها في الإنطلاق من جديد، فقد فتح العالم ذراعيه لها من جديد، فلا تريد إضاعة فرصة ذهبية كهذه.
فأتى دافعها الأقوى من جهة يونس التي حدثته وجهاً لوجه خلال هاتف نادر وبعد غياب طويل، كم كان لمكالمته اثر إيجابي ملحوظ.

سألها نادر في إحدى الجلسات التالية، هل تشعر بالحزن لموت إسماعيل و خديجة! ولو قليلاً!؛ نظرت له حينها بشرود تفكر، هل شعرت بالحزن لموتهما!، تبحث عن ذلك الشعور ولم تجده! كيف هذا!
- مش عارفة، بس اعتقد لا، مش زعلانة..
علق نادر بغرض ما..
- بس انتِ كنتِ بتحبيهم
استقر بصرها عيله واجابته بثبات وإدراك.

- كنت بجري ورا شخصيتهم القديمة اللي حبيتها، كنت متمسكة بيهم لأني كنت متعلقة بشخصياتهم القديمة بس دلوقتي اكتشفت اني مبحبهمش!
- وأدركتِ دة بعدما لقيتيهُم هيتخلوا عنك في خيالِك!
اماءت برأسها مؤكدة كلامه واضافت
- حقيقتهم اللي عارفاها كويس غلبت خيالي، رغم اني كنت عايزاهم يبقوا كويسين معايا، بس ادركت دلوقتي اني كنت بتأمل في حاجة مستحيلة
ابعدت حدقتيها عنه لتذهب لنقطة بعيدة، تنهدت مُتحدثة.

- رغبتي في ان يبقى عندي أهل لسة موجودة، بس مبقتش مُتمثلة فيهم
وصلت الابتسامة لثغرها لتزينه بسلاسة، هدرت بنبرة مُرتخية
- مش عارفة لية اتجه تفكيري لكدة دلوقتي، بعد ما ماتو، بس انا حاسة بـ راحة غريبة!
ابتسم نادر وسرد عليها قصة.

- في مريض نفسي أتحول لقاتل بسبب أُمه ومعاملتها الوحشة له، بقى يقتل ويرتاح ويشعر بالرضا لتصرفه، حتى وانه قتل جدته وجده، وكل السلطات كانت بتدور عليه بس معرفوش يمسكوه، بس هو كان ذكي مكنش غير يسلم نفسه، لسة محسش بالراحة المنشودة اللي عايزها، وعارف انه هيوصل لها لما يقتل أُمه واللي هي السبب في حالته، وفعلاً قتلها وسلم نفسه، بعد ما قتلها خلاص مبقاش عايز يقتل حد، حس بالراحة وانه يقدر يكمل حياته بسلام ولو حتى في السجن.

فهمت الان سبب شعورها بالراحة، اتسعت ابتسامتها اكثر وقالت بتحالم..
- انا عايزة اعيش حياة سعيدة أنظمها بنفسي، اني أكوّن عيلة ويبقى عندي بنت اربيها وأحبها واديها كل اللي محستش بِه، هكون وصلت وقتها لرضا تام عن حياتي، عشان كدة عايزة أتعالج
- قولتلك ان في تقدم كبير في حالتك، والتحكم بإنفعالاتك هتبقى مهمتك لما تخرجي من هنا
اتسعت ابتسامتها وهي تؤكد له حرصها على فعل ذلك.

مر شهر اخر..
تمالكت شهد نفسها قليلاً، تقبلت حقيقة رحيل والديها، فيجب ان تقف مستقيمة حتى تستطيع مواجهة الحياة بمفردها، فخلفها مسؤوليات، أولها الشركة الذي تركها والدها لها، والذي انسحب منها يونس اثناء خلافتهما.
بالطبع لن تأخذ مكان والدها، مازالت في الواحد والعشرين من عمرها فكيف ستترأس شركة!، لذا اتفقت مع عمتها انها هي التي ستترأس الشركة.

