رواية حب خاطئ الفصل الخامس عشر

 

 

 

- الجميع يحصل على النهاية التي يستحقها دومًا، أحيانا لا تكون سعيده، ولا عادلة ولا حتى حزينة، يُمكنها أن تكون مُبهمه، أو مُحيرة، فمن الذكاء أن تخطط بإتقان كي تدمر حياة أحدهم، ومن الدنائه أن تتفانى في تنفيذ هذا متواريا عن الأنظار، فإن السعي للإنتقام بمثابة قطع تذكرة للموت فلا تلوم سوى نفسك -.

ضربت الفرس خاصته بحافرها أرضًا وعلا صوت صهيلها المُهتاج وهي تتحرك في كشكها الخاص بقوة دافعا الجدار الخشبي بجسدها وهي تطوح برأسها يمينا ويسارا، ثائرة تريد الخروج بأي طريقةٍ.
تحركت ليلى في نومتها بعدم راحة بسبب القش المفترش الأرضيه والذي التصق على جسدها علاوة لصوت ندي المُرتفع المزعج خلافا لصهيل كل يوم الهادئ المحبب سماعة.

تثاءبت بكسل وهي تفتح عينيها ببطء وابتسامة ناعمة تعلو ثغرها الرقيق، مدت ذراعها بجانبها تتحسس جسد عمّار بكفها ولم يقابلها سوى القش.
عقدت جبينها وانتصبت وجلست بتبعثر وهي تبحث عنهُ بعينيها النصف مغلقة بتعجب، فليست من عادته تركها وحدها قبل أن تستيقظ، إنه يظل بجانبها ولا يتحرك قبل أن يخبرها بوجهته. أين ذهب الآن؟

وجدت نفسها ترتدي قميصه فأغلقت أزراره ووقفت وأبعدت الباب الخشبي وخرجت تبحث عنهُ في الاسطبل وهي تهتف بإسمه بخفوت وعينيها تجيل في المكان: عمّار، إنت فين؟ عمّار، عمّار!
تنهدت بحزن بسبب خلو المكان منهُ وتقدمت من ندي بعبوس، أمسكت برأسها وأخذت تمسح على وجهها بحنان محاولة تهدئتها وهي تسألها بإحباط بسبب عدم وجوده: بتدوري على عمّار زيي؟

حركت رأسها بقوة وعادت للصهيل وهي تتحرك فابتعدت ليلي قليلا إلى الخلف وراقبتها بقلق بسبب حالتها الغير مسبوقة، فظنت أنها تتألم أو بها خطبا ما لأنها حامل.
عادت للإقتراب وأسندت جبينها فوق وجهها وأخذت تمسح على شعرها الذهبي برفق هامسة بمواساة: هدور عليه وهبعتهولك.

تركتها وهرولت تجاه الباب حافية القدمين تفتحه من الداخل لأن عمّار أغلقه أمس عليهما، وعادت وهي تنظف شعرها من القش العالق به وهي تقهقه ولا تعرف ما السر في كونه يُحب أن يختلى بها في غير غرفة النوم!
ذهبت إلى الأسفل تبحث عنهُ بلهفة فلم تجده بأي غرفة، فتحت غرفة الرياضة على أمل ايجاده وهي تقول بسعادة: عمّار كُنت عارف أنـ، عمّار! كمان هنا لأ!

أنهت قولها الأخير بحزن وهي تنظر في أرجاء الغرفة الفارغة منهُ ثم صعدت تبحث عنه في حجرتهما والقلق بدأ يساورها، أنهت بحثها في الأعلى بأعين دامعة والخوف يستوطن قلبها، فأين ذهب و تركها وحيده؟

أخذت حمامًا دافئا تهدئ من روعها قليلا، فرُبما يكون في الأسفل مع والده أو يفعل أي شيء أخر، هذا ما كانت تواسي قلبها به لكن في قرارة نفسها تعرف أنه ليس في المنزل، لقد اتفقا معًا ووضعا كُلًا منهما الكثير من القواعد والعادات التي لا يمكن مخالفتها أو التغافل عنها وما يحدث الآن ليس من ضمن القائمة، هو لا يتركها قط، بل يظل بجانبها طوال الوقت كـ طفلٍ مُتعلق بوالدته لا يُريد الإفلات.

انتهت سريعًا وجففت شعرها وارتدت ملابسها وانحنت تنتعل حذاءها فوجدت هاتفه ملقى فوق الأريكة بإهمال، تفاقم قلقها وهرولت إلى الأسفل تبحث عنهُ وهي تدعو أن يكون في الأسفل، فلن تستطيع أن تصل إليه إن كان في الخارج ولا يملك هاتفًا.

دخلت المطبخ وهي بالكاد ترى رؤية ضبابية بسبب تجمع العبرات فى عينيها تبحث عن منقذتها الوحيده، أمسكت بيد حُسنه عِندما أبصرتها وسألتها بشفتين مرتعشتين وهي تضغط فوق يدها: فين عمّار؟ انا مش لاقياه في البيت خالص راح فين؟
ربتت فوق كفها برفق وأجابتها متعجبة: معرِفش يا حبيبتي مجلش حاجة واصل ولا شفته! تلاجي أبوه شيعه يعمل حاجِة إكدِه ولا إكدِه متخافيش عاد!

هزت رأسها بنفي بقلبٍ مُنقبض مُلتاع ومن ثم اجهشت في البكاء من الخوف وهي تقول بحرقة: انا عايزة عمّار هاتولي عمّار.
ربتت حُسنه على ظهرها وبدأ القلق يساورها هي الأخرى لتقول بخوف: بتجلجيني عليه ليه عاد يا حبيبتي!
كادت ترد لكن صباح مرت من جانبها بقدح قهوه يخص متولي، ومن دون تفكير اختطفت الصينية من يدها بقوة دون أن تعبأ بسقوط نصف القهوة وخرجت هي بها كي تقدمها إليه وتسأله عن عمّار.

سارت مهرولة بها وهي تستنشق ما بأنفها، كاتمه أنينها بقوة، تعض على شفتها العلويه بعنفٍ ساحق.
ومالت تضعها فوق المنضدة فسقطت من يدها وصدرت عنها صرخة مدوية عِندما دخل الغفير مهرولا يصيح بوجه شاحب: الحج يا جناب البيه عمّار انضرب بالنار.
سقط قلبها من محله وصرخت بذعر وركضت إلى الخارج خلفه عِندما ركض، وذهب خلفهما متولي بأعين جاحظة من صدمته.

توقفت أمام سيارته ذات الزجاج المتهشم، تأبي الأقتراب ورؤيته، فهو وعدها بعدم الفراق ماذا حدث لعهده! لمن تركها؟!
تحركت خطوتين وسقطت في الثالثة بانهيار وهي تبصر ذراعه الساقط من خلف باب السيارة والدماء تُقطر منه كي لا يترك مجالٍ للشك لديها أنهُ بخير أو بكونها تتوهم.
صرخت بقهر وهي تهتف بإسمه بحرقة: عمّااااااااااار.

انتفضت صارخة وهي تتصبب عرقًا بغزارة وصدرها يعلو ويهبط بعنفٍ مؤلم، بوجه شاحب وعبراتها تنهمر كالأمطار فوق وجنتيها.
شعرت بذراعيه يلتفان حولها بنعومة، يضمها إلى صدره باحتواء كي تطمئن، فهي تعاني من الكوابيس، وكل يوم تستيقظ على كابوسٍ جديد من فرط القلق، بسبب والدها الذي يفسد عليها حياتها.

لفت ذراعيها حول خصره بقوة وهي تبك وترتجف بخوف، دافعه بنفسها لأحضانه أكثر هامسة بعذاب وهي تحرك رأسها فوق صدره: أنا هموت لو حصلك حاجة، مش هتحمل فراقك مش هقدر.
همس بهيام وهو يمسح على ظهرها بحنان: بعد الشر متقوليش كده تاني!

ابتعد قليلا ورفع رأسها ومسح عبراتها بإبهامه برقة، ثم أمسك بذقنها لترفع نظرها إليه بأعينها الباكيه، فهمس بنبرة مطمئنة وهو يتأملها: ندى يا حبيبتي مش هموت ناقص عُمر، مفيش داعي للقلق ولا للخوف.
هزت رأسها بنفي وتساقطت المزيد من العبرات المعبرة عن انهيارها الداخلي وهي تمسك قبضته بقوة هامسة بشفتين مرتعشتين: انا خايفة عليك وعمري ما هبطل أخاف.

مسد ذراعيها الناعمين بيديه بحنان ومازحها بابتسامة وهو يقرص وجنتها الممتلئة بخفة: معني كده انك هتفضلي تموتيني كل يوم موته جديدة؟ أنا بدأت أخاف!
تبسمت برقة وهتفت بحزن وهي تدفن رأسها في رقبته وكفها ترتكز به فوق صدره العاري: بعد الشرعليك مش هيحصل حاجة إن شاء الله دي مجرد كوابيس أنا عارفة.
أردف بهدوء وهو يسند ذقنه على قمه رأسها: أصلا طالما بتحلمي اني بموت يبقي عمري طويل معروفة يعني هدي أعصابك ومتخافيش.

تنهدت من اعماقها وظلت صامتة هادئة ظاهريا والخراب يسود داخلها.
شعر باهتزاز جسدها المستمر، فامتدت يديه المحررة والتف برقبته وأفرغ إليها كوبًا من المياه من على الكومود و أسقاها برفق و أنامله تبعد شعرها خلف أذنها حتى إكتفت.
استعادة رباطة جأشها وعينيها أخذت تجول في أنحاء الغرفة، محركة رأسها فوق صدره بنعومة وبرأسها آلاف من الأسئلة؟ فمها لم ينامان هُنا أمس!

رفعت رأسها إليه تسأل بنبرة ناعمة مستفسرة: إحنا جينا هنا إمتى؟
ابتسم وهو يحملها بين يديه وسار بها إلى المرحاض وهو يقول: كُنتِ هتلجي مني في الاسطبل ومش عارف ليه! فا جبتك وجيت هُنا.
أومأت بتفهم وهي تريح رأسها فوق كتفه سائلة بخفوت وهي تغلق عينيها راغبة في النوم: رايح فين؟!
أردف باستياء هو يدخل بها: حضرتلك الحمام من بدري وكُنت قاعد مستنيكِ تحني عليا وتصحي عادي لكن لازم توقعي قلبي معاكِ الأول.

عقدت كلا حاجبيها وزمت شفتيها بعبوس وكادت تحتج لكنها شهقت وهي تشعر بنفسها توضع داخل حوض الاستحمام في المياه الدافئة وسط الورود.
أردفت متذمرة بنعاس وهي تضرب المياه بيدها: انا لسه عايزه انام!
قرص وجنتها ونفي وهو يضيق عينيه: لأ مفيش نوم أنتِ بتنامى كتير و بتسبيني أكلم نفسى!
إبتسمت بحنان وأمسكت يده وهمست بدفء مفعم بالحُب: عشان ببقي مطمنة وانا في حضنك.

قبّل كفها بنعومة وهمس بشغف: الحضن وصاحب الحضن رهن إشارتك بس عبرنا.
ضحكت بنعومة وهي تميل فوق كفه تقبلته بمشاعر جياشة ليستطرد وهو يمسح على مقدمة رأسها كقطة هامسا برفق: لازم تفطري عشان أكلك قل ومش عاجبني الوضع.
أومأت بخنوع والابتسامة لا تفارق وجهها ليتابع وهو يداعب وجنتها: خدي حمام عقبال ما اعمل الفطار بقي.
ضحكت بنعومة وسألته بسرور: تاني؟

أردف بقلة حيله وهو يقف: المفروض في الحالات دي أقولك خلي حضني هو اللي يأكلك بس بعشقك للأسف ومقدرش.
همست بدلال فطري وهي تطلب منهُ بجوع: طيب متنساش تحط لمون بقي عشان بيفتح نفسي على الأكل هو وصاحبه.
استدار وهتف بعبث وهو يكتف يديه أمام صدره: صاحب اللمون كده هينهار ومش هيخرج!
خلعت منامتها سريعا وقذفتها ثم انخفضت بجسدها بتمهل داخل الحوض وهي تكتم أنفاسها تختبئ منهُ.

قهقهة عليها ثم استدار على عقيبه وذهب كي يحضر الفطور.
انتهي من تحضيره بعد وقتٍ جيّد، وحمله وذهب إلى الغرفة، وضعه فوق السرير ثم أخذ مئزر الإستحمام الخاص بها وذهب إليها، كانت مسترخية براحة شارده تسند رأسها إلى حوض الأستحمام والمياه المعطرة تتساقط من شعرها فوق وجهها بخطٍ مستقيم.

وقف يتأملها بإبتسامة بلهاء، ممعنا النظر إليها وقلبه يخفق بجنون، ومازال جزءا بداخله لا يصدق أنها سعيدة كل هذه السعادة فقط لأنها معهُ، سعادتها هذه تعني له الكثير.
أردف مشاكسا وهو يتقدم منها أثناء فرد المبذل بين يديه: هفضل شاغل عقلك كده كتير؟

ضحكت بنعومة وهي ترفع رأسها إليه ثم وقفت وتقدمت منهُ بابتسامة ناعمة، أولته ظهرها وأدخلت ذراعيها في المبذل ليضمه حول جسدها وربطة جيدا ثم حملها وسار بها إلى غرفتهما وهو يداعب أنفه بأنفها.
وضعها فوق السرير أمام الطعام وأخذ منشفة وجلس خلفها يجفف شعرها بخفة ونعومه وهو يحثها على تناول الطعام: يلا كُلي.
أومأت وبدأت تتناول الطعام بشهية وهي تبتسم بعذوبة، ثم سألته بعبوس عِندما طال عبثه بشعرها: مش هتاكل معايا؟

نفى وهو يسند ذقنه فوق كتفها هامسًا بخفوت ويديه تلتفان حول خصرها: مش چعان واصل يا غزالي
عبست وهي وتغمز اللقمة في طبق الجبن ثم رفعتها ووضعها في فمه وهي تبسط كفها أسفل ذقنه: أنت بتفتح نفسي على الأكل كُل معايا.
همس وهو يقبل وجنتها بدفء: أكليني أنتِ.
همست بدلال وهي تضع لقمة أخري في فمه: عيوني ليكِ ياسيدي.
ارتفع حاجبه وهتف متعجبا: سيدك؟
أومأت بإبتسامة ساحرة وأكدت وهي تضرب صدره بكتفها: سيدي وتاج راسي كمان.

ضحك بصوتٍ رنان وهو يتأمل وجهها الذي أشرق وهى تراقب ضحكه هاتفًا بسعادة: يا عالم يا خلج جلبي هيوجف.
ضحكت بنعومة وتابعت إطعامه برقة بالغة وهي تطبع قبلات متفرقة فوق ذقنه بين كُل لقمة وأخرى.
تنهدت بحزن وهي تفكر في حاله ثم تحدثت بخفوت وهي تستدير إليه: عمّار ياحبيبي إنت عارف إني بثق فيك صح؟

همهم وهو يدس لقمة مغموزة بالعسل بين شفتيها لتتابع وهي تمسك بكفه بين يديها أثناء مضغها: انا مش هضغط عليك ولا هفضل أزن وأسألك كل شويه بس إديني كلمة وأوعدني إنك ترجع الشغل تاني وتفكر في نفسك أكتر من كده وصدقني مش هكلمك في الموضوع ده تاني خالص.
تنهد من أعماقه وهو يعيد غمز اللقمة في العسل باقتضاب تجلى على ملامحه فهمست بحزن وهي تراقبه: عمّـ..
دس اللقمة داخل فمها أصمتها وهتف بهدوء: هرجع.

مضغتها بلطافة وهي تعدل جلستها سائلة بفرحة: بجد يا عمّار؟
أومأ وهو يضمها بقوة: بجد يا روح عمّار.
ضحكت بسعادة وقبلت وجنته ولم يكد يتحدث حتى عبست وزفرت بـ هم فتنهد وسألها بإزدراء: ايه تاني؟
أباحت بما يقلقها وهي تتحسس وشمه بأناملها: أنت بقالك أسبوع مش بتخرج ولا بتروح في حته وانا مش عايزاهم يتضايقوا مني و يقولوا إني اخدتك منهم.

تنهد ووضع كفه فوق يدها وهتف بتعجب: طب وايه يعني! ما انا بقالي تلاتين سنة معاهم حصل ايه؟ لما نقعد مع بعض تلاتين سنه زيهم يبقوا يشتكوا.
ابتسمت وسألته بتفاجئ: ايه ده إحنا هنفضل مع بعض تلاتين سنة؟
ضرب كفيه معًا وهتف بازدراء وهو يبتعد عنها: يادى الفقر وليه منبقاش يعني!
وقفت على ركبتيها وكوبت وجهه بين يديها بلطافة أوقفته عن الابتعاد وهي تضحك قائلة: هنبقي والله، بس استني هسألك سؤال كمان عشان خاطري.

نظر إليها بطرف عينيه ثم جلس بطاعة وجذبها من خصرها أجلسها فوق قدمه وانتظرها أن تسأل لتلتف يديها حول رقبته وهي تحمحم ثم سألته بشك وهي تضيق عينيها: من كام سنة كده وأنت شاب صاحبت كام بنت؟ كلِّمت كام بنت كده يعني؟
نظر إليها بامتعاض راغبا في لكم وجهها الجميل هذا، فهو من شهور يخبرها أنه يحبها ولم يحب غيرها قط وهي تسأله عن النساء! ما الخطب مع عقلها؟
هدر بغلظة وهو يقرص وجنتها من الغيظ: ولا واحده مفيش.

مسدت وجنتها بعبوس وهي تقرصه برقة سائلة بشك وهي تضع جبينها فوق جبهته مرتكزه بعينيها داخل عينيه كي لا يستطيع أن يكذب عليها: ولا عمرك عكست بنت معقولة!
نفي ضاحكًا وقبّل شفتيها بنعومة لكن ابتعد فجأة جعلها تعبس وهتف وهو يتذكر: لأ استني، استني، عشان مكذبش، عكست واحده وضربت واحدة!
امتقع وجهها وسألته بانفعال: ضربتها ازاي يعني؟
قهقهة وهو يدلك رقبته فأبعدت يده عن رقبته بانزعاج شديد وهتفت بعصبية: قول عملت ايه؟

تنهد وهو يداعب طرف شفتها العلوية بإبهامه وبدأ يحكي إليها: اليوم اللي جيت فيه عشان أتقدم لـ نادين كُنت جي بالجلابيه، مش عارف كان مالي ساعتها تحسيني كُنت مهيبر أو شارب حاجة! فا دخلت محل اشترى بدله عادي واتخانقت مع بنت وهددتها بالمسدس كمان وسرحت في المكان لوحدي بتفرج على اللبس هوب لقيت بيكيني فوشيا واقف قدامي! أسكت؟ أسكت؟
صرت على أسنانها بغضب وسألته: وقولتلها ايه بقي طالما مسكتش؟

مسد جبينه وهو يحاول تذكر ما قال بالتفصيل ليقول ببعض التشوش: متهيألي قُلت الجاموس الأبيض جِه هنا امتي!
اتسعت عيناها حتى كادت تخرج من محجريها وانفلتت شهقة قوية من بين شفتيها كمن أخبرها بخبرٍ مُفجع لتصيح بجنون من علو وهي تهب وتقف فوق السرير: لأ قُلت ايه يا ملبِّن هو الجاموس الأبيض وصل هنا إمتي؟

رمش بتعجب وهو ينظر إلى ساقيها العاريتين يستوعب قولها جيّدا لتقفز محلها تتابع وصله صياحها بجنون: وكمان ضربت واحدة ها ضربتـ، جحظت عينيها وهي تتذكر تلك الصفعة القاسية التي أخذتها ذلك اليوم لتصرخ به: نهارك أسود يا عمار نهارك إسود..
هتف ببراءة مستمرًا في الرمش بتفكير وهو يستذكر ذلك اليوم بتفاصيله: ايه هي جت فيكِ ولا ايه؟

صرخت بتذمر وهي تضرب قدميها فوق السرير الهلامي الذي أخذ يهتز بهما: أيوه أنا يا أبو إيد تقيلة يا قليل الأدب، أنا ماليش عيشة معاك تاني واصل طلِجني.
ضحك وأبعد الطعام عن الفراش كي لايسقط ثم أمسك بكاحلها وسحبها منهُ أسقطها فوق السرير وجثم فوقها وثبت كفيها فوق رأسها بيد، وسأل بمكر وهو يتأمل ملامحها الحانقه: يعني كُنتِ أنتِ!

عبست ونظرت بالإتجاه الآخر بانزعاج شديد فأمسك بذقنها بكفه الأخر جعلها تنظر إليه والشرار يتطاير من عسليتيها الصافية إلى خضراويه الداكنه، فعقد جبينه ورفع حاجبه وأردف بعبث: وايه يعني؟ عاكست مراتي ايه المشكلة؟
ضيقت عينيها وهتفت بتهكم: مكنتش تعرفني؟!
ابتسم بجانبيه وهمس بمكر: قلبي بقي سبحان الله.
غمغمت بكلمات غير مفهومة مقتضبة ليبتسم باتساع وهو يراقبها بتسلية.

ثم هتف بخبثٍ وهو يحرر ساعديها ويده بدأت بالعبث: وانا بردو بقول الملبن ده مش غريب عليا.
ثقلت أنفاسها وتبعثرت مشاعرها كما يفعل دائما عِندما تبدأ في التشاجر معهُ فتملصت منهُ بعدم رضى وهي تتمتم بصعوبة: أنت بتضحك عليا عشان أعدي الموضوع صح؟
ضحك وتمدد بجانبها وأخذ يمسح على شعرها بحنو بينما يقول مبررًا وهو يتأملها: تعدي ايه بس! مفيش حاجة حصلت، عاكست اتنين وطلعوا أنتِ خلاص المفروض تتبسطي محدش جه جنبك غيري.

شدت شعيرات ذقنه بقوة جعلته يتأوة وهي تقول بغيظ: وأنت تعاكس ليه من الأول مش عيب!
أكد على قولها بثقة وهو يرفع كلا حاجبيه: عيب طبعًا بس هي كانت ساعة شقاوة من الكبت وراحت لحالها وحياتك عندي.
ابتسمت بنعومة وهي تضيق عينيها ثم جذبته لأحضانها ليضع رأسه فوق صدرها بأريحية مستمعا إلى قولها اللطيف وهى تداعب شعره: خلاص سامحتك.
قهقهة وهمس وهو يداعب خصرها: تعرفي أني ظبت الكوخ، خليته كوخ حُبنا.

قالت بحماس وهي تمشط شعره بأصابعها: وعملت فيه إيه؟
رفع رأسهُ وقال مفتخرًا بنفسه: جبت فيه سرير.
نظرت إليه بدون تعبير وتقلبت وأولته ظهرها وهي تغمغم باستياء: هو ده اللي أنت فالح فيه.
قهقهة وأدارها إليه وهو يبتسم قائلا ببراءة: هيعجبك صدقيني.
ردت بتذمر وهي تلوح بيدها: يا عمّار ما ده سرير وده سرير الله! بتحب الشحططه ليه؟!

أمسك كفها وساقها خلفه وهو يقنعها بتبريراتة الواهية التي لا تدخل الرأس لكنها تحب الانسياق خلفه: لأ في اختلاف طبعاً وانا بحب التغيير تعالى بس هيعجبك.
قهقهت برقة وسارت خلفه ثم طلبت بدلال: طيب شيلني بقي.
راقص كلا حاجبيه بعبث وقال وهو يحملها: بس كده دي أقصى طموحاتك! تعالي.
ضحكت وهي تلف كفيها حول رقبته واستكانت على صدره، منتظرة وصوله لكوخ الحُب خاصتهم.

ضغط بنزين وأسرع أكثر أثناء قيادته إلى القاهرة، كي ينقذ ما يستطيع إنقاذه في تلك العلاقة المكلومة، كي يعتذر عما حدث معها بسبب والدته، وأي إعتذار هذا الذي سيكون كفيلا لإصلاح ما حدث؟!
يشفق عليها ولا يستطيع تخيل ما قد يحدث لها عِندما تعرف حقيقة والدته.
لقد كانت الخدعة الأكبر التي حصل عليها في حياته كاملةً ومن الشخص الغير متوقع.

تصبب عرقا من فرط الإنفعال وقبضته تشتد فوق المقود وهو يستذكر حديث والدتة عن الماضي.
تمتم بصوتٍ لم يخرج متماسكا وهو يهز رأسهُ بذهول: إنتِ بتقولي إيه؟
هزت رأسها بأسى وهي تشهق وعادت بذاكرتها المعطبة التي لم تنسى تفاصيل تلك السنوات من حياتها قط. ، سنوات شبابها وهي فتاة جامعية يافعة مع أصدقائها، أجمل سنوات عمرها التي تحولت إلى جحيم في نهايتها.

استسلمت للحظاتها هذه وبدأت تقص عليه كُل شيء بالتفصيل، فالحقيقة مهما ظلت مخبئة ستظهر في يومٍ ما، لهذا بادرت هي أفضل كي لا يكتشف حقيقتها البشعة من شخصٍ آخر.

أجهشت في البكاء وبدأت تقص عليه بصوتٍ مُرتجف مُتأسي: حبيب ده انسان مريض، إبن غير شرعي، اتربى مع أمه الرقاصة فترة لأن ابوه مكنش عايز يعترف بيه والفترة دي يمكن كانت أسوأ فترة في حياته، أمه كانت عاهره بالمعني الحرفي. كان بيشوفها كل يوم مع راجل شكل ولما يتكلم كانت بتضربه، لحد ما سليم رشدان إعترف بيه أخيرا بس بعد ما أتدمر نفسيا، بس ياريته اكتفي بكده ورحمه لأ، كان بيعامله معاملة الخدامين بالظبط وأقل منهم كمان.

و بيفرق بينه وبين ابنه التانى طبعا، يوسف الإبن الشرعي اللى بيفتخر بيه غير حبيب الغلطة، الفرق بينهم كان سنه واحده بس قُدام الناس، لكن مع بعض الفرق بينهم عامل زي الفرق بين السما والارض، ذُل وإهانه وضرب وكل شويه يفكره بأمه وأصله المنحدر والدنيء، أما أخوه مكنتش بيتعامل معاه خالص مش من باب أنه أقل منه ولا حاجة لأ مكنش حبه خالص ولا كان قابل إن يكون عنده أخ يشاركه أبوه أو حتى حياته.

سليم ظلمه ومحدش يقدر ينكر، دخل يوسف مدرسة انترناشونال وحبيب مدرسه عاديه، وسابه يتعامل مع التنمر والضرب اللي كان بيتعرضله لوحده من غير ما يسأل ولا يطمن عليه، تخيل إنك تكون عايش في قصر من حقك وتبقي خدام فيه، إنك تقدم العصير لأخوك وصاحبه وهمه بيذاكروا مع بعض وتبقى في نظرهم خدام لحد ما يتكرم أخوك ويشرح سوق الفهم ويقولهم إنك أخوه وأن أمك رقاصة.

