رواية حب خاطئ الفصل الثالث عشر

 

 

 

سعادته ﻗﺼﻴﺮﺓُ ﺍﻟﻤﺪﻯ، ﺃﻗﺼﺮُ ﻣﻦ ﺿﺤﻜﺔٍ ﺃﻃﻠﻘﻬﺎ ﻋﺠﻮﺯٌ بائِس ﻣﻦ ﻗﻠﺒﻪِ، ﻓﺘﺤﻮّﻟﺖ ﺇﻟﻰ ﺳُعال. (مقتبس).

انطلق عمّار بالسيارة، لتنطلق خلفه سيارة الأجرة التي كانت تصف على جانب الطريق ترصد كل تحركاتهم من البداية.
تأملت ليلى المفتاح مطولًا قبل أن تنظر إليه لتجده ينظر إليها بهيام فتبسمت في وجهه بعذوبة وحثته على الانتباه على الطريق وهي تضحك: عمّار ركز في الطريق.

ابعد نظره عنها بعد أن ضربت كتفه بخفة وتابع القيادة بسعادة تاركًا العنان لجميع أفكاره للتدفق في عقله كما شاء فلا مانع الآن من التحليق بعيدًا، لكن ليعترف فقط أنه يعرف أن تلك الفرحة لن تدوم طويلا قبل أن تظهر لهُ إحدي المشكلات، فماذا يفعل؟ يُجب أن يُعجل بالزواج أولا وليحدث ما يحدث بعدها.
فكرت كثيرًا وترددت أكثر وهي تضم قبضتها فوق المفتاح قبل قول هذا، لكن هذه رغبتها وترغب أن تتحقق..

توترت وهي تفكر في رد فعله، سوف يصرخ في وجهها متأكده من هذا.
دلَّكت عُنقها بخفة وحركت شفتيها قائلة بتردد: عمّار، أنا، أنا، سكتت قليلًا ترتب جملتها ثم قذفتها في وجهه مرة واحدة بثقةٍ أكثر: أنا كان عندي كام شرط كده عايزاك تعرفهم.
عقد كلا حاجبيه وردَّ بجمود مشددًا على كلمته وهو يصب تركيزه على الطريق: شروط؟
أجابت سريعًا قبل أن يخطئ فهمها هذا إن كان لم يخطئ بعد: مش شروط أكتر من إنها طلب.

شدد قبضته فوق المقود وأومأ بتفهم وحثها على القول بنبرة هادئة لم تعكس ما يختلج في صدره: قولي!
استشفت غضبه ولاحظت ضغطة العصبي على أسنانه وهذا زاد من حدة توترها وخوفها من رد فعله أكثر لكن شجعت نفسها وقالت بخفوت: هُمه طلبين بس يا عمّار مش اكتر، عايزاك ترجع الشغل تاني و..
قاطعها سؤاله الجامد: ليه؟

ناظرته بتعجب وهتفت مستفهمة: يعني ايه ليه يا عمّار؟ أنت دكتور وشيء طبيعي إني أطلب منك ترجع شُغلك؟ عمّار أنت مِستقل بنفسك ووضعك اوي كده ليه؟
أجابها بسؤالٍ آخر لم يخفي نبرة الاستياء عنها: أنتِ وافقتي ليه؟ عشان أنا دكتور؟ لو مكنتش دكتور كُنتِ هتوافقي يعني؟
هزَّت رأسها متعجبة سؤاله وهتفت بعدم فهم: ده مالهوش علاقة بـ ده يا عمّار! أنا بقولك أرجع الشغل؟ علاقته إيه بموافقتي يعني؟

صرَّ على أسنانه بحركة عصبية وزاد من سرعته مع قوله بنبرة هادئة حازمة أخرجها بصعوبة: ملهوش علاقة عادي، وأنا مش موافق، إيه شرطك التاني؟!
شعرت بالضيق بسبب طريقته التي أخبرها من خلالها أن لا تتدخل ولا تناقش شيء يقرره، لكنها لن تصمت ولن تتجاهل أي تفاصيل، من واجبه أن يتشارك معها كل شيء.

قطبت جبينها بانزعاج وقالت بعدم رضي: دي مش طريقة كلام يا عمّار على فكره؟ وبعدين إنت وعدتني أنك هتحققلي كل اللي بتمناه مش كده؟
زفر بعصبية شديدة ثم نظر إليها وحذرها بقوله بنبرة محتدة: متحاوليش تستفزيني وتستخدمي كلامي غلط! أنا قولتلك هحققلك اللي إنتِ عايزاه وعلى ما أذكر أنا عمري ما كُنت ضمن خطتك و أحلامك عشان تنسبي طلباتك ليهم وتتهميني بالتقصير في الآخر!

غضبت هي الأخرى واحتقن وجهها وهتفت بصوت مرتفع نسبيا: أنت معقد الموضوع ليه و عامل مشكلة؟ هو بطلب حاجة مش كويسة ولا حاجة؟
طالعها ببرود ولم يعقب لتسطترد بعصبية: وبعدين أي حاجة أطلبها منك تدخلها تحت بند أحلام أمنيات براحتك انا ليا إنه يتنفذ في الأخر وخلاص.
عيل صبرة وغلت الدماء داخل عروقة وسحق شفتيه سحقا، وعقله يحثه على إفتعال حادث قبل أن يفقد أعصابه.

عضت شفتيها السفلي بغيظ وسألته باستنكار: إنت مش بترد عليا ليه؟
أخذ شهيقا طويلا كي يهدأ ثم سألها بضيق: طيب وزي ما انا هنفذلك اللي أنتِ عايزاه المفروض تنفذي اللي انا عايزة أنا التاني صح؟
قالت بتعالٍ وهي تكتف يديها أمام صدرها: المفروض..
ابتسم وحثها على الصمت بنبرة جادة: تمام، ينفع متجبيش سيرة الشغل تاني؟

برمت شفتيها بعدم رضي وهتفت بنبرة مترجية: لا مينفعش يا عمّار، حرام عليك تضيع سنين التعب دي على الفاضي! انا عايزة مصلحتك وسعادتك إفهمني!، وبعدين مش انا هبقي مراتك حبيبتك؟
تلاشي ضيقة وابتسم بحب ثم نظر إليها بطرف عينيه بعد أن كاد يغضب ويتشاجر معها بسبب ضغطها، إنها تسيطر عليه.
إستسلم وهتف بقلة حيلة كي لايكسر بخاطرها: مقدرش أوعدك بحاجة دلوقتي بس هفكر وأنتِ وشطارتك بقى.

ضحكت ضحكات ناعمة رنانة أذابته وهي تنظر إليه بحب ثم سألت برقة: ممكن أطلب الطلب التاني؟
تنهد بهيام وأومأ بخفة مصغيا إليها بكل جوارحه، أبعدت بعضا من خصلات شعرها خلف أذنها بقلق وطلبت وهي تفرك يديها معًا بتوتر دون أن تنظر إلي عينيه: كُنت عايزة، يوم كتب كتابنا تاخدني من أبويا.

ضغط مكابح السيارة بقوة إرتد إثرها الاثنين بقوة، تجهمت ملامحه وغضب غضبًا شديدًا وعلا صوت أنفاسه الهادرة أخافها أكثر وبدأ قلبها في الخفقان بعنف.

تطلع إليها بنظراتٍ مُحتدة قاسية مهتاجا أيما اهتياج، نظرات إن رأتها لأبكتها، لكنها كانت متوقعة رد فعل كهذا فأخفضت رأسها كي لا تتقابل أعينهما، إنها تطلب منهُ المستحيل دون أن تشعر، أو تعرف وتجرب فقط حظها، هي فقط تريد أن تظهر لوالدها أن هناك من يقف خلف ظهرها ويتفانى في حمايتها، تريد أن يري كيف يحبها ولن يفرط أو يتخلى عنها، ولن يستطيع أن يمسها بسوء مجدداً.

مدّ ذراعة وقبض على ذقنها كي تنظر إليه سائلا إياها باستهجان: ومن إمتي بتفكري في أبوكِ؟ أنا أموت ولا إني أحط إيدي في إيده فاهمة؟
اضطربت واهتزت مقلتيها بقلق، تمعنت النظر داخل عيناه ذات النظرات الموحشة المنذرة بالشر لتهمس برجاء: عشان خاطري.
تبسم بوحشية حتى بدت نواجذه وقال مستنكرا: خاطرك؟ وأنا أتحرق عادي مش مهم؟
هزَّت رأسها بنفي وهتفت متوسلة: أنا محتاجة إن ده يحصل، كتير عليا؟

حرر ذقنها ولانت ملامحه وعادت إلى طبيعتها وهتف بثبات إنفعالي: لا مش كتير، مفيش حاجة في الدنيا تكتر عليكِ بس مش هقدر أعمل كده آسف.
إختض قلبها وهمست بنبرة مرتعشة: يعني ايه؟

أطفأ محرك السيارة بكل هدوء وهو يبتسم لتدرك أنه أوصلها إلى المنزل وصف السيارة جانبًا أيضًا، التفت ينظر إليها وصب عليها اللوم بقوله: على فكره لو كُنتِ قلتيلي من الأول أنا مش موافقة يا عمّار بدل اللف والدوران مكنش هيحصل حاجة؟ أنا كُنت متوقع الرفض ومكنتش هتوجع زي ما أنا موجوع دلوقتي بعد ما وفقتي..
هزَّت رأسها بعدم فهم والحرقة إجتاحت مقلتيها وهي تطرف بشكلٍ متكرر، بسبب الخوف من طريقة حديثه، فماذا فعلت؟

استطرد بخذلان: لو كُنتِ بتحبيني زي ما بتقولي مكنتيش هتفكري في نفسك وبس، انا هنسي اللي حصل، هنسي انك جتيلي وهنسي أي حاجة سمعتها وبجد بتمنالك الخير من كل قلبي. وتتبع قوله بالتحرك كي يذهب، فأمسكت ذراعة سريعا قبل أن يذهب وهتفت بصوت مرتعش منفعل وهي على حافة البكاء: أنت بتقول إيه يا عمّار!، أنا ولا بلف ولا بدور الكلام ده مش مظبوط ومش عايزة حاجة خلاص إعمل اللي يريحك.

تراجع عن النزول وهتف بغضب: أعمل اللي يريحني؟ قلبتي الطربيزة عليا دلوقتي!
انسلت عبراتها وصرخت في وجهه بحرقة: أنا مش بقلب ولا بعمل حاجة!.
ضرب مقود السيارة بعنف وسألها بعصبية: بتعيطي ليه دلوقتي؟
لم ترد عليه وأبعدت أنظارها عنهُ والتصقت بمقعدها وتابعت بكائها وهي تنظر من النافذة.
أدارها إليه برفق وجفف عبراتها بحنو سائلا إياها بفقدان صواب: من إمتى كان ليه وجود في حياتك عشان يبقي ليه دلوقتي؟

تنهد ورفع وجهها عِندما طال صمتها وفقط صوت أنينها ما كان يسمع.
هتف بهدوء كي تفهم مقصده: انا الموضوع ده عندي خط أحمر ومقدرش أوعدك بحاجة انا مش هعملها، إنتِ عارفة اللي بينا كويس والمشكلة إنك عارفة، ليه بتحطيني موقف صعب ليه؟
لاذت بالصمت وظلت مخفضة رأسها دون الرد، فرفع رأسها وسألها بترجي كي تجيب: طيب قوليلي ليه؟
ازدردت ريقها وقالت ببرود: دي حاجة تخصني لوحدي يا عمّار.

عقد كلا حاجبيه بعدم فهم وسألها متهكمًا: تخصك لوحدك؟ ليلى أنتِ بتثقى فيا؟!
لم تريح قلبه ولم ترد بل نظرت إليه فقط بصمت دون أي قول وقد كان تعبيرا كافيًا ليحصل على إجابتها ويتركها ويذهب، فأي حُب هذا الذي تتحدث عنه وهي لا تثق به!
ـ عمّار، عمّار، عمّار..
أخرجه هتافها بإسمه برقه من شرودة ليتفاجأ بنظراتها القلقة المشوبة ببعض التعجب تجاهه.

نظر حوله بتشتت ليجد نفسه أمام منزله داخل سيارتها، هل كان شاردا طوال الوقت ولم يحدث هذا؟
مسح وجهه بقوة وهو يستعيذ من الشيطان الرجيم ليشعر ببلل جبينه ببعض حبات العرق! كأنه كان في كابوس، يحق لهُ التعرق حقًا، فلو كان هذا صحيحًا وحدث هذا لأصابته ذبحة صدرية.

مسد كلا حاجبيه بأنامله بسبب تقطيبهم الشديد المثير للألم، ورفع نظرة إليها وهو يحاول تعديل تقاسيم وجهه دون أن يعرف أي تعبير ينظر إليها به الآن، فهو ممتن أن هذا من ضرب الخيال لا أكثر.
سألته بقلقٍ مُضاعف وهي تري التيه البادي عليه: عمّار إنت كويس؟ مالك؟

هزَّ رأسهُ بنفي وهو يبتسم بتعجب ثم أرخي رأسهُ على المقعد لثوانٍ قليلة حتى عاد لطبيعته وهدأ، ظلت هادئة تراقبه بابتسامة حتى حرك رأسه ونظر إليها دون أن يرفع رأسه متمتما باستفهام: هو حصل ايه؟
أجابت بإبتسامة: كُنا بنتكلم وفجأة سرحت.
أومأ بتفهم ثم سألها بقلق واستفهام: كُنتِ هتطلبي مني حاجة؟ محتاجة حاجة؟ عندك شروط لجوازنا يعني؟

قطبت جبينها بتعجب بسبب سؤاله وقلقة البيّن، لتجيب وهي ترفع كتفيها: لأ مفيش وليه السؤال ده؟
سألها سؤالا آخر متحيرا: يعني مثلا مش هتقوليلي أرجع الشُغل وكده؟
ضيقت عينيها تلك التي أبدع الخالق في صنعها ورفعت المفتاح بين أناملها وتركته يهتز في الهواء وهي تقول بثقة: إنت أوريدى رجعت يا عمّار! معقول مش هتاخد هديتي وهتكسفني؟ انا اللي إختارت فيها كل حاجة بنفسي مش هتشوفها وتقولي رأيك؟

ابتسم بسبب تلك الثقة التي راقته ثم مدّ يده وأخذ ذلك المفتاح من يدها ولا يعرف لمَ، فإن تطلب الأمر أن يعود لأجلها سيفعل.
سألها مشدودًا وظل مترقبا إجابتها: مش هتطلبي إن أبوكِ يبقى وكيلك وهو يسلمك ليا بنفسه؟

لم تشعر بالخوف أو تهتز قيد أنمله عِندما أتت بسيرته، بل ابتسمت وقالت بهدوء: لأ مكنتش هطلب، ومن غير أي طلب هو هيبقي موجود لأنك عمّار، وأنت مش قليل والكل هيعرف إنه فرحك معقول أبو العروسة مش هيبقى موجود؟ حتي لو مش موافق على الجوازة! الناس تاكل وشه طبعا، وطبيعي إنه يكون موجود.

إنه قولٌ منطقي كيف لم يخطر في باله قبل أن يغضب كما حدث؟ فيمكنه أيضا أن يجعل والده هو يقوم بتلك المهمة عنهُ ويضع يده بيد خليل، ما المشكلة فهو فعلها قبلا و المصلحة العامة أهم لديه من الشخصية.
ابتسم براحة وانشرح صدره ثم سألها السؤال الأخير والأهم: بتثقى فيا؟

ابتسمت بنعومة وهي تميل برأسها قائلة بهيام: من زمان يا عمّار مش من دلوقتي ولا عشان اللي عملته مع نادين، ده من ساعة ما دخلنا بيتك وعرفتنا على أهلك، مفيش راجل مش كويس هيدخلنا بيته ويعرفنا على أهله، وزادت أكتر لما عرفت اني ندي ومأذتنيش زي ما تخيلت، ولما جيت عشاني وأنت جرحك لسه مفتوح، كل ده مش كفاية؟ أنت صحيح إيدك طويلة وبتستخدمها قبل عقلك بس فيك مميزات بردو مقدرش أنكرها.

ابتسم بعبث وهتف وهو يراقص كلا حاجبيه بعبث: بس أنا عارف المميزات دي ايه؟
سألته بثقة: وهي ايه؟
تحدث ساخرا وهو يضيق عينيه: إني خنزير خرتيت همجي اوي ها أقول كمان؟

عبست بحزن وتمتمت بخفوت: عمّار إنت شكلك حلو، بس التصرفات تصرفات خنزير بس هي دي الحكاية، توقفت ممعنة النظر إليه ولم يقابلها سوى بابتسامة حانية لتستطرد: وأنا بقول إن كل ده بيرجع لطبيعة حياتك لأنها كانت جافة مفيهاش بنات تتعامل معاهم برقة حتى دهب بتقولها يا بومة!

ضحك وهو يرتفع بجسده ثم ضمها إليه بحنان لتدس رأسها في كتفه بخوف تستمد منهُ قوتها المسلوبة لأنها لا تملك نصف الثقة التي تتحدث بها وخاصةً عن والدها، إنها خائفة.
انتشلها من زخم أفكارها بإعتذاره الصادق: أنا آسف.
سألته بهمسٍ وهي تربت على ظهره بنعومة: آسف على إيه؟
همس بندم وهو يحرك رأسه ضد وجنتها وقبضته تشتد حولها: عشان ضربتك كذا مرة وقسيت عليكِ، عهد عليا إني عمري ما هرفع إيدي عليكِ تاني أبدًا.

أفرجت شفتاها عن ابتسامة عاشقة دون تعقيب، لأن ما تشعر به لا يوصف بالكلمات.
فصل العناق على مضض وشرع في الحديث بهدوء: انا هنزل اجيب الموبايل عشان اعمل مكالمات مهمة بعد ما أوصلك.
أوقفته بقولها بابتسامة: لأ لأ، أنا هروح لوحدي متتعبش نفسك.
احتج معترضا بضيق: بس كـ، وضعت يدها فوق يده وهمست بنعومة تطمئنه: عمّار أنا بأروح وباجي لوحدي دايما متخفش عليا، يلا مع السلامة مؤقتًا.

أومأ بطاعة وظل جالسا محله دون أني يتحرك إنشًا واحدًا قط، قهقهت و حثته على النزول بتعجب: عمار إنزل؟
تذمر رافضا كـ طفل: مش عايز.
ضحكت برقة و واسته قائلة: معلش هانت تعالي علي نفسك المرادي.
أومأ وهتف بعبث وهو يراقص كلا حاجبيه: عشان خاطرك بس يا غزالي.

خجلت وتدرجت وجنتيها بالحمرة وهي تنظر إليه على استحياء، تنهد بحرارة ثم ترجل من السيارة قبل أن يلتصق بالكرسي ويتراجع عن فكرة الذهاب، لتتحرك وتأخذ مكانه كي تقود إلى المنزل.
لوح مودعا من الخارج وهتف بابتسامة: هكلمك، أومأت بابتسامة وأدارت المقود وانطلقت..
راقب ابتعادها بهيام حالما بذلك اليوم الذي ستصبح به سيارتهما واحدة.

دلف إلى المنزل والابتسامة تزين ثغرة، أغلق الباب واتجه صوب غرفة الجلوس ليجد آدم يجلس فوق الأريكة يصب تركيزه على هاتفه وهو يهز قدميه بتوتر.
صاح عمّار بسعادة: آدم، آدم حذر فزر اللي حصل..
رفع آدم رأسهُ بملامح مغمومة لا تنم على خيرٍ البته لتتلاشى ابتسامة عمّار وسأله مشدودًا بقلق: في ايه؟ مالك؟
ازدرد آدم ريقة بحلق جاف ثم قال بصوت خافت بالكاد خرج: أنـ، انا، فتحت تليفونك..