تشكر خالها يونس لوقوفه بجانبها لكنها تشعر بأنها ثقيلة عليه، يكفي عليه الشهرين الذي قضاه معها لمساندتها.
توقفت شهد أمام يونس أسفل العقار، فقد طلبت منه الحديث، لكنها لا تريد من عمتها ان تسمع حديثهما، اقترح ان يأخذها لمكان يجلسا فيه لكنها رفضت، ستشاركه ما تريد قوله سريعاً ثم تغادر.
- شكراً يا خالو على الوقت القضيته معايا ومحاولة مساعدتك المعنوية ليا
عاتبها..
- شهد، متقوليش كدة دة...
قاطعته بثبات.

- واجبك خلص من ناحيتي، وعايزاك تمشي، تشوف حياتك زي ما كنت ناوي
كاد ان يتحدث لكنها منعته، فهي تعرف جيداً ما سيقوله، لذا ردت
- مش هتعرف تظبط الدنيا، عمر ما أروى توافق انك تبقى جنبي، دة انت حتى مش معرفها انك هنا!
انهت جملتها بسخرية حزينة، ثم اضافت ببساطة..
- وعندك حق انك متقولهاش لانك خايف عليها وعلى حالتها فمش هعتب عليك، ومش هعتب عليها لتصرفاتها معايا، عارفة ان كل دة حصل بسبب اهلي.

اخفضت رأسها وهي تتنهد بثقل، هدرت
- بفكر من الناحية دي وبعذرها، أهلي سبب حالتها، حتى انا كرهتها فيا بس من غير قصد، كنت صغيرة، انا لو مكانها كنت برضه كرهت اهلي بس انا مش هي، مقدرش اكرههم لتعاملهم معاها، كنت ضدهم اة بس مكنتش اقدر اعارضهم زيك لانهم كل اللي ليا، فـ ربنا عوض اروى بيك، وانا مش هبقى انانية، عايزاها تعيش بسعادة، عايزاها تحس بيها لان دة حقها وأهلي حرموها من الحق منهم.

لمعت عينيها بالدموع وهي ترفع رأسها لتنظر لـ يونس، وتُضيف آخراً
- كان نفسي علاقتي مع اروى تبقى احسن من كدة بس معتقدش ان دة هيحصل
كان يستمع لها بتعجب، لقد كبرت وأصبح لديها القدرة لفهم الاخرين، لم تعد الطفلة الأنانية الذي كان يُدللها، ابتسم مع جملتها الاخيرة بإستياء، فهو أيضاً تمنى ذلك.
- امتى كبرتي كدة!
قالها بتساؤل وهو يداعب انفها، فإبتسمت بحزن واخبرته.

- ايوة كبرت، فمتخفش عليا، هقدر أكمل حياتي، وانا مش لوحدي، معايا عمتو؛ ومتقلقش مش هكرهك يا خالو، هتفضل خالي الوحيد اللي بحبه
اقترب منها ووضع كفه على كتفها، مازحها
- شكلك زهقتي مني وعايزاني امشي!، يا خسارة تربيتي فيكِ
انحنى قليلاً ليوضح لها الأمور بجدية
- انا لما همشي همشي عشان الشغل اللي بدأته، بس دة مش معناه اني هسيبيك، او اني هتخلى عنك، مش معنى سفري اننا نقطع علاقتنا بالعكس
اعتدل قائلاً بتفاؤل.

- وبالنسبة لـ اروى ممكن في يوم من الايام تقدر تتخطى مشكلتها معاكِ وتقربوا من بعض زي ما بنتمنى، متأكد ان دة هيحصل
همست دون الشعور بوجود احتمال كهذا
- ممكن!

مع بداية الشهر الثالث..
- ازاي مش هتيجي!، انت وعدتني اني لما اخرج تبقى هنا معايا، نسيت!
قالتها أروى بحزن وعتاب عبر الهاتف، رداً على اعتذار يونس عن مجيئه بحجة العمل، مرة اخرى!، انخفض كتفيها بإستياء وهي تستمع لإعتذاراته، انها لا تريدها، تريده ان يأتي، لا ان يعتذر عن مجيئه.