حبيب استحمل كتير وقبل اي وضع على أمل إنهم يحبوه ويعتبروه منهم زي ما كان بيتمني بس عِرف متأخر إنه بيحلم وكان لازم يتصرف ويعيش، وكل ما كان بيكبر همومه كانت بتكتر والحقد كان بيتغلغل ويتمكن أكتر من قلبه، كان عارف إن أبوه مش هيدخله الجامعة مع أخوه وهيفضل يفرق بينهم لحد ما يموت فا مكنش قُدامه حل غير إنه يذاكر، وفضل يذاكر طول الوقت مكنش بيعمل حاجة غير المذاكرة عشان ياخد المنحة ويدخل معاه نفس الجامعة، ومن هنا بقي حبيب تاني خالص، بقي مثال للشر والحقد.

في الوقت ده تميم كان صاحب يوسف الروح بالروح فا دخل حبيب في وسطهم فرقهم ومحدش يعرف عمل ايه عشان يوصلهم لدرجة النفور دي من بعض، حتى ان يوسف ساب الجامعة كُلها وسافر بره، وبقي تميم وحبيب أصحاب أوي ومن هنا بدأ مرحلة جديده في حياته يمكن كان في أمل إنه يتغير بس كل اللي كان بيحصل كان ضده.

محت عبراتها وأخذت تتعمق أكثر في ذكرياتها بأعين زائغة وهي تطرق برأسها: اتعرفنا على بعض كُنت أنا وحبيب وتميم وحورية وحنان، حنان كانت الكبيرة هي وتميم ويوسف بس سقطوا أول سنة مع بعض وده خلانا نبقي صحاب وخصوصا لأن حورية أُخت حنان الصغيرة ودايما كانت بتقعد معاها.

توقفت وابتسامة حزينة مضنية ترتسم أعلى شفتاها: انا حبيت تميم أوي، وحورية كانت بتعشقه وكُلنا كنا عارفين بسبب وضوحها وتصرفاتها، أما تميم فا كان شايفنا إخواته، وحبيب كان بيحب حورية حُب جنوني ولما عرف زينا إنها بتحبه اتجنن أكتر واتحول تميم لعدو، حبيب كان شايف إنه مش عدل ان دي كمان تروح منهُ حس في الوقت ده إن تميم شبه يوسف أخوه بياخد كل حاجة هو بيتمناها من غير ما يطلبها بالرغم إن تميم مكنش بيحبها ولا حبني.

تجعدت ملامحها واستطردت بأسف وهي تفرك يديها معًا بقوة وقلبها بدأ في التألم: فجأة في يوم لقوا حورية مرمية في طريق مقطوع وهدومها مقطعة نتيجة تعرضها للإغتصاب، محدش عِرف مين عمل كده بس لقوا في قبضتها سلسلة كانت مسكاها جامد، شدتها من رقبة اللي عمل فيها كده وللأسف كانت السلسلة بتاعة تميم، محدش صدق كُلنا انصدمنا لما عرفنا اللي حصل بس مع كده مقدرتش أكرهه، أهلها بهدلوا الدُنيا لما عرفوا وكانوا هيموتوه وعشان أهله يتفادوا الفضيحة لموا الموضوع و جوزوهم، وأخدها واختفوا سنة أو أقل ومحدش عرف عنهم حاجة ولا حتى حياتهم كان شكلها عامل ازاى، بس عرفنا بعدين لما حورية ظهرت تاني وقالت إنهم اتطلقوا ومفيش كام شهر خلصت العده واتجوزت حبيب على طول.

تبسمت وهي تفكر به واستطردت بصوتٍ حاني: تميم خد وقت لحد ما قدر يتأقلم على الوضع، كان لسه مصدوم ومش مصدق اللي حصل ولا نظره الناس ليه على انه مُغتصب ومجرم، حاولت أساعده واقرب منه بس كان قافل على نفسه والأهم كان قافل على قلبه، حورية قالت إن طول الوقت كان بيساعدها و بيجيبلها دكاتره عشان تتخطى اللي حصل ومكنش بيقرب منها ولا حاول حتى يتناقش معاها ويبرأ نفسه لأن كل حاجة كانت ضده حتى أهله نفهسم فا استسلم وعاش على انه مغتصب، بس حورية من زعلها عليه وإحساسها بالذنب طلبت الطلاق، لأنها كانت متأكده إن مش هو اللي اغتصبها، بدأت مع الوقت تفتكر مقتطفات بسيطة زي صوته ريحته، شكله مكنش واضح بس كانت متأكدة إنه مش تميم.

عاشت مع حبيب فتره بسيطة وبعدها بدأت المشاكل والخناقات وسابته وعاشت في بيت ابوها ورفضت ترجعله، كانت بتتنفض لو حد جبلها سيرته، كان مرعوبه من حاجة اسمها حبيب، رفضت ترجع بس خدها غصب وحملت منهُ.

يمكن هدي شويه عليها بعد ماعرف إنها حامل بس هي كانت كارهاه ونافرة منه بشكل مش طبيعي، وطول الوقت كانت تستفزه وتقلل منهُ وبتقارن بينه وبين تميم وده مكنش بيزيده إلا كُره وحقد، حملها كان مُتعب وخطر عليها بس هي مهتمتش ولا حياتها كانت فارقة، وولادتها كانت متعسرة جدا وماتت، ماتت صغيرة وهو أخد جـنّـة و اختفي بيها.

ضحكت بسخرية وهي تستذكر ذلك الفعل الغبي الذي أودي بها إلى هُنا بينما هو كان جالسا أرضًا منهزما تكاد الدموع تنهمر من عينيه وهو يستمع إليها بشحوب وقلبٍ منكسر: في مرة كُنت رايحة اقابل تميم و أخدت نادية معايا ويارتني ما اخدتها، كانت بتهزر طول الوقت وبتضحك سحرت تميم لما شافها، كان قاعد وعينه عليها هي وبس، بعدها طلب انه يقابل بابا فرحت وافتكرت انه هيتجوزني انا وعشان كده أقنعت بابا لأنه كان رافض تماما وقلي مغتصب ومش مغتصب بس أقنعته وبرأته، حتى اني خليت حوريه نفسها تقوله إنه مظلوم وصدقها ووافق لما قابله واتكلم معاه وعرِف شخصيته، بس الصدمه كانت لما طلب ناديه مش انا، اتقهرت ومعرفتش اعمل ايه، انا ومن سنين بتمنى بس بصه منه ونادية في قاعده واحده اخدته كله!، واللي دمرني إنه حبها بجد، حُب عُمري ما شُفت زيه، خدت كُل حاجة حلِمت بيها واتمنتها، كل حاجة كان نفسي أعيشها معاه عاشتها هي، هي كانت سبب تعاستي وبسببها اتجوزت حد مبحبهوش عشـ..

توقفت وفاضت عيناها من الدمع عِندما أبصرت دمعات جاسم تتساقط بخذلان،
إنها لم تحب والده قط وتخبره بسهولة، بشكلٍ غير مباشر أنه لم يكن مرغوب.

شهقت باختناق وتابعت وهي تتحاشى عينيه التي تناظرها بلوم وإنكسار: طول ما انا بعيده عنها ببقي مبسوطة، بس بعدين سيبنا القاهره وجينا نعيش هنا قامت نادية جت جنبي عشان تبقي قريبة مني، وحياتي رجعت جحيم تاني وكل يوم قلبي كان بيتحرق وأنا شيفاهم مع بعض مبسوطين، وهمي زاد أكتر لما أبوك مات، يمكن محبتهوش وظلمته معايا، بس هو كان بيحبني وبيخفف عني وبيواسيني دايما وبقيت لوحدي من بعده، وهمه الإثنين كانوا مبسوطين قدامي طول الوقت، مقدرتش استحمل فكره إنها مبسوطة وانا لأ!، انا ارمله وهي لأ!، مقدرتش النار كانت قايده جوايا، كرهتها اوي واتمنيت إنها تموت كل لحظة وكُنت بدعي عليها ربنا ياخدها ويريحني منها، كان نفسي تموت وهي بتولد و أربى أنا البيبي واتجوز تميم، بس فِضلت عايشة ومكرهانى حياتي، لحد ما حبيب ظهر بعد سنين.

ابتسمت بسخرية واستطرد: كان حاجة تانية خالص ومختلف ميه وتمانين درجة، اللي يشوفه ميصدقش إنه بالإجرام ده ؛ اتفاجئنا كُلنا لما عرفنا إنه بقي دكتور تجميل، ومش أي حد لأ ده بقي من أهم دكاترة التجميل في الشرق الأوسط، اتقابلنا واتكلمنا كتير ورجعنا صحاب انا وهو، كانت جـنّـة صغيرة بس غريبة مكنتش زي الاطفال لا بتلعب ولا بتتكلم كتير حتى نظراتها عدائية، كُنت بحس انها مريضة وسألت حبيب مالها وفيها ايه قالي انها سلاحه هياخد حقه بيها، هيدمر حياتهم همه وكل اللي بيحبوهم، فهمها إن تميم هو السبب في موت أمها، قالها إن حياتها وتعاستها بسببه، إن عشق مبسوطه وسعيده على حسابها هي والمفروض تكون مكانها، وواحده واحده بدأت تكبر وهو يفهمها بتوسع أكتر ويقولها إن تميم اغتصبها وقتلها لما سبته واتجوزت غيره تميم هو الشرير والوحش، كبرها عالحقد والكره لأ وكمان بياخدها يفرجها عليهم من بعيد عشان يحسرها، مكنش بيعاملها زى الأطفال أبدا، لدرجة إني شكيت ان جـنّـة ممكن تكون مش بنته وبنت تميم وهو بيدمرها انتقاما لنفسه عشان مفيش أب يعمل كده بس هي فعلا طلعت بنته وهو مريض وخلاها زيه. ، اتكلمنا مع بعض كتير ومن يأسي شكِتله وقولتله اني بحب تميم وتعبت عارف قلي ايه؟

ابتسم ببهوت وهز رأسه بإيماءة بالكاد ظهرت وهو يقضم شفتيه المرتعشتين كابحا عبراته، مبتلعا غصة بطعم العلقم يستمع لبقية حديثها وصدي كلماتها الأولى تتردد في أذنه وعقله منشغلا بعشق: قال انه شغال على نفسه جامد لأنه عاوز يوصل لمرحلة التطابق، بمعني إنه يخليني شبه ناديه أو العكس، وعرض عليا وقلي ممكن أخليكِ نسخة منها لو حابة، بس انا ضحكت وخدتها هزار وهو ضحك ومتكلمناش تاني في الموضوع ده، في الوقت ده يوسف كان مُستقر في روسيا ومتجوز واحده مصرية اصولها روسيه ومخلف منها قُصيّ وريمة، حصلت مشاكل كتير وصحه أبوه إتدهورت فا رجع مصر وخد قُصيّ بس وساب ريمة مع مامتها هناك فترة، بس الدنيا اتقلبت ومات سليم ويوسف فضل قاعد في مصر عشان يدير شُغل أبوه لأن حبيب تقريبا كان قاطع علاقته بيهم من سنين ومحدش سأل عنهُ، وقُصيّ كمل تعليمه في مصر عشان رفض يرجع روسيا من غير أبوه وفضل معاه، بعدها اكتشف يوسف إن عنده سرطان، عافر معاه كتير ومستسلمش وكان بيسافر يعمل عمليات بره مصر ويرجع ووسط كُل ده مراته ماتت، كان قُصيّ اتخرج ساعتها. ، حياتهم وقفت لوقت معين لحد ما استوعبوا موتها، وبعدين يوسف رجع مصر تاني عشان يتواصل مع حبيب ويديله حقه في الميراث وقُصيّ فضل مع ريمة عشان متبقاش لوحدها هناك، حبيب قابلة وقسموا الأملاك وعرف إن عند أخوه إبن وبنت، ومن هنا بدأ ينفذ خطته أول ما عرف إن عنده سرطان، اتفق مع السكرتيرة بتاعته تغير الدوا اللي بياخده وبدله بـ دوا تاني ينشط الخلايا السرطانية عنده، يوسف كان تعب ساعتها ومقاومته قلِّت واستسلم ومات، قُصيّ رجع بعدها مصر تاني بعد ما خد ريمة وقعدها في بيت تاني بعيد وغريب عنها من الخوف عليها والمفروض يكمل شُغل أبوه، كان شخصية باردة وراجل عملي ومكشر دايما مبيضحكش، وفاة أمه وأبوه كانت تقيلة عليه، حبيب زق عليه بنات كتير وحاول يفسده بأي شكل لكن معرفش، وبالصدفة قُصيّ سمع السكرتيره بتتكلم مع حبيب في التليفون عن الخطه اللي نجحت ومن هنا عرف عمه وبدأ يخطط عشان ينتقم قام حبيب وقع جـنّـة في طريقه وفهمها تعمل ايه كويس ومن هنا بدأت الحكاية.

هزت رأسها بأسي وتابعت بنشيج: انا قاومت سنين يا جاسم بس مقدرتش اتحمل فا طلبت مساعدته قولتله يبعدها عني بس بأي طريقة بس انصدمت لما عرفت إنهم ماتوا والاثنين مع بعض، صدقني ندمت ومصدقتش إني عملت كده وكرهت نفسي لاني وصلت لمرحلة اني أتمني الموت لأختي وقررت إني هعوض عشق ومش هخليها تحس بالفرق بس مقدرتش، نظراتها ليا كانت بتعكس حقيقتي، بتفكرني باللي عملته، هي محبتنيش وكانت بتكرهنى وانا اتخنقت منها ومن تصرفاتها وشخصيتها المطابقة لنادية فا كلمته تاني، استنيتها تموت بس حبيب قالى اللي هتعيشه أبشع من الموت ومسألتش هيعمل ايه.

رفعت رأسها تناظره بحنان وهتفت بغزي: جاسم أنا عارفة اني مش كويسه واللي عملته ذنب ميتغفرش بس والله انا محبتش في الدنيا حد قدك، أنت اغلى حاجة في حياتي.
ضحك وجلجل كما لم يفعل من قبل وهو يجلس أسفل قدميها هاتفا باستنكار: بجد! حبتيني؟ ومراتي؟ عشق!
شد شعره بقوه وهو يتلفت حوله كالمجانين صائحا باستهجان: ضاعت! عشق ضاعت بسببك! وحياتها باظت بسببك؟ واتحطمت بسببك؟ ليه كل الحقد والغِل ده ليه؟

ظلت تبكِ بنشيج ليسألها بقلبٍ مفتور لائم بشفتين مرتعشتين تاركا العنان لعبراته تنطلق: السنين دي كلها مغيرتكيش ونضفت قلبك؟ مهنش عليكِ أختك الصغيرة تكون مبسوطة؟ حتى بنتها! وهي مرات ابنك! للدرجادي انا ولا حاجة بالنسبالك؟ محاولتيش تنسي عشاني حتى؟ أنتِ دمرتيني انا مش عشق! على الأقل هي كانت مع حد بتحبه! لكن أنا؟ أنا هموت من القهر اللي حاسس بيه؟

نزلت عن الكرسي وجلست أمامه على ركبتيها بتعب وهمست بندم: انا غلطت بس عُمري ما حبيت غيرك أنت حته مني.
مسح عبراته بعنف وهتف بكره وليد اللحظة: وانا بقيت اكرهك ويأسفني إني أقولك ميشرفنيش إني اكون ابنك.
اتسعت عيناها برفض وأمسكت كفه بقوه وتوسلته بانكسار وهي تهز رأسها: جاسم أنا مليش غيرك في الدنيا.

أطلق ضحكة مبحوحة وهو يبتسم بألم ثم همس بخفوت وهو يطرق برأسه: وأنا للأسف مليش غير عشق، عشق الرخيصه اللي ميشرفكيش إنها تكون بنتك!، إنتِ هتقابلى ربنا إزاي؟ هتقوليله معلش كُنت بكرهها! طب إزاي قادرة تعيشي مبسوطة وأنتِ أذيه حد؟ بتنامي ازاي؟
ضرب جبهته براحة يده بخفة واستطرد بسخرية وهو يهز رأسه: صح نسيت أنتِ عديتي مرحلة الأذي قلبك مات وبقيتي تطلبي القتل عادي!

بررت تبريرها العقيم الذي لا يجدي: كان خارج عن إرادتي مكنتش في وعيي وانا بطلب حاجة زي دي جاسم أنت أغلى حاجة في حياتي أرجوك.
تجاهل توسلاتها كأنه لم يسمعها قط وسألها بنبرةٍ باردة وهو يقف: ألاقي
حبيب ده فين؟
انقبض قلبها وسألته بخوف: ليه؟
أجابها بغلظة وهو يتجنب النظر إليها: ولا حاجة هشكره على اللى عمله بس!

وقفت قبالته بخوف وأمسكت بكفيه تضغط فوقهما بقوة محفزة وترجته بذعرٍ وهيستيريا: لأ مش هتروحله ولا هسيبك تضيع نفسك بسببه، كده كده هيتسجن، حنان أُخت حورية جمعت حاجات كتير ضده واتجوزته عشان تنتقم وتاخد حق أختها وقريب هتنفذ هي مستخبيه دلوقتي بس هتظهر وهيتسجن مفيش داعي للتهور يا جاسم.

نفض يديها عنهُ بعنف وابتسم وهتف بنزق: ملكيش دعوة بيا واعتبريني مُت مع اللي ماتوا، انا رايح لعشق ومش راجع تاني، وعقب قوله بذهابه ومغادرة الغرفة بل المنزل بكامله لتصرخ بإسمه بحرقة وهي تضرب فخذيها براحتي يديها: جاسم تعالي هنا أنا أمك متسبنيش.
انسلت عبراته وهو يوقف السيارة في منتصف الطريق بسبب الإشارة، أسند مرفقة فوق المقود وأخذ يُحدق في الخارج عبر النافذة بضياع، دون أن يعى ما يفعل، كيف يواجهها كيف؟

إنهُ لم يتأذي سوي من أقرب الأشخاص إلى قلبه، إنهم يحطمونه ببطء ولايفهم لمَ يفعلون به هذا!، ما الذنب الذي اقترفه ولايغتفر كي تنقلب حياته رأسا على عقب بتلك الطريقة؟، هل أصبح الحُب مُبررا للقتل في هذا الزمان؟

إن قلبه مدمي متمزق لأشلاء ولا يشعر به أحد، النيران تتأجج في صدره حتى أصبح رمادًا تذروه الرياح، الحُب أضناه وأثقل كاهلة ولم يعد يستطيع التحمل أكثر، اكتفي من الجميع، يحتاج لمن يربط على قلبه المسكين، يُريد أن يصرخ بملء فمه، أن يهرب لآخر العالم ولا يجد طريق العودة.

أخذت جـنّـة شهيقًا طويلًا وهي تجلس أمام الشاطئ في الإسكندرية، تحدق في الأمواج المتلاطمة بثبات وشعرها يرفرف حول وجهها بقوة يشوش عليها الرؤية، تنتظر مكالمه والدها التى تأخرت.
عضت على أناملها وهي تفكر بعمق وساقيها تهتزان بقوة وتوتر حتى صدح صوت هاتفها.
ردت سريعاً بتلهف ليأتيها الأمر: أتحركِ دلوقتي وزي ما اتفقنا تديها أربعة وتخلصي وتخرجي على طول مفهوم؟

أجابت بنبرة مهزوزة وهي تقف وبدأت في السير بتباطؤ: مفهوم، بس يا بابا البرشام ده بيعمل إيه؟
زجرها بحدة شديدة: مالكيش دعوة ونفذي وبسرعة قبل ما حبيب القلب يسافر.
لم تحتاج أن يعيد قوله مره ثانيه فأذعنت وذهبت بهدوء، وهي تفكر في الوقت لأنها تريد العودة إلي القاهرة بأسرع وقت.

توقفت أمام البنايه التي يقطن بها جاسم، ورفعت رأسها للأعلى تناظرها وهي تزدرد ريقها بصعوبه وتوتر متذبذبة، تراجع نفسها بسبب ماهي مقدمة على فعله.
وضعت قدمها في المدخل العمارة وصعدت بهدوء وقلبها يتقافز داخل قفصها الصدري بعنف.
توقفت أمام باب الشقة في تردد بين أن تطرق الباب وتدخل وأن تلتفت وتعود أدراجها كما جاءت فهي لاتعرف نية والدها تجاه روحية بعد.
ـ عشق رجعتي؟

انتفضت بخضه عِندما سمعت صوت المرأة من الشقه المقابلة وهي تخرج كيس القمامة تضعه أمام الباب كي يأخذه الرجل عِندما يمر.
استدارت جـنّـة على عقبيها بتوتر وابتسمت ابتسامة مبتسرة هاتفه بصوتٍ مُرتفع نسبيا بسبب إنفعالها: أه رجعت.
واستدارت وقامت بالضغط على الجرس طويلا دون أن ترفع إصبعها.

فتحت روحية الباب بانزعاج مُزِج بتعجب وعيناها تبصران عشق، تهللت أساريرها وضحكت في وجهها وللمره الأولى تشعر بهذا القدر من السعادة والسرور عند رؤيتها، لكن للأسف كانت اللهفة للشخص الخطأ ولم يكن حُبا كذلك! فوجود عشق هنا يعني وجود جاسم وهذا ما تصبو إليه.
ضمتها إلى صدرها بقوة ورحبت بها بحفاوة وهي تغلق الباب: حمدالله على السلامة ياحبيبتي نورتي بيتك تاني.

ابتسمت جـنّـة في وجهها بعذوبة وسارت معها إلى الداخل بتوتر وارتباك دون أن تعرف أن عشق لا تبتسم بهذا القدر كما أنها لا ترتبك هكذا أيضًا.
لكن روحيه لم تلاحظ هذا بل كان عقلها مع جاسم وتفكر في طريقة لمهاتفته الآن كي تخبره أن عشق عادت كي يعود.
جلست روحيه فوق الأريكة وهي تسحب جـنّـة خلفها لكنها تمنعت ونزعت يدها من يد روحية برفق وقالت بتوتر وعينيها تجيل في المكان: هعمل حاجة نشربها.

أومأت روحية بإبتسامة وتركتها تذهب وهي تأشر بتلقائية على المطبخ كأنها لا تعرف مكانه واتجهت ناحيته مباشرةً دون أسئلة.
تحركت روحية وأخذت هاتفها بقلبٍ منقبض وبدأت بالرنين على جاسم كي تعيده ويطمئن قلبها.
لم يرد عليها وظل يغلق في وجهها حتى هاتفته من الرقم الأرضي، لكنه كان مُسجل لديه فلم يرد وظل يتجاهلها مجددًا فهو لن يسامحها.

أذابت جـنّـة الحبوب داخل العصير وأخذت تقلبه بقوة وانفعال ويديها ترتجف شعورا بارتكابها لجريمةٍ عُظمي، وهمسات ريمة أمس تعلو داخل أذنيها مع رنين الملعقة داخل الكوب أنا اللى حطتلك برشام في عصير المشمش عشان تسقطي يا جـنّـة، مفيش قُصيّ تاني خلاص بح.

أدمعت عينيها وشهقت باكية بقلبٍ منشطر، فهي تمنت هذا الطفل من كل قلبها، حالها مع قُصيّ لم يكن ليؤول إلى ما آل إليه إن لم تتدخل، لقد شكَّت بوالدها وبـ قُصيّ حتى عدي ريمة لم تخطر لها قط بسبب كونها مسالمة أكثر من اللازم، هذا كان غير متوقع بتاتا كـ قنبلة موقوته، والأكثر إيلاما كذلك.
هي إن لم تتحدث من البداية وتهددها لم تكن لتمسها بسوء قط هذا خطأها هي وتستحق.
أبشع شعور قد يجتاح الإنسان هو شعور الخيانة.

مسحت عبراتها وهي تستنشق ما بأنفها بندم جاء متأخرا، ثم أمعنت النظر للعصير تري إن تغير لونه أم لا وحقا لا تعرف ما استخدام تلك الحبوب، وكالعاده تسير خلفه بخنوع دون أسئلة أو معلوماتٍ كافيه.
وضعت العصير على الصينية وتقدمت به بابتسامة هادئة وهي تهدأ من روعها وثوران صدرها الذي لا يتوقف عن التضخم.
جلست بجانبها وناولتها كوب العصير برفق وهي تبتسم وسألتها عن حالها: عاملة ايه؟

ارتشفت روحيه القليل ثم ردت بابتسامة وهي تمسك الكوب بين قبضتها: الحمدالله كويسة، أنتِ عاملة ايه وكنتِ عايشة فبـ..
سعلت فجأة باختناق فُ ربتت جـنّـة على ظهرها برفق وحثتها على تكملة العصير ففعلت، وارتشفته كاملا حتى توقف السُعال ونظرت إليها بأعين حمراء دامعة وهي تتنفس الصعداء هامسة بصوتٍ مكتوم: الحمد الله مش عارفة مين بيجيب في سِرتي.

ابتسمت جـنّـة بلطف وجارتها في حديثها وهي تمسك بيدها برفق: ولاد الحلال كتير يا ماما.

تلاشت ابتسامة روحية و أفلتت يدها وأخذت تناظرها من أعلاها لأخمص قدميها بشكٍ خالص وهي تفكر في حبيب، فعشق من المستحيل أن تناديها بـ أمي قط، هذه ليست عشق تصرفاتها المثيرة للريبة وابتسامتها البلهاء ودخولها وصنعها للعصير! كل هذه الأفعال لا تصدر عن عشق! عشق لا تسألها عن حالها ولا تربت على ظهرها! متناقضة تماما مثلما كان يحدث هنا عِندما صدقوا أنها فاقده للذاكره.

سألتها وبنبرةٍ محتده وهي تشعر بألمٍ قويّ في قلبها: إنتِ مين؟
تلاشت ابتسامتها وحل محلها الإقتضاب وهي تقلب عينيها قائلة بعدم تهذيب: كويس إنك عرفتي لأني زهقت من التمثيل، ها يا روحية فين حنان؟ بابا باعتني مخصوص عشان أعرف مكانها منك لأنك الوحيده اللي تعرفى هي فين ومخبيه الأوراق الخاصة بـ بابا فين؟
شحب وجه روحية وتعالت دقات قلبها فجأه لتهمس بألمٍ وتقتير مخفضة الرأس.

وهي تعتصر قلبها بقبضتها: لأ، معرفش، فين خالص!
ابتسمت جـنّـة بعصبية وأعادت صارخة وهي تجلس على ركبتيها أمامها: يعني ايه متعرفيش؟ هي فاكره إنها هتفضل هربانه كده؟ لا ده هيجيبها وهيندمها على اللي حصل واللي كان هيحصل لو حد شاف الورق ولا مسك عليه حاجة.

هزت روحية رأسها بوجه مُحتقن وعينا متسعة لاهثة وألمها يتضاعف جعلها تتلوي فوق الأريكة وجسدها ينتفض حتى توقف قلبها ولفظت أخر أنفاسها وهي تحدق بـ جـنّـة بأعين جاحظة.
تيبست جـنّـة محلها كمن تم لصقها بغراءٍ جيّد، تناظرها بشحوب بأعين غائرة وجسدها بدأ في الإرتجاف وجبينها يتفصد عرقا حتى جف حلقها منتظرة أن تصدر منها حركة واحدة تطمئنها.