كاد تنفلت ضحكة من بين شفتيه بسبب هذا الاضطراب وشحوب وجهه فقال بتعجب: وايه يعني فتحته؟
خلل آدم أنامله داخل خصلات شعره بحيرة ولا يعرف كيف سيقول لهُ خبرٍ كهذا.
سأله بنفاذ صبر بسبب الطاقة السلبية المسيطر على المكان: آدم في ايه؟
مسح وجهه بكفه بينما يقول بتردد: من ساعة ما فتحته والرسايل مبطلتش ولا المكالمات، وانا رديت صُدفة لقيتها دهب بنت عمك.
ــ وبعدين؟.

صاح بانفعال بسبب قوله هذا، لأن دهب لا تهاتفه سوى عند حدوث المصائب.
هزَّ آدم رأسهُ بأسف، يطالعة بحزن حتى جنّ جنونه وصرخ به بعصبية مفرطة: قالتلك ايه ما تتكلم؟
صاح بعصبية مماثلة في المقابل بسبب عدم مقدرته على إخباره مثل هذا الخبر المُفجع: مش هقول اتصل و اعرف لوحدك.
اختطف عمّار الهاتف من فوق المنضدة بحدّة وهو يحدجه بنظراتٍ غاضبة، ضغط على رقم دهب ووضعه فوق أذنه منتظرا الرد.

ليأتيه ردها بصوتها المبحوح تستنجد به بعد ثوانٍ: عمّار، إلحجني يا عمّار أمي، أمي، بتموت..
انتفض قلبه وهبّ واقفًا صارخا بها بأعين جاحظة وهو يركض إلى الخارج: كيف يعني؟ مالها؟
لم يأته سوي صوت عويلها الحارق وهي تشهق ليبدأ في القيادة بسرعة جنونية في طريقة للعودة، صارخا بها بجنون قبل أن يفقد ما بقي من صوابه: انطجي!

لم ترد عليه وظلت تبكِ بحرقة، تسمعه عويلها المدمي للقلب جعلته يغلق الهاتف في وجهها بعنف ويزيد من سرعته أكثر بهلع متنفسا بإختناف وقلبه ينتفض داخله مسببًا باجتياح البرودة لجسدة كأن روحه صعدت لخالقها، فلا يستطيع قط تخيل أن شيئًا سيئًا أصابها دون أن يكون بجانبها، يموت إن حدث لها شيء.

توقف ليلى أمام المنزل، أطفأت مُحرك السيارة وترجلت بهدوء ووضعت المفتاح داخل الحقيبة وسارت إلى الأمام كي تدلف من الباب لكن توقفت مرتابه وحركت رأسها للجانب قليلا عِندما شعرت بـ سير أحدًا خلفها.

ازدردت ريقها بخوف وسارت خطوتين، متذبذبة ليعود صوت الحذاء المحتك في الأرض بعنف، فحركت رأسها سريعا والتفتت لتجد رجلا طويل القامة يبتسم إليها بخبث لم يُريحها بتاتا، طالعته من أعلاه لأخمص قدميه ليختلج قلبها عِندما أبصرت ملابسه جيدًا، حثت نفسها على الهدوء والثبات أمامه دون أن تلاحظ أو تشعر بالذي يقف خلفها يضع مخدر فوق أحد الأقمشة، حركت شفتيها للسؤال لكن تم تكميم فمها بعنف كأنه يخنقها لا يخدرها، جحظت عيناها وحركت جسدها بسرعة هستيرية وهي ترفع يدها فوق القماشة محاولة إبعاده، لكن الآخر أنزل يدها بقسوة ضاغطًا عليها بقوة مؤلمة مراقبا مقاومتها الضعيفة بتسلية حتى سقطت حقيبتها أرضًا، ضعفت مقاومتها وبدأ جسدها في الارتخاء، وبدأت تغلق عيناها على مهل حتى فقدت الوعي.

حملها من قدميها والآخر قبالته من أسفل ذراعيها و وضعوها داخل السيارة وانطلقا إلى منزل والدها.

كانت عشق منغمسة في عملها منكبه فوق الأوراق تراجع المواعيد الخاصة باليوم، رنين الهاتف انتشلها من الزحام الغارقة به، تنهدت وأخذت شهيقًا طويلا قبل أن تقوم بالرد بلباقة وهدوء على المرضى..
ـ ألو، أيوه! موجود، لحد الساعة خمسة..
ابتسم وليد وهو يراقبها برضا حاملا بين يديه قدحين من القهوة منتظرًا إنتهاء مكالمتها حتى يتقدم.

أغلقت الهاتف ومسدت جبهتها بألم بسبب الصداع الذي لا يفارقها منذُ فترة، وقفت كي تصنع لها شيء يذهب بهذا الصداع.
توقفت وجلست محلها مجدداً عِندما تقدم منها بالقهوة هاتفا بلكنة مميزة: القهوة جاهزة.
تهللت أساريرها وتبسمت وهي تأخذها من يديه بامتنانٍ شديد شاكرة: ميرسي أوي.
أومأ بهدوء وسألها باستفهام ممعنا النظر إليها: مبسوطة في الشغل؟

أومأت بسعادة وقالت ببهجة: مبسوطة جدًا، بضيع وقت بدل ما أنا قاعدة فاضية مش بعمل حاجة.
ابتسم براحة ملاحظا نعاسها و تثاؤبها من حينٍ لآخر معظم الوقت: بتنامي كويس؟ ولا لسه بتاخدي منوم؟
هزت رأسها سريعًا نافية بينما تقول مبررة: لا والله مش باخد منوم ولا حاجة، بنام عادي بس أنا معرفتش أنام امبارح كويس من كتر التفكير مش أكتر.
تنحنح وسألها بفضول: عذرا لتطفلي بس ممكن أعرف كُنتِ بتفكري في ايه؟

عدلت من جلستها بارتباك ثم اعتذرت بندم وهي تطرق برأسها: أنا عارفة إنك متضايق مني من امبارح بس غصب عني والله مش بعرف اتحكم في نفسي خالص.
وضع القهوة من يده متنهدا بإحباط هاتفا بضيق: يعني كُنتِ بتفكري فيه؟
هزَّت رأسها بحركة بسيطة نادمة، تمعن النظر إليها ولا يعرف لمَ يُريد أن يخلصها من هذا الحُب المُدمر!
سألها فجأة دون أن يمهد: عشق تسافري معايا؟

طرفت بأهدابها بتفاجئ مبدية تعجبها من هذا العرض الغريب، فأين ستذهب معهُ؟
تلعثمت وهي تفرك يديها معا بتوتر سائلة بجهل: أجـ، أجي، معاك فين؟
شرح بكل هدوء: انا مسافر روسيا، انا حياتي بين هنا وهناك تقريبا وهناك اكتر كمان، انا معنديش غير أُخت وحيدة و متجوزة وعايشة هناك، وانا بحب أكون جنبها مُعظم الوقت لأن شغل جوزها سفر وبيسبها في الوقت اللي بكون انا هناك فاهماني؟

أومأت بتفهم وسألت سؤالا غبي ما كان يُجب عليها أن تطرحه: طيب وأنا هعيش فين لما أنت تعيش مع أُختك؟
عقد كلا حاجبيه بعدم فهم وسألها بتعجب: سوري يا عشق بس مين قالك إننا هنعيش مع بعض؟

توردت من فرط الإحراج وانعقد لسانها وبدي الأنفعال على ملامحها ولاحظ هذا ليستطرد شارحا: انا قصدي تسافري معايا بمعني تغيري جو تشوفي ناس جديدة وتنسي الماضي، تبني نفسك وتشوفي شغل كويس في مستشفي وانا هكون جنبك وهساعدك تبدأي من جديد بس مش هنعيش مع بعض؟!
أوصدت جفنيها لثوانٍ تسيطر على نفسها لاعنه الموقف المخجل الذي وضعت نفسها به بسبب غبائها الملحوظ.

هدأت وفتحت عيناها وهتفت بتوتر متفهمة مقصدة: انا، انا، مكنتش أقصد إننا نعيش مع بعض، هو سؤال غبي فعلا آسفة..
رد عليها بلطف كي يزول عنها البأس: مفيش داعي للإعتذار ممكن يكون خانك التعبير مش أكتر، أنا بس بفهمك قصدي عشان متفكريش بردو إنك هتكوني لوحدك في بلد أجنبية غريبة وتترددي فاهماني؟

أومأت بشرود وهي تحدق في العدم ليجذب انتباهها بقوله: كُل حاجة متوقفة عليكِ وعلى إرادتك، يا تبدأي من جديد زي ما كل اللي حواليكِ بدأوا ولا كإنك موجودة وتخطوكِ من غير مبالغة وبسهولة، يا تخليكِ مكانك تنامي كل يوم ودمعتك على خدك لحد العمر مايعدي بيكِ من غير ماتعملي اي حاجة او حتى يكون عندك ذكرى جميلة تفتكريها، كله هيبقي حزن وألم بس.

اجتاحها حزنا لا يوصف وبدت مغمومة وتجعدت تقاسيم وجهها كـ عجوز، وأغرورقت عيناها بالدموع وهي تنظر إليه بإستغاثة.
تنهد وسألها بعدم فهم بسبب تقلباتها المثيرة لعقله: هتعيطي ليه دلوقتي يا عشق؟

هتفت بنبرة مرتعشة يائسة وهي تبلع غصة مؤلمة وعبراتها تتساقط: السفر مش هينسيني قُصيّ ولا هيبقي من الماضي، مش في مجال إني أسامحه؟ انا مستعدة أسمعه وأعرف ليه رجعني لجاسم وممكن أسامحه، القلب اللي بيحب ميكرهش، هو أنا لو سامحته يبقى معنديش كرامة؟!

مسد جبينه بعصبية ويكاد يضحك بسخرية بسبب أقوالها الغبية، لكنه لن يسمح لها أن تعود لذلك الضلال مجددًا، لهذا هتف باستنكار: أنتِ لو رجعتي تبقي معدومة كُل حاجة يا عشق مش الكرامة بس، عشان كده لازم تفكري كويس وانا شايف الأحسن ليكِ السفر مش عايزة تنسيه متنسيهوش، بس جربي السفر والتغيير مش هتخسري حاجة!
أومأت وهمست وهي تجفف عبراتها: هفكر فى الموضوع بجد وعد.

أومأ بتفهم وعرض عليها وهو ينظر في ساعة معصمة: لسه في عندنا ساعتين فاضيين تيجي نتمشي؟
أومأت وهي تقف بوجه باكِ جعلته ينبذ صراحته المفرطة في الحديث معها ليسألها بتردد: عشق زعلتي مني؟
هزَّت رأسها نافية وقالت بابتسامة رقيقة رسمتها عنوة لأجله: لا مش زعلانة خالص بالعكس أنت دايما بتفوقني وبتنقذني من تفكيري العاطفي اللي مش بيودي غير في داهيه.
أراحته بردها وابتسامتها ليأخذها ويذهبا.

تجولا معًا في وسط الطريق بالسيارة ومن كثرة الزحام غير وجهته ودخل بالسيارة في أزقة ضيقة حتى انتهى به المطاف في أحد الأسواق.
توقف بالسيارة في منتصف السوق وتطلع حوله بتيه لتهتف عشق مستفهمة: توهنا؟

تردد بين أن يهم بالموافقة ويقول نعم وبين لا ونظراته تجول في الخارج باحثا عن أي لافتة بإسم الشارع لكن لم يجد، كاد يرد بـ نعم لكن استوقفه هتاف إمرأة لا تبصر ترتدي عباءة سوداء مُتسخة بالأتربة تسير في السوق بخطواتٍ متباطئة محنية الظهر تتوكأ على عصاها، والشيب يغزوا شعرها المجعد الظاهر من أسفل الشال الموضوع فوق رأسها ومنسدلا على كتفيها.

عقد كلا حاجبيه ممعنا النظر إليها لتتبين لهُ أكثر كُلما إقتربت لتذكره بالعرافة الشهيرة فانجا إن أحاديثها وتنبؤاتها تصنع ضجة دائما ولا يعرف لمَ الجميع يصدقها، يعجز عن فهم أسباب تصديقهم إلي تلك الخُرافات!
عاد صوتها يصدح في الأرجاء مرددة القول الشهير بطريقتها الخاصة: وشوش الودع.

تنهد و راقب إتكائها على عصاها التي كانت تمسك بها بجهدٍ مبذول لكي لا تسقط منها، ابتسم بتسلية وسأل عشق التي كانت تراقبها باهتمامٍ مماثل: تيجي نوشوش الودع!

ابتسمت بحماس ونظرت إليها ثم أومأت وعيناها تشِع لتلبي المرأة النداء وتقف بجانب نافذة وليد تريح قدميها قليلا وهي تنسد وجهها فوق يدها التي تمسك بها عصاها هاتفه بابتسامة وهي تحرك رأسها وعيناها غير مرتكزة على مكانٍ مُعين لأنها لا تبصر لكن شعورهما أنها تراهم كان مربكاً.
ــ عندك كلام كتير؟
قالت وهي ترفع رأسها قبل أن يسألها أي شيء
ابتسم وليد وقام بمجاراتها في الحديث: أكيد طبعا..
ـ عندك هموم؟

اتسعت ابتسامته وهتف وهو يتمعن النظر إليها: ومين فينا خالي من الهموم؟
ابتسمت هي الأخرى وتحدثت دون أن تجعله يوشوش الودع كما قالت: ولسه هتفضل مهموم، حيران، تايه بين الخير والشر مش مرتاح، مش عارف تعيش لحد ما يظهر الظبي..

قهقهة بسبب قولها هذا الذي تتنبأ به جميع العرافات فيهتف مفسرا لأقوالها: مفيش حاجة اسمها هتفضل مهموم؟ دي اسمها مشاكل وموجودة في حياة الانسان دايما وطبيعي تضايقه سواء دلوقتى أو بعدين أو طول العمر حتى!، والبشر في حرب دايما بين استمرار الخير والشر، في ناس كل يوم بتستسلم للشر
في ناس بتحارب بسبب الخير وبتقاوم
، زيى دلوقتي كده في حرب على أني أصدقك ولا أكذبك، بس أنا عارف هعمل إيه هشتري ظبي.

ظلت ابتسامتها قائمة دون التأثر بتلك السخرية أو ببقية كلماته، وحركت رأسها قليلا كأنها تمعن النظر في الداخل وهتفت بخفوت: عشق.
شهقت بصوتٍ خافت سمعه وليد المتعجب، وارتعد جسدها خوفًا من تلك المرأة واهتزت مقلتيها وهي تناظرها باضطراب.
فأعادت الهتاف بإسمها كأنها تريد أن تسمع ردها أولا قبل أن تتحدث: عشق.
ازدردت ريقها بحلق جاف وأجابت بنبرة مرتعشة والدموع تتجمع في عينيها من الإنفعال: نعم!

ابتسمت ابتسامة مطمئنة وهي تخبرها بهدوء: سافري يا عشق، سافري ومتخافيش هتنوليه.
تتبع قولها تحركها وذهابها بتباطؤ كما سيرها.
استفاقت عشق من صدمتها وتحركت سريعا متذبذبة لتفتح الباب كي تلحق بها، لكن وليد أمسك ساعدها ومنعها عن الذهاب خلفها وخلف تلك التخاريف هاتفا بحزم: متروحيش وراها ياعشق!

هزَّت رأسها بهيستيريا وسألته بانفعال وهي تأشر على مكان وقوفها: وليد محدش قالها حاجة! هي عرفت لوحدها ومن غير ما تاخد فلوس كمان؟! هي مش بتقول اي كلام خالص ومعندهاش سبب يخليها تعمل كده؟
وتحركت مجددًا ليصيح بعصبيه: كذب المنجمون ولو صدفوا يا عشق! ده شرك بالله متفكريش فيه الله يرضى عليكِ!، خليكِ في حياتك ومستقبلك وبس، دول بياعين كلام هو ده شغلهم وبتبقى صُدف وضربة حظ محدش يعرف المستقبل؟

صاحت مبررة بفقدان صواب وهي تتلفت حولها باحثة عنها بأنظارها بلهفة كأنها أملها الوحيد في هذه الحياة: هي مقلتش حاجة في المستقبل! هي قالت سافري عرفت منين عرفت منين.
زفر بحدة وحرر ساعدها وسارع بتحريك السيارة، وقاد وذهب بعيدًا عن هنا قبل أن تجدها وتستمع إليها وتصدق كل ما تمليه عليها، فهي بدون عقل وتصدق الكذابون بسهولة.

عاد إلى عيادته دون أن ينبس ببنت شفة طوال الطريق بينما هي كانت غارقة بأفكارها، صف السيارة جانبًا وترجل بهدوء دون أن ينظر إليها حتى.
صعد ودلف إلى غرفته مباشرةً بضيق، وهي استقرت في الخارج مكانها، شعرت بالحرارة تجتاح جسدها من كثرة التفكير، خللت أناملها في شعرها ولملمته ورفعته ذيل حصان كي لا يضايقها أكثر وهي تنظر تجاه النافذة بشرود وعقلها لا يتوقف عن تذكر قول العرافة، ماذا قصدت بأنها ستنول؟ ماذا ستنول؟

تخلل ذلك الهدوء صوته البغيض العابث أخرجها من شرودها: هو سايب أحلى يا عشق.
تملكها الذعر وتهدل ذراعيها وانساب شعرها وزاغت عيناها، رافضة فكرة الإلتفات ومقابلته، لمَ عاد للظهور في حياتها من جديد لمَ، ففكرة أنهُ يحوم حولها طوال الوقت تُرعبها وتخنقها.
جلس مقابلها وهتف بتسلية: إزيك يا عشق؟ وحشتيني.

ازدردت ريقها بحلق جاف ثم التفتت تنظر إليه بوجه باهت لكن بنظرات كارهة أمام نظراته الخبيثة لتقول بصوتٍ منخفض: إيه اللي جابك يا سامي؟ عايز ايه؟ وعرفت مكاني منين؟
قهقهة بسخرية وعينه تجيل وتتدحرج في المكان بتفحص شمولي قبل أن يقول باستخفاف: وحشتيني قُلت أما أعدي أسلم وأشوف أخبارك وأحوالك وكده!
انهي قوله بنظراتٍ مُعبرة شملتها من أعلاها لأخمص قدميها لا عقا شتفيه بشكلٍ مثير للإشمئزاز.

أومأت بتفهم وهي تحتضن ذراعيها بقوة شاعرة بالقشعريرة، تختبيء من نظراته الوقحة التي تجردها دون إستحياء أو خجل.
شكرته ثم طلبت منهُ الذهاب بحدّة لم تظهرها كثيرا كي لا يعاند معها: شكرا، ممكن تمشي بقي لأن ده مكان شُغلي.
ابتسم ورفع يده والتقط أحد الأقلام من أمامها وقلبه بين أنامله وطلبت باحترام: انا جي للدكتور محتاج أتعالج ممكن أخد معاد؟

احتقن وجهها من الغضب وطلبت بحدّة: لأ مش ممكن ولو سمحت اتفضل بره من غير مطرود!
ضحك ورفع ساق فوق الأخرى ثم سألها بخبثٍ وهو يرفع كلا حاجبيه: مش عايزة تعرفي مين قتل شاهي في الفندق؟
اهتزت مقلتيها باضطراب واختلج صدرها وتصنعت الجهل ناظرة إليه بعدم فهم ليستطرد موضحا أكثر: شاهي اللي اتقبض على قُـ..
قاطعته بحدّة وعلا صوتها وهي تقول: أنا مليش دعوة مش عايزة أعرف حاجة اتفضل اخرج بره بقي؟

تبدلت ملامحه لأخرى غاضبة أخافتها ليبتسم بدون سبب فجأة قائلا وهو يقف: على فكرة دي اتقتلت بسببك لو متعرفيش يعني!