ابعدت الهاتف عن أُذنها بعنف واتت ان تلقيه لكنها تمالكت اعصابها بمهارة، نظرت لـ نادر الذي ابتسم برضا، أعطته الهاتف، ثم هدرت مُحدثة نفسها أم نادر! لا يهم.
- ازاي هيسبني بكرة لوحدي!، بيقول لي انه ظبط الدنيا ليا، اول ما اخرج هلاقي كل حاجة متظبطة من الفندق إلخ، لغاية ما نسافر، مش مستوعبة كلامه بجد.

انتهت لاهثة من انفعالها، لا تصدق تصرفه، كيف لم يفكر بها بإهتمام أكثر!؛ تأففت بقوة وهي تضرب بقدميها الفراش قبل ان تلقي بجسدها وتضع الغطاء لرأسها كطفلة مُتذمرة غير راضية.
حين سمعت صوت إغلاق الباب ابعدت الغطاء عن وجهها، حدقت في السقف ودموعها تسيل على وجنتيها بحزن، لم ترد شيء إلا وجوده بجانبها في لحظة مهمة كهذه.

خطر في بالها سؤال أرادت الهرب منه لكنها لم تستطع، ارتجف قليها حين تردد بداخلها، هل سيتخلى عنها تدريجياً!
هزت رأسها بعنف طاردة هذه الأفكار السيئة، لا تريد ان تصبح سيئة الظن به، لا تريد العيش على السلبية.

مساء اليوم التالي
نظرت أروى لصورتها المُنعكسة على المرآة بسعادة ناقصة، سعيدة لخروجها ولتغلبها على مرضها، لكن سعادتها لم تكتمل بسببه، كانت تتمنى وجوده معها.
استدارت وهي تسمح للطارق بالدخول، كان نادر
- جهزتي!
سألها مع ابتسامة صغيرة طالما كانت موجودة، هزت رأسها دون حماس، تحركت من مكانها لتحمل حقيبتها، استقامت وتقدمت لتقف مُقابلة له، نظرت له بود قائلة بإمتنان صادق
- شكراً جداً.

رغم انها كلمة صغيرة إلا ان معناها وصل له بمشاعر قوية، اخفض رأسه وتحدث..
- كنتِ سألتيني في أول جلسة إذ هعرف أعالجك، بس في الحقيقة أنا بساعدك انك تلاقي نفسك، تعرفي طريق علاجك، بعدها أنتِ اللي بتعالجي نفسك، فأنا اللي بشكرك لأنك اتغلبتي على نفسك
ابتسمت بتأثر وقد لمعت عينيها بالدموع، رفعت إبهامها مُحذرة اياه بمزاح
- متفتكرش ان كدة علاقتنا انتهت يا دكتور
ارتفعا حاجبيه بذهول
- مكنتش أتوقع تقول لي كدة!
- لية؟

- كنت شايف لهفتك تخرجي من هنا وتنسي الفترة دي
مثلت عبوس وجهها قائلة بضيق مزيف
- يعني مش عايز نبقى صحاب!
ابتسم ورد بسلاسة..
- دة شرف ليا
ابتسمت بدورها ومدت كفها لتصافحه، قال بلطف
- أية رأيك أوصلك؟
لم ترفض، لكنها سألته بشك
- يونس اللي قالك توصلني عشان حاسس بالذنب انه سايبني لوحدي!، صح؟
تعالى رنين هاتفه، اخرج هاتفه ناظراً لشاشة هاتفه بجانب قوله لها
- استنيني تحت وانا هلحقك
ثم تركها، ففعلت كما أخبرها.

بعد عشر دقائق انطلقا معًا؛ لاحظ شرودها وحزنها أيضًا لكنه لم يُعلق.
بعد فترة وجيزة، أوقف سيارته وأخبرها
- وصلنا
استيقظت من شرودها، رفعت رأسها ناظرة له ثم أماءت برأسها قبل ان تستدير لتترجل، لكن يدها توقفت على المقبض أثر ذهولها وتعلق حدقتيها بمدخل العقار الذي أًمامها، أنه مُزين بالورد والبلالين و يونس يتوسط كل هذا الجمال!