اتسعت عيناها بصدمة وانسلت عبراتها وهمست بصوتٍ مُرتعش ويدها تمتد من إلى رثغ روحيه تتحسس نبضها بتذبذب وجسدها يرتعد من الخوف: رو، رو، روحيه! قومي! حصلك ايه قومى..
صرخت بعويل وهي تصفع وجنتيها بقوة: فوقي، فوقي، يانهار أسود فوقي.
لطمت وجنتيها بقوة وراحت تمسكها من عضدها تهزها بعنف صارخة بثوران: فوقي، فوقي، يلهوى لأ..

أخرجت الهاتف من جيب بنطالها وهاتفت والدها وعيناها تفيض من الدمع صارخة بحدّة: البرشام ده بيعمل ايه روحيه ماتت يا بابا ماتت.
وكأنها طلبت السماح منهُ ورضيّ عنها في النهاية ليرد عليها ذلك الرد البارد
: طيب ارجعي خلاص.
صرخت بهيستيريا وهي تشد على شعرها بجنون وعيناها تكاد تخرج من محجريها: بقولك ماتت تقولي ارجعي ارجع إزاي؟ دول شافوني وانا داخله ولما يبلغوا عني هيجيبونى.

زجرها بعنفٍ شديد: شافوا عشق ياغبيه مش أنتِ اتفضلي إرجعي وشيلي بصماتك عن أي حاجة لمستيها وافتحي أنبوبة الغاز قبل ما تمشي، واعملي حسابك هتعملي العملية مبقاش ليه لازمه شكلك دلوقتي.
وقبل أن ترد أغلق في وجهها الخط لتجهش في البكاء، وسقطت على ركبتيها بانهيار تشهق وتبكِ باختناق وهي تحدق فى جثتها بعينا زائغة.
أعادت رفع الهاتف بأعصابٍ تالفة وحاولت الإتصال بـ قُصيّ لكن هاتفه كان خارج التغطية.

لطمت وجهها وظلت جالسة محلها تهتز بقوة، تبكِ بنشيج غير قادرة على التحرك وهي تحملق في جثتها بعدم استيعاب، لقد باتت قاتلة الآن بفضل والدها، قاتلة.
تمالكت نفسها ووقفت بترنح، وهرعت إلى المنضدة وأخذت الصينيه بالأكواب.

وركضت بها إلى المطبخ، قامت بتنظيف الأكواب بكفيها المرتعشين وهي تشهق بقوة وعبراتها تنهمر بغزارة، أعادتهم مكانهم في المطبخ ثم أمسكت ببعض المناديل الورقية الخاصة بالمطبخ وقامت بفتح الغاز دون أن تلمس شيء بيدها.
بعد ثوانٍ قليلة جالت بنظراتها في المطبخ، تنظر حولها بهيستيريا وهي تجفف عبراتها تتأكد من نظافة المكان وخلوه من أي شيء يثير الريبة ثم خرجت.

أدارت مقبض الباب كي تذهب واستدارت تنظر إليها مرة أخيرة وهي تهز رأسها بأسي ثم خرجت وأغلقت الباب خلفها.
توقفت أمام الباب تلهث بوجه شاحب مصفر وصدرها يعلو ويهبط باضطراب ليسقط نظرها على كيس القمامة الموضوع أمام الشقة المقابلة.
نظرت حولها بريبة وتفحص ثم خلعت عدساتها اللاصقة ووضعتهما داخل المنديل، وساقتها خطواتها إلى القمامة بتباطؤ، ثم انحنت ودست المنديل وسط القمامة وذهبت.

بعد مرور عدة ساعات..
وضع قُصيّ الحقائب في صندوق السيارة وهو يتنهد بهدوء تاركًا غرام تلعب في الحديقة حتى ينتهي.
اختض قلبه وركض إلى الداخل بفزع عِندما تناهى إلى مسامعه صوت صرخات غرام: بابي، بابي، إلحقني.
توقف في الحديقة مشدوها وتنفس الصعداء براحة عِندما أبصرها تقف تتشبث في قدم شاب يبدو فى أوائل العشرينات وهو من يبدو عليه الهلع كـ لص تم ضبطه يسرق.

حملها بقلق وهو يناظره باستفهام وقلبه يخفق بخوف لتصيح بإشراق وهي تضع راحة يدها الصغيره فوق وجنته كي ينظر إليها: بابي شفته وهو بيحط الورده هو ده اللي بيجيب الورد.
تنفس الصعداء وضمها إلى قلبه بقوة مقبلا رأسها بتلهف وعينيه معلقه على الشاب الذي أخذ يدلك عنقه بتوتر.
تمتم بخجل بعد صمت دام لدقائق: أسف لو سببت أي ازعاج، انا كل يوم بأجي احطها وأمشي ومش بيكون في حد.

أومأ قُصيّ بتفهم وأخبره بأسف: كويس إنك جيت، إحنا مسافرين والبيت هيكون فاضي مفيش داعي للورد ده.
تمتم بتعجب: بس اهـ..
قاطعه قُصيّ بسؤاله: أنت بتحب؟
رمش بتفاجئ ونظر إليه بريبة ليعيد قُصيّ سؤاله بصيغة أخري: عندك مُزة يعني؟
ضحك ببلاهة وهو يعبث بمؤخرة رأسهُ بإحراج جعل قُصيّ يبتسم بخبث واستطرد برفق: تبقي ابعتلها هي الورد البنات بتحب الورد.
أومأ وشكره بامتنان: متشكر.

ربت قُصيّ على كتفه وهتف مشجعًا: شد حيلك البنات محتاجة مجهود.
قهقهة وأومأ وهو يقلب عينيه بضجر قبل أن يغادر، عبر من خلاله عن معاناته مع الفتيات وتقلباتهم المزاجية.
ضحك ثم سار بـ غرام إلى السيارة كي يغادر لتطلب منهُ بلطافة وهي تبسط كفيها أمامها تحدق بهما بتدقيق كأنها سترصد الجرثومة بأنظارها: بابي عايزة Wipes.
تنهد قُصيّ وغمغم بحنق: wipes إيه بس يا غرام إمسحي فيا إحنا خلاص قفلنا البيت وهنسافر.

ابتسمت بسعادة وصفقت بيدها بحماس: هنرجع روسيا؟
همهم وهو ينحني، أجلسها فوق الكرسي ووضع حولها حزام الأمان تزامنا مع صياحها بفرحة عارمة: هشوف بيدرو تاني.
توقفت يده وهتف بتهكم: تشوفي مين وحياة أمك؟
قوست شفتيها بلطافة وهمست ببراءة: بيدرو معايا في الكلاس.
إرتفع كلا حاجبيه وغمغم بتهكم يحادث نفسه وهو يحك طرف حاجبه: الكلاس! أه، ما دي غلطتي مكنش يصح أني أخليها تتعلم من الأول.

قاطعته وهي تتحسس وجنته بنعومة سائلة بلطافة وهي ترمش: بابي بتقول ايه؟
هدر بغيظ وهو يغلق الحزام حولها: بقول إني هقعدك جنب عمتك خلاص أتخرجتي من الحضانة كفاية عليكِ.
وتركها ودار حول السيارة بانزعاج و استقلها بضيق ثم سألها بفضول عندما بدأ في القيادة في طريقه إلى المطار: وبعدين أحكيلي اتصحابتو إزاي؟

في هذا الوقت تحديدًا..
أنهي وليد ترتيب الحقائب في السيارة المصفوفة أسفل بنايته ثم تقدم من عشق التي تقف تستند على مقدمة السيارة تحدق في العدم بشرود وهي تعقد يديها أمام صدرها وشعرها يرفرف حول وجهها بنعومة، تفكر بعمق تسأل نفسها إن كان ماتفعله جيّد أم سيء، هل ستنجح الخطة أم ستفشل كُليا إن أقدم أحدهما على تصرف غبي!
توقف وليد بجانبها جذب انتباهها ثم هتف بظفر: خلاص حطيت الشُنط.

أومأت بابتسامة ممتنة ثم سألته: لسه فاضل ساعتين على طيارتي وأنا جعانة ممكن ناكل؟
أومأ وهتف مؤكدا: أكيد طبعا ممكن اركبي
أمسكت معصمه أوقفته، فنظر بينها وبين معصمه بتعجب فأفلتت يده بإحراج وقالت بارتباك: اسفة، بس كُنت هقولك إن المطعم موجود ورانا مش محتاجه نتحرك ولا نروح في حته.
عقد كلا حاجبيه بتعجب ونظر خلفه يحدق في ذلك المطعم بريبة وسألها مستفسرا: المفروض ان المطعم ده مش هتدخليه تاني ولا ايه؟

ضمت شفتيها بتفكير وقالت بلا مبالاه: لأ عادي مش هيحصل حاجة، إحنا هناكل مش أكتر.
أومأ بتفهم وقال بابتسامة: اوكيه عادي كان عشانك مش أكتر.
دلف معها إلى المطعم وهو يفكر بعمق، فبقي ثلاث ساعات على طائرتهما وليس ساعتين؟ عن أي طائرة تحدثت هي؟
جلسا في زاوية كي لا يظهران بوضوح ويلفتان النظر إليهما، أو هي على الأقل لأنها كانت تعمل هُنا.
طلبت الطعام لنفسها بابتسامة هادئة مُشرقة، مختلفة، أصابت في نفسه التعجب.

سألته باستفهام أخرجته من صفونه بها: هتطلب حاجة؟
أومأ وطلب بهدوء وهو يمعن النظر إليها أكثر حتى ذهب النادل ليسألها بفضول: عشق إنتِ مبسوطة ولا انا متهيألى؟
ضحكت برقة وهتفت بصدق: هو أنا مرتاحة أكتر من إني مبسوطة، أنا حسيت النهاردة اني أتحررت من قُصيّ وللأبد.
سألها بتعجب وهو يرتشف من كوب المياة الموضوع أمامه: وأشمعنا النهاردة؟

ابتسمت وقالت بحماس وهي تخرج تذكرتها من حقيبتها: أول حاجة بس خُد التذكرة دي ورجعها لما توصل المطار عشان خسارة الفلوس تروح.
عقد كلا حاجبيه وحدق في التذكرة باقتضاب ثم هتف بسخرية وهو يعقد يديه أمام صدره بعدم رضى: مش هتسافري عشانه؟!
أخرجت تذكرة أخرى وهي تضحك ثم قالت بابتسامة وهي تضعها فوق الطاولة أمامه: لأ هسافر بس مش روسيا.
حدق في التذكرة مطولاً ثم سألها مستنكرا: ليه كندي!

أجابت بنفس ذات الإبتسامة المشرقة: عشان قُصيّ مسافر روسيا وانا مش عايزة أكون في بلد واحده معاه.
سألها بشكٍ وجهل: وأنتِ عرفتي منين؟
ضحكت وهي تمسد جبهتها بينما تقول بصوتٍ خافت: قُصيّ اللي قالي.
إرتفع كلا حاجبيه وسألها بازدراء: إزاي؟
باغتته هي بسؤالٍ آخر وهي تضيق عينيها أثناء تعديل جلستها: دُكتور وليد موقفك إيه من مريض بيضحك عليك؟
ناظرها بشكٍ وأجابها بنبرةٍ باردة جافة: بيضحك على نفسه مش عليا!

أومأت بتفهم وسألته باهتمام: طيب إيه رأيك في حالتي؟ قصدي بالنسبة للفرق بين حالتي أول ما جتلك ودلوقتي؟

أطلق تنهيده طويله وهو يسند مرفقيه فوق الطاولة ثم قال بنبرةٍ رخيمة وهو ينظر إليها بتركيز: مقدرش أقول إن حالتك كانت مزرية أوي ولا أقدر أقول إنك كُنتِ كويسة، كل الموضوع إنك كُنتِ محتاجة حل لمشكلتك الوحيدة اللي حلها قُصيّ مش حد غيره، ودلوقتي شايف التغيير المفاجئ! يمكن قبلتي وضعك أخيرا عشان كده مبسوطة ولا أنا غلطان؟

إتسعت ابتسامتها وإقتربت بجسدها وأمسكت كفه بدون تردد وضغطت فوقه برفق وهمست بشفتين مرتعشتين بتأثر ممتنه لوجوده بجانبها: أنا عمري ما هنسي وقفتك جنبي لأنك خففت عني كتير، دكتور وليد أنا لما جيتلك كُنت متدمره بمعني الكلمة بس وجودك كان بيهون عليا، يمكن أنت شُفت إن حالتي كانت عاديه وانا مجرد واحده محتاجة تتكلم بس دي مش الحقيقة، أنا كُنت بتعذب من بشاعة الحقيقة اللي عرفتها، الحقيقة كانت صعبة عليا لدرجة إنت متتخيلهاش، صدقني لولي وجودك جنبي انا كُنت موت نفسي بدل الحزن والتفكير كُل الوقت ده.

وتلا قولها انسلال عبراتها بحسرة، وأطرقت برأسها تبكِ بقلبٍ مفتور ليربت على ظهر يدها برفق مواسيا بهدوء وملامحه تتبدل للأسى: خلاص يا عشق إحنا إتفقنا نقفل الصفحة دي صح؟

رفعت رأسها وجففت عبراتها بحدّة وهتفت بانفعال من أعماقها: قفلتها والله قفلتها وبطلت أحبه خلاص ومن بدري يمكن لسه بحن ليه وده طبيعي لأنه كان دُنيتي كُلها بس والله مستحيل أرجع أحبه زي ما كُنت أبدًا، حقيقته كانت قاسية عليا أوي يا وليد وأنا بس كُنت بحاول أستوعبها مش أكتر.

قطبت جبينها مستنكرة واستطردت متحدثه بالحقيقة لأول مرة بانتحاب تسأله بانكسار وهي تنظر إليه وعقلها كان يطوف في مكانٍ آخر تتذكر ما حدث بتفاصيله: أنا طول الوقت ده بفكر وبحاول أستوعب إن إزاي في بنى آدم يقدر يدخل حياة بنت ويدمرها عشان مراته عايزة كده، إنت مُتخيل؟
سألها بعدم فهم وهو يهز رأسهُ بجهل: بتتكلمي عن مين يا عشق؟

ضحكت بأسى وعبراتها مستمرة في التساقط حتى تبدلت إلى هيستيريا وهي تغمر وجهها بين راحتيّ يديها وجسدها يهتز بعنف أقلقته من حالتها هذه.
بادر بالوقوف وكاد يتحرك لكنها توقفت تلتقط أنفاسها وتهدأ نفسها بنفسها وهي تأخذ شهيقا وزفيرا بقوة كما علمها، ثم جففت عبراتها وهي تقف تستنشق ما بأنفها قائلة بلطف: مش حد، أنا هروح الحمام وجاية الاكل جه.

أومأ بهدوء واضجع على مقعده يفكر بحيرة والأفكار تتزاحم في عقله أثناء وضع النادل الطعام أمامة.

بينما الآن في هذا الوقت تحديدًا..
توقف جاسم بالسيارة أمام البنابة التي تقطن بها عشق وقد تركتها، ترجل وركض إلى الداخل بسرعة البرق كأنهُ يتسابق مع الوقت.
توقف أمام المصعد لاهثا وهو يلعن عِندما تذكر أن المصعد لأصحاب الشقق فقط ولا يملك الشريحة كي يمررها ويصعد.
عاد أدراجه إلى البواب الذي كان غافيا فوق الأريكة الخشبية يتوسد ذراعيه دون أن ينتبه إليه وهو يركض إلى الداخل، لأنهُ إن أنتبه لأوقفه.

وكزه جاسم في كتفه بخفة يوقظه برفق: ياعم الحج!
فتح عينيه بنعاس ثم إعتدل جالسًا عِندما أبصره وقبل أن يسأل قال بثقل: سِت هانم خدت شنطتها ومشيت من ساعة.
اتسعت عينيه وسأله بلهفة: راحت فين خدت تاكس ولـ..
قاطعه قوله بهدوء وهو يشير إلى الخارج: دخلت العمارة اللي قصادنا دي، هي دايما بتدخل هناك.

أومأ جاسم سريعا وركض إلى الخارج وهو يحدق في تلك البناية الفارعة ليستوقفة لبرهة رؤية لافتة الطبيب، فقطع الطريق وذهب إليها بثقة دون تفكير قاصداً عيادة الطبيب فهي أخبرته أنها ستسافر معهُ قبل طلاقها، بالتأكيد هي معهُ الآن.
طرق الباب بعنف وجبينه يتفصد عرقا، يلهث بتعب وهو يسند جبهته فوق الباب ويديه لا تتوقف عن الطرق بيأس، فهو يُجب أن يجدها.

زمجر بغضب وركل الباب بقوة صارخا بصوتٍ مرتعش ملتاع وهو على حافة البكاء: عشق، يا عشق إنتِ فين؟
طرقت عشق غرفة مدير المطعم شوقي وهي تبتسم، أذن بالدخول بصوتٍ طغى عليه الألم، فأدارت المقبض وأطلت برأسها من خلف الباب تتفحص الغرفة بنظرها أولا كي ترصد مكانه.
اتسعت ابتسامتها عِندما رأته مُنكب فوق الأوراق الموضوعة على المكتب لتسأل بصوتٍ رقيق: ممكن أدخل؟

رفع رأسهُ ببطء وهو يتأوه لينتفض بخضة وشحب وجهه عِندما رآها تتقدم، بل وجلست قبالته بأريحية وهي تبتسم.
أزدرد ريقه بشحوب ونظر إلى الباب بترقب وصدره يهتز بعنف منتظرا الرجال الذين سيوسعوه ضربا لكن لم يدخل أحد. ، نظر إليها بتردد وعدم راحة مرتكزا بعينيه خلفها متحاشيًا النظر في عينيها مباشرةً. ، لقد تم تحذيره من التطاول ورفع عينيه بها.

طلبت منهُ بجديه كي تنتهي سريعاً وتذهب لأنها لا تستطيع النظر إليه وهو بتلك الحالة المزرية بسبب الخوف: عايزه رقم كاميليا.
اتسعت عينيه ونظر إليها مشدوها ثم سألها بريبة: ليه؟
ردت ببرود وهي تطرق فوق زجاج المكتب بقبضتها: أنت متسألش!
أومأ بقوة وألتقط قلم و ورقة سريعًا من أمامه وقام بكتابه الرقم وناوله إليها باحترام، أخذته من يده وحدقت به قليلا ثم وضعته داخل الحقيبة وغادرت.
ـ يلا بينا.

سألت حال وصولها إلى الطاولة ليناظرها وليد باستفهام سائلا: مش هتاكلي؟
نفت قائلة وهي تهز رأسها: لأ مليش نفس.
ضم قبضته فوق الملعقة بضيق وقال بانزعاج: أنا جيت عشانك وطلبت أكل عشانك وفي الآخر تقولي مالكيش نِفس؟
إعتذرت بندم: آسفة، أنا كُنت جعانه فعلا بس بعد ما عيطت مبقاش نفسي في حاجة.
أومأ بتفهم وهتف بعدم إهتمام: ماشي براحتك بس أنا باكل بقي واستني لما أخلص.

لم تمانع بل ابتسمت وجلست تنتظره وقالت بـ وِد: مفيش مشكلة أقعد استني عادي.
شردت هي في الطاولات الفارغة أمامها، وهو إنغمس في الطعام سريعًا وعقله مستمرا في ضخ الأفكار والافتراضات والأسئلة المُحيرة التي لا يجد إليها إجابة واحدة مفيدة أو مريحه.
سألها وسط تناوله للطعام: متأكده إنك مش عايزة تروحي روسيا؟
أومأت بثقة وهي تبتسم برضى قائلة لأول مرة باعتزاز: ده القرار الوحيد الصح اللي أخدته في حياتي ومش هندم.

أخبرها بأسف وكأنها لا تعرف هذا: كده أخرنا مع بعض في المطار!
قهقهت برقة وأومأت وهي تسند مرفقها فوق الطاولة مرتكزه بذقنها فوق قبضتها ثم هتفت بثقة وهي تبتسم وأمل جديد ينبض بداخلها منتظرة قدوم تلك الأيام: عارفة طبعا، أنا زعلانه جدًا بس مبسوطة أكتر لأني هبدأ من جديد لوحدي، والمروة الجاية إن شاء الله لما أقابلك هنتقابل دكتور لدكتور.

ابتسم ونظف فمه بمحرم ورقي وهتف وهو يخرج الأموال من حافظة أمواله ووضعها فوق الطاولة متمنيا: دي حاجة تسعدني جدًا شدي حيلك.
ردت بسعادة وهي تسير معهُ إلى الخارج: إن شاء الله.
أستقل جاسم سيارته وإنطلق بعيدا دون أن يعرف إلى أين وأي وجهه يتخذها!، إنه تائه ولا وجود لمكان يذهب إليه.
بينما هي استقلت السيارة مع وليد لينطلق إلى المطار.

في هذه الأثناء توقفت سيارة الأجرة بـ جـنّـة أسفل البناية التي يقطن بها سامي في القاهرة، تراقب كل من يدخل ويخرج من المدخل مشدوده وهي تهز ساقيها بتوتر مفرط، وتعض على شفتيها بقوة ساحقة، وتعتصر قبضتها المتعرقة، تلتقط أنفاسها المتسارعة بلهاث من فرط الإنفعال، فلمَ الأجواء مازالت هادئه إلى الآن؟! أين هم؟!

توقف قُصيّ وسط الطريق كي ترتشف غرام المياه بسلام، وراقب شفتيها الصغيره وهو يزم شفتيه بلطافةٍ مثلها ثم قرص وجنتها وسألها الذهاب: خلاص أمشي!
أومأت بلطف ثم سألته بابتسامة: بابي هي فين طنط الأمورة اللي باستني كتير؟
قهقهة قُصيّ وقال بابتسامة: إسمها لـمـ. إنشراح ياحبيبتي.
زمت شفتيها وتقلصت ملامحها بحزن سائلةً برقة: هي فين يا بابي؟

ضرب المقود بخفة وهو يهز رأسهُ وهتف بأسف: أهي راحت مع اللي راحوا ياحبيبتي خلاص بح كانت فتره وعدت فاهمة حاجة؟
نفت بـ هزّ رأسها وهي ترمش فمسح على شعرها بنعومة وحثها على الأكل: كُلي حرنكش يا حبيبتي واتفرجي على الطريق يلا.
أومأت وأخفضت رأسها تأكل بلطافة وكل برهة وأخري تنكمش ملامحها بقوة عِندما تصادف ثمرة لاذعة تجعله يضحك عليها.

تلاشت ابتسامته، واضجع على المقعد بأريحية، وأخذ يقود بيدٍ واحدة وعينيه مرتكزه على الطريق بنظراتٍ عميقة وهو يعود بذاكرته إلى ذلك اليوم..
(عودة إلى وقتٍ سابق)
كان يجلس في غرفة النوم فوق الكرسي شاردا بـ هم والحزن يستعمر قلبه بملامح مقتضبة نافذة وهو يُفكر في عشق الجريحة التى أجرمت لأنها أحبته فقط.
دارت جـنّـة حول نفسها بفستان الزفاف بسعادة غامرة وهي تقترح قائلة: ماتيجي نحتفل النهاردة وأنا عروسة كده؟

لم يلتفت إليها أو يوليها أي إهتمام كأنها غير موجودة بتاتا، فتقدمت وجلست فوق قدمه بالفستان الضخم وأحاطت رقبته بنعومة وهي تلامس أنفها بأنفه بحميمه ليزفر بغضب وأبعدها عنهُ دافعا إياها بعنف كادت تسقط إثرة.
شعرت بالغضب يغمرها وتقدمت من النافذة تفتحها وأولته ظهرها بسبب شعورها بالإختناق أثناء سؤالها بحقد: زعلان عليها؟

لم يأتها إجابته فعادت تتحدث بمكر وهي تحدق في النافذة المقابلة: تعرف إنها موجودة قصادنا دلوقتي؟
تجاهلها مجددًا لتصيح من بين أسنانها وهي تضم الفستان بقبضتها: أنا مراتك وكُنت بعيده عنك ودلوقتي رجعت وأنت معندكش دم؟
أضحكه تذمرها الذي بدي لطيفًا وهي تطلقه بذلك الغضب كأنها على حق! إنها مُضحكة وتحب أن تبدو كـ ضحية.

وقف وأخذ يتقدم منها بابتسامة مبتسرة كي يتأكد من كون عشق هُناك، أحاط خصرها بحميمية مُقربا إياها من صدره بقوة هامسًا بحرارة وهو يسند رأسهُ فوق رأسها: عارفة نفسي في إيه دلوقتي؟
همست بتخدر وهي تضع يدها فوق يده: ايه ياحبيبي؟
أخبرها بخفوتٍ قاتل وبحرصٍ شديد في أذنها وهو يبتسم وقبضتيه تعتصران خصرها بعنف: نفسي تكون عشق في حضني وبين إيديا مش إنتِ.
تحركت جـنّـة بين يديه بقوة قائلةً بنفور: إبعد عني متلمسنيش..

إبتسم بخطورة ثم شدد قبضته حول خصرها بقوة أكبر هامسًا بجانب أذنها من فوق حجابها جعلها تقشعر وتتجمد محلها في آنٍ واحد: ومين قالك اني هلمسك؟ انا مش طايق أبص في وشك، وهطلقك.
ودفعها بعيدًا عنهُ بقوة كـ جربه ارتدت إثرها إلى الخلف وكادت تسقط لكنها تماسكت وتشبثت بمقعدٍ بجانبها..
فتح درج الكومود بغضب، أخرج منهُ بعض الأوراق الرسمية وجواز سفره ثم استدار ونظر لها قائلًا بغضبٍ سافر: أنا مسافر..

خرجت من حالة الذهول التي تلبستها فجأة وسألته بنبرة مرتعشة: رايح فين وسايبني؟
هدر بحدّة وهو يحدجها باستحقار: رايح لبنتي فاكراها؟
ابتسمت بحنين وتوسلته وهي تضم يديها أمام صدرها: هاتها معاك يا قُصيّ. بالله عليك رجعهالي.
ضحك بخشونة وسخر بـ رده عليها: عارفة المشمس؟ ولا لأ لأ، عارفة وحيد القرن!
أومأت والدموع تتجمع في مقلتيها ليتابع بسخرية: لما يبقي عنده قرنين أبقي أجيبهالك.

انسلت عبراتها بألم واحتجت بقولها بعذاب: حرام عليك يا قُصيّ قلبي بيوجعني عليها متحرمنيش منها.
ضرب كفيه معا متعجباً قولها سائلا باستنكار: قلبك إيه اللي بيوجعك بابنت الناس، ده أنتِ الإحساس عندك مفيش خالص، وبعدين كُله لمصلحتك عشان لما نتطلق متتأثريش سيبك منها بقي وعيشي وانتقمي وانبسطي يا بيبي ها سلام، وبعث إليها قبلة هوائية وتركها وترك المنزل وغادر..