هزَّت رأسها باستنكار وقبل أن تتحدث كان قد ابتعد عازما على الذهاب وتركها متحيرة لكنه تراجع وتوقف أمام الباب ودسّ يديه داخل جيب بنطاله وهتف بصوتٍ مرتفع نسبيا: على فكره جاسم بيعاملني بطريقة وحشة ولما نتكلم بيتكلم ببرود، وانا الصراحة شاكك إنك تكوني قُلتيله النوايا الطيبة اللي جوايا ناحيتك، حقيقي هزعل اوي لو طلع اللي في دماغي صح! وأنا زعلي وِحش أوي يا عشق.

حدجته بحقدٍ خالص وبدأ الغضب يتحكم بها فأمسكت قدح القهوة الفارغ و ضغطت عليه بقوة ونفاذ صبر، وكأنه رأي تلك النظرة بسمة فابتسم في وجهها باستفزاز وقال بتهكم: وعلى فكره قُصيّ مش بيحبك..
هبتّ واقفة من مجلسها وقد عيل صبرها فقذفته بقدح القهوة على طول ذراعها تزامنا مع متابعة قوله بكل استخفاف: لو كان بيحبك مكـ، آآآه، يابنت المجنونة..

انحني متأوها بقوة وهو يتحسس جبهته التي سالت منها الدماء بصوتٍ مكتوم ليجن جنونها عِندما سمعت شتمه لوالدتها فصرخت وهي تهم بحمل الكوب الصيني المعبأ بالاقلام وقذفته عليه صارخةً بعنف ليرتطم بكتفة بقوة: مين المجنونة يا حقير يا (، ) هقتلك يا سامي هقتلك..
عقد وليد كلا حاجبيه بسبب الضجيج الخارجي وصراخ عشق، فترك ما بيده وخرج من الغرفة سريعًا.

استند سامي على إطار الباب متألما، دون أن يتحرك خطوة شاعرا بتشنج كتفه، لتفتح حقيبتها وأفرغت محتوياتها فوق سطح المكتب بهيستيريا تبحث عن مبرد أظافرها بجنون كي ترشقه في رقبته ويخرج من حياتها وتنتهي منهُ إلى الأبد.
أمسكت به وابتسامة حاقدة تعتلي ثغرها وهرولت إليه و عينيها تقدحان شرًا مُغيبة عن واقعها تمامًا، لا تشعر سوى برغبتها في رؤيته جثة هامدة أمامها والآن.

صرخت بـ غل ورفعت يدها وهبطت بها على رقبته لتتسع عيناه بذعر وهو يرفع رأسهُ، لتتوقف يدها بين قبضته القوية سائلا باستنكار: إنتِ بتعملي ايه يا عشق؟
صرخت بهيستيريا و أعين جاحظة وهي تحاول تحرير يدها من قبضته بإصرار وصدرها يعلو ويهبط في عنف شديد: هقتله، هقتله، ده كابوس، كابوس لازم يموت..

حاول فك أناملها من فوق المبرد برفق لكنها كانت تمسك به بقوة تعجب أن تملكها في هذه الحالة، كانت قبضتها شديدة كالأموات لا تنفك وأناملها متحجرة لا تتحرك.
ضغط على يدها بقوة وصاح في وجهها بعصبية: في ايه يا عشق؟ سيبى البتاع ده؟.
وصرخ مستطردا في وجه سامي: وأنت لسه واقف مكانك؟ أمشي من هنا!

وقف باستقامة وهدر متوعدًا أشد وعيد بوجه مكفهر، وعيد أقسم أن ينقذه وهو يخفي جانب جبهته المجروح براحة يده: لو وقعتي في إيدي يا عشق مش هرحمك والله ما هرحمك.
صرخت في المقابل بحقد وكره شديد وهي تلهث من فرط الإنفعال: وأنا هقتلك والله هقتلك، يا حقييييير.
دلف إلى المصعد وألقي عليها نظرة أخيرة تنذر بالشر قرأت من خلالها الكثير، مقابلتهما القادمة ستكون خرابا وتدميرا لأحدهما، أو للإثنين معا.

دفعها وليد إلي الداخل وصفق الباب بعنف وسألها بحدّة: إيه اللي حصل ده؟
تركت المبرد من يدها ليسقط ويصدر رنين فوق الأرضية، ألقت بجسدها على الحائط تخرج أنفاسها المُرتجفة دفعة واحدة كأنها كانت تتعرض للإختناق.
عقد يديه أمام صدره بعدم رضي وهو ينظر إليها، لتبلل طرف شفتيها ثم همست بحلق جاف لاهثة: موافقة هسافر معاك..
سألها بعدم فهم: و ايه سبب موافقتك؟ خايفة منه؟

هزَّت رأسها نافيه وشرعت في الحديث لكن رنين هافتها أوقفها، نظرت تجاه المكتب بجزع مراقبه تحرك الهاتف بذبذباتٍ فوق سطح المكتب، خائفة من هوية المتصل، هرولت إلى المكتب وحملت الهاتف فوجدته جاسم.
ردت عليه متلهفة دون تردد في تعليقة قط: جاسم.
وصلها صوته المفعم بالحب: وحشتيني أوي.
قبضت على حافة المكتب بقوة وهي تغمض عينيها، تحاول الثبات والرد بهدوء دون أن يعرف أن هُناك مايحدث..

أجابت بصوتٍ هادئ لم يعكس خرابها الداخلي: أنت أكتر يا جاسم عامل ايه؟
أعرب عن سعادته عبر قوله الذي يشي بالحماس: الحمد لله يا عشق، انا جايلك على فكره.
ابتسمت ببهوت وسألته وهي تسقط جالسة فوق المقعد: جي فين؟
أجاب متعجبًا الجمود في نبرتها: جايلك القاهرة يا عشق انا في الطريق كُلها نص ساعة و أكون قُدامك، سلام بقى عشان أركز في السواقة مع السلامة..

ـ مع السلامة، ردت بهدوء وهي تنزل الهاتف عن أذنها وظلت ساكنة تُفكر كيف ستخبره بقرار سفرها المفاجئ.

في أحد المقاهي المكتظة بالزبائن، كان آدم يجلس على أحد الطاولات في منتصف المقهى، يهز قدميه الاثنتين بتوتر خالص جعل الطاولة تهتز معهُ بخفة وهو بفكر بـ عمّار، إنه خائفا عليه كثيرًا فإن هذه المرأة تشكل أهم شخص في حياته، إن فقدها سيفقد نفسه معها.

نظر إلى الهاتف يري كم الساعة بعصبية، فهذه المرة الثانية التي يعلقه بها شقيقة ولا يأتي، ماذا أصابه هو الآخر هل جُنّ؟ يتحدث صارخا ويأمره أن يأتي وهو لا يأتي؟!
حمل هاتفه ووقف كي يذهب ومع التفاته وجد مصطفي ممتثلا أمامها ينظر إليه ببرود، حرك شفتيه وكاد يتحدث لكن مصطفي ضغط على كفته أجلسه محله وجلس قبالته.
مسدت آدم كتفه بخفة وناظره بغرابة وسأله بتعجب: في إيه يا مصطفي؟

سأله ببرود مدققا النظر إليه: مفيش حاجة مخبيها عليا عايز تقولها يا آدم؟
هزَّ آدم رأسهُ نافيا بينما يقول ببرودة أعصاب: مفيش غير إن تالين كانت عايزة الشبكة وانا خدتها من البيت وإدتهالها وقالتلي أقولك إنها حامل بس!
ابتسم مصطفي ابتسامة ساخرة جعلت آدم يتعجب بسبب رد الفعل هذا وقال مستفسرا: حامل من مين يا آدم؟ أنا ولا أنت؟!

اهتز صدر آدم بعنف وبهت وجهة وتدرج بألوان قوس قزح السبع متمتما بنبرة مهزوزة مفاجئة: ا، زاي، ازاي، تقول كده؟
زمجر مصطفى بغضبٍ وقال بتهكم ضاربًا الطاولة بكفه: مستغرب كده ليه؟ بقول حاجة محصلتش! هااا؟ تقدر تنكر إنك بتحبها؟ ده انا سمعتك بوداني وأنت بتقول إنك مش هتنساها عمرك كله؟!

هز آدم رأسهُ بحركة عصبية وقال بانفعال وصوتٍ مُرتفع جذب الأنظار إليهما: لأ مقدرش أنكر بس ده مش معناه إنها حامل مني؟ مين ضحك عليك وفهمك الكلام الفارغ ده؟! وأنت ازاي تصدقه؟ أنت مش واثق في مراتك؟
صاح بنبرة جهورية غاصبة دون أن يعبأ بالمكان: لأ مش واثق دي طول الوقت كانت معاك ازاي أصدق؟

شخر بسخريه وضرب الطاولة بقوة وهو يهب واقفا بغضب جام: ما أنت كُنت سيبهالي عشان مقضيها مع سالي ودبستني فيها وخلتني خطبتها وأنت عامل معاها علاقة ودلوقتي بترمي بلاك عليا وبتتهمني بحاجة محصلتش؟! لأ فوق مش هتضحك عليا أنت وأمك.
قوله مبطن، يخبره أنها والدته! هل يعرف أنها ليست والدته طوال الوقت ويقصد تخريب حياته؟

لكمة مصطفي بعنف أسقطه أرضًا بعد أن إنزاح الكرسي من مكانه، فجأر بغضب ونفرت عروقه وكور قبضته ووقف وسدد إليه لكمة لم تكن بتلك القوة لكنه صعد فوق الطاولة وقفز عليه لتستقر ركبتيه فوق كتفي مصطفي أسقطة أرضا معتليه وظل يسدد إليه اللكمات بدون وعي صارخا في وجهه بقهر حتى ذهب صوته: تالين أشرف من عيلتك كلها يا (، )، بعد كل ده بتشك فيها وبتتهمها في شرفها يا واطي، أنت ماتستهلش ضفرها يا إبن الـ(، )، أنت هطلقها فاهم ولا لأ هتطلقها.

تجمع العاملين وبعض الرجال من المقهى وأبعدوه عنهُ بصعوبة بسبب تعلقه به وتشبثه في قميصه مما أدى إلى قطع أزراره العلوية وتطايرها.

سعل مصطفي بحدّة وهو يقف مع الرجل الذي يسنده ماحيًا الدماء من على شفتيه متراشقًا النظرات الكارهة مع آدم اللاهث الذي ينظر إليه بكره يضاهي كرهه و أكثر، وصدره ينقبض وينبسط بقوة ليصرخ آدم بنفاذ صبر في الرجال الذين يقيدوه يسألونه الهدوء: خلاص، سيبوني محصلش حاجة، وأنت بدل ما تفضل تجري ورا النسوان زي الكلب تبقى روح إعمل تحليل الـ DNA لوحدك واكبر بقي وخليك راجل بعيد عن أمك والتانية اللي سيقاك زي الحُمار.

دفع الرجل بانفعال واندفع كي يلكمه لكن آدم ضرب جبهته بجبهته بقوة ألمت كليهما، أمسك مصطفي رأسهُ بألمٍ لثوانٍ قليلة وزمجر مندفعًا إليه صائحا بتهديد: هقتلك وهقتلها يا آدم.
هدده بالمثل بخسة: هكون قتلك قبلها يا بتاع سالي.

حرر قبضته بعنف ولكمه بقوة ومدَّ يديه إلى رقبته خانقًا إياه لكن الرجال أبعدوه وأخرجوه من المقهى نهائياً، دون أن يستمع آدم إلي الترهات التي كان يتفوه بها. كادوا يخرجونه هو الآخر لكنه دفعهم عنهُ وزفر وعدل الكرسي المترنح وجلس عليه والدماء جفت فوق جرح شفتيه وجبينه بدأ يتورم من الجانب بوجه أحمر محتقن، يتنفس بلهاث وعصبية ثم انحني والتقط هاتفه الساقط.

اتي إليه النادل بثلج وقطن وبعض الأدوات الطبية ليسأله آدم بعصبية: مين قال اني عايز؟
تحدث النادل باحترام وهو يأشر خلفه على إحدي الطاولات في الزاوية: الآنسة اللي هناك دي هي اللي طلبته لحضرتك.
التفت خلفه بوجوم ليبصر فتاة تجلس ترتدي ملابس رياضية توليه ظهرها تحدق في الخارج لكن سرعان ما تعرف عليها بفضل شعرها الطويل.

زفر وحمل الثلج ووضعه فوق جبينه متمتما ببعض الكلمات الغير مفهومة بحنق، فهو مضجر وحالته لا تسمح بالحديث ولا الثرثرة معها.
حمل هاتفه بعد مرور وقت رُبما، يوازي نفس الوقت الذي قد يصل به مصطفى إلي تالين إن قرر الذهاب إليها، انتظر ردها عليه وهو يكاد يجن من فرط القلق من أن يكون قد ذهب وقام بأذيتها.

أغلق الهاتف وقذفه أمامه مخللا أنامله داخل شعرة بغضب وعمد على هزْ قدميه بقوة وتوتر. ثم حمل هاتفه من جديد وهاتف قُصيّ..
وفي هذا الوقت في منزل قُصيّ..
كانوا جميعًا يجلسون في غرفة الجلوس كعائلة سعيدة يشاهدون أحد الأفلام الأجنبية في التلفاز، قُصيّ كان يحتضن ريمة ومعظم الوقت كانا يتهامسان معًا خلسة بينما جـنّـة كانت قد احتجزت غرام معها على الأريكة المجاورة تراقبهما بغيره.

أخرجها من شرودها همس غرام الرقيق الذي كان وقعه عليها كـ بلسم مهدئ: مامي الكوكيز حلو اوي.
قبلتها جـنّـة بحنو وهي تضمها إلى صدرها وهتفت بنعومة وهي تداعب وجنتها الهلامية الرقيقة: بالهنا يا حبيبتي..
قرب قُصيّ قطعة البسكويت من فم ريمة وهتف بصوت منخفض ساخر: دوقي عمايل الشيف جـنّـة.
برمت شفتيها وقالت بامتعاض: مش عايزة.
تحدث مقترحًا: طب عصير؟
هزَّت رأسها برفض وهتفت بعبوس وهي تزم شفتيها: أنا جعانة يا قُصيّ؟

فكر قليلا ثم هتف بعبث: تيجي نعمل بيتزا؟
قفزت من محلها صائحة بحماس: موافقة يلاااا
قهقهة وحثها على الذهاب: روحي وهحصلك..
أومأت وركضت إلى المطبخ بحماس لتتحرك جـنّـة وتقترب منهُ لكن أوقفها رنين الجرس، تحرك قُصيّ كي يفتح لكن جـنّـة ركضت إلى الباب سريعًا وفتحته بحماس تلاشي عندما لم تجد أحدًا.

تلفتت حولها بحيرة وغيظ وعادت إلى الخلف كي تغلق الباب لتستوقفها وردة بيضاء وجدتها موضوعة أسفل قدميها، تبسمت بسعادة ومالت تلتقطها بحب، تفكر في قُصيّ بهيام فهو بالتأكيد من يفعل هذا.
عادت إلى الداخل بخطواتٍ سريعة مهرولة إليه بابتسامة عذبة ووجه بشوش، نظر إليها باستفهام وكاد يسأل من كان ليجدها عانقته بدون مقدمات وأحاطت خصره بقوة وإن لم تكن غرام جالسه لجسلت على قدميه وتدللت أيضًا.

همست بهيام وهي تحرك رأسها فوق صدره ويدها تداعب خصره: بحبك أوي.
نظر إليها من علو وتمتم مستفسرا: وده من ايه؟
رفعت رأسها وتركت خصره ثم رفعت الوردة أمام عينيه وهتفت بابتسامة سعيدة: ملقتش حد بره بس لقيت الوردة، الوردة دي شبه الورد اللي أنت جتبهولي إمبارح.
أومأ وهو يأخذها من بين أناملها بابتسامة غامضة، إنها لمار من فعلت هذا فأمس أخبرته أن لا مانع لديها من أن تبعث إليه كل يوم وردة.

أخذها من بين يديه ممعنا النظر إليها ومقلتيه تومض ببريق مميز كان يتلألأ داخلها جعلها تغار وتختطفها منهُ محتجة بحزن جعلته يضجر و عكرت صفوه: ايه يا قُصيّ مش عارفها مش أنت اللي باعتها؟

زفر وكاد يبعدها عن أحضانه لكن أبصر غرام تنظر إليهما بابتسامة سعيدة تراقبهما بشغف، فبعث إليها قبله هوائية فأعادتها إليه بلطافة ليتحرك تاركا جـنّـة وحملها هي وقبلها بحنان ضاما إياها إلي قلبه سائلا وهو يتحرك بها اتجاه المطبخ: تيجي تعملي بيتزا معايا انا وعمتو؟
أومأت بحماس لتقف جـنّـة عزولا أمامه قائلة باعتراض: لأ سيبها عايزاها وبعدين لسه مأكلتش كفاية.

نظر إليها بدون تعبير ثم وضع غرام بين يديها وتخطاها وذهب إلى المطبخ.
زمت غرام شفتيها وعبست قائلة بحزن: مامي عايزة اعمل بيتزا!
جلست بها جـنّـة على الأريكة وقالت برفق وهي تمسح على شعرها: حاضر يا حبيبي هتروحي وهتعملي بيتزا بس قولي لي الأول يا أميرتي عمتو بتاخدك وبتروح فين؟
عبثت غرام في أناملها وطلبت منها بخفوت: مامي عايزة عصير.

ناولتها جـنَّـة كوب العصير برفق وهي تبتسم وكادت تعيد سؤالها لكن غرام طلبت بلطافة: كوكيز بقي.
تنهدت جـنَّـة وأطعمتها بنفسها منتظرة حتي تشبع كي تعرف منها إلي اين تأخذها ريمة بإلحاح كل مرة، ووضعت يدها أسفل وجنتها تنتظرها حتى تنتهي.

لوكت غرام ببقية البسكوت داخل فمها ثم ارتشفت العصير ببطء وتمهل كادت تصيب جـنَّـة بجلطة من الانتظار، أنهته أخيرًا ثم وضعت الكوب من يدها برتابه فوق الطاولة وطلبت برقة وهي تطرف بأهدابها بلطافة: ممكن wipes يا مامي؟

ابتسمت جـنّـة بعصبية ورفعت يدها ومسحت حول فم غرام بأكمام منامتها لتهز غرام رأسها برفض وتبتعد منزعجة عاقدة ما بين حاجبيها، نظرت إليها جـنّـة بتعجب وأعادت تقريب يدها من وجهها ليحمر وجه غرام وتصيح بعصبية وهي على حافة البكاء: لأ جراثيم عايزة wipes يا بابي..
أتاها قُصيّ مهرولا من الداخل بقلق، لتقف فوق الأريكة وتمد ذراعيها مستغيثة به بأعين دامعة، فحملها بقلق لتجهش في البُكاء وتنحب فوق صدره بحرقة.

فغرت جـنَّـة فمها وهي تراقبها عاجزة عن التفوة بحرف!
ليسألها قُصيّ بحدّة: إنتِ عملتي إيه؟
حركت شفتيها للإجابة لكن غرام رفعت رأسها وهتفت بحرقة وهي تشهق بوجة متورد: ريمة بتديني wipes هي مش بتديني wipes و My lips مش نضيفة.
تبسم بحنان وضمها بقوة ومسح على ظهرها برفق كي تهدأ مواسيا: خلاص يا حبيبتى متعيطيش هجبلك أنا متزعليش نفسك.