اهتزت حدقتيها بعدم تصديق وترجلت بصدمة، إتجهت إليه ثم توقفت في المنتصف وهي تتنفس بسرعة من شدة المشاعر التي عصفت بها، وضعت يدها على قلبها الذي يقرع كالطبول، فرقت شفتيها مُتحدثة بحروف مُرتجفة..
- انت هنا!
تحرك من مكانه وتقدم منها والأبتسامة لم تُفارق شفتيه، توقف مُقابلاً لها، ألتقط كفيها بين كفيه لتشهق هي لحقيقة وجوده هنا، اعتقدت للحظة انها تتخيل!، همس بحنو
- أيوة، أنا هنا.

امتلأت عينيها بالدموع سريعاً لتنهمر بعدها بشدة، تبكي من فرط سعادتها!، بِم يخذلها، انه هنا، لقد أراد مُفاجئتها فقط.
عبس حين رأّها تبكي هكذا، لقد أراد صنع ذكرى جميلة لا تنساها في مثل هذه اللحظة، فلماذا تبكي الان؟، هل اخطأ لفعل المُفاجئة بهذه الطريقة!
مال عليها محتويها بنظراته القلقة
- بتعيطي لية؟ عملت حاجة غلط!، أنا معملتش كدة عشان تعيطي
سحبت إحدى كفيها لتضربه بخفة على صدره مُعاتبة اياه ببكاء.

- لية قولت انك مش جاي! خليتني أفكر أنك هتتخلى عني مع الوقت
تغيرت نظراته للعتاب لتفكيرها الظالم به، ضغط على كفها الذي مازال كفه يحضنه
- قولتلك عمري ما هتخلى عنِك..
هدر بنبرة عميقة دافئة كالعادة
- كنت عايز بس أفاجئِك، يعني أزاي هسيبك في يوم مهم زي دة لوحدِك!، مستحيل أعمل كدة
ثم هز رأسه مُعتذراً
- بس أنا أسف
تأملها وعاد ليبتسم من جديد، يُريد ان يرى إبتسامتها التي لم تُريها له للآن!

ابتعد خطوة وقبّل يدها، لحق فعلته بجثوّه على الأرض على إحدى رُكبتيه مُخرجًا خاتم من جيبه مُقدمه لها، عرض عليها بحماس..
- تتجوزيني يا أروى؟
إتسعت مقلتيها وأنقطعت أنفاسها أثر صدمتها، لم تستوعب وجوده تمامًا حتى تستقبل مُفاجئته الأُخرى والأكثر جمالاً، لم تكن لتتخيل عرضه هذا الآن!
- عايز نسافر وانتِ على أسمي وزمتي
ضحكت من بين بكاءها، هزت رأسها موافقة، وكيف سترفض وهي كانت تنتظر هذه اللحظة منذ زمن!

- موافقة طبعًا
اتسعت إبتسامته بسعادة وقام بإدخال الخاتم في أصبعها، نهض والسعادة تلمع في عينيه والابتسامة تكاد تصل لأُذنيه، همس بحماس
- الشيخ والمأزون فوق مستنينا
تقدم نادر منهم وهو يشعر بالسعادة لهما، نظرت له أروى وقالت بضحك ممزوج بنبرتها الباكية اثناء مسحها لدموعها
- لعبتوها صح
ضحك رافعاً كتفيه ببراءة مُشيراً بعينه لـ يونس ؛ عانق الاخير كفها ليسيرا للعقار قائلاً بخبث
- يلا بقى عشان مستعجل.

ضحكت أروى وسايرت خطواته بنفس حماسه.

توقف نادر قبل ان يدلف للعقار لينظر لبقعة بعيدة تقف فيها شهد وتشاهدهم من بعيد؛ لقد أخبرها يونس عن مُفاجئته الذي سيفعلها لـ أروى، لم ترد أن تأتي لكنها لم تستطع، أرادت ان تُشارك خالها سعادته وإن كانت بعيدة، رغم شعور بغيض راودها لوهلة لإكماله لحياته بهذه البساطة بعد موت أُخته لكنها لم تسمح لهذا الشعور الغير مُنصف السيطرة عليها، كما انها أرادت أن ترى سعادة أروى التي تستحقها بعد ظلم والديها لها.