مطت شفتيها بعدم إهتمام ثم جلست فوق الكرسي الهزاز الموضوع بجانب النافذة، أراحت ظهرها عليه وأرخت رأسها إلى الخلف ورفعت قدم فوق الأخرى من أسفل فستان الزفاف وأخذت تفكر بعمق وهي تطرق بأناملها فوق يدِ الكرسي، تتأرجح به أثناء تحديقها في النافذة المقابلة لها، الخاصة بغرفة عشق..

استقل قُصيّ سيارته وقادها حتى بداية الطريق مبعدًا إياها عن منزلهم نهائيًا، وعاد أدراجه متسللاً عبر الحدائق المجاورة لمنزل عشق حتى وصل إليه.
توقف عن السير وأختبأ خلف الحائط عِندما رأي سامي ينحني يخبئ شيء أسفل البساط الموضوع أمام الباب ثم ذهب.
راقب قُصيّ ذهابه بسخط حتى غادر واختفي كُليا عن أنظاره، تقدم بانتباه وهو يتلفت حوله كاللص، رفع البساط ووجد المفتاح كما توقع ثم فتح الباب و ولج.

ألقي نظرة متفحصة في الأسفل ثم صعد السلم ودلف إلى أول غرفة قابلته، زفر وأغلقها بضيق عِندما وجدها فارغة ثم ولج إلى الغرفة المجاورة ليعتصر الألم فؤاده وهو يبصرها متكورة على نفسها أسفل النافذة تبكِ.
أغلق الباب خلفه ليصدر صريرا جذب إنتباهها، جعلها ترفع رأسها بتباطؤ وعيناها تفيض من الدمع ظنًا أنهُ سامي وعاد لمضايقتها.
اتسعت عيناها وانتفضت جالسة وهتفت بصوتٍ مبحوح مستغيث وهي تشهق: قُصيّ!

ركض وجثى على ركبتيه أمامها وضمها إلى صدره بقوة لتلتف يديها حول خصره وتدس رأسها في صدره، تنتحب من أعماقها باختناق وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة، لقد عاد إليها وترك جـنّـة، ما رأته ليس صحيحاً.
مسد ظهرها بحنان وهو يتمتم بكل عبارات الأسف مشددّا قبضته حولها مستمعًا إلى نحيبها بأسى، وهو يرتب الحقيقة داخل رأسهُ كي يخبرها بها، فهو لن يخفي عنها الحقيقة أكثر من هذا.

رفع رأسها بين يديه وجفف عبراتها برقة، يسألها الهدوء بكل ما يحمله من الأسف: عشق إهدي وأسمعيني
وأفهميني، أنا أسف، أسف على كل حاجة وندمان والله ندمان وهعمل المستحيل عشان اعوضك وتسامحيني بس أفهميني.
نظرت إليه بعدم فهم وعيناها تفيض من الدمع وهي تتنفس بصعوبة، أثناء ضغطها على قبضته بقوة هامسة بقلبٍ منشطر: هسامحك بس قُلي ليه عملت فيا كده ليه؟

بلع ريقة بصعوبة وتجمعت الكلمات المبعثرة لديه حتى لفظها وهو يداعب ظهر يدها بإبهامه: عشان، عشان، جـنّـة عايزة كده.
توقفت عبراتها عن الانهمار وهمست بنوعٍ من الاستهجان: يـ، يـ، عنى إيه؟
أخذ شهيقًا طويلاً قبل أن يخبرها كُل شيء، بالتفصيل، بما حدث في الماضي وخطة المستقبل، لم يغفل تفصيلة واحدة، ولم ينظر إلى عينيها قط وهو يتحدث، كان يتحاشاها كي لا في يرى في عينيها ما يخشاه.

نفضت يديه عنها بعنف وابتعدت إلى الخلف وهي تهز رأسها بهيستيريا متمتمه بعينان زائغة: أخرج برا، مش عايزه اشوفك أخرج برا، برااا، أخرج.
رفض وأقترب بركبتيه منها أكثر وأمسك يدها برجاء يحاول أن يستعطفها، فصرخت به بأعين جاحظة وهي تجذب يدها منهُ بعنف ونفور: إبعد عني بقولك، إبعد عني أنا بكرهك، بكرهك، ربنا ينتقم منكم كلكم.
أمسك يدها بإصرار فصرخت به بحرقة وأجهشت في البكاء: إبعد عنـ..

وضع كفه فوق شفتيها يكتم بقيه حديثها صائحا هو بصوتٍ مُرتفع منفعل كي تفهم: عارف إنك هتكرهيني، ومش عايزة تشوفي وشي تاني، ومش طايقاني ولو تطولي هتفضلي تدعي عليا طول عمرك وعندك حق، أنا مش كويس وأستاهل أي حاجة تحصلي، بس يا عشق أنا بقولك عشان بحبك ومش عايز اخسرك ومش عايزك تفضلى مخدوعة فيا طول الوقت، انا عايز أحافظ عليكِ وأبعدك عن هنا عشان مش هيسيبوكِ في حالك! لازم تبعدي.

هزت رأسها برفض وعيناها تفيض من الدمع فوق كفه الذي لم يبعده عن فمها مستمعا لصوت أنينها المُعذب المكتوم واستطرد برجاء وصدق: والله بحبك وخايف عليكِ عشان كده حكيتلك، كان ممكن أسيبك ومتعرفيش حاجة بس انا مش عايز كده لأنهم هيعرفوكِ بطريقة تانيه وهيلبسوني الليلة كلها عشان تكرهيني وتـ..

عضت باطن كفه بقسوة ودفعت به عِندما استطاعت أسقطته جالسا وصرخت به بجنون وعيناها تكاد تخرج من محجريها: على أساس إني بحبك وكلامهم اللي هيكرهني فيك! عذر أقبح من ذنب يا قُصيّ عُذر أقبح من ذنب، أنا عمري ما هسامحك والله ما هسامحك أبدا وهفضل أحقد عليك طول حياتي فاهم، أخرج برا، أخرج براااااا.
زفر بنفاذ صبر وهو يحدق في السقف ثم انتصب جالسًا وسألها الهدوء: طيب أهدي عشان نتكلم مـ..

بصقت في وجهه أسكتته وصدرها يعلو ويهبط بعنف وعيناها لا تناظرانه سوى بالكُره، أغلق عينيه بعنف وهو يستحضر هدوئه ثم مسح وجهه بـ كم سترته بوجوم وهدر بحدة: ارتاحتي كده اسمعي بقي، كل المطلوب منك إنك تفضلي مع جاسم وتبعدي عني فترة عشان يقتنعوا إنك بعدتي عني.
ضحكت بقهر وهي تلكم صدره بقبضتها بقوة لم يحس بها صارخةً بشراسة: لأ والنبي خليني معاك مش هقدر أعيش من غيرك يا حقير.

قبض على فكها بقسوه وهو يحدجها بغضبٍ سافر دافعًا بجسدها إلى الحائط جعلها تتأوه بصوتٍ مكتوم ضاغطا على فكها بعنف، لاصقا رأسها بالحائط بقوة مؤلمة ثم هدر بوحشية وعينيه تسودان بقتامة تناظرانها بخطورة: بُصي يا عشق أنا مقدر حالتك وعارف انك مصدومة بس ده ميمنعش إنك عارفة كويس أوي إنك عملتي علاقه مع واحد متجوز، وسواء عندي ولاد ولا معنديش دخلت أو مدخلتش مراتي ميته ولا عايشة ده ميفرقش المبدأ واحد وأنا مضربتكيش على إيدك ولا أجبرتك على حاجة! كُله كان بمزاجك ووجودك معايا كان بمزاجك، بسهولة جدا كانت الخطة ممكن تبوظ لو كان اللي معاكِ مالي عينك ومكنتيش تتقصرى بكلمة ولا بشوية حركات! فاهمة؟

أفحمها بتصريحه الذي أصابها في مقتل، اهتزت مقلتيها باضطراب وتراخى جسدها وضعفت مقاومتها وهي تنظر إليه، فمهما حدث ستظل اكثريه اللوم تصب عليها هي فقط وليس هو، ستظل الخائنة حتى وإن كانت مظلومة.
أومأت بخنوع وهي تطرق برأسها، فـ ندم أشد الندم وهو يطالعها، فهي من تجعله يجرحها كل مرة وليس هو!

رفعت رأسها وسألته بحرقة: أنا مليش ذنب في كُل ده! وبابا معملش حاجة انا عارفة القصة بابا حكالي قبل ما يموت وهو معملش حاجة! حتي لو عمل أنا ذنبي إيه؟
حدثها برفق وهو يومئ بتفهم مجففا عبراتها بأصابعه لتبعد رأسها إلى الخلف بنفور وهي تنكمش على نفسها: انا عايز أحميكِ مش طالب منك أكتر من كده ولا عايز أي حاجة تانية.
مسحت عبراتها وهتفت برفض وهي تنظر للجهة الأخرى: شكرا مش محتاجة مساعدتك.

أجابها بدون تعبير: انا مش بطلب منك ده إجباري هتوافقي لأنك هتموتي وانا مش هسيبك تموتي فاهمة، هترجعي مع جاسم وهتفضلي معاه، ولما أرن عليكِ هتردي ياعشق، انا هسافر وهسيبك فترة تروقي وتفكري كويس وهنتقابل تاني.
حرك رأسهُ للجانب وهو يتثاءب وضاعف سرعته أكثر بانفعال كي يصل إلى المطار ويذهب من مصر نهائيا لأنهُ بدأ يشعر بالاختناق، الطريق اللعين لا يتنهي قط.

مسد جبينه بقوة وهو يزفر مستذكرا مقابلتهم الأولي بعد معرفتها الحقيقة..

(في الحفلة. )
دارت وتحركت معهُ بثلاثة والعبرات تشق طريقها لوجنتيها ولا تعلم اعتابًا أم إشتياقًا، فالقلب يميل لمن يُحب وهي مازالت تميل كُل الميل، كالنجمة تنير و تهدي في عتمة الليل كانت هي هكذا بين يديه، قلبه لم يهدأ ويتوقف عن الخفقان قط منذُ أن رآها، فهي أصبحت المالكة وغدي هو العبد..
ـ وحشتيني، همس بجانب أذنها بلوعة اشتياق، بوهن صاحبة واستشفته في صوته و أنفاسه الهادرة..

هادئة، ظلت هادئة بينما داخلها خراب تعض على شفتيها بقوة لكي لا يخرج صوتها الواهن حتى أدمتها، دفع بها إلى صدره بقوة مكبلًا إياها ويديه تمر فوق ظهرها بتلهف معطيًا الإشارة لها كي تبوح، شهقت بحرقة وهي تدس رأسها في رقبته ويديها تلتف حول منكبه بقوة تنوح وتبكِ بقلبٍ مُنشطر دون توقف..

ـ مكنتش أعرف إني بحبك اوي كده غير لما بعدتي، قال بشغف وهو يُدثرها داخل أحضانه بقوة وحميمية، هذا كلامًا جميلا مفعمًا بالحب لكنها لم تسمعه منهُ بقلبٍ صافي، رُبما مازالت غبية و تتفاعل معهُ لكنها لن تعود عشيقة من جديد هذا لن يحدث، لقد أقصته من حياتها..

ـ عشق مش هتردي عليا؟!، سألها بصوتٍ ضارع متوسلًا للرد، ليأتيه صوتها الباكِ المتعب الذي أشتاق لهُ كثيرًا بعد صمتٍ دام لثوانٍ بجانب أُذنه: أسكت يا قُصيّ وأحضني جامد، ابتسم بحنين وهو يتذكر هذا القول، فيا إلهي كم يشعر بالحنين إلى تلك الأيام، هو بالفعل كان يُقيدها وليس يعانقها فقط، هي فقط تريد وداعًا لائقًا.

همست بنحيب وهي تشد على كتفيه بقبضتها: أنت مشيت بعد ما غرزت خنجر مسموم في قلبي يا قُصيّ وسبته ينزف، و روحي تنزف معاه..
همس في أذنها بصدق وهو يدس أنفه في شعرها: والله هعوضك وهداويك وهنتجوز بعد ما تطلقي وهنكمل حياتنا سوى.
أجابته بأسف وهي ترخي قبضتها فوقه: أنا مش هسيب جاسم يا قُصيّ، هفضل معاه طول العمر هو بيحبني وهيحميني.

رفع رأسهُ بانتفاضة كأنها أخبرته أن عزيزٍ على قلبه قد مات وسألها باستنكار: يعني ايه الكلام ده؟
نظرت داخل عينيه الغير ظاهرة في الظلام مباشرةً وقالت بإبتسامة: يعني عمرى ما هسيب جاسم وهكمل معاه، ولو على السفر متقلقش هقوله ونسافر سوى، ريح ضميرك يا قُصيّ وإنساني بقي.

وعقبت قولها بتركه والمغادرة، وانهمرت عبراتها وما كادت تبتعد حتى شهقت بخضة عِندما جذبها بخشونة وأعادها أمامه بقوة قبل أن تضيع في الظلام وهدر بعصبية: ده مكنش اتفاقنا؟

ردت عليه ببساطة وعبراتها تتساقط، بابتسامةٍ لطيفة غير مرئية شعر بها من خلال قولها زادته غضبا على غضبه و إستفزته أكثر: أحنا متفقناش على حاجة يا قُصيّ! أنت قولتلي الحقيقة ورميت الكوره في ملعبي وسافرت وأنا أخدت القرار والحقيقة إني مقدرش اكمل مع واحد بتاع مراته!
فهو إن كان صادق ويحبها حقًا ستتركه يتعذب ببعدها عنهُ، وإن كان كاذب خائن كما تظن فلن يقصر معهُ ولا يهمها، هي فقط ستحاول تعويض جاسم.

قست ملامحه وتشنج فكه وقبل أن يحرك ساكنا ارتفع صوت الهمسات والتمتمات المنزعجة حولهم بسبب طول الانتظار والأضواء مازالت مُغلقة ليتخلل الأصوات صوت جاسم القلق المُرتفع وهو يهتف باسمها بلهفة: عشق، عشق، أنتِ فين؟
أخرجه من دوامة ذكرياته سعاله القويّ فأوقف سيارته وسط الطريق كي يرتشف بعض المياة، وهو يتذكر الحديث الذي دار معها عِندما ذهب إلى شقتها المستأجرة.
=: لأ يا قُصيّ مش موافقة..

قالت بجمود وهي تبعد يديه عن خصرها ودلفت داخل الشرفة و أولته ظهرها برفض.
صدمة ردها الجامد وعدم موافقتها وحملق في ظهرها بعدم فهم؟ إنها جادة في هذا الشأن، لم تكن تمازحه أو تنتظره أن يتوسل إليها كي تتزوجه لأنها رفضته حقا!
إقترب منها بلا تفكير وسألها باستفهام بنبرة ثقيلة وهو يمسد ذراعيها من الخلف: ليه لأ يا عشق! مش إحنا كُنا مستنين الفرصة دي من زمان؟!

ضحكت بسخرية كادت تتحول لبكاء هيستيري لكنها تماسكت وقبضت على سور الشرفة الحديدي بعنف قائلة بنبرة محبطة وهي تستدير كي تكون قبالته: كُنا! تقصد كُنت، انا لوحدي اللي كنت بتمنى أتجوزك مش أنت!
أحاط ذراعيها بحنان وقال بتلهف موافقا لها وعينيه تناظرها بحب: ماشي و دلوقتي جاي أطلب منك إننا نتجوز يبقى لأ ليه؟
أنزلت يديه عنها بطريقة أقرب للعنف قائلة برفض: لأ عشان عرفت حقيقتك وعشان أنا متـ..

قاطعها بنبرة محتدة غاضبة: متطلقة، متطلقة يا عشق وبطلى تمثيل بقي ووافقي! دى فرصة مش هتجيلنا تاني؟!
ناظرته بهدوء تام بينما تقول بنبرة خافتة وابتسامه باردة تعلو ثغرها: أبطل تمثيل! أنت جي تحنن عليا؟ مش عايزاها يا قُصيّ الفرصة! ومش عايزاك اللي بينا انتهى وخلاص.
ابتسم بعصبية وقال من بين أسنانه: لأ مش جي أحنن عليكِ جي أصلح غلطتي.

أدمعت عيناها وهمست بنبرة منكسره وهي تعود اللاستداره وعقلها يطوف بين ذكرياتها معهُ توصم جميع أفعاله الحقيرة معها داخل قلبها كي لا تضعف وتحن: تصلحها بعد ما فضحتني ودمرتني وسبتني مرميه أتفلق بحجة سفرك وكُنت ممكن أموت نفسى مش كده؟
رفع عيناه إلى السماء قليلا مبديا ضيقة عبر زفرته النافذة هاتفًا للمرة الأخيرة بحزم وانفعال: للمرة الأخيرة يا عشق هسألك هتتجوزيني ولا لأ!

لم تأخذ وقتا طويل أو حتى دقيقة كاملة تفكر مليا في إجابتها بل ردت عليه بحزم مماثل وجدية دون رجعه مرة أخرى: لأ مش هتجوزك يا قُصيّ، وقولتهالك قبل كده ومش هبطل أقولها ريح ضميرك وأنسي.
المحزن أنه لا يستشف أي عِند من نبرتها، إنها صادقة ولا تعاند بتاتا وترفضه حقًا، ويبدو عليها اليأس كذلك.
عانقها من الخلف بحميمية دافعا بها إلى صدره بقوة هامسًا بجانب أذنها بترجي: يلا نبدأ من جديد يا عشق.

حركت يديها المرتعشتين ودفعت يده عنها بقوة هامسة بتعب: لأ، يا قُصيّ مش هنبدأ من جديد..
شد شعره بقوة وسألها بخشونة كابحًا نفسه عن الصراخ في وجهها بصعوبة: ليه يا عشق ليه؟

استدارت تنظر إلى عينيه بتأمل مدققة النظر إليها أسفل ضوء القمر هامسة بإبتسامة حزينة: أنت اتغيرت يا قُصيّ! دي عمرها ما كانت بصتك ليا وعينك مفيهاش حُب! أنت جاي تعمل واجب شايف أنك لازم تعمله مش جاي عشان بتحبني؟ أنت مقولتليش بحبك حتى لو كذب!
فلفظ ببساطة كما يلفظ أسمها بنعومة: بعشقك والله.
ضحكت وهي تمسد جبينها قائلة بعدم تصديق لأيًا مما يتفوه به: شُفت مش قادر تقولها بقت صعبة.

قبض على ذراعها بعنف وصرخ في وجهها باستهجان: إنتِ غبية؟ أنا بقولك تتجوزيني وأنتِ تقوليلي مقولتليش بحبك؟ اومال هتجوز عشان بكرهك؟
مدت يديها إلى وجهه وهتفت بانفعال و أعين متسعة وهي ترتكز بنظراتها داخل عيناه: بُص في عيني يا قُصيّ وقولي بحبك ومقدرش أعيش من غيرك زي زمان يلا قول.
قذفهم في وجهها دفعة واحدة بتجهم هو يضرب كفيه معًا: بحبك وبعشقك ومقدرش اعيش من غيرك.

رفعت كفها إلى وجنته مداعبة بينما تقول بحزن: مش حساهم زي زمان يا قُصيّ.
أنزل يدها بعصبية وهتف باستنكار: عشق أنا مش مصدق اللي بتعمليه! بقولك هنبدأ من جديد وهنتجوز وأنتِ مش موافقة؟ نسيتى زمان اللي بتتكلمي عنهُ؟ نسيتي نفسك؟
ابتسمت بألم وانسلت عبراتها وهي تنظر إليه، فإنه لا ينفك عن جرحها قط.
همست بانكسار وهي تبتسم في وجهه أغضبته أكثر: لأ منستش بس مش هيتكرر تانى على هيئة جواز وأنت زي ما أنت!

سألها باقتضاب: يعني ايه الكلام ده؟
أجابت ببرود وهي تستنشق ما بأنفها: يعني مش موافقة يا قُصيّ مش موافقة واتفضل إمشي..
قبض على فكها بقسوه وسألها بتهكم وعيناه تغيم في سوادٍ قاحل والنيران تتأجج بين جنبات صدره: وده ليه بقي إن شاء الله؟ عجبك الدكتور؟
شهقت بحرقة وهمست من وسط بكائها بحسرة: حلوه اوي الثقة اللي بينا دي هيبقي لينا مستقبل باهر لو اتجوزنا..

تركها زافرًا بعصبية لتعلو شهقاتها الحارقة، فركل الكرسي الذي وجده خلفه بعنف يشفي به غليله قبل أن يفتك بها تلك الغبية، ضم قبضته فوق سور الشرفة بقوة لاهثًا وصدره يعلو ويهبط بانفعال وعينيه معلقة على الشرفة المقابلة بنظرات حاقدة.
لا يُجب عليه أن ييأس أو يسئم الآن هذا ليس الوقت المناسب لفعل هذا، يقدر حالتها المتذبذبة لكن لن تأتيه فرصة أفضل كي يغتنمها.

هدأ قليلا ثم عاد للإقتراب منها، جفف عبراتها بحنو وهمس برفق وأطرافه تداعب وجنتها: عشق أنا مسافر ومش عارف هرجع أمتي ومش عايز أسيبك هنا لوحدك خايف عليكِ.
وضعت يدها فوق يده تربت فوقها بنعومة هامسة بابتسامة مطمئنة: متخفش يا قُصيّ إطمن وريح ضميرك هبقى كويسة.
هتف بألم وهو يسند جبينه فوق جبهتها: مستحيل يا عشق أنا بحبك؟

هزت كتفيها بأسف وقالت بشفتين مرتعشتين وهي ترفع عينيها الباكيه في عينيه اللامعة المكسوة بالحزن:
و أنا مبقتش أحبك ولا بثق فيك، وليد ساعدني عشان أنساك وأتخطاك ولا كأنك دخلت حياتي في يوم، بقيت أعرف أعيش من غيرك يا قُصيّ مش محتجالك.

كان هذا كثيرا عليه سماعه من بين شفتي محبوبته، مؤلم لدرجة تمني لو لم يخبرها بأي شيء من البداية، كانت ستقبل به إن لم تعرف حقيقته، المشكلة أنها لم تعرف الحقيقة كاملةً بعد، لم تعرف أن خالتها مسؤوله عن هذا ولا تعرف من قتل شاهي، لم يخبرها سوي بالجزء الخاص به، فإن علمت ماذا سيحدث! أين ستهرب من الجميع؟

تأوه بحزن وضمها إلى صدره بقوة لتدفع نفسها في أحضانه متشبثة في سترته بقوة تودعه بقلبٍ منشطر فينقبض قلبه خوفا عليها متوسلا إياها بكل جوارحه: عشق انا مش عايز أجبرك على حاجة أنتِ مش عايزاها بس فكري وهجيلك تاني.
هزت رأسها بنحيب فوق صدره وهمست بصوت مكتوم وهي تحوطه بقوة: لأ متجيش مفيش مجال لينا تاني يا قُصيّ ربنا يوفقك في حياتك الجاية.
رفع رأسها بأنامله ولفظ إسمها بنبرة ناعمة مترجية: عشق.

هزت رأسها يمينًا ويسارًا بقوه وعيناها تفيض من الدمع كي يدرك أن لا مجال للعودة، وابتعدت عنه و أولته ظهرها برفض مجدداً.
ظل نظره مُعلق عليها بعجزٍ يشعر به لأول مرة ومازال جزءا بداخله يكذب مايحدث، إقترب و عانقها من الخلف لاصقا ظهرها بصدره بتملك حتى التحما.
همست باختناق وهي تهز كتفيها بنفور: إبعد عني يا قُصيّ مش طايقاك.

طغى الحزن ملامحه وأسند ذقنه فوق كتفها وهمس مودعًا بنبرة هادئة منهزمة ويديه تداعب يديها برقة: هتوحشيني يا عشق.
عضت على شفتيها تكتم شهقاتها بقوة، وضمت جفنيها بعنف عِندما شعرت بقبلته الرقيقة توصم نحرها أحرقت روحها.
إنه الوداع.

حررها وابتعد بخطواته إلى الخلف ببطء وعيناه معلقة على ظهرها لعلها تستدير وتتراجع لكنها لم تفعل، ولم تفكر أن تفعل قط، استدار على عقبيه وغادر لكنها استدارت وهتفت بخذلان: وليد كان عنده حق يا قُصيّ أنت مبتحبنيش.

توقف وأطبق على كفيه بـ غل وتجهمت ملامحه وأظلمت عينيه بخطورة واهتز صدره بعنف ثم استدار وقال بتهكم: أنا مش هتحايل عليكِ أكتر من كده يا عشق! عارف اني غلطت وطلبت سماحك، بس أنتِ مش مسامحاني ماشي، بس على الأقل إديني فُرصة أعوضك وتعالي معايا عشان اثبتلك حُسن نيتي، أنا مش هخطفك ولا رايحين المريخ يعني تقدري تسبيني في أي وقت لكن إنتِ، إنتِ عاجبك كلام الدكتور بتاعك وخليكِ وراه براحتك مش هاخدك بالعافية..

واستدار على عقبيه وتحرك للذهاب لكن صدح صوت هاتفها جذب انتباهه، نظرت بين الهاتف وقُصيّ مشدودة ومقلتيها تهتزان باضطراب، ليقترب بخطواته ويرفعه بين يداه لتلوح ابتسامة ماكرة مزجت بمقتٍ شديد على محياه عِندما رأي هوية المتصل.
قال وهو يرفع كلا حاجبيه ملوحا بالهاتف بين يديه: ليدو بيتصل.

وقست ملامحه والدماء تغلى داخل عروقة وقذفه على الأريكة بغضب أقرب للعنف وأردف مستطردا بجدية دون مُزاح: بُصي يا عشق عارف إن صعب عليكِ تقبليني بس أنتِ بقالك فتره مع الدكتور وانا مختفي ومش بظهرلك عشان مضيقكيش فا متحسنتيش ولو شويه على الأقل! مش عايزة تعرفيني والمرادي بجد وعلى حقيقتي؟ أنتِ فاكراني مبسوط؟ معقولة بتحبيني ومش شايفة الحزن اللي في عيني ولا قادرة تحسي بيه؟

إنه يستفز عواطفها، محتال وسيظل يحتال عليها لأنه يعرف كم تحبه، كادت تتحدث لكنه عاجل بالقول بنبرة مهزوزه صادقة لأنه يعرف ما ستقول: أنا مش بستغل حُبك ولا بستعطفك عشان توافقي وأنتِ من جواكِ مش راضية، لأ أنا بقول الحقيقة عشان تدينا فرصة تانية وهسيبك تفكري من غير ضغط ولو وافقتي تبقى ابعتيلي معاد طيارتك لما وليد يحجزلكم.
اتسعت عينيها وتمتمت بشحوب: أنـ، أنـ..

أكمل عنها بثقة عمياء جعلتها تبغضه: عارف إنك مقولتلهوش الحقيقة كاملة وعارف إنك وافقتي تسافري معاه، وانا معنديش مانع طالما هتخرجي بره مصر وسواء معاه أو مع غيره كُلها ساعات بس وفي الاخر هتعيشى معايا أنا بردو، أنتِ بتاعتي أنا، ملكِ لوحدي!
ارتفعت زاوية شفتيها بحقد وهتفت بمقتٍ شديد: بلاش الثقة دي لأنك متعرفنيش.
هز كتفيه وقال بنبرة صاغرة استفزتها: عرفيني!