أومأت بحزن وهي تقوس شفتيها، تنظر إليه ببراءة ليجفف عبراتها بنعومة ثم أنزلها فوق الأريكة وصعد إلى غرفة ريمة يبحث بداخلها فهي من تستخدم ذلك النوع من المناديل وغرام كانت تقطن معها لسنوات هذا طبيعي.
نظرت غرام بجانبها إلى جـنَّـة التي تناظرها بحزن ثم همست وهي تضم قبتضيها الصغيرة معًا بندم: sorry.
تشجعت جـنّـة و اقترب منها وأحاطت كتفيها برفق وهي تنخفض لمستواها سائلة: في بنت جميلة وحلوه تزعق؟

هزَّت رأسها نافية وتجمعت الدموع في عينيها وهمست بندم طفولي: مكنش قصدي مش هعمل كده تاني.
ضمتها جـنَّـة بقوة وربتت على وجنتها بنعومة قائلة بحنان: مش زعلانة يا حبيبتي متزعليش أنتِ مني.

هزَّت رأسها بخفة في أحضانها وظلت ساكنه حتي أتي قُصيّ بما تريد وجلس القرفصاء أمامها، تهللت أساريرها ووقفت وأخذت منديلا بنفسها ونظفت حول فمها بدقة أثناء مراقبته إليها بانتباه، انتهت وهرولت إلى صندوق القمامة ووضعته بداخله بهدوء ثم عادت وجلست بأريحية وابتسامة سعيدة زينت ثغرها.
قهقهة قُصيّ وسألها بابتسامة: مبسوطة؟
صاحت بسعادة: أوي أوي
سألها وهو يحوط خصرها: أنتِ أكلتي ايه بقى لكل ده؟
أجابت بلطافة: كوكيز.

ارتفع كلا حاجبيه وضيق عينيه قائلا بمبالغة شديدة: يا خبر كوكيز مرة واحده عندك حق فعلا. اومال لو أكلتي Meat هتعملي ايه؟
اتسعت عيناها وهتفت بخفوت شارحة بيديها الصغيرتين تحثه على خطورة السؤال: هغسل ايدي مرتين كويس أوي.
قهقهة ودغدغها مشاكسًا: بجد، يعني مش مرة واحدة ولا تلاته..
تلوت ضاحكة بين يديه صائحة بإصرار من بين ضحكاتها: ههههههههههه لـ، أ، يا بابي مرتين بس.

حررها ورحمها من كثرة الضحك ثم قبلها وحثها على الذهاب بحنان: يلا روحي اعملي بيتزا مع ريمة يلا.
أومأت وركضت ضاحكة وذهبت إلى ريمة، ليتنهد هو ثم التفت ينظر إلي جـنَّـة لتسارع بالتبرير بقلق ةاضطراب: انا مقولتلهاش لأ والله هي اللي عيطت لما مسحت شفايفها بـ كُم البيجاما بتاعتي.

أومأت بتفهم وقال بهدوء: عارف و عشان كده هقولك تخلي بالك من تصرفاتك معاها لأنها حساسة جداً، وياريت اي حاجة تطلبها تديهالها طالما مش خطر عليها ولو خطر فهميها براحة لكن متوصليهاش للعياط انا مش عايزها تتعقد! غرام تربيتها مُختلفة مش زينا وياريت تقدري ده وتفهميه كويس، ولما تلاقيها اتخنقت وهتعيط يا تحايليها يا تبعدي عنها طالما مش عارفة تتعاملى معاها، وبحذرك تتعصبي عليها ولا تتأففى حتى!

اكفهر وجهها و إحتجت بغضب بسبب كلامه الذي أعتبرته بلا معنى وشرعت في الحديث باستنكار: أتعصب عليها فيـ..
شهقت بفزع عِندما أمسك ساعدها بقسوة محدجا إياها بنظرات نارية هادرًا من بين أسنانه بصوتٍ منخفض غاضب كي لا تلاحظ غرام: متستهبليش عليا انا شايفك من المطبخ وأنتِ بتأكليها بسرعة كأن حد بيجري وراكِ وقاعدة مستنياها تخلص وتعابير وشك زي الزفت! لو مش فاضية ولا طايقة نفسك ولا التربية يبقي تقولي ونفضيها سيرة؟

اتسعت عيناها بانفعال وهزَّت رأسها بهيستيريا وترجته بنبرة مرتعشة: مكنش قصدي خالص والله مكنش قصدي.

حرر معصمها وقبض على ذقنها بقوة مقربا وجهها منهُ وهسهس بتهديد محذراً للمرة الأخير وعيناه تومض بالشر: أقسم بالله يا جـنَّـة لو متعدلتيش وخدتي بالك من أقل تصرف يخرج منك وقدرتي النعمة اللي أنتِ فيها هسفرها ومش هتشوفيها تاني في عمرك، وده معاد المدرسة كده كده هتتدخل وهتتلهي مع صحابها وهتنساكِ ومتفتكريش إن صعب عليا أبعدها تاني؟، ولو فضلتي كده هي بنفسها هتطلب تمشي وساعتها مش هيبقى في أسهل من السفر.

كانت تستمع إليه والندم ينهشها، لكنهُ رأي الظاهر فقط لا يعرف الباطن، سقطت عبراتها بألم بسبب إذلاله إليها كُلما سنحت الفرصة، يريدها أن تظل خائفة دون إستقرار، أن تنام وهي تفكر أنها ستستيقظ غدا ولن تجد طفلتها، علها تتعظ.

توسلته بصوتٍ مختنق: متعملش فيا كده يا قُصيّ انا والله مكنش قصدي، كل الموضوع اني سألتها عن حاجة مردتش عليا وطلبت تاكل فا كنت مستنياها تخلص بس ممكن من ضيقي مخدتش بالي بس مش هيتكرر تاني والله.
سألها بسخرية ظنا أنها تكذب: وايه السؤال المثير أوي ده اللي هتجاوبك عليه غرام ها؟

اهتزت مقلتيها وشحب وجهها، ازدردت ريقها بحلق جاف وحركت أهدابها بسرعة باحثة عن إجابة مقنعة قبل أن يفتك بها لينقذها رنين هاتف قُصيّ، دفع وجهها إلى الخلف بحدّة ثم أخرج هاتفه وصعد يتحدث في الأعلى.
يعرف أنها لم تقصد أيًا مما حدث، لكنهُ كان يؤهلها لا يحذرها لأن ما قاله هو ما سينفذه.
جففت جـنَّـة عبراتها بعنف ثم حملت الهاتف وهاتفت سامي وهي تهز قدميها بتوتر عاضة على أناملها بقوة: الو، قابلني، هجيلك، سلام.

أغلقت الهاتف وراقبت غرام في المطبخ، تفكر في طريقة كي تستخرج الكلمات منها بسهولة، فيجب أن تعرف لأن ما تشك به إن كان صحيحا ستصبح ريمة خاتم في إصبعها.
هبط قُصيّ الدرج بسرعة بعد أن أرتدي ملابسه بعجلة من أمره وقال بهدوء: مش هتأخر، وذهب في طريقه إلي آدم.
اتجهت جـنّـة إلى المطبخ وأخذت قطعة حلوى من الثلاجة ثم حملت غرام الجالسة تشاهد ريمة بابتسامة، وخرجت من المطبخ كي تعرف إجابة سؤالها.

راقبتها ريمة بطرف عيناها وتصنعت عدم الانتباه إليها وتجاهلتها تمامًا ثم قذفت مابيدها وتخصَّرت بعدم رضي وهي تراقب إبتعاد قُصيّ من نافذة المطبخ بالسيارة ولا تعرف متى سينتبه لنفسه ويتوقف عن الركض هُنا وهُناك تاركا شؤونه دون إهتمام، ولكي تكون دقيقة أكثر متي سينتبه إليها ويهتم بها أكثر من هذا؟ إنها تشعر بالوحدة.

ضحكت جـنَّـة بعدم تصديق وأخذت تمسح على شعر غرام برفق ثم طلبت منها بحنان: روحي اقعدي مع عمتو يا حبيبتي بقي عشان مامي خارجة يلا.
أومأت وأخذت طبق الحلوى وهرولت إلي المطبخ، لتضع جـنّـة ساق فوق الأخرى ولفت خصلة ناعمة حول أناملها تنظر إليها وابتسامة انتصار تتألق فوق شفتيها.

حسمت أمرها وصعدت ترتدي ملابسها كي تذهب إلى مقابلة سامي. انتهت في وقتٍ قياسي ونزلت الدرج وكعب حذائها يقرع كالطبول فوق الدرج، ترتدي بنطال خامة الجينز ضيق وفوقه كنزه بحمالات رقيقه وفوقها ستره أنيقه وصففت شعرها، مرَّت على المطبخ قبل أن تذهب.
رفعت نظارتها الشمسية فوق شعرها وسألت مستفسرة وعيناها تجيل في المطبخ: فين غرام؟

أجابت ريمة بهدوء بنية تجاهلها: بتلعب في الجنينة وكفاية أكل حلويات عليها كده مش كل شوية حاجة حلـ، أنتِ خارجة؟!
أومأت بإبتسامة مبتسرة و استدارت على عقبيها كي تغادر لكن استوقفها سؤال ريمة المبطن الذي يحمل معنيين: قُصيّ عارف؟ ولا هقوله أنا لما يرجع؟
استدارت إليها جـنّـة وقالت باستفزاز وهي تضع الحقيبة أمامها بجانب العجينه التي تركتها تختمر: لا ميعرفش وأنتِ مش هتقوليله حاجة يا قلبي.

ابتسمت ريمة واسندت مرفقها فوق رخامة المطبخ سائلة بسخرية: ومن امتي ده إن شاء الله؟
همهمت جـنَّـة وهي تكتف يديها أمام صدرها، وارتفع حاجبها الأيسر وهي تضم شفتيها بتفكير ثم قالت بثقة استشفت بها ريمة التهديد: لو قولتي اني خرجت هقول انك بتروحي لجاسم بحجة صاحبتك اللي ساكنه في إسكندرية وبتاخدي بنته معاكِ كمان حلو؟

ضحكت ريمة بسخرية وهي تخفض رأسها بينما تقول باستخفاف: جاسم مرة واحدة كده؟ خيالك واسع أوي يا جـنّـة بجد وهربت منك المرادي!
أمالت جـنّـة رأسها للجانب، تنظر إليها بنظرة ناعسة ذات مغزى أخبرتها من خلالها أنها كُشفت وانتهي أمرها ثم هزَّت رأسها للجانبين بأسف، وهمست مواسية وهي تهم بحمل حقيبتها: متزعليش ياريمة مش أي حد يخطط وينجح من غير ما يتكشف! أنتِ مش أنا يا روحي..

تتبع قولها بإرسالها قبلة هوائية مع غمزه مفعمة بالحماس و استدارت على عقبيها بانتصار تبدل لصرخة مذعورة عِندما جذبتها ريمة من شعرها بعنف وإرتطم ظهرها بالرخام بقوة، تأوهت بصوتٍ مكتوم ورفعت يدها إلى يدِ ريمة تبعدها عن شعرها، لكن هبط كف ريمة إلى رقبتها تخنقها من الخلف بعنف مهسهسة بجانب أذنها كأفعي بعينين تنضخان بالشر: أنا مش قُصيّ يا بنت حبيب، معنديش نقطة ضعف، لا بنتي هتتاخد مني ولا جوزي هيطلقني! فاهمة؟ وأحسنلك بلاش أنا، أنا مؤذية وهأذيكِ في وشك مش هعمل زيك وزي قُصيّ وهتلون وأنام في حضنك وأنا بدبرلك مصايب من ورا ضهرك فاهمة؟

همست باختناق وهي تضرب يدها بقوة كي تحررها: فـ، فا، همة، دفعتها ريمة بقوة فاكتفأت على وجهها وسقطت أرضا تسعل بحدّة، تمسد رقبتها بحركة سريعة وقلبها يتقافز داخلها بهلع، تلتقط أنفاسها بصعوبة، تتراشق معها النظرات الكارهة بأعين حمراء دامية.
وضعت يدها فوق بطنها بخوف ووقفت باتزان لتجد الحقيبة تقذف في وجهها تبعها صياحها بشراسة: غوري في داهيه.

التقطتها قبل أن تسقط أرضًا ثم نظرت إلى ريمة نظره متوعدة حملت بطياتها الكثير، وسارعت بإرتداء نظارتها وغادرت بخطواتٍ دمغت فوق الأرض أسفلها من فرط غضبها و القهر الذي تشعر به بسببها.
ذرعت ريمة المطبخ ذهابا وجيئة كطائر جريح وهي تلعن نفسها وغبائها الذي أودي بها إلى جـنّـة في النهاية! اللعنة عليها.

جلست أرضًا تفكر في رد فعل قُصيّ عِندما يعرف بهذا، ولا إراديا انسلت عبراتها وظلت تبكِ وهي تغمر وجهها بين راحتيّ يديها تستعيد حديث أمس الذي دار بينهما في الغرفة.
أغلق قُصيّ باب الغرفة خلفه بتوجس أمام نظراتها المتعجبة، حركت شفتيها لتصيح لكنهُ رفع سبابته مع كلا حاجبيه محذرا كي تصمت.

سكتت وانتظرته حتى اقترب وقرر الحديث ليقول بهمس شديد متوجسا: من النهاردة عايزك تكوني جاهزة في أي وقت هقولك سافري تسافري حتى لو كنت بره البيت أتصل اقولك سافري تسافرى مفهوم؟
طرفت بتعجب وسألته بعدم فهم: سفر ايه يا قُصيّ اللي بتتكلم عنهُ تاني؟
مسد جبينه بتعب وقال مترجيا: المرادي بس ياريمة!.

ادمعت عينيها وارتجفت ذقنها واهتز صدرها بعنف، نظرت بالإتجاه الآخر رافضة بإنهاك، أشفق عليها وكره نفسه أكثر، فاقترب واحتضن وجهها وجفف عبراتها المتساقطة معتذرا منها بأسف: أنا عارف إني مش الأخ اللي كُنتِ بتتمنيه، وعارف إنك متقدمتيش لحظة ولا عملتي حاجة في مستقبلك من ساعة ما أتخرجتى بسببي، عارف إن نفسك تحبي وتتحبي زي أي بنت في سنك ومش عارفة بردو بسببي، عارف كُل حاجة من غير ما تتكلمي ولا تعيطي..

لم تحتمل أكثر فهربت شهقتها وعانقته بقوة تبكِ على صدره بحرقة تخرج ما يجيش بظصدرها تشكو منهُ إليه ليعيد إعتذاره مقبلا رأسها بحنو: أنا آسف، والله آسف..

رفعت رأسها وجففت عبراتها سريعًا ثم احتضنت وجهه وقالت بهمس وهي تبتسم بنعومة: أنا بحبك وبعمل كده عشان بحبك و عشان حابه إني أساعدك وأكون جنبك دايما، صدقني ميهمنيش كل الكلام ده قد ما تهمني حياتك و إنك تكون كويس ومعانا، أوعي تعتذر تاني ولا تفكر إني زعلانة! أنا خايفة عليك بس، أنا مليش غيرك في الدنيا.

ضمها إلى صدره بحنان وأخذ يمسح على ظهرها بنعومة والابتسامة تزين ثغرة ثم همس بوعدٍ صادق: صدقيني دى آخر مرة والمرة دي بجد لأني هسافر معاكم ومش هرجع تاني.
فصلت العناق ونظرت إليه بعدم تصديق وهمست بذهول: مش راجع؟ وأصحابك مش هتشوفهم تاني أبدًا؟
قهقهة على تعابيرها المنصدمة ومسح على شعرها برفق هامسا: لا هشوفهم طبعا عادي بس مش في مصر.
سألت مشدودة: اومال هيسافروا معاك؟

نفي بهز رأسه مع كتفيه وتمتم بجهل: مش عارف والله بس أكيد محدش هيسافر ايه اللي يسفرهم ويبعدهم عن أهلهم يعني؟
رفعت حاجبها بانتباه جعلته يضحك قبل أن يستطرد بثقة: بس عارف إننا عمرنا ما هنتفرق وواثق جدا كمان.
ابتسمت وهمست بتمني: كان نفسي يبقي عندي اصحاب وعلاقتنا تكون قويه كده.
ـ طب ما أنتِ عندك صح؟
عقد كلا حاجبيها وهتفت باستفهام: مين؟
قال ممتعضا: البنت بتاعة اسكندرية اللي لازقة فيها!

ارتبكت و ضحكت بتوتر وهي تدّلك عنقها وقامت بتغيير مجرى الحديث قبل أن يستفسر عن صديقتها: أنت مجبتش سيرة غرام ليه؟
أجابها بابتسامة وهو يفكر بها: غرام هجيبها أنا معايا متقلقيش، أهم حاجة تكوني جاهزة في أي وقت تمام؟
أومأت بتفهم وطغي القلق على ملامحها ليلثم جبينها بحنان وطمئنها مؤكداً على قوله وهو يمسد ذراعيها صعوداً ونزولا بحركة دافئة: دي أخر مرة صدقيني ثقي فيا زي ما أنا بثق فيكِ..

قضمت شفتيها بقهر وتابعت وصله بكائها ورنين كلمته الأخيرة كان يتردد داخل أذنيها بصوت مُرتفع كأنه يوقظها كي تتراجع وتنقذ نفسها مما هي مقدمة عليه.
تشبثت في حافة الحوض ووقفت بأعصاب تالفة ثم أخذت الهاتف كي تهاتف جاسم، ضميرها يؤنبها وهي تريد أن تنتهي من هذا وتسرع قبل أن تذهب.
أتاها الرد بعد ثوانٍ قليلة: الو، ريمة إزيك؟

جففت عبراتها و تحمحمت تجلي حنجرتها كي يخرج صوتها هادئا كما إعتاد منها ودرت بلطف: الحمد لله كويسة، فاضي النهاردة أجي؟
تمتم معتذرًا: للأسف لأ ممكن تأجليها لبكره؟
قالت بلا بأس وهي تبتسم ابتسامة لم تظهر: ممكن جدًا ولا يهمك مع السلامة..
أغلق الهاتف زافرا بضيق ثم قذفه على المقعد بجانبه بعدم إهتمام، صب تركيزه على الطريق فتهللت أساريره عِندما أبصر عشق تقف أسفل البناية التي تقطن بها تنتظره..

صف السيارة جانبا ولذة غريبة اجتاحت جسده برؤيتها أسرت جميع حواسه، تناول الظرف الموضوع به الأوراق التي تخص ملكيتها وميراثها من والديها وترجل سريعا وخفقاته تسبقان خطواته في طريقه إليها.
شعر بالمسافة تبعد أكثر وبكونه لم يقترب قط فصاح بأسمها لعلها تُقصر هذا الطريق الطويل عليه.
ـ عـشـق.

استدارت على عقبيها لتتسع ابتسامتها وتهرول إليه ليركض بدوره بقوة واللهفة تتقافز من عينيه، حملها من خصرها بها بقوة ودار بها أسفل البناية وهو يضحك بصوتٍ رنان سعيد صائحا بقوة: وحشتيني، وحشتيني أوي..
دفنت أناملها في شعره ودسَّت رأسها في كتفه هامسة بحنين: أنت أكتر يا جاسم..
أنزلها وقبّل جبينها مطولًا، غالقا عينيه باستمتاع حتى ظنت أنه التصق ولن يبتعد قط.
ضحكت بنعومة وهمست بخفة وهي توكز صدره بسبابتها: جاسم!