إبتسمت لكن الحزن مازال يكسو ملامحها، إبتعدت مُغادرة تحت أنظار نادر المُتعاطفة.

بعد اسبوع..
كانا قد انتهيا من شهر العسل والذي لم يستطع يونس إطالته أكثر من اسبوع بسبب العمل الذي ينتظره.
في الطائرة، كانت أروى تستند برأسها على كتف يونس بينما تعانق ذراعه وكفها مُتعلق بكفه، لقد كانت سعيدة، سعادة لم تشعر بها منذ مدة، انه تعويض الله لها وما أجمل تعويض كهذا مع من تحب.
طبقت جفونها بإسترخاء بينما أخذ يسير بأنامله بخفة على ذراعها، توقف فجأة حين سألته
- بتكلم شهد؟
ازدرد ريقه مُتسائلاً.

- اية اللي فكرِك بيها؟
هزت كتفيها مُجيبة..
- مش عارفة جت على بالي
اعتدلت مُبتعدة وهي تفكر
- أكيد كلمتها واطمنت عليها..
نظرت له وأضافت ببساطة أدهشته
- عمومًا مش مشكلة، دة واجب عليك
ارتفعا حاجبيه بتلقائية، فأتت بقولها المُشترط..
- بس مطّولش معاها في الكلام
هربت منه ضحكة صغيرة لم تفهم سببها، تساءل
- لية؟
اجابته دون تفكير..
- عشان بغير..
أبعدت حدقتيها عنه وهي تُضيف بتكابر
- عارفة ان غيرتي ملهاش داعي بس برضه.

صمتت لوهلة قبل ان تندفع وتخبره
- ممكن ابقى صاحبتها بدالك، بس انت لا
لم يصدق ما يسمعه، سألها بحيرة
- تصاحبيها بدالي؟ ازاي هتعملي كدة وانتِ..
قاطعته، فهي تعلم ما سيقوله
- عداوتي معاها مبقتش موجودة عشان كنا أطفال وقتها، مش هقول اني بحبها دلوقتي بس عشان أتجنب مشاكل ممكن تحصل مابينا بسبب غيرتي
أصبحت مُتصالحة مع ماضيها وراضية، كما انها أصبحت مُتفهمة، وكم هذا أسعده؛ ضحك وجذبها لصدره مُقبلاً جبينها، همس.

- زي ما تحبي.

في مصر..
الساعة العاشرة مساءً
التقطت شهد هاتفها لتنظر لرقم نادر الذي يتصل بها، تعلم ان يونس أوصاه عليها لثقته به لكنها تشعر بالضيق من هذا، فهي تشعر بأنه يشفق عليها، شعور فقط، ولمجرد التفكير بذلك يزعجها.
ردت على اتصاله لكنها لم تتحدث، بادر هو
- شهد، عاملة اية؟
ردت عليه بجمود
- كويسة
تساءل بعفوية
- مال صوتِك في حاجة؟
اتى ردها العنيف..
- ايوة، تحب تعرف؟
- أنا سامعِك
انفجرت به..

- ياريت متكلمنيش تاني ولا تطمن عليا، عارفة ان خالو قالك بس اهو أنا بقُلك متتصلش
- طيب في سبب؟
هتفت بإنزعاج
- هو لازم يبقى في سبب!
سمعت صوت تنفسه الذي تعكر، بعدها بثوان رد بسلاسة وصوته الرزين
- طبعًا هحترم رغبتِك، بس في أي وقت حبيتي تتكلمي مع حد أنا موجود، أو لو احتجتي مُساعـ..
قاطعته بفظاظة قبل ان تُغلق الخط
- سلام
أنه يشفق عليهم بحق!، ألقت بالهاتف على فراشها بقوة وهي تتأفف.