انتفخت أوداجها بغضب وهي تكزّ على أسنانها من فرط العصبية، وشفتيها ترتعشان، وقلبها يقرع داخل قفصها الصدري بانفعال، وعيناها تهدد بتساقط عبراتها في أي لحظة بسبب ثقته اللامتناهية وتبجحه في حديثه المستمر عن كونها ملكه، فاللعنه عليها إن عادت إليه من جديد لن يحدث سوي على جثتها، ستوهمه، ستجعله يرتفع إلى سابع سماء ويسقط إلى سابع أرض عِندما لا يجدها في الطائرة، لن يراها في حياته مجددًا.
ـ هستناكِ ياعشق.

قالها بهدوء قبل أن يغادر وذهب دون عوده، ذهب وهو يعرف أن تصرفاته لا تزدها سوي كرها ونفورًا، حياته أصبحت لا تُطاق ولا يتحمل حقًا.
ستوافق، ستوافق وتجاريه وتكمل كذبتها حتى النهاية، لأن وليد لا يستحق أن تكذب عليه ولن تتمكن من مواجهته إن عرف الحقيقة.
لم تحملها قدميها أكثر فانهارت ساقطة على الأرض تبكِ وتشهق بحرقة عِندما تناهى إلى مسامعها صوت صفق الباب بعنف.

داعبت الرياح شعره بقوة وهو يستند على مقدمة السيارة في الخارج يُريح عقله من كثرة التفكير والذكريات تعصف برأسه.
يذكر، يذكر كُل شيء لا يستطيع النسيان قط والمضي قدمًا دونها، يتمني ألا تفشل خطته وألا يحدث موقف غبي يفسد كُل شيء عليه.

هو أسف، بالتأكيد لأنه أستغل قُرب لمار كي يبدد الشكوك عنهُ وعن عشق، ففي الحقيقة هو فعلياً علاقته منتهية بعشق ولا يراها وصرحت هي بهذا أكثر من مرة وأخبرته أنها تكرهه لكنهُ لا يستوعب هذا ولا يتقبل، لكن إن ظل الوضع هكذا سيتقبل بالتأكيد يوما ما.
أخذ شهيقا طويلًا ثم استقل سيارته مجدداً وتابع قيادته إلى المطار.

كان في هذا الوقت وليد في بداية طريقة وعشق تجلس بجانبه شاردة تتابع الطريق والهواء يلفح وجهها وهي توصد عينيها وترمش كل برهة وأخري وشعرها يتطاير بقوة بسبب دفع الرياح القوي. (وهي تعود بذكرياتها إلى يوم زفاف ليلى ).

(في المرحاض)
مسحت عبراتها بظهر يدها بعنف وعدلت مظهرها عازمه على الذهاب دون العودة، فهو لا يستحق حُبها وإن طلب منها الزواج لن تقبل به وستغادر.
لن تحن عليه وتصفح مجددًا، فهي فكرت كثيرًا في منحه الفرصة لكنهُ لا يستحقها وأضاعها بتصرفاته.
فتحت الباب بقوة وخرجت لتنتفض بفزع عِندما وجدته يقف ينتظرها في الخارج..

تخطته وذهبت لكنه سحبها من ذراعها لتنفلت منها شهقة ذعر وهو يدفع بها إلى الحائط وأشرف عليها بطوله الفارع سائلا بتهكم: مبسوطة مع الدكتور؟
لاحت على شفتيها ابتسامة ساخرة وسألته بغلظة: وأنت مبسوط مع لمار؟
تألقت إبتسامة عابثة فوق شفتيه وهمس بجدية: إنتِ عارفة اني بحبك إنتِ ولمار صديقة وبتوِه بيها جـنّـة مش أكتر.

أومأت بتفهم وهي تضم شفتيها وعيناها تجيل على ملامحه الرجولية سائلةً بغيرة دفينة وأناملها تتخلل جانب شعره اللامع: وحلوه ريحة جوز الهند يا قُصيّ؟
إبتسم بجانبية وأجاب بثقة: جدًا إنتِ مش مُتخيله! وأقترب أكثر منها وأخفض رأسه وهمس بالقرب من رقبتها لتضرب أنفاسه الدافئة نحرها أصابها بقشعريرةٍ وجعلها تزدرد ريقها بتوتر وهو يأخذ شهيقًا طويلاً من شعرها ملأ به رأتيه: بس مش أجمل من اللافندر.

سألته ببرود وهي تمد كفها أسفل ذقنه تبعد وجهه للخلف: هتتجوزها إمتي يا قُصيّ.
جاراها في الحديث وتصنع التفكير قليلا ثم أجاب: في أقرب وقت وهعزمك طبعا لأني مبسوط بيها.
ابتسمت بلطف ورفعت يدها تربت على وجنته بنعومة هامسة بنبرة مريحة: وأنا كمان مبسوطة جدا وهتجوز أنا وهو، ربنا يسعدك معاها وتتبسط كمان زيي بالظبط..
قلب عينيه ولفظ بتهكم: بطلي تضيعي الوقت في كلام مالهوش لازمة وفكري فى مستقبلنا.

هتفت بسخرية وهي تحاول دفعه عنها بنفور وإشمئزاز هاتفه ببغض وقد تبدل مئه وثمانين درجة واستوحشت: مفيش مستقبل وصدقني لو هتجوز هتبقي آخر واحد أفكر فيه.
هدر بغضب وهو يضغط على معصمها: طالما هتتجوزي يبقي أنا أولي وأنتِ عارفة كويس أنا أولى ليه، عايز اصلح اللى عملته.
هزت رأسها بيأسٍ بسببه وبسبب قناعته بأنها ملكه حتى كادت تبكِ حزنًا وشفقه عليه.

تنهدت من أعماقها وأطلقت أنفاسها المُرتجفة في وجهه وهتفت بكره شديد واحتقار: إنت ملكش أمان، وأنا بجد بكرهك.
ونفضت يده عنها وشملته بنظرة أخيرة مشمئزة تخبره عبرها بانتهاء كل شيء كان بينهما..
أنزلق إطار السيارة بقوة نفضها عن مقعدها جعلها تتأوة بخضة وهي تلتفت إليه. ، إعتذر وليد وهو يبتسم ببلاهة وأبطء قليلاً لأجلها وتابع قيادته بهدوء.

حانت منها إلتفاته إليه وهي تبتسم بامتنان وشكرٍ لهُ، فهي آسفة لأنها تكذب عليه ولا تخبره الحقيقة، آسفة هو لايستحق الكذب، لكن تقسم أن مجهوده الذي بذله لأجلها لن تضيعه هباءا لن يضيع.

أخرجها من شرودها وصول رسالةٍ نصيه إليها، عقدت حاجبيها وقطبت جبينها عِندما رأت الرسالة عبارة عن عنوان شقة في القاهرة مصحوب برسالة تخبرها بوجود قُصيّ هناك وعدم مقدرته على الحركة بسبب مرضة الشديد، تخبطت الأفكار داخل رأسها وتحيرت وهي تحملق فى ذلك العنوان حتى حفظته، ليهتز الهاتف مجددا في يدها معلنا عن وصول تلك الصور.

رفعت الهاتف أمام وجهها وأخذت تتفحص الصور بتركيز وهي تكبرها بأصابعها، لتشهق بقوة وتنسل عبراتها وتبدأ يديها في الإرتعاش وهي تقرأ ما نقش داخل الصور بعذاب، مستذكرة شحوب قُصيّ وإرهاقه في الأونه الأخيرة وأختفائه الطويل عنها، إنهُ ليس بخير، أراد فقط أن تسامحه قبل الموت.
صرخت بقهر وسقط الهاتف من يدها وهي تقول بعويل: قُصيّ.
أجفلت وليد فأوقف السيارة على جانب الطريق وسألها باستفهام: مالك في إيه ماله قُصيّ؟

هتفت بأعين متسعه غير مستوعبه وهي تنتحب ويديها تعتصران قلبها بقوة: قُصيّ عنده سرطان في المراحل الأخيرة وهيموت.
إستنكر قولها بسبب رؤيته لـ قُصيّ من أيام في الزفاف وهو بخير ولا يتوقف عن الحركة وبذل المجهود دون تعب، إنحني وحمل هاتفها من أرضيه السيارة وحدق في تلك النتائج المزورة بارتياب وقبل أن يتحدث وجدها تفتح باب السيارة بثوران وتخرج.
فأمسك معصمها وأعادها بقوة سائلا بتوبيخ: رايحة فين إنتِ دلوقتي؟

هتفت بهيستيريا وإنفعال بعينان جاحظتان هي تحرك معصمها بين يديه بقوة مقاومة باستماته دون أن تعي ما يحدث حولها وتوقف عقلها عن التفكير: لازم أروحله مش هقدر أسيبه لازم أروح.
فهي ظنت أن عالمها إنهار بمعرفتها الحقيقة، لكن موته وأختفائه من حياتها للأبد هو الإنهيار الحقيقي.
هدئها وليد برفق وهو يحذبها للداخل ومال وأغلق الباب وأدار السيارة كي تجلس وتقف عن المقاومة: هروح معاكِ وهوديكِ خلاص إهدي متخافيش.

إستدار وعاد أدراجة إلى القاهرة، يقود بسرعة فعلق إزدحام السيارات المتكدسة خلف بعضها البعض، كاد يُغير وجهته لكن توقفت سيارة خلفه أغلقت عليه الطريق.

أخذت عشق تهز ساقيها بتوتر وهي تعض أصابعها، تراقب الإزدحام بأعصابٍ تالفه وعيناها تفيض من الدمع، تُحمل نفسها ذنب حالته الآن، هزت رأسها بهيستيريا وعدم صبر ثم نظرت إلى وليد الشارد المغموم وفتحت باب السيارة بغته وركضت إلى الخارج وهي تردد العنوان تُسمع به نفسها كي لا تنساه.
فتح باب السيارة وأخرج جسده وصاح بإسمها بقوة وهو يلعن نفسه: عشق! يا عشق؟

استسلم ودخل وصفق الباب بعنف عِندما إبتعدت، فظل يُحدق في الصور باقتضاب وهو يفكر بحيرة باحثا عن العنوان داخل الصور فهي أين ستذهب؟
بدأ في العبث داخل هاتفها ودخل على الرسائل النصية الخاصة بها ليقابل تلك الرسالة، قرأها مراراً وتكراراً وهو يقطب جبينه يحدق في الرقم المجهول بشك، أن أراد قُصيّ شيء سيخبرها برقمه! ألن تقول أنها علمت منه أنه سيذهب إلى روسيا؟ ما خطب الرسالة إذا؟

جرب الإتصال بالرقم لكنهُ مغلق، أعاد بعد دقائق وهو يحرك أنامله فوق المقود ليعرف تلك المرة أنه غير موجود نهائيا!
بحث في قائمة الأرقام خاصتها بشك رُبما هو قُصيّ ومسحت رقمه لكن وجده مُسجل.
ضغط على الرقم بعنف كأنه قُصيّ الذي أمامه وليس الهاتف وأنتظر الرد.
أجابها قُصي بعد إن رأي إسمها فوق شاشة هاتفه: ألو، أنتِ فيـ..
ـ أنت عندك سرطان؟

قاطعه وليد بنبرة محتدة وهو يراقب السيارات التي تتكاثر وتزيد الازدحام الذي لن ينتهي الآن ويتفاقم غضبه أكثر.
عقد قُصيّ كلا حاجبيه بانزعاج شديد وسأله بغضب وهو يحدق في المرآة الخارجية للسيارة: فين عشق؟
أعاد سؤاله بقوة: بقولك عندك سرطان ولا لأ؟
اجابه ببرود: كان عندي و استأصلته فين عشق بقي؟

أتاه رده منفعلا وهو يقبض فوق المقود بـ غِل: عشق وصلتها صور بنتايج التحاليل بتاعتك وعرفت إنك عندك سرطان وفي المراحل الأخيرة وراحتلك على العنوان اللي جالها.
اتسعت عيناه وتشنج فكه وقام بالضغط فوق المكابح بقوة ارتد إثرها للأمام وكادت غرام تسقط عن الكرسي لكن لحقها وثبتها جيدًا وهو يقول باستهجان بملامح لاتفسر: عنوان إيه اللي راحلته الغبيه! اومال لو مكنتش عارفة كل حاجة وفاهمة كانت هتعمل ايه؟

صرخ وليد في الهاتف جعله يُصاب بالطنين: عارفة إيه؟ هو إيه اللي بيحصل بالظبط؟
صرخ قُصيّ بالمثل بعلو كاد يذهب بصوته حتى نفرت عروقة وهو يضرب المقود بقبضته: قول العنوان الزفت، انا مش موجود في حته أنا رايح المطار ده فخ؟
أملاه وليد العنوان ليتجمد لبرهة مكانه هامسا لنفسه بصدمة وقلبه ينقبض بخوف: سامي! سامي!

أدار السيارة بعنف وعاد أدراجة من وسط الطريق بسرعة البرق متخذًا طريقا آخر مختصرًا كي يصل في الوقت المناسب وينقذها من براثنه، وهو يتوعد لـ جـنّـة اللعينة أشد الوعيد، لقد إستدرجتها إلى شقة سامي بسهولة ولن يتركها هذه المرة، مفاجئة لعينة مثلها.
كان خائفا من حدوث شيءٍ كهذا وقد حدث، لمَ يُجب عليها ألاتفكر بعقلها وتنساق خلف قلبها طوال الوقت! إنه المُتسبب الأول في همومها.

أغلق وليد الهاتف ووضع كفه أسفل وجنته بـ همٍ منتظرا فض الزحام كي يذهب إليها وأصوات أبواق السيارات المزعجة تزعق داخل رأسه وهو يفكر فيما يحدث ومعني قول قُصيّ أنها تعرف كل شيء.


أوقف مصطفي سيارته أمام المنزل وامتدت يده إلى مسدسة بتجهم، بملامح جحيمية، فـ آدم قادم مع تالين في الطريق وسوف يستقبلهما.
توقفت يداه في الهواء عِندما صدح صوت هاتفه.
تأفف بغضب وهدر بنفاذ صبر: أيوه يا سالي! قُلت هجيب شنطة هدومي وجي إسبقيني على المطار سلام.

أغلقت الهاتف بابتسامة ماكره وهي تسند حافة الهاتف أسفل شفتيها، وعيناها تشِع بالخبث، تفكر في خطتها التي لن تفسد، وهي ترفع حاجبها بانتصار، تطرق بكعب حذائها فوق الأرضية باستمتاع ثم سحبت حقيبتها وذهبت إلى المطار تنتظره هُناك.
تمتمت شهيرة باستنكار وهي تترك قدح القهوة من يدها: إزاي يعني الشيك مفيهوش رصيد؟

هتف الطبيب بغضب وهو يقود بعصبية في طريقه إلى منزلها: زي الناس، إنتِ معندكيش فلوس ونصبتي عليا بعد ما عملتلك اللي أنتِ عايزاه بس أنا مش هسكت وهقول لولادك كُل حاجة وبعدين هبلغ عنك.
هبت واقفة وصاحت بتهكم وثبات لايدل على خوفها الداخلي: تبلغ عن مين يا مزور! إنت اللي هتروح فيها.

ضحك بخشونة وهتف بخسة وعيناه تتسع بانفعال: هنروح مع بعض لأن أنا سجلت كُل المكالمة اللي دارت بينا عشان عارف إن الناس اللي زيك مالهاش أمان.
تسارعت أنفاسها بثوران وأغلقت الهاتف في وجهه وصرخت بجنون وهي تقذفه على طول ذراعها: الحقير، الحقير..

غلت الدماء في عروقها ورنين كلماته ترن داخل أذنيها فأطبقت على كفها بقوة وأخذت تضرب راحة يدها وهي تقول بهيستيريا: يعني ايه مفيش فلوس؟ يعني ايه؟ الفلوس فين؟ مصطفي! مصطفي فين؟

توقف آدم أمام المنزل ثم أطفأ مُحرك السيارة ونظر إلى تالين بتأمل للمرة الأخيرة وقلبه لا يطاوعه على تركها تعود إليه وهو لا يستحقها، يقرع كالطبول بعنفوان متسببا في ألامٍ مبرحة كأن أحدًا يضربه بمطرقة على قفصه الصدري وهو يُراقب ذهابها. ، لكن تتبقي لديه غصة قلق تأزمه ولا يعرف مصدرها، خائفا من تركها لكن يجب عليه تركها، لا يملك حلول فالمياة يجب أن تعود للسريان في مجراها الطبيعي.

ابتسمت في وجهه بإشراق رغم شحوب وجهها، ممتنه لوجوده ومساعدته إليها ثم ترجلت من السيارة وسارت إلى المنزل بخطواتٍ متباطئة وهي تحاول الإتزان أثناء سيرها دون ترنح، فهي مازالت ضعيفة وفقدت الكثير من الوزن وأضحت أكثر هشاشة.
ترجل بسرعة من السيارة وهتف بإسمها بتلهف كـ طفل تم تركه من قبل والدته في منتص الطريق: تالين.

استدارت على عقبيها تنظر إليه وهي تبعد شعرها إلى الخلف، فركض إليها باندفاع وضمها إلى صدره بيدية الإثنتين بقوة، مطلقا أنفاسه الحارة بارتجاف وعينيه تدمع، بروحٍ معذبة رافضا تركها تذهب من بين يديه.
تبسمت بجانب أذنه وهي ترفع يدها إلى ذراعة تمسدة برقة هامسة بنعومة: مش هتدخل معايا؟
همس بصوتٍ معذب وهو يغمض عينيه بألم دافعا بها إلى صدره بقوه آلمتها: هيبقى صعب عليا اسيبك لو دخلت.

أومأت بتفهم وهمست بامتنان: عمري ما هنسى اللي عملته عشاني أبدًا يا آدم ولا هنساك شكرا.
أطلق آهه متألمة وهمس بصوتٍ مكتوم وجِل وهو يفصل العناق كابحًا دمعاته: هتوحشيتي، ولثم جبينها برقة بالغة لم تكن محسوسة وكأنه طبعها على الهواء وليس جبينها.
تهدل ذراعيه بجانبه بانهزام مراقبًا دخولها إلى المنزل وعقله وقلبه يصرخان باهتياج ورفض لكنهُ لم يستمع، بل عاد إلى سيارته يبكِ بانكسارٍ وحده.

كان من المفترض أن يزجر والدته ويحرجها أمامهم بقوله أنه من يُريد خطبتها ويحبها، رُبما تحدث مشكلة بسيطة بعد قوله، ورُبما أهلها لا يوافقون عليه لكنها في النهاية لم تكن لتتزوج من مصطفى، هو من آثر الصمت وامتنع عن المواجهة وطلب حقه حتى تم سلبه منهُ وأضحي هو السيء المُخرب، فضّل أن يحصل عليها بالطريقة الخطأ وظن لوهلة أنه سينجح لكن كل شيء انقلب رأسا على عقب وحدث ما لم يحمد عقباة.

الإختيار كان بين يديه من البداية، والسعادة كانت تلوح في الأفق أمامه، لكن فضّل إختيار الطريق الصعب بدلا عن التخلي والمضي قدماً.
رفع رأسهُ من فوق المقود بحالة مزرية وهو يبكِ بقهر ثم أدار المحرك و وهو يمسح وجنتيه بـ كُم سترته بخشونة وتحرك بالسيارة وهو يُراقب الطريق برؤية مشوشة فنظر من النافذة على حين غرة ليجذب انتباهه مرور سيارة الطبيب بجانبه بطريق معاكس لهُ.

أوقف آدم سيارته ونظر عبر المرآة الخارجية يُراقب مايحدث خلفه فوجده يتوقف أمام منزلهم ثم ترجل وجلس على مقدمة السيارة وأخرج هاتفه وهو ينظر إلى باب المنزل بإغراء راغبا في الدخول، وكما يبدو أنه يحاول التحدث لأحد من عائلته.
ساور آدم الشك وهو يحدق به وبتصرفاته المثيرة للريبة! فترك السيارة بشك وتقدم منهُ دون تفكير.
ـ محتاج حاجة يادكتور؟
سأله آدم بعد أن توقف أمامه.

أنزل الطبيب هاتفه وهتف بثبات انفعالي: الصراحة يا آدم ومش هكذب عليك جي أخد حقي اللي والدتك مش راديه تدهولي.
إنقبض قلبه بخوف وهز رأسهُ بعدم فهم وسأله مشدودًا: حق إيه؟
ركضت شهيرة مهرولة إلى مصطفى عِندما رأته يصعد الدرج أوقفته بقولها بهيستيريا: مصطفي أستني يا مصطفى فين الفلوس؟ حسابي فاضي فين الفلوس؟
زفر مصطفي بضيق وقال بلا مبالاة وهو يتخطاها: هبقي أشوف الموضوع ده بعدين أنا مسافر دلوقتي وجى اخد هدوم.

أمسكت ذراعه بقوة مانعة إياه من التحرك خطوة واحدة للأمام وصرخت به بجنون: يعني ايه تشوف بعدين؟ فين فلوسي؟
زمجر بغضبٍ سافر وصرخ بها بالمثل: شوفي فلوسك بتوديها فين الأول وراجعي فواتيرك وهبقي اتصل بالبنك اشوف ايه الموضوع وسيبيني بقي اخد الهدوم و أغور قبل ما أرتكب جريمة.

تفاقم الغضب داخلها وقبل أن تتفوه بحرف قاطعهم جرس الباب، واستدار مصطفي واتجه ناحيته كي يفتح بتجهم ينذر بالشر، ودمائه تغلي والحقد يتلألأ في عينيه.
إبتسمت تالين في وجهه بنعومة بعد أن فتح ليرد ابتسامتها بصفعة قاسية وهو يكشر عن أنيابه سقطت على وجنتها إلتف إثرها وجهها للجهة الأخرى دوت إثرها صرخة كتمها بجذبها من شعرها بعنف ودفعها للداخل بهمجية أسقطها على وجهها لتدوي صرختها المتألمة.

تقدم منها بابتسامةٍ موحشة وصدره ينقبض وينبسط بعنف، ونسي الباب مفتوحا.
تأوهت باكيه وهي ترفع جسدها بضعف تستند على راحتي يديها المرتعشتين بقوي خائرة وقلبها يتقافز هلعا داخلها زاحفة إلى الخلف بجزع وهي تضم قدميها، تناظر تقدمة منها برعب وشحوب سيطر عليها أذهب بلون بشرتها تماما.

هدر بنبرة جهورية وهو يركل بطنها بكل قوته جعلها تتلوى صارخة: ليكِ عين تضحكِ في وشي بعد اللي عملتيه ياخاينة يا(، ) فين الـ (، ) هقتلكم مع بعض هو فين؟
عجزت عن التحدث والآلام المبرحة تمزق بطنها، تحاول التحرك والابتعاد باستماتة عاجزه عن التقاط أنفاسها بشكلٍ طبيعي وعيناها لا تتوقف عن ضخ الدموع، وصدرها ينتفض وجسدها متشنج من الألم، والدماء الدافئة بدأت تتساقط من بين قدميها معلنة عن خسران جنينها.

شهقت شهيرة بقوة وهي تشاهد ابنها بذعر حقيقي خوفا من غضبه الأعمى، فهي لا تُريد موتها هي!
تقدمت منهُ بتوجس من أجل تهدئته لتفزع وتتمنع عن التقدم عِندما رفع تالين من شعرها بقوة لتستقر أمامه
كالذبيحة بجسدها المرتخي وذراعيها المتهدلان دون مقاومة، وعينيها بالكاد تفتحهما بصعوبة.
لم يتأثر، ولم يرحم ضعفها ولم يعبأ بصوت أنينها المُعذب بل سألها وهو يلطم وجنتها: فين آدم؟

هزت رأسها للجانبين بأنفاس ثقيلة وهي تغمض عينيها بضعف مستسلمة إلى الظلام واللاشعور الذي ابتلعها.
جأر بغضب ودفعها من يده بطيش فاصطدمت رأسها بحافة الطاولة الزجاجية وسقطت أرضا دون حراك وباتت تنزف من مكانين.
في الخارج..

لم يبصر أمامه من الغضب بل لكمه بعنف وأحكم مسك رأسهُ من الخلف وضرب جبهته في مقدمة السيارة وهو يجأر متحدثا بجنون وهو يسحق رأسه سحقا في السيارة بقوة حتى سالت الدماء من جبهته: يا إبن الـ (، ) ده أنا هوديكِ في ستين داهية يا إبن الـ(، ).

توقف لاهثا وجبينه يتفصد عرقا وهو يعقد كلا حاجبيه مستهجنا حاله وقبضته كأنها زرعت في رأسه لا يريد تحريره لكن أفلته واتسعت عيناه وتنفس وهو يهز رأسهُ بقوة وكأنه تذكر ما يضمره مصطفي إليه، هو وتالين، تالين. تالين.
ركض إلى الداخل وسرعته تضاهي فهد بينما الطبيب سقط أرضا يسعل باختناق وهو يتأوه.

لطمت شهيرة وجهها وهي تهرول وجثت أمامها صارخة بهلع وهي تحدق في جسدها الراقد دون حراك: قتلتها؟ قتلتها يا مصطفي ووديت نفسك في داهية؟

نظر مصطفى إلى بقعة الدماء أسفل رأسها بعينين غائرة إهتزت باضطراب وقلبه يخفق بعنف، ترنح في وقفته بأعصابٍ تالفة وأصفر وجهه وشحب، فهو لم يقصد، كان غاضباً فقط، إرتجفت يديه وحوّل نظراته عنها وحملق في حافة الطاولة الزجاجية التي تلونت بلون أحمر باهت كوجهه أثبتت له مافعل، فهو أضعف من أن يقتل.

ركض إلي الأعلي بسرعة كي يأخذ الحقيبة ويغادر نهائيا دون عودة أثناء محاولات شهيرة المستميتة كي تجعلها تستفيق بخوف وهي ترتجف: تالين، فوقي، فوقي يا تالين، هتبقي كويسة فوقي، أنت غبي، أنا مقولتلكش عشان تقتلها هي يا غبي! هتفضل غبي مبتفكرش لحد إمتي؟، إنت مبتردش عليا ليه؟

عقبت قولها برفع رأسها تنظر إليه بسأم لتتجمد الدماء في عروقها، وتوقفت عن التنفس عِندما أبصرت آدم يتقدم بترنح، يجر قدميه خلفه بصعوبه كأنه شُلَّ وعينيه غائرة متسعة معلقة على تالين منفصلاً عن العالم دون أن يرف له جفن أو يحيد بنظره عنها قط.
سقط على ركبتيه أمام جسدها وجال بنظراته عليها دون أن يسعفه عقله في الاستيعاب، لقد كانت معهُ من دقائق بخير إنهُ يتوهم فقط.