انتبه على نفسه وفتح عينيه وابتعد عنها على مضض بابتسامة دافئة، أمسك بيدها دون مقدمات وسحبها خلفه بينما يقول بسرور وعيناه تشع بحماس متطلعا إلى معرفة رد فعلها: تعالي نقعد في المطعم ده عشان عايز اتكلم معاكِ.
ضغطت على يده و أبطأت السير جعلته يقف والتفت إليها، فارتبكت وقالت بتوتر: ليه المطعم نقعد فوق في الشقة!
رفض وتابع سيره بها سائلا بغرابة: معقوله يا عشق مزهقتيش من القاعدة في البيت كل الفترة دي؟

سكتت ولم تعقب على حديثه وتابعت السير معهُ صامتة، فهي لم تخبره بعد أنها كانت تعمل في المطعم ولا بكونها تركته واستعانت بطبيب نفسي وأصبحت تعمل معهُ، لا شيء لا يعرف شيئا كانت تطمئنه عليها فقط كي لا يقلق ويأتي وهو لا يرغب في الإتيان و شعوره بالمسؤولية هو من يدفعه كي يأتي.
بينما في هذه الأثناء داخل المقهى..

ضغط قُصيّ على جبهة آدم بابتسامة ليتأوه بقوة ويصفع يده بضيق متأففًا في وجهه بحنق صائحا بإزدراء: أنت عبيط ولا ايه؟ بقولك بتوجع بطل لِعب..
قهقهة قُصيّ وقال بفخر وهو يضغط على شفتيه المجروحة: فخور بيك يا دومي، دي علامات الفخر أنت متعلمش عليك لأ..
ضرب آدم ظهر يده ودفعها بعيدا بينما يقول بثقة: مين قالك إنه اتعلم عليا عيب عليك؟
ضرب كتفه وهتف مشجعًا وهو يضم قبضته: عاش يا وحش..

ابتسم آدم لبضع ثوانٍ قبل أن يعود الهم يجثم فوق صدره، وتبدلت ملامحه بأخرى حزينة قائلا: صح نسيت أقولك اللي حصل عند عمّار.
نظر إليه بانتباه ليقُص عليه ما دار بينه وبين دهب في المكالمة الهاتفية.
صاح قُصيّ متأسيا بحزن: لا اله الا الله حصل ازاي ده؟ ده أنا بحبها، كان عليها حته شبشب يا آدم بيطبع على الجسم يلا الله يرحمها.

قذفة آدم بالثلج في وجهه وزجره بحدة وغيظ: الله يرحمها ايه يا متخلف أنت! لسه عايشة ده عمّار لو سمعك هيعدمك، والله تستاهل الضرب اللي كُنت بتاخده فعلا..
كاد يرد عليه لكن فضوله منذُ أن جاء ورأي ظهر تلك الفتاة لا يهدأ أبدًا.
سأل آدم باستفهام: هي اللي مديانا ضهرها دي مش لمار؟
استدار آدم وحدق بها قليلا متصنعا المفاجئة وأنهُ يراها للمرة الأولي، ثم استدار إليه وقال بكذب: معرفهاش متهيألي لأ!

ابتسم قُصيّ بخبث مراقبا اضطرابه وتردده ثم وقف قائلا: يبقى أروح أتأكد بنفسي بقي.
زفر آدم بعصبية وأمسك ذراعة قبل أن يذهب صائحا بغضب: رايح فين ياحلوف إنت مش جي تقعد معايا؟
قال مبررًا: أنت عارف يا آدم القاعدة مش بتطري غير بالعصير.
كانت منغمسة في رسمه ترسمها بدقة وتركيز وهي تخفض رأسها فوق الورقة، توقف أمامها وقرر التحدث باحترام حتى يعرف هويتها أولا.

حمحم بخفة وسأل بلباقة وثقة: حضرتك لـ، انشراح إنتِ هنا؟، قال مشاكسا بعد أن رفعت رأسها وتأكد أنها لمار.
ضحكت لمار دون أن تخفي علامات التفاجئ عن وجهها ورحبت به بابتسامة رقيقة: قُصيّ إزيك، عامل إيه النهارده؟
أجاب مبتسما وهو يجلس: أنا الحمد الله كويس جدًا والورد بيوصل وباكله وكُله تمام.
قهقهت بنعومة وهي تنظر إليه ليباغتها بسؤاله الفضولي وهو ينظر إلى ملابسها: أنتِ بتلعبي رياضة ولا ايه؟

أومأت مؤكدة وقالت بعزيمة: اه بدأت النهاردة عشان أخس..
راقص كلا حاجبيه بعبث وهتف بنبرة لعوب: رياضة ايه بس ياعم ده أنت كده بطل؟
طرفت بتفاجئ وتخضبت كلتا وجنتيها بالحمرة وتركت القلم ورفعت يديها وطبطبت بهما على وجنتيها بخفة قائلة بخجل: كسفتني يا قُصيّ! أخص عليك.
هتف ممتعضا: أخص عليا ايه يا كرنبة أنتِ أنا برفع من روحك المعنوية؟

قذفت عليه الممحاة بغيظ فأمسكها سريعا سائلا بسخرية: ايه ده؟ بتسمعي جدول الضرب ولا ايه؟، ورفق كلامه باختطاف الدفتر من أسفل يدها وتطلع إليه باهتمام.
ابتسم أثناء قراءته ما كتبت بطريقة لطيفة، ليصفر هاتفا بإعجاب في نهاية قراءته: أووه بيوتي لمار؟
أومأت سريعا وضمت يديها إلى صدرها والرغبة تشع من عينيها وبريق لامع متميز يتلألأ داخل مقلتيها هامسة بتمني: ده حلمي يا قُصيّ.

سألها وهو يحدق في رسمتها بابتسامة، لأنه يقدر الأمنيات ويحترم الإصرار في تحقيق الرغبات: طيب فكرتي هتعمليه ازاي وفين؟
عبست وزمت شفتيها وبتنهيدةٍ طويلة قالت: لا لسه لما الفلوس تكمل الأول هبدأ أدور وكده؟
سألها بدون مقدمات: معاكِ كام؟
حركت أهدابها بتعجب تنظر إليه بأعينها الواسعة هذه عاجزة عن الرد ليستطرد بسبب تفاجئها: فضول مش اكتر! قولي..

ابتسمت ببلاهة ودلكت عنقها قائلة ببعض الخجل بسبب مبلغها الصغير: داخله جمعية من كام سنه كده وهقبضها قريب.
ـ فضول تاني، كام؟
ضربت قدميها في الأرض بتذمر بسبب إصراره وأجابت بامتعاض: متين ألف..
أعاد النظر إلى رسمتها بتدقيقٍ أكثر لترفع يدها وتسند مرفقها فوق الطاولة تراقبه بتركيز وأعين ثاقبة.

رفع مقلتاه إليها وقال بهدوء: الفلوس قليلة ومش هتجيبلك اللي أنتِ عملاه ده؟ أنتِ في جهاز هنا كاتبه اسمه و ده جديد ومفيش منهُ في مصر متهيألي!، أهو ده بقى بسعر البيوتي سنتر كله هتعملي ايه؟!
تبدلت ملامحها وعادت للعبوس بنظرات لائمة ليطرف ويسارع بالقول كي لا تحزن: أنا مش بأحبطك والله بس مشروع زي ده محتاج شريك وفلوس وليله إيه رأيك فيا؟

تهللت أساريرها وتبسمت لثوانٍ قبل أن تعبس مجددا ورفضت بغرور وهي تدفع شعرها خلف ظهرها بكفها بثقة: لأ عشان لما يبقى أكبر بيوتي سنتر في مصر ماتجيش تقول بفضلي وبفضل فلوسي وبعدين تقولي حطي اسمي معاكِ عليه ونتخانق على الشهرة بقي.
نظر إليها بدون تعبير وقذف الدفتر عليها وطردها بنزق: يلا قومي شوفي أنتِ رايحة فين.
ضمته إلى صدرها بقوة وقالت بغيظ: أنت اللي شوف أنت رايح فين دي ترابيزتي أنا؟

تنحنح ووقف كي يغادر لتقهقة عليه دون أن تنظر، انتظرت ذهابه لكنهُ استند على طرف الطاولة من الجانب ممدًا ساقيه في الأرض وسألها بشك وهو يميل بمنكبه عليها: مشفتيش آدم؟
أجابت بهدوء وهي تجمع أغراضها في حقيبه الظهر الجلدية: لأ شفته وهو بيتخانق مع أخوه ومرضتش أروح أتكلم معاه لا يتخانق معايا أنا التانية!
سألها مستفهما: وسبب الخناقة ايه متعرفيش؟

أشرت لهُ أن ينخفض لمستواها وهي تنظر حولها بريبة لينصاع، و انحني ليكون وجهه مقابل وجهها وتبدأ هي بالثرثرة التي تحبها بملامحها الطفولية البريئة التي تذكره بغرام، لم ينتبه على ابتسامته البلهاء ولا عيناه التي أخذت بالتجول على وجهها النقي عدي من بعض المرطبات التي كان لها رائحة طيبة، لم يكن صوتها الخافت مُشكلة لأنه كان يقرأ شفتيها التي لا تتوقف عن الحركة بالفعل و للمصادفة كان يفهم بسبب مخارج حروفها الصحيحة، كانت عيناه أدق من جهاز الماسح الضوئي وهي تمر على أنحاء وجهها، استوقفه انذار بتلك الشامة الصغيرة التي لا يستطيع أحدًا رؤيتها على أرنبه أنفها سوي بالعين المجردة. ، تابع مهمته إلى عيناها ليستوقفه إنذار عِندما لاحظ عدم تساوي رسمة عينيها بذلك المُحدد، إنذار آخر كان لحاجبيها الكثيفين المبعثرين، يبدو أنها كانت على عجلةٍ من أمرها ولم تنتبه للكثير من الأشياء كالحال مع شفتيها، تضع ملمع شفاة وردي رقيق شفاف بالكاد يظهر وتخطي جانب شفتيها وهذا مُزعج.

استفاق من شروده على وغز حاد كالدبوس على أرنبه أنفه، تطلع أمامه بتيه ليجدها تبتسم في وجهه بنعومة هامسة بمشاكسة: عملتلك حسنة..
رفع نفسهُ وحكّ أرنبه أنفه بقوة وهو يحدق في القلم الذي تمسكه لتطلب منهُ الجلوس بهدوء: أقعد عشان أنت كنت هتشنكل واحد دلوقتي إتفضل.
حرك الكرسي للجانب قليلا وإضجع عليه يمسد جبهته بقوة لتسأله باستفهام: سمعت أنا قولتلك ايه؟
أومأ وهتف بهدوء: أه آدم قلي..

سألته بغيظ: وبتخليني أحكي ليه كل ده؟
رد بهدوء وهو يرفع أنظاره إليها: معرفش إنها كانت خناقة كبيرة والكُل سمعهم.
أومأت بتفهم وظلت صامته تحدق في رسمتها بحسرة ليسألها قُصيّ: أنتِ إيه رأيك في اللي حصل؟
هزت كتفيها بجهل تزامن مع مط شفتيها قائلة بقلة حيلة: معرفش حاجة ولا عارفة اتصرف ازاي؟
ـ ما تطلبيه للجواز يا لمار؟
انفجرت ضاحكة وهي تضرب كفيها معًا ثم وسألته بذهول: أطلبه! أنا؟

أومأ وقال مؤكدا: عشان نبقي واضحين آدم مش هيحب غير تالين تمام..
أومأت بانتباه دون خيبة ليستطرد: في الوقت ده هو مضايق فا جربي كده اعزميه على العشي وقوليلي اتجوزني بس.
ضحكت ذاهلة وهي تطلع إليه بعدم تصديق وسألته بتعجب: هنقول إنه وافق هنعيش إزاي وهو مش بيحبنى؟ ولو كسفني هعمل ايه؟

ابتسم وشرح بهدوء: في الحالة الأولي هتندمي وهتقولي يارتنى ما أتسرعت وعرفته أكتر لأن الشكل عمره ما كان كُل حاجة، وفي الحالة التانية لو كسفك يمكن تنصدمي وتتخرسي لآخر يوم في حياتك وتريحينا كُلنا.
قهقهت بخفة وتحدثت مقترحة وهي تضيق عينيها: في حل تالت على فكره..

همهم إليها بانتباه لتردف بابتسامة ملائكية ونبرة هادئة: الحل التالت إني أفضل زي ما أنا معززة مكرمة لحد ما ألاقي اللي يحبني ويقدرني ويعاملني كـ ملكة!
إيماءة بسيطة صدرت منهُ تلاها هتافه بجدية: صح أنتِ صح..
لوحت بيدها بيحرة وهي تبعثر شعرها متذمرة: ماهو بردو فكرتك عجبتني!.
ضحك هازا رأسه بيأسٍ منها ورفع ساق فوق الأخرى بينما يقول بازدراء: أنتِ مهزأة ومعندكيش إرادة.
ردت عليه بسخط لطيف لم تتقنه: وأنت متنمر.

ابتسم وصفق إليها قائلا بتسلية: شاطرة براڤو عليكِ يا انشراح، وبالمناسبة دي هقولك نكته..
أومأت بهدوء وحذرته بسبابتها للمرة الأخيرة وهي ترفع كلا حاجبيها بجدية: بطل تتنمر عليا أنا دارسة لغة الجسد كويس يا قُصيّ وممكن ابهدلك..
قهقهة على تعابيرها وحرك رأسهُ موافقا بينما يقول: ماشي، بس اسمعي بقي النكتة دي، بيقولك مرة واحدة كان نفسها تفتح بيوتي سنتر وهي مبتعرفش ترسم الأيلاينر.

طرفت بتعجب باحثه عن المضحك وهزَّت رأسها بعدم فعم، تحدجة بسخط ليسألها بتعجب: مش بتضحك؟
هزَّت رأسها ببرود شديد ليخرج هاتفه ويفتح الكاميرا ويلتقط إليها صورة، ثم وقف ووضع الهاتف أمام عيناها التي تراقبانه بتعجب هاتفا بسخرية: طب وكده؟

نظرت إلى الصورة بإزدراء مدققة النظر إلى وجهها سرعان ما فهمت المغزى لتصرخ بصوتٍ مكتوم وهي تضرب قدميها أرضًا مدمدمة بغيظ، بوجة متورد زاهي ليهرول ضاحكا إلى آدم الذي سيقتله بسبب هذا التأخير.
جلس أمام آدم وسأله باستفهام: ها عملت ايه؟
زفر في وجهه بغضب وأنزل الهاتف عن أذنه بقلق وهتف بتهكم: لأ وأنت مهتم اوي.
نظر إليه بدون تعبير وقال مؤكدا: طبعا مهتم وأنت قاعد بتعمل تليفون شايفك وبراقبك.

زفر بعصبية وأردف بانفعال وهو يضم قبضته فوق الهاتف بقوة: محدش بيرد عليا وهتجنن، هتجنن يا قُصيّ.
تنهد قُصيّ وحاول امتصاص غضبه: عمّار مش هيرد عليك واكيد الموبايل مش معاه في ظرف زي ده حاول تاني بعد كام ساعة يكون فاق من اللي حصل يارب يكون خير هزعل أوي لو حصلها حاجة بجد.
إرتفعت زاوية شفتي آدم بسخرية وسأله: مش كان الله يرحمها؟!
قرص قُصيّ وجنته مغمغما بغيظ: أنت اللي وهمتني بكده.

صفع آدم كفه وكاد يمسكه ويعضه من الغيظ ليبعده قُصيّ وهو يقهقه وتابع مواساته: دلوقتي لو خايف على تالين روحلها بس خلي بالك وشوف مصطفي هناك ولا لا! وانا افضل أنك تطمن عليها من بعيد لبعيد ومفيش داعي إنك تشوفها وتتكلم معاها.
زاغت عيناه بتفكير وأخفض رأسهُ فوق الطاولة من الصداع المباغت الذي داهمه وطلب منهُ بخمول: اطلبلي قهوة.

حملت لمار حقيبتها وطلبت الحساب كي تذهب ليأتي النادل إليها بقطعة حلوي شهية ووضعها أمامها، نظرت إليه بعدم فهم وقالت بتعجب: بس أنا طلبت الحساب؟
قال بلباقة قبل أن يغادر: الحساب مدفوع وده طلب الأستاذ اللي هناك وبيقولك دايت سعيد يا فندم..

هزَّت رأسها بخفة وعادت للجلوس وهي تنزل الحقيبة من فوق كتفيها والابتسامة تزين ثغرها، هذا المفسد تخبره أنها تُريد أن تخسر الوزن وهو يجلب لها كعكة، تنهدت وازدردت ريقها بصعوبة بالغة وهي تحدق في صوص الشوكولاتة اللامع الذي يتساقط من فوق الكعكة ببطء معذبٍ إليها، أمسكت الشوكة بتردد وقامت بقسمها نصفين لتسقط منها الشوكلاته الذائبة وتذوب معها ويسيل لُعابها عليها..

تأوهت بحزن وقضمت شفتيها بحسرة ومعدتها تطالب بها، تقلصت ملامحها بتأثر وطمئنت نفسها، فلن يحدث شيء من قطعة كعك صحيح! ولن تقوم بإحراج قُصيّ كذلك لهذا سوف تتنازل و تتناولها.
وكز قُصيّ رأس آدم وهو يرتشف قهوته سائلا بابتسامة: آدم أنت نمت؟
همهم إليه بثقل وقال بألم: دماغى مصدعه اوي من ساعة ما ضربته..

قهقهة قُصيّ ووقف سريعا هاتفا: طيب هروح اجبلك حاجة من الصيدلية اللي جنب الكافية وإشرب القوة عقبال ما اجي متنامش.
رفع رأسهُ وأومأ دون أن يفتح عينيه ليغادر قُصيّ ويبدأ هاتفه بالرنين والأزيز فوق المنضدة بعد ذهابه وتركه مباشرةً، عاد آدم للنوم ولم يكترث بالهاتف ظنا أنهُ أحدا من العمل يريده، ففكرة أنه عمّار مستبعدة.

أنهت قطعة الحلوى ولعقت شفتيها بتلذذ ثم أشارت للنادل أن يأتي بانفعال وطلبت منهُ بشهية: عايزة تاني هات واحدة، ولا أقولك اثنين هات اثنين طعمها حلو اوي الله يخربيتك يا قُصيّ.
سألها باستفهام: اثنين من ايه يا حضرتك؟
كادت ترد لكن صدح صوت هاتفها، أخرجته من الحقيبة بسرعة وردت بهدوء: الو، نادين! ايه ايه مش فاهمة؟
ـ أحسن دلوقتي؟.

سأله قُصيّ باهتمام بعد أن ارتشف آدم قرص الدواء مباشرةً ليرد عليه ساخطاً: أحسن منين أنا لسه واخدها دلوقتي لحقت تعمل مفعول؟
رد عليه بغلظة وهو يقف: هششش خلاص أقفل أنا غلطان يلا قوم روح ونام شويه هتبقى كويس..
أومأ ووقف معهُ يتثاءب بكسل متمتما بصوتٍ أجش: هروح لتالين الاول وتليفونك كان بيرن شوف مين.

سارا معا إلى الخارج، استقل آدم سيارته وذهب وفعل قُصيّ بالمثل، أدار المحرك وكاد ينطلق لكن توقف قليلا عِندما سمع صوت ناعم يهتف بإسمه، هزَّ رأسهُ وزفر ظنا أنه يتوهم وانطلق، نظر في المرآة الجانبية أثناء قيادته ليعقد كلا حاجبية وبدأ في الضحك بخفة عِندما أبصر لمار تركض في الخلف تلحق به بأنفاس متسارعة وهي تكاد تختنق، تلك الفتاة مسلية لا تشعره بالملل.