بعد مرور أربعة أشهُر
مساءً
- يونس!
غمغم بتعب وهو يكاد ان يُسحب في سُبات عميق، أتت أروى بقولها الخافت
- عايزة أقولك على حاجة
- سامعِك..
قالها وهو يتثائب مُحاولاً فتح عينيه، إبتسمت وهي تُفجر له الخبر بهسيس جانب أُذنُه
- أنا حامل
- ماشي
قالها بروتينية قبل ان يستوعب ما قالته لتتفرق جفونه إلى مُتسعها بصدمة ناظراً لها
- نعم!
أنتفض من مكانه جالساً فصدم رأسها من سرعة حركته فتأوهت، أسرع ليمسح على رأسها مُعتذر.

- أنا اسف، وجعتِك؟!
ضحكت مُطمئنة أياه، تنهد براحة ثم لمعت حدقتيه وهو يسألها
- حقيقي اللي قولتيه؟ أنتِ حامل؟
التقطت أنفاسها وهي تومأ برأسها مؤكدة ما سمعه، ضحك بقوة وهو يعانقها ناهضاً ليدور بها وضحكاتهما ملأت الأرجاء بسعادة حقيقية، توقف مُعيدها للأرض دافناً وجهه في رقبتها مُقبلاً أياها بحرارة، همس بين خصلات شعرها بسعادة غامرة..
- وهيبقى عندي بيبي منِك!

مررت أناملها على خصلات شعره وهي تضمه أيضاً، همست وهي على وشك البكاء من سعادتها
- أنت مصدق!
أبتعد عنها قليلاً وظلت ذراعيه تحاوطها، عانق وجهها بكفه ومُتمتم
- الحمدالله
حدقت به وقد سالت دموعها، وضعت كفها على بطنها وهدرت بنبرة حالمة
- حصل اللي اتمنيته، هيبقى عندنا بيبي، هحبه وههتم بِه وأعملُه كل حاجة متعملتليش
أضاف على قولها
- وأنا ههتم بيكم انتم الاتنين، بس بيكِ أكتر.

وغمز لها، فضحكت من بين دموعها وأيدته بدلع
- ايوة عشان مغيرش
ضحك هو الاخر وقربها منه مُقبلاً جبينها بقوة ثم أراح رأسها على صدره ويشكر الله على هذه النعمة.

- رايح فين؟
سألته أروى وهي تضع كفها على بطنها التي ظهرت بوضوح وجلست بحذر، أجابها وهو يرتدي قميصه
- هروح أخد نادر من المطار
تفاجئت..
- اية دة هو جي؟
- ايوة، ومش لوحده
عقدت أروى حاجبيها بحيرة
- مش لوحده!، مين ممكن يجي معاه؟
إبتسم يونس بخبث وصمت، اندفعت بخفة للأمام بينما مازالت جالسة، هتفت برجاء
- يونس، قول يلا..
أستدار وأقترب منها، جثى امامها مُمسكًا بكفيها قبل ان يفصح عن الإسم.
- شهد
- شهد!

إتسعت مقلتيها قليلاً قبل ان تتساءل بتفكير
- بس أية اللي جايبها معاه؟
حدقت به بإنفعال وهي تهتف بقوة
- ثواني هي جاية على هنا؟! وانت هنا؟ بتهزر؟
فلتت منه ضحكة كتمها سريعًا، ضغط على كفيها الذي يُعانقهما بكفيه، تحدث بلطف وهدوء
- ممكن تهدي!
- سامعاك..
- هتشتغل هنا
- والشركة؟
رد بساطة
- هتسيبها لعمتها، هي عايزة تشتغل في مجالها
هدرت بإنزعاج
- وملقتش غير البلد اللي احنا فيها!
- عشان هساعدها هنا.