تساقطت عبراته بألم وشهق بقوة شاعرًا بأن قلبه سيتوقف في أي لحظة، لايمكن أن يحدث هذا، يموت معها إن ماتت.
هزّ رأسهُ بأسي وهدر بقهر وهو يضع رأسهُ فوق صدرها: تـالـيـن، تـالـيـن، آآآآآآآه.
انتفضت شهيرة إثر صوته المُفزع و أشفقت عليه لأول مرة، فحركت شفتيها تطمئنه عليها وتواسيه: آ، آدم، يا حبيبي هتبقى بخير.
أسود العالم من حوله، وغامت عينيه مع وعيه في سواد حالك وهو يستذكر قولها لمصطفى ؛ هي السبب.

رفع رأسهُ إليها لتسقط جالسة محلها بفزع حقيقي وانقبض قلبها وانبسط وهي ترى موتها المتجسد في مقلتيه الجاحظة الدامية بلا أدني شك.
هدر بوحشية وهو يقترب منها ومقلتاه تقدحان حقدًا وصدره يهتز باهتياج: أنتِ، أنتِ، السبب..
هزت رأسها نافيه بهيستيريا وهي تزحف بجسدها إلى الخلف برعب هامسة بنبرة مرتعشة: لـ، لـ، لأ، أنا، أنا، أنـ..

ولم يشعر بنفسه وهو يهجم عليها سطحها وجثم فوقها وأطبق بكفيه على رقبتها وأخذ يخنقها بكل ما أوتي من قوة بـ غِل مُخزن لديه، حتى إحمر وجهه ونفرت عروقة وتعرق بغزارة وهو يصر على أسنانه وإبهامه يضغط، ويضغط بإصرار، بعقلٍ مُغيب تماما.

حركت يدها تضرب ذراعه بضعف بعينين جاحظتين دامية وقدميها تتشنج، بأنفاسها المسلوبة، وفمها الفاغر بقوة وهي تلفظ كلماتها الأخيرة بصعوبة وصوت مبحوح علهُ يُحررها: تـ، تـ، الين، عـ، عـا، يشة.
لم يسمعها، بل كان يسمع صوت لهاثه فقط. ، ارتكزت بعينيها داخل عينيه وتوقفت عن المقاومة وسقطت يديها بجانبها مُعلنة إنتهاء حياتها.

رفع كفه عنها بتجهم وهو يتصبب عرقًا محملقا في وجهها الأزرق وكتفيه يرتفعان بعنفٍ ولم يكتفي بعد، لن يندم بتاتا تستحق الموت، تغمره راحة لا توصف بموتها، لكن قلبه يحترق، يحترق ويموت ببطء.
سقطت الحقيبة من يدِ مصطفى وهو يحدق بهما بصدمة وجحوظ ويكاد يغشى عليه من المنظر، أصدرت صوتًا مدويًا جذبت إنتباه آدم.

استدار برأسه مبتسماً بوحشية وأجرام في وجهه وهو يلهث كان مُخيفًا كأن خللا ما أصاب عقله. ، وقف ومن دون سابق إنذار أمسك بالمزهرية من فوق الطاولة وقذفها على رأسهُ تهشمت بها.

انحني مصطفي متأوها وهو يضع راحة يده في جانب رأسهُ يكتم خط الدماء الذي بدأ بالسيلان، وامتدت يده إلى الحقيبة لتجحظ عيناه عِندما رأى آدم يفصل السلك عن الهاتف الأرضي وقام بلهفة حول كفيه وتقدم منهُ بملامح إجرامية ولا ينوي سوي خنقه مثل والدته.

تنبهت حواس مصطفي وتناسي ألمه البسيط أمام ماسيحدث إليه إن ظل مصدوم متيبس محله، تشجع وأمسك الحقيبه وركض إلى الخارج لكن آدم حاصره ووقف أمام الباب وهو يرفع السلك أمام وجهه.
عاجلة مصطفى بقذف الحقيبة الصلبة عليه بقوة أجفله أصابت رأسه ويديه جعلته يترنح ويسقط على ركبتيه متأوهًا، ليركض مصطفي ويأخذها سريعا من الأرض ثم دفعه من أمام الباب بلهاث وخوف وهو لا يستوعب كم المصائب ولاذ بالفرار إلى المطار.

وقف آدم وهو يضع كفه المرتعش فوق جبينه المجروح وتحرك للإندفاع خلفه لكن تمنع لأجل تالين، فلن يتركها تموت.
هرع إليها وحملها بين يديه المرتعشتين وهو يهتف بإسمها بهيستيريا أثناء ركضه إلى سيارته: تالين، تالين، فوقي.
حطها على المقعد الخلفي برفق وهو يذرف الدموع ثم أستقل مقعده وقاد إلى المستشفى الأقرب إليه.

تعجب الطبيب من رؤيه تالين وهو يحملها بتلك الحالة المزرية بالتأكيد سيأخذها إلى المستشفى، وقبلها فرار شقيقة بحقيبته وذهابه بسرعة البرق، حك طرف ذقنه بحيرة بملامح مستفهمة فضولية ثم أخرج الهاتف من جيب بنطاله وهو يثبت قميصه الذي خلعه ووضعه فوق جبهته المدمية لأنه لن يذهب دون أمواله.
حادث الشرطة بتردد بسبب إعتداء آدم عليه وهو يسير إلى داخل المنزل يتفحصه، ناظرًا حوله بتوجس وريبة.

وجد الباب مفتوحًا على مصراعيه، فتقدم بابتسامة تلاشت وحل محلها الفزع تزامن مع وصول الرد عليه بصوتٍ عملي جاد..
فأتته فرصته ولن يغلق في وجه الشرطة بخوف بل رد عليهم بأعين متسعة وهو يحدق بالجثة والدماء القانية: عايز ابلغ عن جريمة قتل وعارف فين المجرم.
وصل آدم إلى المستشفى دون أن يفتعل أي حادث رغم حالته، أوقف السيارة وحملها وركض بها إلى مدخل الطوارئ وهو يبكِ كالأطفال صائحًا باستغاثة: الحقوها، الحقوها..

هرولوا إليه بالسرير المتحرك عِندما أبصروا حالتها والدماء التي أغرقته، فوضعها برفق وراقب ركضهم وذهاب الطبيب خلفهم مهرولا وهو يقيس نبضها بتركيز.
أدخلوها غرفة العمليات سريعًا وذهب الطبيب خلفهم لكن أوقفه آدم عِندما جثي على ركبتيه وأمسك قدمه وترجاه بحرقة: متخليهاش تموت عشان خاطر ربنا، بالله عليك أنقذها بأي طريقة أنا مش هقدر أعيش من غيرها.

أومأ الطبيب على عجله وهرول خلفهم وتركه يبكِ وحده وهو يسند رأسهُ على الحائط وضم قدميه إلى صدره وأخذ يضرب رأسهُ في الحائط بأسي لائما نفسه أشد اللوم بسبب ما حدث، تعود بخيرٍ فقط و سيتركها للأبد تحيا بسلام.
عادت الدماء تسقط من جبهته في خطٍ مستقيم دون أن يشعر، لا يحس بأي ألم سوى قلبه، أنهك من هذه الحياة وكفي.

مرت الساعة عليه كـ دهر وهو يجلس ينتظر خبر إما سيفجعه وينهي حياته أو سيرد إليه روحه من جديد، والدماء تكاثرت على ملابسه وأضعفته.
ركض الممرضات في الممر هُنا وهُناك بأكياس الدماء يجعله ينتفض من الرعب.
خرج الطبيب من الغرفة، فهب واقفًا بلهفة وهرول إليه قبل أن يقترب هو يسأله بهيستيريا وهو يجفف عبراته بيده المرتعشة: كويسة، ها، بقت كويسة؟

نظر إليه الطبيب نظره لم يتمنى رؤيتها ولا سماع ما يصاحبها قط، أبعد شعره إلى الخلف يشد عليه بقوة وملامحه تتقلص والحرقة تجتاح عينيه، وشفتيه ترتعشان منتظرًا سماع خبر موتها.
كاد الطبيب يتحدث لكن توقف وعقد كلا حاجبيه وحدق خلف آدم بتعجب جعله يلتفت بارتياب.
ـ إنت آدم المنصوري؟
سأله الضابط بجدية.

ابتلع ريقه بصعوبه وهو ينظر إلى ثلاثتهم بوجه باهت كان رابعهم الطبيب الذي لوح إليه وهو يبتسم ومعالم وجهه توحي بالألم لا غيره، حدق بالأصفاد المعلقة في جيب أحدهم غير قابلا فكرة السجن وجعله مجرمًا، لن ينتهي الحال به في السجن بتاتا لن يحدث هذا.
ارتجل آدم وقال بثبات انفعالي: أنا مصطفي مش آدم.
اختفت ابتسامة الطبيب وهتف بانفعال: لأ كذاب ده آدم وأنا متأكـ..

حدجه الضابط بنظره أسكتته جعلته يبتلع لسانه ووقف يستمع لقوله: فين بطاقتك.
سار آدم بتباطؤ وهو يحك مُنحدر أنفه قائلا بهدوء: في العربية تحت هنزل اجيبها، وعقب قوله بدفع الطبيب وركض وفر هارباً من وسطهم.
صرخ الضابط بهم بحدّة: امسكوه و وأوعي يهرب.
ركضوا خلفه بسرعة وخلفهم الطبيب دون أن يتخلى عن قميصه الذي يثبته فوق جبهته قط، حتى أنهُ نسي أن يُضمد الجرح وهو هُنا.

نظر خلفهُ وهو يلهث بقوة دون أن يتوقف عن الركض أو يلتقط أنفاسه لثانية واحدة فقط، لايعرف أين يفر!
قطع الطريق دون تفكير عِندما رأي إقترابهم منهُ بسيارة الشرطة وصدوح إنذارها الزاعق، فتحفز وتابع الركض دون توقف وهو يتلافى السيارات برشاقة حتى أصابه دِوار مفاجئ جعله يترنح وسط الطريق، لم تسعفه حركته كثيراً فصدمته سيارة أُجرة عن طريق الخطأ، لم تكن مسرعة كثيرا والضربه لم تكن عنيفة كذلك.

تدحرج على الطريق وإستقر جسده على الأرض دون حراك، لثوانٍ قليلة قبل أن يطرف ويفتح عينيه بضعف بما بقي لديه من وعي والدماء تزايدت وأصبحت تقطر من رأسهُ وليس جبهته فقط أغرقت وجههُ، تحامل على نفسه واستند على كفه وهو يحس بتهشم عظامة. ، تداخلت الأصوات وعلا صوت الأبواق المزعجة وتخلل من بينهم صوت أبواق الشرطة التي تقترب وهذا ما حثه على المقاومة والمغادرة فلن يأخذ ثوانٍ قليلة قبل أن يتم القبض عليه.

ركض إليه السائق العجوز بأسف يساعدة في الوقوف ونيته أخذه إلى المستشفى والتوسل ألا يشكوه للشرطة مهما تطلب الأمر.
سار آدم بترنح والعالم ينقلب فوقه رأسا على عقب وهو يفتح عينيه بصعوبة، برؤية مشوشة، يمسك برأسه بيديه الاثنتين والدماء تسيل بغزارة، و البرودة تجتاح أوصاله بسبب نزيفه و نقص الدماء لديه، يحس بأن رأسه تم سحقها بصخرةٍ تم قذفها عليه مراتٍ عديدة.

تنبض، تنبض بقوة كأن أحدهم يدق مسمار في جمجمته، دخل إلى سيارة الأجرة التي ضربته وأستقر جسده بعظامة المهشمة فوق الكرسي ورأسه ساقطة فوق كتفه وأنفاسه تخرج بتقتر ونبضاته تبطئ بتمهل وتباطؤ مثل تباطؤ قيادة السائق العجوز.
شعر باستدارة السيارة كي يذهب به إلى المستشفى، فرفع رأسهُ بوهن وهمس بشفتين مشققة جافة: مـ، ش، هروح، المستشفى.

هتف الرجل مستنكراً حالته: انت حالتك صعبة يابني هتموت من النزيف! لازم تروح مستشفي.
امتدت يداه ببطء ورفعها على المقود بجانب يد السائق وهمس بثقل مهددًا بضعف: هـ، بلغ، عنك، لو روحت المسـ، تشفى.

وسقطت يده وأغلق عينيه بضعف وهو يوشك على فقد الوعي وأنفاسه بالكاد تخرج، يحث نفسه على عدم الإنهيار حتى يصل لبر الأمان، تاركا الرجل العجوز يفكر بقلة حيلة وقلبه لا يطاوعة على تركه بتلك الحالة، لكن في النهاية هذا إختياره، فهو ليس بقدرته تحمل خسران سيارته التي تطعمه كي يدفع تعويض ولا أن يخسر رخصته، سيفعل لهُ مايشاء.
غير وجهته وأبتعد عن تلك المنطقة نهائيا، وأضاعته الشرطة.

سأله باستفهام بعد أن طال تجولة في الطريق دون أن يعرف إلى أين: أوصلك فين يا إبني! إنت متجوز طيب معاك تليفون اتصل بمراتك؟ أخوك! أمك! أبوك! أي حد.
بكي بصوتٍ مبحوح وهمس بنبرة تمزق نياط القلب: مليش حد.
هتف بأسف وهو ينظر إلى حالته بتفحص: لا حول ولا قوة إلا بالله ملكش أصحاب؟

عمّار غادر، وقُصيّ رُبما غادر البلده الآن أيضا، وهاتفه تركه في السيارة ولا يملك من يذهب إليـ، توقف عن التفكير وأخذ رنين كلمات لمار ذلك اليوم يرن داخل أذنيه ( قاعدة في الدور التالت الشقة اللى على اليمين.
في الدور التالت الشقة اللى على اليمين.
الدور التالت الشقة اللى على اليمين.

ضحك وهو يومئ بقوة وقال وهو ينظر إلي وجهها الباسم: الدور التالت الشقة اللى على اليمين عرِفت خلاص، هبقي اجي اغير لك الامبوبه، )
همس بجفنين ثقيلين: عـ، عرفـ، ت، هـ، ر، وح، فين.
بعد مرور دقائق وليس كثيرا توقفت السيارة أسفل البناية التي تقطن بها لمار وبدأت مهمته الأصعب، وهي الخروج والصعود إليها.
سأله الرجل بتأنيب ضمير: محتاج مساعده يا إبني؟

لم يرد عليه بل سار بترنح وهو يطوح بجسده يمينًا ويسارًا كالثمالى، ومن حظه التعيس الذي يصاحبه وجد المِصعد معطلا، فاضطر لأخذ الدرج وصعد زحفًا وليس على سيرًا على الأقدام، يقاوم فكرة التوقف والاستسلام للراحة، فكانت دمعاته تسيل ممتزجة بدمائه وهو يتمسك بالدرابزون بيديه الملطختان بالدماء دافعًا بجسده بما يملك من جهد كي يصمد ويصل..

أكثر ما يُخيفه بعد كُل هذا المجهود أن يصل ولا يجدها وتكون قد عادت إلى منزل والدها، سيموت وحده في الأعلى إن حدث هذا.
أغلقت لمار حقيبتها وهي تميل عليها وشعرها متهدل فوق كتفيها يتراقص بانسيابية وعيناها تذرف الدموع بأسف دون توقف، ستفتقدهم جميعاً، إنها تحبهم ولا تريد الاختفاء والخروج من حياتهم بتلك الطريقة، لكن إن ظلت لن يكون هذا جيّد بتاتًا، ستضيع في المنتصف.

محت عبراتها وأبعدت شعرها إلى الخلف وحزمت أمرها وحملت حقيبتها وسارت إلى الخارج بوجه باهت مرهق وجفنان متورمان.

تممت على الشقة ثم أغلقت الأضواء وفتحت الباب لتشهق بفزع وتتوقف قبضته آدم في الهواء. ، شملته بنظراتها بذعر وهي تضع يدها على قلبها المنتفض بهلع من هيئته المخيفة وملابسة الممتلئة بالدماء ووجهه! تاركة حقيبتها تسقط، حتى شعره التصق في بعضه بسبب الدماء، لم تتبين إليه معالم سوي عند إبتسامته الشاكره لوجودها، التي أبرزت أسنانه الملونة بالأحمر قبل أن يسقط في حضنها.

وصل مصطفى إلى المطار بأعصابٍ تالفة وهو يكتم الجرح في رأسهُ بكفهُ، يقود بيدٍ مرتعشة وقلبه لا يتوقف عن الخفقان بعنف، وهو يتلفت حوله بخوف من أن تكون الشرطة تلحق به.
أوقف السيارة عِندما أبصر سالي تقف في الخارج في وسط الطريق وتستند على سيارة الأجره، ترفع نظارتها الشمسية فوق شعرها وترتدي حقيبة الظهر فقط، مضجرة أيما اتضجار تعقد يديها أمام صدرها بضيق جلى منتظرة وصوله كي تنفجر به وتبدأ وصلة التقريع!

صف السيارة وسط السيارات سريعا وأخذ أوراقه وجواز سفره وهرول إليها بحقيبته يجرها خلفه بأنفاس متلاحقة بوجه مصفر واضح كمن ارتكب جريمة، وهو فعلا ارتكب جريمة هذا آخر ما يذكر أنه فعله.
كادت تصرخ لكن سألته بقلق وهي تنظر إلى قميصه المتلون بالدماء من على كتفه: مالك حصل إيه؟
قال بعجله وهو يمسك كفها وجر حقيبته بيده الملطخة بالدم الجاف: مفيش يلا بسرعه لازم نسافر.

أوقفته بتذمر وهي تضغط على كفه: إستني بس شنطتي في التاكس لسه، وبعدين عربيتك هنسيبها هنا؟
صرخ بها أفزعها وهو ينظر داخل سيارة الأجرة: أيوه هسيبها مش عايزها وليه سبتي شنطتك؟
نظرت إليه بلوم، ليقضم شفتيه بعصبية ويحط حقيبته أرضاً ووقف بجانبها باقتضاب يلهث بانفعال ينتظر عودة السائق قبل أن ينفجر بها.
سألها وهو يمسد جبهته بعصبية: فين السواق وبردو سبتي شنطتك ليه؟

بررت بحزن وهي تبعد شعرها خلف أذنيها: مش عارفة حصلو ايه تعب فجأة وجري وقال رايح الحمام بسرعة واستناه مش هيتأخر.
أومأ وهو يصر على أسنانه بغضب ضاغطا على فكه بعنف، فإحتضنت يده بنعومة وقالت بإبتسامة وهي تحثه على التحرك برقة: أنا هستناه هنا وهحاسبه وأنت أدخل الحمام نضف قميصك وجرحك يكون هو رجع.

أومأ وسار إلى الداخل يفعل ما طلبت وترك الحقيبة معها دون أي تخوين، وهو يهدئ من روعه قليلا، فلا أحد يعرف أنه سيسافر، سيبحثون كثيرًا وعِندما يصلون سيكون هو يحلق في السماء.
حدقت في ظهره والخبث يشع في عينيها، ورفعت حقيبته على مقدمة السيارة وقامت بفتحها وهي تبتسم بخسة.

سارا معًا في الداخل بعد دقائق جنبا إلى جنب، وكل واحدًا منهما يجر حقيبته حتى توقفا أمام نافذة جواز السفر، تقدمت سالي أمامه أولا وأنهت تفقد بياناتها بخير ومرت بظفر وهي تلقي عليه نظرة عابرة أخيرة مودعة.
أعطي مصطفى جواز سفرة إلى الضابط لتظهر بياناته أمامه على الحاسوب، عقد كلا حاجبيه ونظر بينه وبين الحاسوب ثم طلب منهُ بهدوء دون شوشرة وهو يرفع سماعة الهاتف الأرضي: أقف على جنب كده لوسمحت.

سقط قلبه بين قدميه وسأله بشحوب: ليه في حاجة؟
ابتسم في وجهه وقال ببساطة: لأ دي حاجة روتينية وبسيطة جداً متقلقش.
أومأ بقلق وهو يتلفت حوله باحثًا عن سالى بناظريه ليبصرها تقف بعيدًا تستعد للذهاب، وهي تنظر إليه بنظرة عابرة ثم هزت كتفها بقلة حيله وهي تضم شفتيها وتخطته كأنها لم تعرفه يوما وذهبت إلى طيارتها، وهو سيذهب بلا عودة.

عقد كلا حاجبيه واستنكر تصرفها ولم يكد يتحرك ويعيد السؤال فوجد الشرطة خلفه، قاموا بتفتيش حقيبته، تزامن مع جحوظ عينيه وهو يشعر بيديه تُقيد خلف ظهره والأصفاد الحديديه تكبله.
تبادل الرجلان النظرات وهما يحدقان في الحقيبة ثم أخرجا من وسط ثيابه
كيسين كبيرين مملوءان بذلك المسحوق الأبيض المسمى بـ الكوكايين.

أخذ وجهه في التوهج والتلون جعل نفسهُ محلا للشك أكثر وهو لا يستوعب ما يراه، هزّ رأسه بهيستيريا وصرخ بنفي وهو يقسم بانفعال أثناء جرهم له بعيدًا عن الزحام كي لا يصنع جلبه وسط الناس: والله ما أعرفش حاجة عنهُ والله معرفش حاجة! أنا راجل أعمال محترم ومسافر أجازة مع مراتي ومعرفتش الهيروين ده جه منين؟ يا باشا والله أنا برىء!
توقف الضابط قبل أن يبتعد كثيرا وسأله بجمود: فين مراتك دي؟

قال بتلهف وهو يلهث وأمل يتجدد داخله أنه سينفذ من هذا: سالي السويسري عدت قبلي وهنسافر المالديف، والله دي الحقيقة مش بكذب.
تركه الضابط وعاد إلى ضابط الجوازات وسأله باهتمام: هاتلي بيانات الست اللي كانت قدامه.
أومأ ونقر على لوحة المفاتيح الخاصة بالحاسوب بتركيز من خلف نظارته الطبية وقال: أسمها بلقيس يا فندم ومسافرة لندن و..
أومأ وقاطعة بسؤاله الآخر بعجلة: في بيانات بإسم سالي السويسري!

أومأ وبحث عنها ثم قال بعملية: في وأخر سفرية كان من سنة ذهاب بلا عودة.
ـ وريني صورتها وصورة بلقيس كده.
أومأ بطاعة وجعله يلقي نظرة على بيانات المسماة بسالي بتدقيق، حتى أنها ليست متزوجة، إنه يكذب كي يهرب.
نظر إلى صورتها بتركيز ورأي بلقيس، فلم يجد أي تشابه بينهما في الشكل بتاتا ولا تطابق في المواصفات، فأومأ وتركه وعاد أدراجه إليهم وقال بسخرية.
ـ هاتوه يلا.

أمرهم وسار مبتعدًا، ليتوسل مصطفي وهو يُجر خلفهم على أطرافه كأنهم يسوقونه إلى الإعدام، يكاد يبكِ من القهر لأنها حطمت قلبه قبل مستقبله: أنا برىء والله برىء معملتش حاجة مش أنا!
لكن لم يستمع إليه أحد يظنون أنها قصة مختلقة كي يتهرب، لقد تم تقديم بلاغ ضده وتزويدهم بكل المعلومات عنهُ المصحوبة بصورته، فتم توزيعها على الجميع كي لا يفر.

الشعور الأبشع من الخيانة هو الظلم أن تكون بريئًا ويتم إتهامك بجريمةٍ بشعة لم تفتعلها، كما فعل مع تالين تمامًا.

الآن وبعد أن تم إمساكه بتهمة لم يفعلها يخاف أن يتم اتهامه بقتل والدته بدلا من آدم إضافة لأنه أمام العدالة شخص فاسد يعمل في اتجار الممنوعات، وعقل شقيقة إجرامي ويستطيع تلفيق أي أوراق كي يتهمه بقتل والدته لأجل طلب الأموال كي يخدم تجارته، ويتبقى تالين، إنه يحمل ثلاث جرائم، كما يظن وسيتم إعدامه أو سيقضي بقية حياته بين أربعة جدران حتى يتعفن في السجن.

استدار جاسم بسيارته عازما على العودة إلى الإسكندرية، متقبلا وضعه وخسارتها بحسرة مبتلع غصته المريرة، فهي بالتأكيد ذهبت الآن ولن يصل إليها في حياته.
سار بهدوء وهو يستعيد ذكريات طفولتها معهُ حتى كبرت لتخونه دمعاته وتتدافع للتساقط حزنا عليها، فهو سيجن إن لم يجدها ويخبرها الحقيقة ويواسيها ويبدأ معها من جديد.

إستنشق ما بأنفه وهو يضم شفتيه المرتعشتين رافضا خنوعه وتقبل خسارتها، صدح صوت رسالة نصيه تجاهلها لوقتٍ حتى يفيق من ذكرياته ثم رفع الهاتف وتفقدها ليوقف السيارة بضغط المكابح فجأة كادت السيارة التي خلفه تصطدم به.
ابتسم بإشراق وتهللت أساريره عِندما رأى ذلك العنوان وجملة أن عشق متواجدة هُناك تزين الرسالة، إن قلبه يرقص فرحًا، والمكان ليس ببعيد سيذهب إليها.

وصلت عشق إلى البناية المطلوبة، ترجلت من سيارة الأجره وركضت إلى الطابق الثاني مباشرةً وهي تلهث وتبكِ بأنفاسٍ مُتقطعة.
وضع سامي الحبوب المخدرة في فمه بإفراط وابتلعهم بالخمر وملامحه تتقلص ضاما شفتيه بتلذذ بسبب حرقة المشروب الذي يروقه، وخلع كنزته وقذفها على الأريكة، وجلس ينتظرها وأخيرًا سينالها دون تدخل قُصيّ.
طرقت الباب بقوة وهي تهتف بإسمه بلوعة: قُصيّ إنت جوه؟ قُصيّ افتحلى.

ولبي سامي النداء وفتح إليها الباب بإبتسامة مُرحبة، عاري الصدر يرتدي فقط بنطاله المنزلى القطني.
كتمت أنفاسها وشحب وجهها وتبدلت اللهفة لخوف وزاعت عينيها وهي تعود خطوة للوراء بجزع وقلبها يقفز هلعا داخلها، والخطوة الثانية كان يمسك بساعدها وجذبها للداخل وصفق الباب بقدمه.

دفعها لداخل غرفة الجلوس المبعثرة التي يوجد بها أريكة وحيده توضع في بجانب الحائط وفوقها ملابسه مقذوفة بإهمال، ومنضده دائرية صغيرة فوقها طبق فواكه زجاجي ومدية حاده فوقه، وعلبة التبغ خاصته وقداحة، وطاولة كبيرة وضعها ملاصقة للحائط بإهمال لأنه لا يستخدمها، وبجانبها خان يزينه تمثال صلب وضع بجانبه زجاجة الخمر خاصته، وفي المنتصف يفترش الأرض بساط متسخ ونافذه مفتوحة على مصراعيها تضيء الغرفة.