صف السيارة جانبا وظل مراقبا إياها في المرآة مقهقها عليها وهي تقترب وقام بفتح باب السيارةِ لها عندما إقتربت، صعدت بجانبه وهي تلهث ممسدة صدرها بخفة وهي تهز رأسها بقوة، أغلقت الباب وصاحت بحلق جاف وهي تجفف جبينها: مِـ، مشيت بسرعة ليه؟ سوق وروح لنادين بسرعة..
أدار محرك السيارة وبدأ في القيادة سائلا بقلق: ليه في ايه؟

أخبرته سريعًا وهي تعبث في الهاتف تحاول الاتصال بـ عمّار ومازالت تلهث: كـ، لمتني، دلوقتي ومنهارة من العياط بتقولي ليلي خرجت من الصبح راحت لـ عمّار ومن ساعتها مرجعتش ولما خرجت تبص على عربيتها لقيت شنطتها واقعة في الأرض مسروقة ومفيهاش أي حاجة.
أسرع أكثر بقلق وقال بتشوش: بس عمّار سافر من بدري؟ ولما مشي مكنتش معاه راحت فين؟
في هذه الأثناء في المطعم.

شعر جاسم وكأن سطلا من الماء المثلج سقط فوق رأسه، لا يستوعب ما تفوهت به الآن!، فقط لمَ هي المسئولة عن كل آلامه والخذلان الذي يتعرض إليه؟ إلى متى سيظل يتحمل ويطمس الحقيقة ويكظم غضبه بداخله إلى متى؟ هل تريد أن تجلطه! أم تريد موته لتتصرف تلك التصرفات.

قذف الأوراق أمامها وأعاد حديثها الذي قذفته في وجهه دفعة واحدة وهو يحدق في كوب المياه مستنكرا: يعني روحتي لدكتور تتعالجي! واشتغلتي هنا وسبتي الشغل هنا واشتغلتي مع الدكتور! و دلوقتي هتسافري مع الدكتور! وانا كل يوم بكلمك ولا قولتي حاجة وجاية تقولي دلوقتي عشان هتسافرى معاه مش كده؟!
أومأت بحركة بسيطة غير ملحوظة وزاغت عيناها وأطرقت برأسها وظلت تعتصر أناملها بقوة وتوتر وقد جف حلقها من إنتظار بقية حديثة..

تمعن النظر إليها بوجه مكفهر والدماء تغلي في عروقه بسبب صمتها وللحظة شعر بالكره تجاهها، يكفي استغلال لقد سئم واكتفي.
سألها بنبرة غليظة مستهجنة وعلا صوته: مقولتيش ليه؟ مش كل يوم بكلمك؟ أنا لسه بالنسبالك ولا حاجة؟ ولا كُنتِ هتسافرى من غير ماتقولي وأتفاجئ أنا لما أجي؟

أدمعت عيناها ولم تجرؤ على رفع رأسها إليه قط ليصرخ بها بنبرة جهورية صب بها جام غضبه أجفلها وجذب الأنظار إليهما: لا ارفعي عينيك وبصيلي؟ أنتِ عايزة مني ايه ها؟ مش كفاية اللي بعمله عشانك ولسه بعمله؟
انسلت عبراتها وتلفتت حولها بإحراج وهذا لم يزده سوى غضبا ونبذا كأنه لم يقل شيء وكل ما يهمها نظرة الجميع إليها فقط وهو لا شيء، هو نكرة.

هزَّ رأسه بتفهم وهو يضع أنامله فوق شفتيه هازا قدميه بقوة وعيناه متسعة بانفعال أخافها جعلها تتحاشي عيناه وتوقفت الكلمات في حلقها قبل أن تخرج حتي.
شملها بنظرةٍ مستحقرة لن تنساها طوال حياتها ثم هدر بسأم وهو يقف: أنتِ طالق يا عشق، وتتبع قوله بمغادرته المطعم بأكمله..

ظلت متجمدة محلها كالصنم تحدق في العدم دون أن تطرف قط وعبراتها تشق طريقها فوق وجنتيها الشاحبة وكلمته ترن في أذنيها بقوة، لقد تخلى عنها دون أن يفهم، ظن أنها ستذهب مع الآخر لأنها أحبته أو لأنه لا يهمها، خسأ تلك المرة.

علا صوت الهمهمات وتكاثرت النظرات المعبرة إليها لتستفيق وتنتبه على نفسها، نظرت حولها برؤية ضبابية ثم وقفت وقضمت شفتيها كاتمه شهقاتها بصعوبة تخضن وجهها إثرها وأخذت الأوراق و خرجت راكضة نحو شقتها..

هرولت أحد النادلات إلى غُرفة مديرها بعد ذهاب عشق، طرقت الباب ودخلت سريعا لتشهق بتفاجئ عِندما رأت رئيسها يتنقل في الغرفة بكرسي متحرك وإحدى ذراعيه مكسور وقدميه كذلك ورأسهُ مضمدة ووجهه مكدوم لا يتبين لهُ لون..
تداركت تفاجئها أمام نظراته الجامدة وقالت بهدوء كما أمرها أن تأتي لهُ بأي شيء يحدث في الخارج: عشق.

إرتجفت اوصالة عِندما سمع بإسمها، كاد يصرخ بها ويطردها لكن شفتيه لم تسعفه بالتحرك بتاتاً فصمت وسمع قولها: عشق كانت بره مع جوزها باين واتعصب عليها وقام طلقها ومشي..
اتسعت عينيه بقوة وهتف بانفعال ومقلتيه تكاد تخرج من محجريها: هاتي، هاتي، في كارت، على المكتب هاتيه بسرعه..

هرولت إلى المكتب وأتت به سريعا، ناولته إليه كأنها تذكره بعجزه فحدجها بغضب وطلب منها بازدراء وهو يحرك ذراعه متأوها بقوة: اتصلي بيه، اتصلي قوليله شوقي بيقولك عشق أطلقت وكفاية عليه كده..
تنحنحت وأومأت بطاعة ثم جلست على الأريكة وقربت الهاتف الأرضي منها وهاتفته.
اتسعت عيناه وضغط المكابح بقوة لترتد لمار إلى الأمام صارخة بفزع وكاد تسقط عن مقعدها لكنها تماسكت وتشبثت في حزام الأمان..
ـ مظبوط الكلام ده؟

خرج صوته مشدوها يغلفه التلهف من الخبر.
ليصله تأكيد الفتاة وقصها عليه كل ما رأته في الخارج. فلم يكبح ابتسامته الجذابة ولم يستطع إخفائها كذلك، فعشق حرة وكل شيء سيسير كما خطت لهُ.
ـ بيقولك كفاية عليه كده؟
ضحك بقوة وهو يرخي رأسهُ إلى الخلف مخللا أنامله في شعره وعقله يطوف به بعيدًا حتى ناظرته لمار بتعجب وظنت الفتاة أنه لن يرد عليها!

استقام وعاد للقيادة براحة قائلا بهدوء وعينيه تومض بإصرار: لو طلع الكلام ده صحيح هعالجه على حسابي كمان.
أغلق الهاتف وضاعف سرعته بحماس كي ينتهي سريعا ويذهب إليها، كان الفضول يشع من عينيها وهي تراقبه لكنها تماسكت وأبت السؤال والتدخل فيما لا يعنيها.

في مكانٍ آخر، في محراب الفساد، المكان الممتلئ بأكثر الأشخاص فسادًا، العالم الذي ترتكب فيه المعاصي والخطيئة كـ طرفة عين، الذين يعثون في الأرض فسادا ويجتمعون معًا ليلا يتراقصون مع الشياطين.
في هذا الملهى الليلي كانت تجلس جـنّـة مع سامي فوق أحد الأرائك المخملية وأمامها منضدة موضوع فوقها خمر، مستعجبة وجوده هُنا في هذه الساعة من النهار والملهى فارغ تمام!

هتفت باستفهام قبل أن ترتشف بعض المياة: بردو مش هتقول بتعمل ايه هنا دلوقتي؟
رد بإبتسامة متملقة وهو يكسب إليه كأسا: ده مكاني حاليا عايش هنا ليل نهار.
أومأت دون تعقيب وعيناها تجيل في أرجاء المكان بتفحص ثم سألته باستفهام وهي تضع ساق فوق الأخري تكتف يديها أمام صدرها: مالك بقي؟ في الفترة الاخيرة كل ما أكلمك تتهرب وساعات مش بترد حصل ايه؟

قذف قطعة الثلج في الكأس بغضب وهدر بوجوم: بسبب الاتفاق اللي لغيتوه بمزاجكم!
قطبت مابين حاجبيها بعدم فهم وسألته مستنكرة: محدش لغى حاجة هتهزر؟
صاح بنبرة محتدة: لا قُصيّ لغاه وقلي مفيش عشق يبقى أرد عليكِ ليه؟

ضحكت بسخرية حتى أدمعت عيناها ثم قالت باستخفاف وهي تتناول مكعب ثلج صغير: قُصيّ هو اللي اتفق معاك من الأول بردو؟ الاتفاق كان بيني وبينك وبابا سيبك من قُصيّ خرج منها وخليكِ معايا، وتتبع قولها بقذف مكعب الثلج داخل فمها تسحقه سحقا بين أسنانها أمام نظراته العابثة.
لوكت بلسانها داخل فمها ثم أشرت على شفتيها وسألته: شُفت انا عملت ايه في الثلج؟

أومأ بخبث وهو يميل برأسه لتستطرد بـ شر: أنا عايزة عشق يحصلها كده؟ فاهمني؟
أومأ بتفهم متواطئا معها والخبث يشع من مقلتاه، هامسًا برغبة مريضة و أنامله تداعب حافة الكأس: هي بس تُقع تحت ايدي واكون معاها في مكان واحد.
نظرت إليه بنظرة ذات مغزى تحمل ثقة لا متناهية وأمرته بحركة من رأسها: افتح موبايلك وأتفرج على الصور اللي بعتهالك دلوقتي.

انصاع وفي ثانية كان يقرأ الصور الخاصة بنتائج تحاليل قُصيّ بهدوء وتركيز سرعان ما تحول إلى سخرية وحنق أثناء قوله باستصغار: مبروك كويس إنه وخف والنتايج كويسة كمان!
زفرت بحنق وزجرته بحدّة وانفعال: طالما مش فاهم متتكلمش، الصور دي هتاخدها لحد موثوق شاطر يقدر يغير النتايج دي ويكتب اللي احنا عاوزينه وتخلصهم وتبعتهملي تاني تمام؟
أومأ بتفهم وعاد يقلب بينهم بتفكير ثم سألها بعدم فهم: بس لزمتهم إيه؟

ابتسمت بجانبيه وهمست بمكر: الصور دي اللي هتجيبلك عشق لحد عندك.
همس ببسمة قبل أن يرتشف كأس الخمر: أحب كده..
في منزل ليلى الآن..
زفر قُصيّ بقوة وهو يذرع الحديقة ذهابًا وجيئة بنفاذ صبر منتظرًا رد عمّار على الهاتف وصوت بكاء نادين الحارق يصل إليه من الداخل..
تنبهت حواسه عِندما سمع صوت الهواء القوي يشوش عليه السمع ظنًا أنه تحدث وقال شيء لكنه لم ينبس ببنت شفة قط..

فسأله بقلق عِندما لم يسمع صوته وظل الهواء وصوت القيادة قائما: عمّار أنت كويس؟ سامعني طيب؟
أتته همهمه واهنة بالكاد سمعها ليسأله بقلق: ليلي معاك؟
اجابه بنبرة خالية من الحياة: لو حصلها حاجة هقتله.
عقد كلا حاجبيه بعدم فهم وسأل مستفسرا: هي مين؟ عمّار، الو؟ يا بني أدم؟ استغفر الله العظيم يارب..

أغلق الهاتف وجلس فوق الأرجوحة يفكر قليلا يجمع الخيوط مع بعضها البعض، فإن كان الهدف سرقتها لقاموا بخطف الحقيبة والركض وانتهي الأمر فلن يأخذوها هي!
اتسعت عيناه ووقف فجأة عِندما أدرك ما يحدث، ليس متأكدا تماما من هذا لكنه التفسير الأقرب لمَ يحدث.

هرول إلى الداخل سريعًا، فكانت نادين تنتحت في أحضان لمار بصوتٍ مبحوح ووجه شاحب وأعين حمراء كانت حالتها مزرية، هبت واقفة وهرولت إليه عِندما لمحته يتقدم وإمارة الأسف ترتسم على وجهه..
أمسكت يده وضغطت عليها بقوة سائلة بتلهف وعيناها تفيض من الدمع: فين؟ لقيتها، لقيتها مع عمّار؟

هزَّ رأسهُ بأسف ومسح على شعرها برفق، ليعلو صوت بكائها مجدداً وتنكس برأسها فهدئها بتمسيد ذراعها بحنان هامسًا برفق: بصي يا نادين، هي مش مع عمّار وعمّار دلوقتي في الطريق ولوحده تمام.
أومأت بتفهم ليستطرد بنبرة مطمئنة قليلا أمام نظراتها الزائغة: انا دلوقتي هدور عليها في كام مكان كده ولو ملقتهاش يبقى مش هنلاقيها غير عند شخص واحد بس.
رفعت رأسها وتمتمت بلهفة: فين؟

وضع يده في جيب بنطاله وقال بعدم تأكيد وهو يحك منحدر أنفه: عند جدك أكيد خطفها..
توقفت عن النحيب واتسعت عيناها وهمست بنبرة مرتعشة جازعة وبداخلها تتمني ألا يكون هذا صحيحا: ليه بتقول كده؟
تنهد وقال بإنزعاج: لأن اللي حصل عند عمّار فجأة وبعدين هي تختفي يبقى أبوها عمل حاجة وهو المسؤول.
تغضن وجهها ووضعت يدها فوق قلبها بخوف هامسة بصوتٍ مبحوح: وهو حصل ايه عند عمّار؟

تنهد وأحاط كتفيها وأجلسها على الأريكة برفق محاولا بثها بالطمأنينة: لما نتأكد الأول يا نادين، متقلقيش هنلاقيها وهتبقى كويسه، واستدار ينظر إلى لمار سائلا إياها: معندكيش مشكلة تباتي معاها يا لمار صح؟
أومأت وهي تجاورها في الجلوس ثم ضمتها إلى صدرها ورفعت يدها تمسد ظهرها براحة يدها برفق قائلة بهدوء: لأ مفيش مشكلة متقلقش عليها..
أومأ بامتنان وقال قبل أن يغادر: هبقي اتصل واطمنكم لو وصلت لحاجة..

اندثرت الشمس خلف القمر وأطبق الليل وخيم الظلام، والوضع ظلّ كما هو عليه، الجميع متحيرين مهمومين..
خرج قُصيّ من المستشفى لاهثًا و جبينه يتفصد عرقًا مرهقًا أيما إرهاق، مُنذُ ساعات يبحث وقد كلف رجاله تبحث ولم يتوصل لأي شيء كأنه يبحث عن شبح، أخذ قنينة المياه من نافذة السيارة المفتوحة و أفرغها فوق أسهُ من فرط الحرارة التي يشعر بها بسبب سعيه وحركته المتكررة.

لفح وجهه نفحة هواء مداعبه جعلته يفتح أزرار قميصه العلوية للهواء زافرا بحرارة ثم أخرج هاتفه وهاتف لمار..
ـ الو، ايوه يا لمار، لا ملقتش حاجة هي عاملة ايه دلوقتي؟
قالت بحزن وهي تمسح على شعرها برفق: نامت من كُتر العياط، أنا زعلانه عليها أوي.
تنهد وقال مواسيا: هنلاقيها إن شاء الله خليكِ جنبها بس لحد ما أعرف أوصل لـ عمّار وكل حاجة هتتحل تمام. مع السلامة.

أغلق الهاتف وأخذ شهيقًا طويلا مُزِج برائحه عرقه، تأفف وحرك ياقة قميصه بإنزعاج شديد، فهو يُريد الذهاب إلى عشق ولن يذهب إليها برائحته هذه، وإن عاد إلى المنزل كي يستحم لن يستطيع الذهاب لمَ؟، لأن جـنّـة ستخرج إليه من العدم وتتدلل وتخبره أن يحملها كي لا تصعد السلالم ويتضرر الطفل، ثم تأخذه غرام كي يلعب معها ويقص عليها قصة الأميرات قبل النوم ثم يأتي دور ريمة، إنهُ محاصر بالنساء لن يذهب إلى مكان إن عاد إلي المنزل.

حك طرف ذقنه بتفكير ثم حسم أمره وهاتف آدم: حبيبي يا حبيبي أنت في البيت؟
وصلت إليه صوت قهقهاته تلاها رده الماكر: عايز إيه يا قُصيّ؟
تنهد وقال بسخرية وهو يدلك عنقه: عايز استحمى يا آدم ممكن؟
رد ساخطًا: ايوا أعملك ايه يعني؟ اجيبلك ليفة!
غمغم قُصيّ وهتف باستياء: وحشة وحشة هاجي استحمي عندك..
ـ لا..

ارتفع كلا حاجبيه بتفاجئ وهتف بذهول: بتقولي لأ؟ بس خلاص خلصت شكرا يا صاحبي، وتبع قوله أن أغلق الهاتف وصعد إلى سيارته وذهب..
صاح آدم بتعجب: الو، يالا، يا متخلف!
أعاد الاتصال به لكنه كان يغلق في وجهه.
زفر وجرب مهاتفة تالين بإحباط لأنه لم يذهب إليها ليتم الرد عليه بسرعة، اعتدل في جلسته بانتفاضة وارتبك وخفق قلبه أثناء سؤاله بلهفة: تالين؟

تبسمت حياة وردت عليه بنبرة ناعمة متملقة: لأ مش تالين حياة أختها تالين نايمة..
قبض على شعره بقوة وابتسم بعصبية وآثر الصمت بينما هي كانت تميل برأسها وتلعب في خصلات شعرها باستمتاع، تستمع لأنفاسه الثائرة حتى دخلت تالين عليها الغرفة، اتسعت عيناها وحمحمت سريعًا ليقول بإحباط: تمام سلمي عليها مع السلامة.
لم ينتظر ردها وأغلق الهاتف وقذفه بغضب.

لترفع الهاتف بسرعة بديهيه وتحذف رقمه قائلة بارتباك عِندما رأت نظرات تالين المستفهمه: انا بس كُنت بكلم صحبتي عشان مش معايا رصيد..
أومأت تالين بتفهم وربتت على وجنتها بنعومة وابتسامة حانية تعتلي ثغرها، لتهمس حياة سائلةً بحزن: إحنا رجعنا هنا تاني ليه؟
همست برفق تطمئنها وهي تربت على ظهرها: عشان ده بيتنا يا حبيبتي، ومتقلقيش من حاجة هتكملى دروسك وتعليمك وهيجيلك كل اللي أنتِ عايزاه.