عضت شفتها القلية بغيظ وهي تحدق به بعدم رضا، نهض وجلس بجوارها
- مش أتخطينا النقطة دي؟، ومش بقيتي تكلميها عادي!
- ايوة؟ بس كُنا بُعاد برضه، دلوقتي هي هتشوفك
تنهد بعمق وهو يشعر بالإرهاق من هذا الامر، لكنه لم يُظهر لها، يُريد إرضاءها فقط.
- مش هشوفها غير وانا معاكِ، اتفقنا؟
هدأ إشتعال حدقتيها برضا وأبتسمت، منحته قُبلة سريعة قبل ان تنهض ببطء وتتجه للخزانة، تساءل
- بتعملي اية؟
- جاية معاك.

هز رأسه وهو يضحك، لا فائدة، لذا لم يُعارضها.

في الطائرة..
لم تكُّن شهد مُرتاحة، كانت تشعر بالحرج من موقفها الفظ الذي مر عليه شهور كثير!، أحرجها بتعامله البسيط والغير حاقدة؛ كان نادر يحاول التحدث معها ليكسر ذلك الحاجز، ليس لديه غرض لكن لشعوره بعدم راحتها، ففي النهاية توقف عن التحدث معها مُراعاة لها.
- انا اسفة
أتت بقولها فجأة، حرك حدقتيه ببطء حائر، سألها
- على اية!
أجابته بحرج دون أن تنظر له
- على اخر مرة، كان أسلوبي وحش.

- ياه لسة فاكرة!، دة من عشر شهور ولا اكتر؟
ثم أبتسم مُطمئنًا اياها
- عمومًا أنا نسيت أصلاً، فمضايقيش نفسك
نظرت له بعدم تصديق، تمتمت بريبة
- بجد!
- بجد
أكد لها وهو يكتم ضحكته، أبعدت بصرها عنه هامسة بخجل
- تمام.

هبطت الطائرة وتقابلا، رحبت أروى بـ نادر بقوة بينما دُهشت شهد لحضور الأُخرى الذي لم يخبرها يونس عنه.
حيت شهد يونس من بعيد مُراعاة لـ أروى التي تًسلط عينيها معهما؛ بعدها، توقفت شهد بحيرة لا تعلم كيف ستستقبلها، فـ أروى ظلت واقفة تنظر لها دون ان تتجه لها وهي كذلك، في النهاية أخذت الخطوة لتمد كفها وتُصافحها
- عاملة اية يا أروى؟
صافحتها أروى مُجيبة بشيء من الجمود
- الحمدالله، انتِ عاملة أية؟

إبتسمت شهد قائلة
- كويسة الحمدالله، مبسوطة أني شوفتِك
لحقت قولها بقول اخر وهي تنظر لـ بطن أروى بسعادة
- ماشاءالله بطنك كبرت، في الشهر الكام؟
- اخر السادس
هزت شهد رأسها، تدخل نادر قائلاً لـ أروى
- مبسوط اني شايفِك كويسة
إبتسمت له، بينما رد يونس بتفاخر مرح
- طبعًا كويسة، مش انا جنبها؟
تأبطت أروى ذراع يونس وهي توافقه
- طبعًا
تحركا مُغادرين المطار، طرحت أروى سؤالها على نادر
- هو انت وشهد اتفقتوا تيجوا سوا؟

- لا، جت صدفة
أجابها نادر ثم أوضح يونس
- نادر كان ناوي يسافر الشهر دة وشهد كمان، فسألته لو ينفع يأخر رحلته يومين ويسافر معاها عشان متسافرش لوحدها، فالدنيا ظبطت
هزت رأسها ولم تُعلق.
اقترح نادر ان يتجهوا لمطعم لتناول العشاء معًا، فلم يعترض أحد، قضى الجميع وقت مُمتع لكن أروى شعرت بالتعب لذا غادر يونس بها تاركًا شهد مع نادر حيث سيوصلها بعد أن ينتهيا للفندق التي أصرت أنها ستقيم به.

أنه يثق بـ نادر، وربما يتمنى أن يصبحا أصدقاء او اكثر، فلن يجد أفضل منه لـ شهد.