هتف بنبرة تشي بالسعادة: نورتيني والله.
ظلت متيبسة محلها بوجه ممتقع مخفضة الرأس وهي تفكر بعجز في المصيبة التي أوقعت نفسها داخلها، فسامي لن يرحمها.
قهقهة بصوتٍ مقزز يصيب بالقشعريرة والنفور وتقدم من الخان وأفرغ إليه كأس خمر بينما يقول بحاجب مرتفع وهو يلتفت إليها بزاوية: نبدأ بحقيقة قُصيّ الأول ولا خالتك؟

التفتت إليه مشدودة وهي تعقد كلا حاجبيها ليستدير بجسده وتابع بعبث وهو يشملها بنظراتٍ وقحة تُعريها جعلتها تشمئز وهو يمرر لسانه فوق شفتيه ويقلب الكأس بين يديه: ولا نبدأ بالأجمل؟ نبدأ بـ إيه بس قوليلي؟
بلعت ريقها بحلق جاف وحافظت على ملامحها الجامدة أمامه كي لا يظن أنها تخشاه، فإبتسم بجانبيه وهتف وهو يضم شفتيه باستمتاع: متهيألى نبدأ بخالتك لأن شكل قُصيّ حبك بجد وفهمك على كُل حاجة وساب الأهم.

لم تتبدل ملامحها ولم تطالبه بالقول لكن عيناها كانت تترجاه كي يتحدث ويبوح بما هو مُخبأ.
ـ ليه ياعشق حبتيه هو؟ ليه؟

سألها فجأة بلوم وهو يتقدم منها جعل من مقلتيها تهتزان بخوف وهي تعود إلى الخلف بجزع ليستطرد بألم لم يليق به بتاتًا مستنكرًا: ليه قُصيّ وأنا كُنت قدامك قبله؟ ليه هو ياخد عقلك وقلبك وجسمك وأنا لأ؟ وبعد كل اللي عمله ولسه بتحبيه وجاية تطمني عليه! ليه محبتنيش الحب ده ليه؟ ليه مدتنيش نُص الحُب ده ولا رُبعه حتى؟ طب ليه محبتنيش زي جاسم! ليه بتكرهيني أوي كده؟

أنهي قوله الأخير بأسي وهو يقذف الكأس من يده بجانب قدمها فتهشم ولوث المشروب حذائها، مع إنتفاضتها وترنحها في وقفتها، تكتم أنفاسها من الخوف وجسدها يرتجف، محافظة على صمتها وهدوئها منكمشة على نفسها لأنها لو تحدثت لا تعرف ما قد يفعله بها!

رفعت نظرها إليه بأسف وهي تفرك قبضتها المتعرقة في بعضها لينفجر ضاحكًا بسخريةٍ خسيسة وهو يقطب كلا حاجبيه في وجهها هازًا رأسهُ بيأس بسبب طيبة قلبها قائلاً بلذاعة: صدقتيني؟ هحب واحدة رخيصة سلمت نفسها لراجل تاني ليه؟
نظرت إليه بشراسة وعمدت على طريقتها الأسهل في إثارة جنون أي رجل وبصقت في وجهه باشمئزاز،.

فقبض على ذراعها بقسوة وهزها بين يديه بعنف صارخا في وجهها بتهكم أمام نظراتها الفزِعة وقلبها الهلِع: خالتك الجميلة اللي بتعزي إبنها اوي كده هي السبب في موت أبوكِ وأمك، وهي السبب في دخول قُصيّ حياتك، هي اللي دمرت حياتك.

اهتزت مقلتيها، وأدمعت عينيها المتسعة وهزت رأسها بنفي، وهمست بشفتين مرتعشتين متحدثة بصعوبة وهي تخفض رأسها بصدمة: هـ، هي، بتكرهني، بـ، س مش، أوي. كده، هي، هي، مش مؤذية للدرجادي وبتعرف ربنا.
ضحك مجلجلاً حتى أدمعت عينيه ورائحة فمه الكريهة إثر المشروب تتسرب إليها هامسًا بانفعال وعيناه متسعة بمبالغة كأنه يحادث طفلة: لا هي قتلت عشان الحُب، وأنا قتلت عشان أخدك وهاخدك.

سقط قلبها بين قدميها، وتلفت أعصابها وحركت ذراعها تحاول التملص وعبراتها تتساقط بخوفٍ منهُ وذعرٍ ليضحك بجنون وعيناه تحدجانها بشهوة مقرفة: أنا اللي قتلت شاهي، ولو مخدتكيش هقتلك إنتِ كمان فاهمة؟ هقتلك.

صرخت بإستغاثة كتمها بقبلة شهوانية عنيفة همجية وهو يدفع بها إلى صدره، ويديه تزحفان إلى خصرها يلمسه بقوة ويضغط عليه بخشونة، فتحركت بعنف بين يديه وبيديها تضرب صدره الصلب دون أن يشعر وقلبها يكاد يتوقف من الخوف.

رفعت ركبتها وضربته بين قدميه بشحوب وهي تجد صعوبة في التنفس بسبب شفتيه القذرة فابتعد وسقط متأوها وهو يلعنها، مسحت شفتيها بعنف وهي تلتقط أنفاسها بلهاث، وبصقت عليه وهي تنحني تلتقط قطعة زجاج تابعة للكأس المهشم ووقفت تهدده بشراسة بأنفاس متسارعة وهي تفرد ذراعها المرتعش أمامها وقطعة الزجاج تلمع: هقتلك لو قربتلى فاهم ولا لأ؟

ضحك بخشونة وعاد يقف بثبات أمامها ببنيته القوية التي تستطيع سحقها سحقًا، وتقدم منها وجبينه يتفصد عرقًا، وعينيه تتفرس جسدها بنظراتٍ داكنة لا تنم على أي خير البتة.

عادت إلي الخلف بلهاث وهي تلوح بقطعة الزجاج بطيش، فأمسك كفها يعتصره بين قبضته جعلها تتأوه، وباليد الأخري صفعها بقسوة وجذبها من شعرها خلفه بعنف ودفعها أمامه كالعبدة فاصطدمت بالخان بقوة، وتبعثر شعرها وغطي وجهها. ، تطاير بعضه إثر أنفاسها العنيفة التي تخرج من أنفها المنتفخة وشفتيها المرتعشة
أمام وجهها، وظهرها يعلو ويهبط بعنف، لتبصرالتمثال أمامها مباشرةً.

قست ملامحها وأمسكت بالتمثال دون تردد والتفت صارخة وهي تقذفه على طول ذراعها فانحني بسرعة بديهية ثم إرتفع وزمجر بغضب وهو يلطم وجهها ودفعها بذراعيه من كتفيها أسقطها فوق البُساط على وجهها وهو يبتسم بانتصار، منتشي سعيد والعرق يتدفق أكثر لديه، والحرارة تصهر جسدة.
أخرجة من زخم متعته طرق الباب وصوت جاسم القلق: عشق إنتِ هنا يا عشق.

اتسعت عينيها بانفعال، واطمئن قلبها قليلا وصرخت تستغيث به وهي تشهق: إلحقني يا جاسم إلحقني.

ورفعت جسدها بسرعة وهي تتنفس بثوران وشعرها يشوش عليها الرؤية، زاحفة إلى الخلف وهي تحرك راحة يدها فوق البساط تبحث عن أي شيء كي تضربه به وتلهيه عنها وعيناها معلقة عليه، فدهس كفها الأيمن ساحقّا إياه أسفل قدمه الحافية وهو يحركها يمينًا ويسارًا بـ غِل جعل صرخاتها تتعالى ويجن جنون جاسم في الخارج ويبدأ بكسر الباب بقوة دفع جسده.

صرخت بحرقة وهي تحاول سحب يدها لكنهُ كان يضغط بقدمه بإصرار هادرًا من بين أسنانه بغلظة: حبيب القلب جه، كُنت عايز اخدك بالحب والراحة بس منفعش معاكِ، يبقي هقتلك.

شهقت وهي تهز رأسها وأخذت تضرب ساقه بيدها اليسرى بانهيار كي يتحرك لتبصر المدِّية على حين غرة بجانب عينيها، حركت رأسها مباشرةً تنظر بجانبها كي تتأكد وهي تقضم شفتيها بعُنف كي تتحمل الألم لتبصرها تُزين الفواكة، وكم كانت مُثيرة لامعة ستخلصها من معاناتها.
امتدت يدها واختطفتها بعينان باردة وقامت بتمريرها خلف ساقة بقوة كأنها تقطع لحم بدون خبرة تسببت في جرح غائر يحتاج للكثير من الغرز.

توقف وترنح إلى الخلف وهو يقطب جبينه وملامحه تتقلص بألم بتباطؤ كأن الألم لا يجتاحه بسرعة منتشي من الحبوب، كانت هي قد وقفت وعادت إلى الخلف بخوف وفردت ذراعيها بالمدية تهدده بها بإنهاك وضعف ويدها الأخري تبعد خصلاتها المتشابكة بهيستيريا وهي تئن بسبب كتم شهقاتها وعبراتها تنهمر بغزارة، ويدها ترتعش بشكلٍ مُلفت مثير للشفقة، وعينيها تحرقانها والرؤية مشوشة بهمها وهي تنظر إلى الباب برجاء كي ينفتح، فهي لاتستطيع الصمود أكثر من هذا أمامه.

جأر وركض إليها بتعرج باسطًا كفه بشدة بعقلٍ مُغيب بغشاوة تسيطر عليه.

تنبهت حواسها وضمت قبضتها المتعرقة فوق المُدْية وبثانية دون أن تعي ماحدث ولا الهواء الذي ضرب جسدها فجأة، كان يطبق على عنقها بقوة يخنقها بكل ما أوتي من قوة ونصف جسدها يخرج من النافذة مُعلقًا إياها في الهواء بأعين حمراء دامية داكنة من فرط الغضب وعرقه مستمرًا في التدفق بغزارة وتركيزه يتلاشى، وضربات قلبه تقوي وتؤلم تجعله يخنقها بقوة أكبر.

لوحت بيديها بيأس كمن يحاول السباحة دون الغرق، تحاول رفع قبضتها والوصول إليه لقتله وهي تفتح فمها بقوة وتحرك شفتيها بصعوبة عاجزة عن التنفس والحديث في آنٍ واحد بأعين جاحظة بلون الدماء تكاد تسقط من محجريها، بوجه مختنق مزرق كالأموات، تشهد لحظاتها الأخيرة على يد الحقير القذر أمامها، تحاول باستماتة لكنهُ يلصق قدميه على قدميها مثبتا إياها على الحائط من الداخل ونصف جسدها يعلقه في الخارج اعجزها.

كادت الباب ينخلع وعلا صوته جذب انتباهه فإرتخت قبضته قليلًا عن عنقها الموصوم بأنامله ونظر خلفه بعدم تركيز وهو يضيق عينيه بدون وعي وملامحه تتقلص بألم مضاعف يحس بأن قلبه يكاد ينفجر، فرفعت كفها بتوحش عِندما سنحت لها الفرصة وغرزت المُدْية في رقبته.

حرر رقبتها واختفي بياض عينيه خلف جفنيه وسقط جسده مصطدم في الأرضية بعنف، وتهاوت هي من النافذة، من الطابق الثاني قبل أن تخرج صرختها عِندما انتبهت، تزامن مع كسر الباب ودخول جاسم.
جحظت عيناه وإنخلع قلبه وصرخ بذعر وهو يمد كفه كأنهُ سيمسك بها: عـشـق!
ثقلت أنفاسه ووضع يده على قلبه الخافق بعنف وجسده يتهاوى مستنداً.

على الباب بتعب و مقلتيه تتحرك يمينا ويسارا بزيغ مع رأسهُ مستنكراً ما رآه أيما إستنكار، إنهُ يهذي، يهذي.
تقدم وهو يغرز أنامله في قلبه وعيناه تدمعان، ليته يستطيع نزع هذا القلب المتصدع كي يرتاح. ، لقد تدمر وتم هزمه ويعترف بهذا.
تعثر في جثة سامي وسقط بجانبه على ركبتاه ليجهش في بكاءٍ مرير حارق من أعماقه يمزق نياط قلبه عاجزًا عن الوقوف مجددا، فماذا سيري إن أطل من النافذة ماذا سيري؟!

شهقت جـنّـة ووضعت يدها على فمها بأعين متسعه وهي تقذف الأموال إلى السائق وترجلت وركضت إلى عشق.
جلست أمامها بأعين دامعة وهي تضع يدها على فمها بصدمة ومقلتيها تجيل على جسدها الراقد بلا حراك والدماء تسيل من أسفل رأسها.

سقطت عبراتها لكن ليس حزنًا ولا أسفًا عليها، بل كان لأجل بشاعتها التي أدركتها اليوم، هي فقط ظنت أنه سيغتصبها لأن هذا المتوقع منهُ كي يحصل عليها أخيرا كما تمني، وكي تحرق هي قلب قُصيّ عليها، لم تظن أن تصل للقتل!
لحتك إطار سيارة قُصيّ في الأرضية بعنف وتوقف مع توقف قلبه عن النبض لوهلة يستوعب المنظر القاتل!

سقطت يديه عن المقود وتهدلت بجانبه مبصرا إياها من خلف زجاج السيارة وجـنّـة تجلس أمامها بسكون، مدركاً أنه أتي مُتأخرًا.
ألقى نظرة عابرة على غرام بصمت وهو يُكذب عينيه، فكانت منغمسة في اللعب في هاتفه ولم تنتبه لأي شيء.

فك حزام الأمان بيدين مرتعشتان وترجل بتعثر من السيارة، وسار يقدم قدم ويؤخر الأخري، قدميه ثقيلة كأنه يجر أطنان حديدية خلفه، يجد صعوبة في الوصول إليها دون أن يقف يملي عينيه من هذا المنظر الذي لا يجد من هو مسئولا عنهُ سواه، يشعر وكأن جـنّـة تجلس تنتظره فقط كي تخبره بتشفي إنظر إلى ما آل عليه الوضع بفضلك.

توقف الزمن به وتباطئت نبضاته وهو يقترب منها أكثر، يحس بأن قدميه لم يعد لهما من موطئ صلب، أثلج قلبه كـ جثة هامدة وهو يراها، عشق لن تتركه في نهاية المطاف وتموت فهذا ليس عدلا!، حياته ستكون خرابا.
سقط على ركبتيه أمامها وهو يحرك شفتيه مع رأسهُ بعجز والكلمات مختنقة في حلقه دون أن يصدر صوتا، ومقلتيه تشملها من أعلاها لأخمص قدميها مئات المرات.

انسلت عبرة ثمينة من بين جفنيه وهو يخفض رأسهُ عليها وامتد كفه إلى وجنتها الشاحبة يتحسسها ببطء مراقبًا شحوبها وسكون ملامحها، مدركًا أن خطبا ما أصاب قلبه ولن يعود كسابق عهده.
وضع كفه أسفل رأسها المدمية ورفعها إلى صدره يضمها بعذاب كاتما شهقاته المقهورة ويده تلتف حول جسدها المرتخي تشتد عليه وهو يهتز بها بحسرة.
كان يعرف أن مشكلةً ما ستحل، لكن ليس عشق، ليس عشق.

أسند جبينه فوق جبينها وأخذ يمسح على شعرها المُنساب الممتزج مع الدماء وعينيه مرتكزة على عيناها المغلقة باستسلام هامسًا بوجل وعيناه تفيض من الدمع: عشق، أنا حبيتك بجد.
اجهشت جـنّـة فى نوبة بكاء شديدة وهي تعتصر رأسها بقوة سائلة قُصيّ بنشيج وندم: ماتت؟ ماتت يا قُصيّ؟
حدجها بعينيه الحمراء وهو يضم جسد عشق بنظرة أرعدت دواخلها جعلتها تتمنى الانسلال و الانزواء وحدها بعيداً عن الجميع.

شهقت وتمتمت لنفسها بعدم تصديق وهي تبتسم في ذهول: يعني أنا بقيت قاتلة؟ قتلت اثنين! بقيت قاتلة؟
تلت قولها بوقوفها وهي تبكِ بانهيار مترنحة في وقفتها وهي تطالعه للمرة الأخيرة بوداع وحنين إليه قبل أن تركض مبتعدة عنهُ، عن الجميع، الذهاب لمكانٍ بعيد، أبعد ما يكون، مكانٍ لا يجدونها فيه.
ومن حظه السيء أن غرام رأتها تركض.

أمسك بكفها ورفعه إلى شفتيه يقبله وهو يوصد جفنيه يسترجع ذكريات السنوات السابقة معها وإبهامه يتوقف على عرقها النابض في رسغها لتُرد إليه الحياة ويتفجر الأدرينالين داخل جسده، ويضحك بعدم تصديق وهو ينظر إلى وجهها بلهفة في نفس الوقت الذي سمع به صوت اصطدام سيارة بأحدهم.
رفع رأسهُ و...
ـ قُصيّ، قُصيّ، أيها الـ، يا إلهي إلهمني الصبر، قُصيّ أيها المحتال أستيقظ.

همهم وهو يحرك رأسهُ منغمسًا في النوم بأريحية فوق الشيزلونج الطبي لتصرخ به طبيبته الشقراء الروسية أفزعته: قُصيّ أنت تنام كل مرة عند الجزء المشوق قم الآن هيا الفضول يقتلني..
فتح عينيه بانزعاج وهو يتثاءب وأغلقها في نفس الوقت بسبب الضوء متمتا بالروسية بامتعاض: أنتِ لا تتوقفين عن الثرثرة كـ جميع النساء لا فرق بينكن.

أفرغت إليه قدح قهوة بنفسها وهي ترفع نظارتها الطبيه فوق شعرها الذهبي المسترسل بتركيز وقدمتها إليه زافرة.
خلع معطفه الثقيل وسترته وأبعد الوشاح عن رقبته ووضعهم بجانبه وفتح أزرار قميصه الأسود العلوية وهو يبتسم بلطف ثم أخذ منها قدح القهوة وهو يخفض رأسهُ يستنشق رائحتها المتصاعدة بمتعة متمتما بابتسامة مشاكسة: تصنعين القهوة بنفسك! هذا لطيف.

ناظرته بغيظٍ وجذبت مقعدها الجلدي وجلست أمامه واضعة ساق فوق الأخرى وهي تفرد ظهرها وترفع رأسها بشموخ وتحدثت بجدية وهي تعتصر القلم في أناملها: قُصيّ أنت تأتيني مُنذُ أربعة أشهر تتحدث كما تشاء حتى تكتفي وتذهب دون أن أسألك شيء، لكن اليوم لن أصمت أنا سأسل وأنت من ستجاوب بكل صدق ووضوح فهمت؟

قهقهة وهو يضع قدح القهوة من يده وقال باسمًا وهو يتمدد ويتوسد ذراعية بأريحية كأنه يجلس في منزله: حسنا موافق، اليوم لكِ، لكِ أن تسألِ ما شئتِ.
ابتسمت برضا وتحمحمت وسألته بهدوء: اكمل بقية القصة؟
سألها بتعجب وهو ينظر إليها: أي قصة؟ لقد إنتهت.
ردت مستنكرة وهي تهز رأسها: كيف إنتهت؟ ماذا حدث بعد هذا؟ من صدمت السيارة؟ وعشق! وتالين! وجـنّـة! وآدم! وجاسم وكـ..

أوقفها بقوله وهو ينتصب وأخذ يتجول في الغرفة: تمهلي أيتها الطبيبة، لا تنفعلي سأخبرك ماحدث بهدوء.
أومأت وسألته بحماس وهي تلتف برأسها تنظر إليه: حسنا ماذا حدث بعد هذا؟

تنهدت من أعماقه وبدأ يتحدث وهو يجلس على المقعد المقابل لمكتبها وامدد قدميه فوق المنضدة وحدق في السقف بشرود: تركتُ عشق في اللحظة التي اكتشفت بها أنها حية وركضتُ إلى الطريق، تراءى لي أن غرام ركضت خلفها فخشيتُ أن تكون هي من صدمتها السيارة لكن لم تكن.
ـ إذا هل كانت جـنّـة؟
سألت وهي ترفع كلا حاجبيها.

نفي وهو يبتسم وعاد مهرولا وتمدد مجددًا أمامها: لا لم تكن إحداهن بل كانتا سيارتين اصطدمتا ببعضهما البعض، وغرام كانت في السيارة منغمسة مع الهاتف لا تدري مايحدث حولها، فعدتُ إلى عشق مهرولا لكنني لم أجدها بل وجدتُ سيارة وليد تبتعد بها.
هتفت بانفعال وهي تقذف القلم من يدها بعصبية مستنكرة قوله: وهل تركتها؟

برر بعجز وهو ينتصب جالساً: كِدتُ ألحق بهما لكن توجب عليّ الصعود لأري ماحدث في الأعلى، كُنتُ أستطيع اللحاق بهما بعد هذا لكن أتتني مكالمة لمار تخبرني عما حدث لآدم ولم أستطع تركه والمضي قدما! إنه شقيقي وليس صديقي كي لا ألتفت إليه؟ كان وحيد لكن عشق لم تكن وحيدة.

تمتمت بعصبية مفرطة وهي ترفع قبضتها أمامها: حسنا كان يُمكنك أن تطمئن عليه وبعدها تذهب إلى عشق؟! كيف تركت مصر وتابعت حياتك بتلك السهولة؟ هذا تصرف حقير؟
لم يستطع كبح ضحكاته الرجولية التي ترفرف القلب فضحك وحذرها بعبث: أيتها الطبيبة أري أن عاطفتك غلبت عليكِ وجعلتكِ تتخلين عن أخلاق المهنة وتقومين بشتم مريضك؟

تنفست بعنف وهزت رأسها ببطء وهي تغمض عيناها تهدأ من روعها لأنه هو من يجعلها تفقد صوابها وليس العكس!، وهتفت بتريث وهي تأخذ شهيقا طويل: حسنًا حسنًا أكمل.
قهقهة وهو يراقب ملامحها المنزعجة وتابع بأسف: آدم ظل غائبا عن الوعي يومين كاملين ولم أتركه، حاولت أن أصل إليها بعد اليومين كما تقولين لكن وليد أخذها وغادر مصر بكاملها وبالتأكيد لم أركض خلفها، تمنيت لو أذهب لكن لم أستطع ولأسبابٍ كثيرة.

سألته وهي تعقد يديها أمام صدرها: وهل قضيت اليومين مع لمار؟
ـ لا بل مكثت أنا في المستشفي وطلبت منها الاعتناء بغرام فقط لأيام.
سألته باهتمام وهي تطرف بأهدابها الطويلة وعيناها البندقية الثاقبة تخترقه: كيف كانت مقابتلك معها هذه المرة كيف شعرت؟ هل رفرف قلبك جوارها كما أخبرتني من قبل؟

ضحك وهو يمسد جبينه وأجابها بابتسامة وقدحيّ القهوة خاصته تلمع: أيتها الطبيبة أن قلبي يُرفرف إن رأيتُ طعامي المفضل فهذا شيء وارد الحدوث!
ابتسمت بالمثل وقالت وهي تهز كتفيها: أنت مُحق وهذا لأن المرأة بمثابة طعام شهي للرجل صحيح!
سألها بعدم فهم وهو يضيق: ماذا تقصدين بهذا القول؟
سألته بمكرٍ مباشرةً دون مراوغة وابتسامة معبرة تعلو محياها: هل أحببتَ لمار؟

عقد جبينه وتبدلت لأخري رافضة كأنهُ لم يمر عليه شخصاً بهذا الأسم لتبدل سؤالها مرواغة: حسنا مَن مِن الثلاثة التي أحببتها أكثر جـنّـة أم عشق أن لمار؟
أنهت قولها وهي تضيق عينيها جعلته يبتسم متعجبًا عفويتها المسلية وتفاعلها معهُ خلافا لمَ سمعه عن الأطباء وهدوء أعصابهم وجديتهم في العمل.

أجابها بدون تفكير وهو يبتسم بجاذبية: بالطبع جـنّـة، لقد كانت حُبي الأول، كانت الأولي في كل شيء، هي من منحتني غرام ألطف فتاة في العالم وأجمل ما حدث في حياتي. ، رُبما لم تكن تُريدها وتشاجرنا وأخذت حياتي مُنعطف آخر بسببها لكنها أتت في نهاية المطاف، ولأجل غرام أستطيع التغاضي عن أي فعل غبي متهور صدر عنها، إنها أم طفلتي في النهاية وهذا يشفع لها، أشفق عليها أكثر من ضيقي منها.

سألت وهي تميل برأسها إلى الجانب: وأين هي الآن؟
تنهدت وأجابها وهو يخلل أنامله في شعره الذي استطال أكثر: لن تصدقي لكنني حقا لا أعرف، هي ركضت ذلك اليوم ولا أعرف أين ذهبت، لكن أتمني ومِن صميم قلبي أن تكون ندمت وتسعى للتغيّر أو حتى تذهب لتلقي العلاج كي تصبح شخصًا أفضل.
رفعت حاجبها وتساءلت بفضول: وهل إن اصحبت مثالية كما تتخيل ستقبل بعودتها؟

قهقهة وهو يُمرر كفه على ذقنه الطويلة التي زادت من وسامته الآسرة باستمتاع نافيًا بجمود: بالطبع لا فأنا لن أثق بها مهما حييت، لقد تعلمت الدرس جيدًا.
ـ حسنا وعشق؟

ابتسم وعاد للتمدد والاسترخاء هاتفًا بابتسامة مميزة والبريق يتلألأ في عينيه وهو يحدق في السقف البني: عشق، إنها الوحيدة التي تستطيع احتوائي، معها تذهب جميع همومي وأحزاني، لم أحبها لأنها جميلة، ولا لأنها رائعة في الفراش لا، إنها تملك قدر من الحنان أعجز عن وصفه ولا أقدر على الإستغناء عنهُ، كانت تُغزي به روحي الخاوية دون أي مقابل، هي الوحيدة التي أعطتني أكثر مما أخذت، أكثر من أي إمرأةٍ أخري، كانت فقط تريد حبي ليس أكثـ..

قاطعه سؤالها بشك كأحد المحققين وهي ترفع سبابتها أمام وجهه: أكثر من أي أمرأة! كان من الممكن أن تقول جـنَّـة لكن قُلت إمرأة هذا يعني أنهن أكثر من إثنتين يعني أنها لمار صحيح؟
استنشق ما بأنفه بتأثر وهو يخفي عينيه بذراعة هامسا بصوتٍ مهزوز غليظ: أكادُ أبكِ وأنتِ تقولين لمار مجددًا!
أشفقت عليه ونظرت إليه بحزن وطلبت بلطف: لا تبكِ.

افترت شفتيه عن ابتسامة هادئة أبرزت أسنانه ناصعة البياض دون أن يبعد ذراعة عن عينيه متمتما بطاعة: حسنًا لن أبكِ.
أومأت وهي تحدق به وانتظرت ثوانٍ قبل أن تهم بسؤاله: ولمار؟
هزّ رأسهُ وقال بنبرة عادية: مابها لمار؟ لقد رأيتها آخر مرة في المستشفى اطمأنت على آدم وغادرت ولم أرها بعد ذلك اليوم!
ردت بتعجب وهي تنزل ساقها: هذا فقط؟ أنت تحدثت عن جـنّـة وعشق أطول ولمار هذا فقط!

أجابها بكسل: وماذا من المفترض أن أقول؟
قالت بنفاذ صبر مُزِج بإصرار: أنا أُريد مقارنة بين الثلاثة الآن، أخبرني عن شعورك عِندما تكون بالقُرب من كل واحدة منهن، أريد أن أعرف وتوقف عن المماطلة والمراوغة!