عدَّل آدم موضع الوسادة فوق الاريكة وتمدد متوسدا إياها بخيبةٍ دافنًا وجهه فيها شاعرا بطيف تالين يحوم حوله، رائحتها عالقة فوقها لأنها تحب أن تعانق الوسائد دوما أثناء جلوسها، كاد يذهب في ثباته العميق ويحلم بها لكن رنين جرس المنزل أزعجه كما كل شيء في حياته يزعجه.
وقف بغضب مغمغما بكلماتٍ غير مفهومة في طريقة ليرى من الطارق، فتح الباب بتهجم ليفرغ فمه بذهول ثم قال بابتسامة: قُصيّ أنت مش زعلت؟

ازاحه من أمامه وهتف بدون تعبير وهو يسير بغرور صوب دورة المياة قاذفا قميصه فوق السلم وهو يصعد: مين ده اللي يزعل حضرلي هدوم عقبال ما أخرج.
قهقهة وذهب خلفه مغمغما بسخط وانحني يلتقط قميصه متذمرا: هلم وراك أنا بقي يا معفن.
بعد نصف ساعة..
قلب قُصيّ كنزة آدم بملامح غير راضية وهتف بنزق: ايه ده أنا عايز قميص؟

نظر إليه بدون تعبير وصاح بحنق: شحات وعايز فينو؟! بقالك نص ساعة بتنقي بنطلون ودلوقتي ومش عاجبك التيشيرت!
رد بإزدراء وهو يرتديه على مضض: ماهو هتبدأ بـ تيشيرت وبعدين تديني فيزت عليه صح ولا لأ؟!
لفظ آدم بتهكم: فيزت؟ ده جاكت صوف يا حلوف! طب والله أنت مش بتفهم وإقلع الهدوء دي بقي يلا مش هتلبس حاجة من عندي..
قهقهة قُصيّ وهتف بوداعة: مالك بس قفوش ليه النهاردة فين الفيزت..

صرَّ على أسنانه بغضب وصاح بعصبية: متقولش فيزت!
ضحك قُصيّ و ارتدي السترة الصوفية ذات اللون الأسود فوق الكنزة البيضاء بعدم رضي ثم سأله بسخرية: معندكش سلسلة بقي ابغي سلسلة لو سمحت.
حذره بنفاذ صبر وهو يرشقه بنظراتٍ ساخطة: كلمة كمان و هطردك بره فاهم؟
أومأ بطاعة وهو يضحك ثم نثر بعضًا من عطره ليتذمر بضيق: ايه الريحة كمان بقي!

طفح الكيل به ووقف واختطف زجاجة العطر من يده وقذفها بغضب ودفع به للخلف وطرده بحزم: يلا بره والله ماهتحط..
ضحك بتفاجئ وطرف بتعجب وهو يشعر بجسده يدفع للخارج ليصيح مستغيثًا: لا لا استني بس أنا صاحبك!
هزَّ رأسه نافيا بإصرار عازما على طرده هادرًا بغلظة: والله ما عايز أعرفك تاني يلا بره أنا استحملتك كتير.

صفق باب الغرفة خلفه لينفجر قُصيّ ضاحكا في الخارج، سرعان برر موقفه من بين ضحكاته التي جعلته يضع يده على بطنه من الألم الصادر إثرها: آدم أنا بس عايز أقولك إني مش بتنمر عليك! مش بحب النوع ده أنا حُر يا أخي الله؟
حذره للمرة الآخيرة بحنق: قُصيّ لو مسكتش هخرج أطردك من البيت كُله.
توقف عن الضحك وصاح من الخارج: طيب أنا هاخد الكوتش الأبيض بتاعك لمحته وانا طالع يلا سلام.

خرج قُصيّ وذهب إلى عشق في الوقت الذي كان جاسم يجلد ذاته في سيارته المصفوفة جانب الطريق يفكر في الغباء الذي ارتكبه طوال تلك الساعات، لقد تسرع الغبي تسرع لمَ فعل هذا؟ الألم الذي اجتاحه لم يكن يحتمل قط، يشعر أنه لا يستحق ما يحدث معهُ! لم يفعل في حياته ما يستدعي لكل هذا، ما الذي يجبره على التحمل؟! هذا الحُب العقيم يضره فقط اللعنة عليه.

ضرب جبهته بمقود السيارة بقوة ثم أدار المحرك وذهب في طريقه عائدا إليها كي يعتذر ويطيب خاطرها لأنها لا تهون عليه.

في هذه الأثناء في شقة عشق..
كانت جالسة أرضًا فوق البساط الدافئ، تتكئ بظهرها على الأريكة وعيناها معلقة على الأوراق التي تركها جاسم، ونسمات الهواء الآتية من شرفتها المفتوحة تداعب شعرها المتطاير حول وجهها بنعومة، لا تستطيع وصف ماهية شعورها بعد أن حصلت على الطلاق لكنها متأكدة أنها ليست بتلك السعادة ولا الفرحة.

لقد حصلت عليه متأخرًا في الوقت الذي لم يكن يهمها إن كانت مطلقة أم متزوجة، إنها آسفة لجاسم لأنهُ يتألم بسببها ويظنها تكرهه وأحبت غير قُصيّ ولم تفكر به وستذهب مع شخص آخر ثالث، فإن وُجد ضحية في هذه القصة فـ بالنسبةِ إليها هو جاسم وبلا منازع، لا تصدق إلى الآن أن خالتها تركت كُل شيء دون إذلالها أكثر!، أصبحت ثرية وتملك الكثير الآن، يمكنها أن تبدأ من جديد، يمكنها تأسيس شركة خاصة بها، ويمكنها أن تصبح شريكة عمل لـ قُصيّ وهذه الفكرة أثارتها وجعلت زاوية شفتيها ترتفع بجانبيه وهي تحلق بعيدًا بسقف طموحها وآمالها.

ارتجفت فجأة من قوة الرياح المتزايدة، وقفت على ركبتيها ولملمت الأوراق و أعادتهم داخل المظروف برتابة وتركته فوق المنضدة وسارت ناحية الشرفة كي تغلقها لكن استوقفها رنين الجرس، توقفت عن التقدم وابتسمت بإشراق وهرولت إلى الباب ظنا أنهُ جاسم وهي لن تتركه حتى يكون راضيا عنها هذه المرة.

فتحت الباب بإبتسامة تلاشت كـ رماد تناثر في الهواء، اتسعت عيناها بقوة وهي تراه ممتثلا أمامها يبتسم في وجهها آسرا إياها بجاذبيته المجفلة لقلبها المسكين الذي لم يعرف غيره بعد، جاذبية تماشت كثيرا مع المكر الذي يقدح من عينيه، مكر يحمله بينة بريئة.

اهتز كيانها وبدأ قلبها في لكم قفصها الصدري بعنف كما إعتاد، متراقصًا بقوة معبرًا عن سعادته برؤية مالكه، تداركت تفاجئها وبلعت ريقها بحلق جاف وجالت مقلتيها في غير مكان وحاولت قدر المستطاع أن تبدل نظرتها العاشقة المتلهفة لأخرى لا تعرف كنهها لكنها لا تُريد أن يرى الحب في عينيها مجددًا، لن تعانقه، ولن تتحدث معهُ، لن تجعله يخطو خطوة واحدة للداخل ليس وهي وحدها.

ضمت قبضتها فوق المقبض الذهبي ودفعت بالباب للأمام غالقةً إياه في وجهه لكن قدمه التي وضعها في المنتصف بين الباب والحائط أحالت هذا.
دفعه إلى الخلف ودخل وصفقه خلفه بعنف لتفزع وتترنح تلقائيًا عائدة للوراء بجزع وعيناها تطلق شرارًا محذرا تجاهه أن يقترب منها أكثر.

تقدم منها بخطواتٍ متباطئة، يطالعها بنظراتٍ شمولية لم تريحها بتاتاً وعلامات الغضب تتجلى فوق ملامحه سائلا بذهول كأنه تعرف لصدمة: بتقفلي في وشي يا عشق! ده أنا لبست فيزت عشانك؟
ـ أنت جاي ليه؟ عايز إيه؟
قالت بنبرة مهزوزة ومازالت تعود للخلف بظهرها، تحذره بنظراتها أن يقترب أكثر بينما هو كان يراها إياك أن تتوقف عن التقدم قط قاربت على الوصول للشرفة مبتعدة أكثر بينما قلبيهما كانا في غاية القُرب.

أتاها رده الساخر: جي عشان جمال عيونك هاجي عشان إيه يعني؟
اكفهر وجهها بغضب وتوقفت ليتوقف هو الآخر في منتصف الغرفة مستمعا إلى قولها الحاد بنظرات عابثة: أخرج بره يا قُصيّ مش عايزة أشوفك ولو مخرجتش هصوت وهلم عليك الناس إنت فاهم؟
تألقت إبتسامة جانبية على زاوية شفتيه وعاد للسير بإصرارٍ وعزم لم يشعر بهم قبلا بقدر شعوره الآن، دون أن يكترث لأي لعنة تفوهت بها.

اندفعت للخلف بهلع لتصرخ بفزع حقيقي بعد تعثرها بطرف البساط غفلة، أغمضت عيناها بخوف ورحبت بالأرض الصلبة التي لم تمسها مع تخلل رائحة ذلك العطر الغريب أنفها واختراق صوته الموبخ لأذنيها الذي أحيا ذكرياتٍ ظنت أنها اندثرت لمجرد ابتعادها عنهُ: قُلتلك ميت مرة بطلي تتغابي وترجعي بضهرك هتقعي!

فتحت عيناها سريعًا بخوف ليقابلها وجهه الرجولي الحانق ووسامته المفرطة التي تتزايد يوما بعد يوم، اهتزت مقلتيها وتحركت بعدم راحة قاصدة التملص من بين يديه لكن قبضته كانت تشتد حول خصرها من فوق منامتها الحريرية شاعرا بنعومة جسدها أسفل يديه وابتسامته المتسلية تتسع أكثر.
زفرت بضيق ورفعت يديها تدفعه من منكبه بقوة صائحة بغضب: إبعد عني يا قُصيّ وإمشي لو سمحت ممكن؟
هتف بإسمها بنبرة ناعمة لا تقاوم: عـشـق!

وما ذنب قلبها بكل هذا كي يظل ينتفض كل ثانية وأخرى في حضرته؟!
رفعت عينيها إليه مترقبة ما سوف يقول،
كي ينطق أسمها بتلك الطريقة المذيبة للقلب!، في محاولة مستميتة لتخطي حركة شفتيه وبحة صوته الرجولية المرجفة لقلبها.
ليسألها باهتمام شديد كأن حياته متوقفة على إجابتها: حلو الفيزت؟

تيبست قليلا متفاجئة بإنذهال قبل أن تضحك بصوتٍ ناعم رقيق، أومأت بهز رأسها بخفوت وأضافت على قوله بإبتسامة شغوفة: وحلو البرفيوم الجديد..
ابتسم بعبث لأنها لاحظت هذا وقال بغرور: والله يا عشق not My style بس ده للشديد الأوي بقي، كويس إنه عجبك.
يمزح معها! وكيف لا يعجبها وهو من يرتديه بنفسه؟ هو من جعل الملابس رائعة وليس العكس، يستطيع هو أن يجعل من الخرقة البالية حرير عليه، يمزح إبن رشدان بالتأكيد يمزح!

كان نظرها معلق على وجهه أثناء شرودها دون أن تنتبه ليعيد الهتاف بإسمها بنبرة أكثر رقة ونعومة هائمًا في تفاصيليها متأملا ملامحها بعشقٍ جارف: عـشـق!
أطلقت أنفاسها المرتجفة دفعة واحدة وشعرت بالحرقة تجتاح مقلتيها و أغرورقت عيناها بالدموع لتهمس بنبرة مرتعشة مضنية وهي تهز رأسها للجانبين: قُصيّ إمشي، أنا كل ما بتقدم خطوة من غيرك بترجعني ألف خطوة لما بشوفك حرام عليك!.
رفقت قولها بإنكاس رأسها بخزي..

فرفع ذقنها المُرتجفة بإبهامه كي تنظر إليه كما الحال مع جسدها وسألها بهمسٍ بإبتسامة عاشقة وعينيه تخترق فيروزتيها الصافية بل قلبها: تتجوزيني يا عـشـق؟

في الصعيد...
لم يكن الجميع نياما ينعمون بالراحة، ولم يكن الهدوء يعم المكان، بل صوت صرصور الحقل كان يصدح يملأ المكان بشكلٍ مزعج هو ونقيق الضفادع المتعالي، حفيف أوراق الشجر المتساقط، زمجرة الرياح، مشاجرات الكلاب مع القطط وسط الطرقات ونباحهم بصوتٍ مُخيف ونظراتهم المعبرة.

وسط كُل هذا كان يوجد حارسين يتسامران أثناء إرتشافهما شاي دافئ أمام النيران المشتعلة قبالة بعضهما البعض بجانب بوابة المنزل من الداخل، لم يكن هذا هدوءا لكنهُ كان هدوء بالنسبةِ إليهم.
في الغرفة في الطابق الثاني، كانت تفترش الأرض بجسدها، فاقدة الوعي تمامًا لا تدري مايحدث حولها ولا أين باتت الآن؟! رُبما تفزع عِندما تستيقظ ورُبما لا.

هبت رياح شديدة من الشرفة لفحت جسدها الدافئ، ظلت قابعة محلها دون حراك لكن البرودة التي دبت في أنحاء جسدها أثلجت أطرافها أفاقتها.
فارقت بين جفنيها بثقل وهي تئن، حركت رأسها ببطء تستكشف المكان لتشهق بفزع و يختض قلبها وتنتفض جالسة باستقامة، بأعين متسعة كأن النوم لم يجافيها قط.
حركت جسدها عائدة إلي الخلف بهلع حتى التصق ظهرها في الحائط بجزع ومقلتيها تتدحرج في أرجاء الغرفة بتفحص، فماذا تفعل هُنا من جديد؟

شهقت بخضة كانت بمثابة صرخة انفلتت من بين شفتيها عِندما رأت صورها وهي تعانق عمّار تفترش الأرض أمامها، يا إلهي قلبها سيتوقف من الخوف.
انسلت عبراتها واحدة تلو الأخرى ومدت يدها تُمسك إحداهن بين أناملها تفكر بعجز فيما سيحدث لها وهي تحملق في الصورة بأعين جاحظة، أخطأت من البداية عِندما فكرت أنها حُرة طليقة تفعل ما تُريد، والدها سوف يضربها حتى الموت بالتأكيد، لن ترى أحبائها مجددًا.

مزقتها بعنفوان وهي تشهق بحرقة ثم قذفتها وغمرت وجهها بين راحتي يديها وظلت تنتحب ضاربة رأسها في الحائط بحسرة، فسعادتها لم تكتمل يوما لم تكتمل هي منبوذة.
اعتصرت قلبها النابض بقبضتها بقوة راغبة في انتزاعه والموت كي تحصل على راحتها الأبدية.
صوت مقبض الباب أجفلها، حشرجة صدره أثناء سعاله وهو يدخل وصلت إلى مسامعها أرجفتها.

رُبما لم تعد تهابه كثيرًا، ولا تشعر بنفس درجة الخوف مثل المرة السابقة، ولا تخنقها الغرفة، لكنهُ مازال هو لم يتغير ولن يتورع عن التفنن في تعذيبها.
جلس القرفصاء أمامها وابتسامته الشيطانية المألوفة تتسع مراقبًا إهتزاز مقلتيها باضطراب، لينقبض قلبها واسبلت جفنيها بخوف ووتيرة أنفاسها بدأت في العلو وصدرها ينقبض وينبسط بقوة.
سألها بهمسٍ مبطن بلومٍ ساخر: حلوه الصور يا بت أبوكيّ؟

انسلت عبراتها بخوف وهمست بصوتٍ متحشرج وهي تراقب ملامحه القاسية: آسفة، أنا آسفة..
مدّ يده الخشنة إلي وجنتها لتنتفض من ملمسها ويعلو صوت نحيبها منكمشة على نفسها برعب ظناً أنه سيضربها. لكنهُ جفف عبراتها بنعومة لم تليق به بتاتاً أثناء قوله مترفقًا بحالها أخافها أكثر: لاه لاه لاه متبكيش عاد ولا تخافي وجاوبي عاتحبيه؟

شحب وجهها وزاغت عيناها وتوقفت الكلمات في حلقها عاجزة عن الرد ليبتسم بارزًا أسنانه الصفراء هامسًا بنبرة مطمئنة جعلتها تتوجس: جولي متخافيش.
هزت رأسها بهيستيريا نافية ليبتسم ويده تزداد رقة فوق بشرتها كي تطمئن وعيناه تومض بإصرار هاتفًا بصدق: وحياة الغالية اللي ما هحلف بيها كذب ما هاجي جارك بس جولي، عاتحبيه؟

ترددت أيما تردد، وكيف لا تتردد وهو متربصا بها، لكن ذكره لوالدتها ينم على صدقه، فمهما وصلت درجة دنائته لن يأتي بسيرة والدتها عبثًا، هو لم يحب في حياته أحدا بقدرها ومنذ وفاتها توحش وأصبح غير قابل للترويض.
في النهاية سيعرف شاءت أم أبت فلما الكذب؟
أومأت بحركة بسيطة وهي توصد جفنيها بقوة منتظرة وابلا من الصفعات التي ستتساقط عليها لكن صوت أنفاسه الهادئة هو ما كان يضرب بشرتها..

فتحت عيناها بجزع لتفرغ فاه رغما عنها! إنه يبتسم في وجهها وهذا لا ينم على خيرٍ البتة!
بللت طرف شفتيها وازدردت ريقها بصعوبة وطرفت بشكلٍ متكرر ومعدتها تتقلص بألم بسبب توترها المُفرط وبدأ قلبها في التألم.
انتقلت أنامله إلي ذقنها وأمسك بها بخفة وهمس بمزاج رائق وشفتيه ترتفع بجانبيه: هجوزهولك هجوزهولك يا حبيبة أبوكيّ.

خفق قلبها بعنف ونظرت إليه بعدم تصديق وتذبذب ليقرأ اللهفة في عينيها التي تطالعه دون خوف وجزع بل بترقب وكُله فقط كان لأجل عمّار.
ابتسم بخبث واستطرد لتفهم سبب هدوئه الغير مُبرر: بس بشرط..
إهتزت مقلتيها وشعرت بعدم الإرتياح وبدأت أنفاسها في التثاقل شاعرة بالإختناق والألم في آنٍ واحد وهي تحاول استنباط الحقيقة.
وبهدوء شديد همس بتواطئ: تجتليه..

توقفت عن التنفس لوهلة ثم هزت رأسها بعدم إستيعاب وهي قاب قوسين أو أدني من الضحك.
أعاد مجددًا كي يقطع الشك باليقين ولا يساورها أي فروض: هجوزهولك عشان تجتليه مش عشان تحبي فيه واعية للحديت؟
هزت رأسها بذهولٍ ثم صاحت بهيستيريا وشراسة: لأ لأ مش واعية ومش سامعة مستحيل أعمل كده مستحيل ده عمّار عمّاااار؟!
ضحك بخشونة ووقف يناظرها في علو بنظرة ذات مغزى قائلا بخبثٍ يُخيرها: لو مش هتجتليه يبجي هتعملي حاجة تانيِة!

أوقف السيارة أمام المنزل وكان الغضب قد وصل لذروته، اللهيب يتأجج بين جنبات صدره وعقله لا يتوقف عن ضخ الأفكار السامة ووضع الافتراضات السيئة.

وشحنه بالغضب وحضّة على الذهاب وقتل خليل كي ينهي هذا الصراع، الساعات السابقة مرت كـ دهر فكان يشتت نفسه عن التفكير طوال الوقت، فآخر ما يرغب به هو تلويث يده بدماء خليل، إنهُ أقل من أن يبذل مجهودا في قتله، يريد أن يقهره، أن يري الحسرة في عيناه قبل أن يقتله تلك هي رغبته الجامحة..
حرك يده إلى المقبض وكاد يترجل لكنه تمنع وأخرج مسدسة ووضعه في حزام بنطاله وصدره يعلو ويهبط بعنف وتابع قيادة إلى منزل خليل..