دلفا معًا للشقة، لمجرد أن أنار الأضواء حتى وجدها إبتعدت عنه وهي تقول بنبرة حادة
- طلعت بتضحك عليا!
عقد حاجبيه بدهشة
- بضحك عليكِ! في اية؟
- كنت بتكلم شهد
- ايوة طبعًا، مش بكلمها معاكِ!
هتفت بإنفعال مُكذبة أياه
- لا بتكلمها وانا مش معاك، أومال ازاي كلمتها وعرفت إنها جاية في نفس الاسبوع اللي جاي فيه نادر؟
- انتِ فاهمة غـ..
لم تسمح له بالإكمال وقاطعته
- انت اديتني كلمة ودلوقتي بتعمل اية؟، بتستغفلني.

- بقولك..
- مش عايزة اسمع حاجة منك
ألقى بالمفاتيح على الأرض يعنف وهو يصرخ بغضب بسبب أسلوبها المستفز، لماذا تُقاطعه وتمنعه عن الحديث! أليس له حق الكلام!
- خليني أكمل كلامي..
جفلت من فعلته، حدقت به بصدمة وهي تراه غاضب بهذه الطريقة، لم تره سابقًا هكذا.
وضح لها بصراخ، فهو غاضب، ربما مُسايرتها لهنا أرهقته، وضغطها أكثر عليه جعله يفقد سيطرته على نفسه.

- كان يومها انتِ تعبانة ومكلمتِهاش وهي أتصلت عشان تستشيرني فرديت، ولا عايزاني أجي جمبك وانتِ تعبانة واقولك انا هكلمها يا أروى! وأخذ إذنك!
التقط انفاسها اللاهثة للحظة قبل ان يُضيف
- أنا بعمل كل دة احترامًا ليكِ ومراعاة لمشاعرك، فلوسمحتِ متضغطيش عليا اكتر
انهى قوله بإرهاق بدى جليًا على حروفه الأخيرة؛ أستدار مُغادرًا تاركها مصدومة خلفه.

تراجعت للخلف لتجلس على الاريكة وقد إمتلأت مقلتيها بالدموع، أنفجاره بها جعلها تفتح عينها وترى كم هي أنانية! ربما الغيرة دفعتها للتحكم به وقد تحولت لحبال تخنقه، لكنها لم تُلاحظ هذا، كان يجب أن تُعطيه الحرية، ان تتحكم في غيرتها ناحية شهد لا أن تضع قيود غبية حوله.
أخرجت هاتفها من حقيبتها التي مازالت ترتديها لتتصل به لكنه لم يُجيب، فأرسلت رسالة صوتية، تعتذر منه وهي تبكي.

- يونس، انا اسفة، مكنتش أعرف اني ضاغطة عليك كدة، المفروض كنت أراعي شوية ومفكرش في نفسي وبس، انا اسفة بجد
اخذت تنتحب وهي تُضيف
- كنت تقول لي وكنت هفهم، بس متسيبنيش كدة، متسبنيش لوحدي
أبعدت الهاتف عن اذنها وهي تبكي، هل سيتركها بمفردها وينام خارجًا!

بعد دقيقة، دقيقة فقط وجدته يفتح الباب، فهو لم يُغلقه ولم يُغادر، بمجرد نزوله للطابق السفلي توقف والذنب والندم ينهشانه لإنفجاره بها، حتى انه قلق عليها، كيف يتركها بمفردها؟، أسرع ليصعد لها، توقف أمام باب الشقة وقبل أن يدفع الباب سمع إعتذارها.

نهضت حين رأته وقد لمعت حدقتيها من بين دموعها، ضحكت بسعادة أو ربما بكت!، أسرع اليها بخطوات واسعة ليصل إليها ويُعانقها بقوة دافنًا وجهه في عنقها هامسًا بإعتذارات كثيرة، ومن بينهم
- انا اسف اني اتعصبت عليكِ، انا اسف، اسف، متعيطيش، عمري ما أسيبيك لوحدِك حتى لو متخانقين
تشبثت به فليس لها غيره ولا تُريد، فكم هي مُمتنة للشِباك التي التفت حول بعضها لتوصلها إليه، وكم هو مُمتن لشِباكها التي جذبته لها.

 

النهاية ◄