تنهد بتعب وقال تحت تأثير ضغط نفسي جسيم متأثرًا: كما أخبرتك جـنّـة كانت الأولي وكانت كل شيء بالنسبةِ إليّ، حتى أتي وقت تبدلت فيه أولوياتها وإنشغلت مع والدها وأهملتني وبالكاد كُنا نخوض محادثة معًا قبل أن تنام وتتركني مُستيقظ وحيدًا، عِندها لم تأنس وحدتي سوي عشق، لم اتمني يومًا أن أخوض كُل هذا أو تتطور علاقتها وتأخذ هذا المنعطف قط، لكن كُنتُ أحتاجها معي ولم أستطع التوقف أو الإبتعاد حتى أتي الوقت لأبتعد، وأخبرتها بما حدث وابتعدت هي وغدوت وحيداً مجدداً، فوجدت لمار في حياتنا جميعاً فجأة وليس حياتي فقط، لن أكذب وأخبركِ أنني لم أهتم لا بل إن شيء جذبني إليها من الوهلة الأولى التي وقعت عيناي عليها، في هذا الوقت فكرت كمراهق وظننتُ أنها الثالثة التي ستعوضني، لكن الغريب أنني لم أفكر بها كزوجة ولا حتى عشقية، لم يخطر على عقلي أي شكل من أشكال العلاقات معها! أحسست أنها ستفهمني وتفك رموز شخصيتي عِندما نظرت إليها، كان شعورًا عابراً وتأكدت أنه ليس بمحلة عِندما أخبرتني في السيارة أن أتوقف عن إظهار نفسي كشخص حقير. لأنني وفي الحقيقة حقير فعلا!

ضحك وتابع بصوتٍ رقيق وهو يتذكر جمالها: إنها طيبة وأكثر هشاشة من الاثنتين، لطيفة وشخصيتها ساحرة لا تقاوم، دافئة وتكاد تكون منعدمة الوزن و..
أفزعته بتدخلها وقطع وصله حديثه بانفعال وعينا متسعة: توقف، توقف، كيف عرفت أنها تكاد تكون منعدمة الوزن؟ هل حملتها؟
سألها بتفاجئ وهو ينتصب جالساً: ألم أخبرك بهذا؟
ردت بحاجبين مرتفعان: لا هيا أخبرني.

ابتسم وهتف كي يحبطها وهو يُراقب حماسها المُشع لمعرفة ماحدث: لا تتأملي كثيراً أيتها الطبيبة، إنه يوم عقد قران عمّار لعبنا الأوراق معا لعبة لا تعرفينها أنتِ ولن أطول الشرح، فقط من شروط اللعبة إنني إن خسرت أسحب ورقة، وألبي إليها جميع طلباتها بالعدد الموجود داخل الورقة، وهي لم تطلب الكثير مازحتني وطلبت أن أحملها لأنني طلبت منها نفس الطلب عِندما خسرت وتراجعت وهي تراجعت لكنني لم أتراجع بل ركضت خلفها في أرجاء المنزل وحملتها فقط هذا.

انفعلت ولفظت بضيق: هذا فقط أُريد تفاصيل؟
ضرب كفيه معًا مستنكرًا أسألتها وتفاعلها المحايدة إلى لمار وأردف متعجبًا: لقد بدأت أشك أن لمار شقيقتك!
ضحكت وهي تخلل أناملها في خصلاتها الذهبيه وأردفت بتبرير: معك حق أنا متعاطفة معها، حسنا أنا متعاطفة مع جميع النساء وليس هي فقط.

وهو أراحها وقال ماحدث وهو يبتسم: حسنًا توردت وجنتيها وخجلت وطلبت أن أنزلها وأنا شعرت بقلبي ينتفض داخلي فقط هذا ماحدث، كادت ترد لكنه أستطرد وهتف بشرود: أتعرفين ما الفرق بين الثلاثة؟

هزت رأسها نافية مشدودة مترقبة إجابته وسكتت ليجيبها بقدر معرفته بالثلاثة: عِندما أهملتني جـنّـة عشق عوضتني عنها وأكثر حتى بتُّ لا أرغب جـنّـة مجددًا، وعِندما تركتني عشق وقابلت لمار وجدتُها هي من تحتاج إلى من يحتويها، إنها ليست بخير بسبب زواجها الذي فشل، لقد كُنا ضائعين، أنا كُنت أحتاج لمن يحتويني وهي كانت تحتاج لمن يربط على قلبها ويخبرها أن لا بأس، فالعلاقة بيننا لن تكون عادلة، انا أحتاج وهي تحتاج فمن سيعطي إذا؟ أنني وبدون مبالغة تم استنزاف جميع مشاعري وطاقتي ولا أقدر على خوض أي علاقة جديدة، فإن هي أعطتني وبالتأكيد ستفعل لأن معظم النساء تمنح في أقصي مراحل ضعفها، إنها بطبيعتها تظل تمنح دون مقابل لأنها أُم لكن ليس الرجل، وهذا ظلم لا أستطيع تقبله، هي لا تستحق شخصًا مثلي بتاتا لا تستحق.

ـ إذا هل أستطيع أن أطلق على علاقتك بها أسم الحب الذي لم يكتمل؟
نفي باسمًا: لا بل الحب الذي لم يبدأ.
ابتسمت وسألت مستفهمة: لقد قُلت أنها طلبت من آدم الزواج وهي تعرف أنه لن يُبادلها الشعور نفسه فما المانع من علاقتكم إذا؟
ضحك وقال بغرور: أنا شخص عادل لا أحب عدم التكافؤ فلا أُفضل أن تكون مُستهلكة وتمنح كل ما لديها في العلاقة وأنا لا.
هسهست بغضبٍ مكتوم: تتحدث عن العدل بثقة وأنت لم تكن عادلا مع عشق؟

برر بقوله وهو يهز كتفيه بنظرات ناعسة: علاقتي بها كانت خطأ من البداية فكيف أكون عادلا؟ فكره اقترابي منها وحدها لم تكن عدلا! فلا تقارني.
أومأت وهي تفكر في سؤالا آخر كي تقذفة: حسنا ما أخبار تالين؟
ضحك وهو يمسد جبينه ولفظ بازدراء: تمنيتُ لو أنها ماتت لكان حال آدم أفضل الآن.
ـ ولمَ؟

زفر وقص عليها بانفعال: حُبها العقيم هذا هو من دمره، آدم لم يكن يوما بهذا الهدوء ولا الحزن المستعمر قلبه وحياته، لقد جعل منهُ الحُب قاتلا وفي النهاية وبعد هذا الصراع تستيقظ أميرتنا النائمة لا تتذكره!
قالت بتفاجئ: ماذا؟!

تابع بسخط: نعم فقدت الذاكرة، هي كادت بالفعل أن تموت من كثرة النزيف لكنهم أنقذوها في اللحظات الآخيرة وفقدت الطفل بالطبع لكن المشكلة لم تكمن هنا، بل بعد أسبوعين أثناء فحصها إكتشفوا أنها لا تذكر شيء، كان هذا جيد بالنسبة إليها لأنها لم تستحق، وكان نعمة كذلك أن ما حدث معها انمحي وفرصة لتبدأ حياة جديدة، لكن بالنسبة لآدم كان هذا أسوأ من خبر موتها، إنها لا تذكره ولا تذكر أنها تزوجت حتى! تم حذفه من رأسها وهذا غير مقبول لديه!، ومازاد الوضع سوءا أنها وأثناء فترة علاجها كانت تستلطف الطبيب اليافع الذي يفحصها كل يوم وتتسامر معهُ، آدم كاد يجن ويفقد عقله بسبب رؤيتها مع الطبيب سعيدة، حاول بكل جهده أن يجعلها تحبه أو يبعدها عن هذا الطبيب لكنه فشل وهي اتخذته صديق فقط لأنها وبسبب حالتها إضطر أن يخبرها أنهما صديقان دراسة ولهذا يقف بجانبها ويساندها وهي لم تفكر به بغير طريقة، ستسألين هل ندم بسبب كذبته؟، لا بل كان يضرب رأسهُ في الحائط قهرًا بسبب مصداقيته، كان من المفترض أن يخبرها بأنه زوجها، حبيبها، خطيبها، أي شيء لكنه يظل يعود إلى نقطة البداية!، تعلقه بها كان أسوأ من تعلق طفل بوالدته.

همست بأسف: أنا أحزن عليه هذا الفتى إنه ليس محظوظا البتة.
عدل قولها بابتسامة مبتسرة وهو ينزل قدميه أرضًا وأصبح مقابلها: إنه ليس فتي بل رجل وصل لسن الثلاثين والحب جعل من قلبه يشيخ كـ عجوز تخطي التسعون.
ـ وأين هو الآن؟
ضحك وهو يتذكر ما فعل به وقال بسعادة: لقد قُمت بخطفه وأتيتُ به إلى هُنا.
قالت بذهول: حقا إنه هُنا؟

أومأ وهو يبتسم وقال بأسى: إن تركته بمصر لكان ارتكب جريمة أخرى وقتل ذلك الطبيب، فتشاجرت معهُ وأخبرته أنني سأغادر دون رجعة وفعلت وقمت بخطفة بعدها.
ضحكت وقالت براحة: هذا لطيف فأنا أحببته ولا أريد له الحزن واحتجاز نفسه بين طيات الماضي، إنهُ يستحق بداية جديدة.
أومأ موافقا وسألها وهو يحمل سترته مع معطفه ووضع وشاحه حول رقبته كي يُغادر: هل بقيت أسئلة سأغادر؟

أوقفته بابتسامةٍ بلهاء وهي ترفع كفيها أمامه كي يقف وسألت بإصرار متعجبة: لا لن تذهب اليوم لم أنتهي بعد والأسئلة مازالت كثيرة! فماذا حدث بجثة سامي؟ ومصطفى هل خرج من السجن؟ وجثة والدته هل استطاعوا معرفة أن آدم هو القاتل الحقيقى من بصماته؟ وجاسم كيف تقبل موت عشق ووالدته في آنٍ واحد؟ والأهم العقل المدبر حبيب أين هو؟ وخالة جـنّـة الهاربة؟ ورد فعلك عِندما علمت أن ريمة المسؤولة عن موت طفلك؟

قهقهة وهو يهدئها وترك الملابس من يده وجلس: تريثي تريثي سأخبرك، أولا خالة جـنّـة قدمت كل الأدلة التي جمعتها إلى الشرطة، وأصبح حبيب مطلوبا دوليا بسبب توريطة في بعض الأعمال المشبوهة وإجراء بعض الجراحات لتغيير الوجه وانتحال شخصيات مهمة دون أن يدري أحد، لقد أضحى هاربا يختبئ كالفئران دون أن يرى للشمس ضوء، لا يتحرك هُنا أو هُناك لأنه أصبح أشهر من مايكل جاكسون نفسه وسيتم القبض عليه في أي وقت يظهر. ، وحنان أصبحت تعيش معي أنا وغرام وريمة.

أما سامي فتم غلق القضية وتقيدها ضد مجهول، لأنني أخذت السكين التي تحمل بصمات عشق ونظفت الشقة قبل وصول الشرطة وذهبت، وجاسم لم يذكر عشق في أي شيء، فقط قال أنه أتي لزيارة إبن عمهُ وكسر الباب لأنه قلِق من عدم رده فوجده ميتاّ، وجيرانه رغم سماع صرخات عشق لم يتحدثوا لأنهُ كان كالهم يطبق على صدرهم بسبب مكوثه في العمارة وجلب العاهرات معهُ كل ليلة، فكان مصدر نجاسة ودنس من وجهة نظرهم وتم التخلص منهُ بظفر، لكن بعد تشريح الجثة إكتشفوا أنه تعاطي كثير من المخدرات وقلبه توقف رُبما تزامنا مع غرز السكين في عنقه، ففي الحالتين هو ميت.

أما مصطفي فأنا ذهبت إليه كي أطلب منهُ الإعتراف بقتل والدته وتبرئه آدم.
رفعت حاجبها ونعتته باستياء: أنت وقح وبارد!

امتقع وجهه وضم جبينه بتجهم وسألها باستنكار: وهل تظني أنني سأترك صديقي يدخل السجن حتى وإن استحق هذا؟ أعرف أنه لا يحق لبشر الحكم بالموت على أحدٍ لكنها استحقت الموت، ظلمت آدم كثيرًا وهو لم يحرك ساكنًا، دمرتهُ وحطمتهُ و ظل صامدًا، لكنه أكتفي وهذا أجلها وكان سينتهي بـ آدم أو بغيره!، لكن الغريب أنه وافق بسهولة بشرط أن آتي إليه بـ سالي المحتالة كي يتم تبرئته من المخدرات وأقوم بزجها بالسجن بجانبه ووافقت.

ـ والبصمات كيف تخطيتم هذا؟

ضحك وقال باحتقارٍ شديد: ذلك الطبيب المُزور القذر إنه لا يملك صفة واحده جيدة سوي أن لديه صداقات وعلاقات وطيدة ومن ضمن أصدقائه كان الطبيب الجنائي وتم تبديل البصمات بكل سهولة ويسر، وبحثت عن سالي ووجدتها فهي أغفلت الكثير وكالعادة تركت خلفها دليل ووجدتها من خلاله لكن لم أمسك بها أو أعيدها لسببين، الأول أن آدم رفض وأخبرني أنه سيكون من الهيِّن أن يظل داخل السجن لأن الطعام مجانا هناك وإن خرج وهو مفلس سيشحذ وهو لن يعطيه فلسا واحد، والسبب الثاني أنني رأيت الغدر في عينيه، وأخطأ عِندما أخبرني أن أجعلها تبرئه، فإن قامت بتبرئته من المخدرات فما دافعه كي يعترف على نفسه عوضا عن الفرار؟ هل يعشق شقيقة إلى هذه الدرجة كي يفديه! إنه غدار كوالدته ويستحق.

وريمة حسنًا هذا كان صعب ولم أتوقع لكنها فعلت هذا بدافع الخوف ظنت أنها ستخسرني إن علِمت أنها تذهب إلى جاسم فقامت بهذا الفعل كي تلهيها فقط، وأنا عاقبتها ولم أحادثها لشهرين متتابعين.
قالت ببعض الاستخفاف: وهل هذا يكفي؟

أومأ وهتف مؤكدا بحياد عقلاني: بالطبع يكفي، فعندما تأتيني كل يوم طوال الشهرين تطلب السماح وهي تبكِ من الندم فهذا يكفي، أنا لا أفضل العُنف الجسدي إنه يجعل من الشخص أكثر عصيانا، وأكثر عُنفا، وأكثر عِندًا دون فائدة، لكن الألم النفسي وقعه مدمر ويأتي بفائدة دائما.
توقف وابتلع ريقة بحلق جاف وقال وهو يمسد حلقه: لقد جف حلقي من كثرة الحديث أُريد مياه.

ابتسمت وتحركت إلى مكتبها تطلب مياة من مساعدتها في الخارج كي تأتي إليه بكوب مياه مُثلج، ليصدح صوت رنين هاتفه.
إبتسم وقام بالرد على شقيقته بحنان: خير يا وِش الخير؟
ضحكت ريمة برقة وهي تراقب غرام من خلف الزجاج وهي تلعب في الثلج في الخارج مع صديقها: أنت فين في حد جِه مخصوص عشان يشوفك.
ابتسم وسألها بمكر: واحدة ولا واحد؟

قلبت عيناها وقالت بسخرية وهي تلتفت تنظر إليها وهي تجلس على الأريكة مع حنان ترتشف معها مشروب دافئ: واحدة طبعا يا قُصيّ هو في حد بيعبرك غيرهم؟!
همهم وهو يأخذ المياة من الفتاة بابتسامة لطيفة ثم قال قبل أن يرتشف: عرفت عنواني منين وهل أنا أعرفها أو أنتِ تعرفيها؟ مين يابت؟!
ضحكت بصخب وهي تترنح في وقفتها قائلة بهدوء: لأ مشوفتهاش قبل كده بس أنت تعرفها أكيد يعني متتأخرش بقي بيدرو هنا بيلعب مع غرام.

ضم قبضته على الكوب بقوه هتف بسخط: أُم الواد الملزق اللي مش لاقي حد يلمه ده بكرهه ولو جيت لقيته هدفنه في التلج براحتك بقى.
أغلق الهاتف بضيق طغى على ملامحه فسألته الطبيبة بقلق: هل أتاك نبأ سيء؟
رد بمقتٍ شديد وهو يهز رأسهُ: لا بل ابنتي تلعب مع فتى أشقر لا أحبه ولا أحبه أشقر قبيح.

خيم الصمت لثوانٍ قليلة في الغرفة قبل يرمش وينظر إليها بطرف عينيه فوجدها تنظر إليه باقتضاب وحاجبيها مرتفعان بشدّة فهتف بابتسامة لطيفة متوترة: لم أقصد الإهانة أنا أحب النساء الشقراوات فقط وليس الرجال.
هتفت بنزق وهي تعود للجلوس أمامه: لا يُهم فأنت وقح ومن أول مقابلة أدركت هذا من طريقة حديثك لا تكترث أكمل.

وضع الكوب من يده وإرتدي سترته وفوقها المعطف وهو يتنهد وتابع: جاسم إختفي، لم أراه من ذلك اليوم، لكن المثير أن من أشهر إنتشرت صور تخص لوحات حزينة سوداء وأخرى غير مفهومة ومبهمة على مواقع التواصل الإجتماعي أثارت ضجة، وبعدها تم فتح معرض في كندي يضم تلك اللوحات، والمريب أن صاحب اللوحات كانت هويته مجهولة بناءا على طلبه هو، وريمة تهتم بالرسم وتحبه فطلبت أن تذهب لزيارته فلم أستطع أن أرفض! ذهبنا وإستمتعنا وفي آخر خمس دقائق فقط أبصرت ريمة لوحة جعلتها تصرخ أفزعتني وأفزعت الجميع، سألتها ما الخطب فقالت أن تلك اللوحة خاصة بجاسم رأتها عِندما ذهبت إليه، رسمها ورفض بيعها وإسم اللوحة ريمة تخص فتاة ريفيه رقيقة، أدركت وقتها أنهُ هو ويختبئ من البشر أجمع، يُعبر عن أحزانه عن طريق الرسم فهو عالمه، الشيء الوحيد الحقيقي في حياته، يرى أن الإختفاء والإنزواء بعيدا والرسم أهون من التعاطي مع بشر، لأنه في الحقيقة فقد حبيبته ووالدته، وسامي كان بمثابة شقيق فلم يبقي لديه أحد، أردت أن أخبره بطريقة غير مباشرة أن عشق حية لكنه أتقن الإختباء ولم أستطع تقديم أي أساعده.

تنفست الصعداء بقوة متأسية على حالته ثم سألت: تبقي صديقك الآخر وزوجته وإبنتها ماذا حل بهم؟
ضحك وتهللت أساريره بخلاف ملامحه المقتضبة وهو يتحدث عن الآخرين، وقال بسرور وهو يعود للتمدد بأريحية والبسمة تشرق وجهه: حسناً، تمنيت لو أخطف عمّار وأتي به هو الآخر لكنه سعيد مع عائلته وسيأتيه طفلا ويصبح أبا قريبا فلم أرد انتزاعه منهم لأنني أملك قلبًا رقيقًا.
ضحكت وقالت بإبتسامة سعيدة: إنه جذاب ويستحق هذا.

رفع كلا حاجبيه وهتف بنزقٍ: إنه يُحب زوجته بجنون لا تفكري.
سألته برغبةٍ شديدة وحماس: ألن تجعلني أقابلهم؟ أتوق لرؤيتهم جميعا حقًا.
قهقهة ونفي بقوله وتابع بعدها: لا لن أفعل، ونادين تلك القصيرة سعيدة تسافر هنا وهناك ولا تستقر في بلد أكثر من شهر.
ـ ألن تقابل رامي؟

ـ لقد حادثتها بشأنه يوم عقد قران عمّار لكنها رفضت فكرة الإرتباط وأخبرتني أنها صغيرة لتحمل تلك المسئولية وتفضل السفر عن الارتباط في هذا الوقت، رُبما بعد أن تكتفي فيما بعد تفكر!
ـ حسنا أخبرتني أن هناك سر بينكما؟

قهقهة وقال ببساطة وهو يتذكر ذلك اليوم: إنها تُريد أن تفتح حساب بإسم عمار وليلى على مواقع التواصل الاجتماعي كي ترفع عليه صورهما معًا بشكلٍ يومي دون أن يعرفان، وطلبت مساعدتي وتزويدها ببعض المعلومات عنهُ وصوره أيام دراسته وهو شاب، وهي تحادث ليلى وتأخذ منها صور تجمعها معًا بشكلٍ يومي، وفعلتها القصيرة وقامت بفتحها وتخطت النصف مليون متابع إلى الآن.

ضحك واستطرد بتسلية: فقط لا أستطيع تخيل شكل عمّار عِندما يري نفسه هو وليلى يا إلهي سيعلق نادين على باب منزله، إنه يغير عليها بجنون، لقد سألته عن حالها من باب الإطمئنان فقط فقام بشتمني وكدت أخسر أذني، فلو علم أن نصف مليون يشاهدون صورها وهُناك من يتغزل بها في التعليقات سيبحث عنهُ ويحرقه حيًا.
قهقهت بخفة وسألته: وهل والديهما هادئين وحياتهما خالية من المشاكل؟

تنهدت وهو ينتصب جالسا وقال بتفكير: لا أعرف هما هادئان إلى الآن، رُبما يضمران لهما الشر وربما لا!، لا أعرف، لكن عمّار من شهر تقريبا أخذ ليلي وسافر كي يقضيان شهر عسلٍ جديد وأخبرني أنه لن يعود من دون آسر سيجلبه معهُ هذا فقط.
ـ وأين عشق الآن؟
اختلج صدره وقال وهو يحك طرف حاجبه: إنها مع وليد أعرف البلد التي توجة إليها لكن لا أعرف مكانه تحديدًا.
سألته بتعجب: ألا تُريد أن تعرف؟
رد بجمود: لا.

عادت تسأل بذهول: ألا تريد رؤيتها؟
رد بجفاء: لا
سألت بسأم وهي تمسد جبينها: ألا تخاف أن تحب وليد؟
أضحكه قولها بشدّة حتى ظنت لوهلة أنها أخبرته شيء فكاهي وليس سؤال!
فهتف بشرود وهو يعقد جبينه: أظن أن عشق بعد الذي حدث معها أصبحت تكره جنس بني آدم أجمع وليس أنا فقط، لا أشك بتاتا في رغبتها في قتلي الآن.
طرفت بأهدابها وسألت بعدم فهم: هل هذا يعني أن قصتكم إنتهت هُنا؟
قال بجهل: رُبما نعم و رُبما لا.

تأففت وطفح الكيل بها وهتفت بانزعاجٍ شديد: أنا لا أفهمك ولا أفهم ما تريد؟!
مسح وجهه بكفه بعصبية ووتيرة أنفاسه ترتفع هادرا بانفعال: أظن أنني آخر شخص ترغب عشق في رؤيته الآن، يُجب أن أتركها لكي تتعافى من جراحها أولا، ولا أعرف إن كُنت سأعود إليها يوما ما أم لا!، فأنا سئمت النساء وأرغب في قضاء العشر سنوات القادمة من عمري دون نساء، فقط إبنتي وشقيقتي وأنتِ أيتها الطبيبة المثيرة.

أنهي قوله بإبتسامة عابثة وهو يراقص كلا حاجبيه لتضحك بخفة وتسأله بفضول: وماذا إن عادت كي تنتقم وتدمر حياتك كما فعلت أنت؟
أجابها بصدق وجدية وعيناه تسودان بقتامة: إن أرادت الإنتقام مني سأتركها تفعل ما تشاء بل وسأساعدها كي تشفي غليلها طالما الإنتقام متعلقًا بي، أما إن مسّت ابنتي أو شقيتي بسوء أقسم أنني سأجعلها تري الجحيم على الأرض، فلن يكون ما حدث معها نقطة فيما سأفعله بها.

عقدت يديها أمام صدرها وهي تتنهد بعمق وسألته وهي تخترق أعماقه بنظراتها المدققة: قُصيّ أنت تملك وجها آخر ربما الأسوأ على الإطلاق لكن لم يراه أحد صحيح؟
ابتسم بجانبيه وهتف ببرود وهو يقف: إقتربي من عائلتي وسترينه.
رفعت نظراتها إليه وسألته وهي ترمش: أنت؟ كيف أصبحت الآن؟
أجابها بإبتسامة لم تتخطى شفتيه وهو يدس يديه في معطفه: جيد كما ترين وسأعود إلى المنزل الآن فهناك ضيفة تنتظرني.

سار خطوتين لتستوقفه بسؤالها المتعجب وهي تقف خلفه: ألم تقل أنك سئمت النساء؟
استدار على عقبيه وهتف مؤكدا وهو يضيق عينيه بمكر، يرفع طرف شفتيه بجانبية ومقلتيه تشملها من أعلاها لأخمص قدميها: بالطبع سئمت لكن السئم لايذهب سوي بإمرأة أيضًا، رُبما تكون شقراء!
رفعت كلا حاجبيها وراقبت نظراته العابثة وإبتسامته اللعوب وهو يلتفت لتهمس بصوتٍ كان مُرتفع أسمعه: أنت حقير لعوب!

استدار بجسده بعد أن وضع يده على المقبض وصرح بثقة ووضوح: نعم وهذا سر انجذاب النساء لى..
تأففت وتقدمت من مكتبها متجاهلة إياه وهي تهز رأسها بيأس لتسمع صياحة من خلفها بنبرة متسلية: سأعتبره إطراء أيتها الشقراء، وتذكري أن بداية اللعنة دائما ما تتمثل في إمرأة.

وصل إلى المنزل بعد دقائق متحمسًا، يُريد معرفة هوية تلك الضيفة، صف السيارة أمام المنزل ودخل مهرولا وقدميه تصدر صوت إثر الثلج ليستوقفه الطفل ذات الخصلات الذهبية يضحك وهو يركض خلف غرام، عضّ قُصيّ على شفتيه سحقها سحقًا ثم ركض خلفه وركل مؤخرته أسقطه على وجهه في الثلج.
ركضت إليه غرام وساعدته في الوقوف وهي تتذمر بحزن: بابي متعملش كده في بيدرو!

غمغم قُصيّ وهو يراقبهما يقفان بجانب بعضهما البعض باقتضاب وتركهما ودخل إلى المنزل.
خلع حذائه وهو يتأفف من شدة البرودة وتقدم من غرفة الجلوس وهو يبتسم ليفغر فمه عِندما أبصرها تجلس وسطهم تبتسم في وجهه بلطف فتمتم بتفاجئ وعدم تصديق: بتهزري!
ضحكت بنعومة وركضت مندفعة إلى أحضانه بقوة، لتلتف يديه حولها وهو يضحك هاتفًا بسرور: وحشتيني.

البشر..
البشر لا يتوقفون عن الوقوع في الخطأ قط
والقصة لم تنتهي بعد
وهذه ليست النهاية
بل إنها البداية.
تمت

 أرجوا أن تكون نالت إعجابكم

النهاية ◄ 

أحدث أقدم

نموذج الاتصال