صوت بكاء دهب بذلك القهر يقهره، يرن داخل أذنيه ولا يستطيع تجاهله، فإن دلف وأطمئن على والدته سيهدأ وهو لا يُريد الهدوء يرغب في حرقه حيًا.

ضغط فوق المكابح بقوة لتتوقف السيارة أمام بوابة المنزل الحديدية بعنف إثر إحتكاك إطار السيارة بالأرض مُخلفة صوتًا مزعجاً كأنه افتعل حادث!، ترجل باستقامة وصفق باب سيارته وتقدم من البوابة متجهما ونظراته تنذر بالشر بأنفاس لاهثة ثقيلة، دفع الباب بعنف ليصدر صريرا جذب انتباه الغفيرين، وقفا بتفاجئ متوجسين منهُ خيفة عِندما ابصروه.

تقدم أحدهما يسأله ما الخطب فلكمه بعنف أطرحه أرضًا لترتطم رأسهُ بصخرةٍ ويفقد الوعي، فرفع الآخر بندقيته وحذره بقوة وهو يتحرك في مكانه بخوف: وجِف عندك!
استمر في التقدم وابتسامة مخيفة تعتلي ثغرة وتتسع حتى بدت نواجذة، كاد يضغط الزناد ليباغته عمّار بإمساكها وضرب فكة بها ليترنح للخلف، ثم لكمه وضربه بمؤخرتها في رأسهُ ليجاور صديقة، وقذفها من يده وذهب.

لم يطرق الباب بل هرول ناحية الشجرة المرتفعة المقابلة لشرفة ليلى وبدأ في تسلقها كما اعتاد في صغره والجحيم متجسد في عينيه، خشي أن يجد الشرفة مُغلقة لكن من حسن حظة وجدها مفتوحة على مصراعيها وخليل يدور حول نفسه ومن ركنٍ لآخر يدخن بشراهة ويبدو عليه التفكير بعمق.

قفز على سور الشرفة وتشبث بقوة حتى صعد واستقر في الداخل، تسلل وراقبه بثقب في الخفاء حتى إقترب من الشرفة مستمرًا في استنشاق لفافة التبغ بإفراط ليجد عمّار يخرج إليه من العدم ووضع رأس المسدس فوق جبهته.
ضحك خليل بسعادة غير مبررة وسأله باستفهام نافثًا في وجهه أبخرة التبغ: جاي تجتلني؟
ضغط عمّار الزناد بخفة وهو يكز على أسنانه بوجه مكفهر سائلا بنفاذ صبر: عاوز تجتل أمي ليه؟ مجدرش عالرجاله؟

ضحك خليل مجلجلا تلك المرة بقوة مستفزا إياه أيما إستفزاز جعل عروقة تنفر وترتفع زاوية شفتيه بحقد وتشتد قبضته فوق المسدس.
هتف بسخرية وهو يدفع المسدس بيده من فوق جبينه: لاه لاه متجولش إكده عاد، رجالتي تعاركو في السوج واتصابت بالغلط مش مقصودة!
انتفخت أنفه بعصبية هادرًا بخشونة: جد؟
أجاب مؤكدًا بثقة: جد الجد مش مقصودة عاد.
أجابه بنفس الثقة وهو يعيد رفع المسدس في وجهه: بس أني هجتلك.

أومأ بتفهم واستسلم قائلا وهو يتنحى جانبًا قاصدًا أن يريه ليلي وهو يبتسم بتسلية: إجتلني!
أنقبض قلبه بخوف وجحظت عينيه وتهدل ذراعه مبصرًا وقوفها خلفه، من الغريب أنها كانت بخير، تقف دون خوف، لا أثر للصفع على وجنتيها، لا ترتجف ولا حتى فاقدة الوعي مثل سابقًا، فقط كان يظهر على وجهها آثار البكاء لا أكثر.
راقب خليل تذبذبه بتشفي هازًا رأسهُ بسخرية، فمن يُريد القضاء على رجل فعليه بإمرأته.

كان في رأسهُ آلافا من الأسئلة التي إستطاع التحكم بها عدى سؤاله الأهم فلم يعرف كيفية كبحه، بل تمتم بدون وعي مراقبًا تقدمها بعدم استيعاب: أنتِ إيه اللي جابك هنا؟
لم تجيبه وتريح قلبه الملتاع، بل تقدمت منهما بثبات ظاهري بينما داخلها يرتعد من الخوف، بقلبٍ مضني تقدم قدم وتؤخر الآخرى، وتلك العينان العاشقة تطالعانه بأسف كابحة عبراتها عن الانسياب.

صُعق وتحطم قلبه لأشلاء عِندما توقف بجانب والدها وتركته هو كـ غريب.
ظنَّ لوهلة أنها ستركض تستغيث به لكنها توقفت بجانب والدها دون خوف، ما تفسير هذا وتفسير وجودها وفي هذا الوقت تحديدًا؟
أحاط خليل كتفها لتنتفض بخفة لاحظها وكيف لا يلاحظ وهو لا يفعل سوى مراقبتها عن كثب عاجزًا عن التفوه بحرف من شدة صدمته.

قربها منهُ أكثر بحميمية كأبٍ يحنو عليها وهتف بإبتسامة سعيدة: بتي الغالية جات تفرحني وتجولي إنها سمعت حديتي ووافَجت وهتتجوزو..
نظر إليه بملامح مبهمة باردة ليرتفع كلا حاجبيّ خليل هاتفًا بتفاجئ: واه هي مجلتلكش ولِّيه؟ جولي يابتي جولي ياحبيبتي وسمعيه.
أومأت بطاعة ورفعت وجهها إليه قائلة بنبرة مرتعشة وهي تبلع غصة مؤلمة: جيت، عشان، عشان أقوله زهقت من التمسلية دي ومش هكمل.

رُبما علم إلى ما ترمي فاختلج صدره بقوة وسأل بنبرة مهزوزة لم يقدر على التحكم بها: تمسلية إيه؟
ازدردت ريقها وقالت باستخفاف مُتقن والعبرات تتلألأ داخل مقلتيها: التمسلية بتاعة جوازنا! هو اللي عايزني أتجوزك مش أنا، أنا عمري ما حبيتك هو اللي جابرني عليك.
أومأ وسألها بسخرية: هو اللي حفظك الكلام ده ولا حفظتيه لوحدك؟

ضحكت بسخرية وقالت بلكنة استصغار و إستهزاء في آنٍ واحد لم يكن عليها أن تتحدث بهما وهي ترفع خصلة متجعدة فوق شعرها تتابع إفساد ما بينهما: عمّار أنت غبي؟ لسه مفهمتش لحد دلوقتي اللي بيحصل؟ هقولك كام مرة بكرهك عشان تصدق؟ ده أنا قُلتلك بكرهك أكتر ما نطقت أسمك ياشيخ! إنت إيه؟ مش بتحس؟ معندكش دم ولا كرامة الاثنين؟!

ونظرت لوالدها واستطردت بسخرية مُفرطة عجزت عن تكذيب نفسها حتى وهي تقول: شوف وبعد كل الكلام ده كمان خمس دقايق وهيقولي تتجوزيني؟ أصل أنا بحبك مش هقدر أعيش من غيرك ويفضل يتحايل عليا ويتمسكن زي الأطفال بقي! أنت عيّل يا عمّار مش شايف نفسك ولا إيه؟

وانفجرت ضاحكة في نهاية حديثها ليشاركها ضحكاتها مجلجلا بصوتٍ قوي عجزت عن إدراك كم الألم الخذلان المنبعث منهُ إنه يحترق بالمعني الحرفي، تحولت ضحكاتها تلقائيًا إلى بُكاء هيستيري وهي تخفض رأسها واضعة يدها فوق جبهتها بارتجاف والأخرى فوق قلبها غير قادرة على كتمان شهقاتها أكثر.

توقف شادًا على شعرة بقوة كاد يقتلعه من جذوره بأعين جاحظة جحيمية وهو على وشك الجنون شاعرا بنفسه ينصهر وضربات قلبه تتعالى بشكلٍ غير طبيعي، فقط ما اللعنة التي تمنعه عن قتله الآن وأخذها من هُنا؟ يأخذها؟ لن يفعل عقابها أن تظل معهُ لا تستحق ما يفعله لأجلها لا تستحق، لم يؤلمه أحدا في حياته بقدرها ولن يغفر لها سيؤلمها بالمثل، السماح ليس تلك المرة.

هذا اليوم أسوأ يوم في حياته بلا مُنازع، يال فرحته بيوم مولده، رغبته في البُكاء اليوم فاقت طاقته حقًا ولم يعد يحتمل، هو على وشك خسران الإثنين الأقرب إلى قلبه في يومٍ واحد وهذا كثيرا عليه، قلبه يؤلمه بشكلٍ لا يوصف، لن ينسي إنحيازها لوالدها قط، ولن ينسى حديثها ويمر مرور الكرام مهما حدث، سواء بإرادتها أو رغمًا عنها، سواء قصدته أم لم تقصد لن يسامحها على نطقها بتلك الكلمات وتحطيمه بسهولة كأنه حجر أمامها لا يشعر،.

ستندم على هذا.
دفعها خليل جانبا بحنق بسبب إهتزاز جسدها هذا وهتف بدون تعبير وهو يصفق أمام وجهه كي يبعد عينيه عنها وينتبه إليه: فوج وعاود دارك بدل ما نادم على الرجالِة تاجي وتموت مكانك، أني هجدر لهفتك وخوفك على أمك ومش هعمل حاجِة المرة ديّ، وخليك فاكر إنك مش هتتجوزها غير على جثتي يا إبن الصعيدي..

لاحت ابتسامته مخيفة فوق شفتيه وسأله بتعجب وعيناه متسعة بشكلٍ مخيف كأنه مبهورًا بشيءً ما أثناء خلع سترته وقذفها أرضًا: وأنت مفكر إني هتجوزها صوح؟ فاكرني هتجوزك يا ليلي بعد اللي قولتيه، فاكرني هتجوزك..
ازداد نحيبها دون أن تلتقط أنفاسها وكادت تختنق وجسدها يهتز بعنف مستمعة إلى نبرته وتشديده على إسمها بقهرٍ وحسرة.

أومأ خليل إليه بنظرةٍ معبرة وانتقل بنظراته المتحيرة إلى تلك السترة بعدم فهم ثم رفع عينيه إلى عمّار مراقبًا إبتسامته الهادئة وصموده الذي يُحسد عليها وسط تلك الثورة لكن لم يتجاهل عيناه الدامية التي أخافته من القادم..

دسّ عمّار مسدسة داخل حزام بنطاله من الخلف وعروقه نافرة قبل أن يكشر عن أنيابه هادرًا بنبرة جحيمية صارخة وعيناه تغيب في ظلام شيطاني أثلج صدرها: مش هاتجوزها، وههملهالك إهنِه، بس بعد ما تتفرج على شرفك وهو بيتمرمغ في الوحل، تعالى، وتتبع قوله بسحبها من ذراعها بعنف كـ حيوان لتصرخ بذعر هاتفه بهيسيريا: لأ يا عمّار لأ..

كور خليل قبضته وهدر بخشونة: أرفع يدك عنها بدل مـ، زمجر ولكمة بعنف وهم بإمساك رأسه ضاربا إياها بأحد أعمدة السرير ليترنح ويسقط بضعف غير قادرًا على الحركة وبدأت الدماء تسيل من جانب رأسهُ والرؤية تتشوش ببطء..

حملها كالذبيحة وقذفها فوق السرير لتصرخ بذعر وركضت هاربة من براثنه وقلبها ينتفض داخلها بهلع، قفز من فوق السرير وركض خلفها مطاردًا إياها كـ فريسةٍ سهلة قبل أن تخرج من الغرفة، فتحت الباب سريعًا بأيدٍ مُرتجفة وهي بالكاد ترى من عبراتها غير قادرة على الصمود.

صرخت بانتفاضة عِندما تمزق قميصها من الخلف، فسارعت بالركض هاربة داخل الغرفة ليصفق الباب بعنف وتقدم منها بملامح شيطانية لتعود للوراء برعب، بخطواتٍ متعثرة تتوسله بعيناها أن يتوقف وصدرها ينقبض وينبسط بقوة مؤلمة لكنهُ لم يكن يراها من فرط غضبه.
لقد كذب عليها، أخبرها أنها رأت أسوأ ما به لكنها لم تري هذا الوجة الدموي قط، هي من تضطره ليخرج أسوأ ما به وتبكِ في النهاية.

اصطدم ظهرها بجذع السرير لتتوقف متوسلة بانهيار وهي تهز رأسها بضعف: أبوس إيدك يا عمّار متدمرش كُل حاجة، أنا ندي يا عمّار ندى.
سحبها من مقدمة قميصها بغتة لتشهق برعب وهي تجد نفسها تلتصق به تزامنا مع صراخه في وجهها بعنف مبصرة الجحيم المتجسد في عينيه واللهيب في أنفاسه وجنونة الشيطاني: مسمعش صوتك، مسمعش صوتك..

أومأت بهيستيريا وقدميها تهتزان بضعف على وشك أن تسقط لينحني كي يحملها فتمسكت في عمود السرير متشبثتًا به بقوة ضاغطة علي قدميها كأنها تزرعها في الأرض كي لا تتحرك، وكم كانت مثيرة للشفقة وهي تترجاه بتضرع: فوق يا عمّار ومتضيعش كل حاجة، أنا ندى يا عمّار ندى فوق.

قهقهة قهقهات مخيفة، يناظرها بعينان دامية جاحظة أرعبتها جعلت الدماء تتجمد في عروقها وهو يعتقل خصرها ضاغطًا عليه بقسوة لم تتحملها فصرخت متأوة بقوة، ليهدر في وجهها بوحشية وجنون جعلها تنتفض بين يديه: ندى بنته!، ندى!، ندى! ماهو عشان أنتِ ندى هعمل فيكِ كده.

تجاهلت آلامها وتشجعت ورفعت يديها واحتضنت وجهه كي ينظر إليها هاتفه بتوسل راغبة في إقناعه بيأس قبل أن يضيع كُل شيء وهي تشهق بحرقة: أنا بحبك والله بحبك.

زمجر بغضب وردّ بكره صافعًا يديها عنهُ بحدّة وقبضته تزداد قسوة فوق خصرها ساحقا عظمها سحقا مستمعا لصراخها المبحوح المتألم دون أن تهتز به شعره كأنه ينتقم منها بتلك الطريقة مشددًا على كل كلمة يقولها بغلظة: وأنا بكرهك، العيّل اللي معندوش كرامة ولا دم بيكرهك.

عانقته بقوة، تنتحب بصوتٍ مبحوح غير قادرة على التحمل معتذرة بندم لعلها تنتشله من ذلك الظلام الذي ابتلعه: أنا آسفة، والله آسفة، آسفة، مليش ذنب يا عمّار، لأ يا عمّار، لأ، لأ، لأاااااا...
صرخت بذعر وهي تشعر بيده الأخرى تلتف حول فخذيها ولم تعد قدميها تلامس الأرض، وهو لم يكن يسمعها، لم يسمع رجائها ولا توسلاتها والأهم إعتذارها.


- أنا مِثل قطٍ تزاحمتّ أرواحهُ السبعة للسقوط في حُضنكِ (مقتبس) -.

حطها فوق السرير بعنف وقيد ساعديها فوق رأسها بقوة مزمجرًا وجثم فوقها وأنفاسه الهادرة تضرب بشرتها تصهرها.
توسلته بصوتٍ مُختنق ضعيف واهن وهي توشك على فقدان الوعي: متكسرنيش يا عمّار والله مش هقدر أعيش كده متكسرنيش.
اهتزت مقلتاه باضطراب وكأنها نبهته بضغطها على وترٍ حساس لديه يخصها هي وحدها، وكيف لا يكون وهي أثمن شيء في حياته، هذه الغبية لا تعرف قدر حبه لها بعد لا تعرف.

إهتز صدره وقبضته تراخت قليلًا عن ساعديها وعينيه عادت لزهوها ولونها الطبيعي، ليزداد صوت نحيبها المتألم و انتفاضة جسدها المرتعد من الخوف أسفله هامسة بعذاب وهي تهز رأسها بإنهاك: أنت مش كده يا عمّار متكسرنيش.
فقط اللعنة على تلك السيطرة البغيضة التي تفرض نفسها عليه وتمنعه عنها كأنه مُقيد بأغلال.

تفاقم غضبه أكثر وأعتصر قبضته الأخري بسبب هذا الإذعان التلقائي وانقباض قلبه عليها من القلق ؛ أظلمت عيناه والغمامة السوداء عادت للتحليق أعلي رأسهُ وعيناه تغيب في ظلام دامس جحيمي مُصرًا على ما هو قادم عليه.
دنى منها وقبض على فكها بقسوة دافعًا برأسها في الوسادة القاسية بعض الشيء وهسهس بجانب أذنها ببغضٍ شديد وأنفاسه الحارة تلفح صفحة وجهها: هسيبك بس عشان ربنا مش عشانك أنتِ متستاهليش فاهمة؟

أنهي قوله بصرخة مدويه أصابتها بالطنين وزادتها رعبًا لتومئ بهيستيريا وانتحاب وهي تشعر بارتفاع السرير إثر نزوله و ابتعاده عنها.
حركت كفيها بوهن وتمسكت في الملاءة بضعف تساعد نفسها في الانتصاب و الجلوس باستقامة، وضمت ركبتيها إلى صدرها وانكمشت على نفسها وبدأت في الاهتزاز بقوة وهي تشهق باختناق وعيناها لا تتوقف عن ذرف الدموع والحرقة في آنٍ واحد.

لا تُصدق أنه تركها ونجت من هذا، إن ما تمر به الآن بمثابة كابوس لا تستطيع الإستيقاظ منهُ بتاتاً، لأول مرة تشعر بالكره تجاه والدها بهذا الكم وتتمنى موته واختفائه من هذه الحياة، إنه مصمم على تدميرها، لقد جعلها تقدم على أسوأ شيء قد تفعله أي إمرأة بمن تُحب، فلن يسامحها عمّار على هذا.
انتفضت بخوف عندما تناهى إلى مسامعها صوته الغاضب ونبرته القاسية: مش قُلت مسمعش صوتك..

وضعت كفها فوق شفتيها تكتم أنينها وجسدها يهتز بعنف بينما هو كان يهدأ نفسه داخل الشرفة في الهواء لعل تلك النيران المتأججة بين جنبات صدره تنطفئ، اشتدت قبضته فوق سور الشرفة الحديدي ذات القشور الصدئة أكثر وهو يتساءل بنفسه إلى متى سيظل غضبه عاجز مشلول أمامها! إنها محصنة ضد أذيته ماذا يفعل معها إذا لأنها لم تترك به عقل؟

هدأ قليلا ولا يعرف أهدأ حقا أم أنه يكابر لكي لا يترك نفسه للشيطان يتحكم به، إنه وبكل كيانه مازال يُريدها، لن يُفرط بها مهما حدث ومهما كافح خليل كي يبعدهم لن يتركها سوي بموته.
إنهُ يرغب في صفعها وضمها في آنٍ واحد الآن، إنها الداء والدواء بالنسبة له.

مسح وجهه بقوة زافرا على دفعات يفكر مليا فيما سوف يفعل ثم تحرك ودلف إلى الداخل بخطواتٍ توصم الأرض بقوة، مال يلتقط سترته واتجه إليها بتجهم، رفع كفها عن فمها بقسوةٍ أفزعها ثم سحبها من ساعدها بعنف يعتصره بين قبضته بقوة مؤلمة، أوقفها معهُ بتعثر وقذف عليها السترة وأمرها بتبلد: إلبسى.

أومأت بانصياع وارتدتها سريعا لتبتلع نصفها العلوي تزامن مع شدة للقلادة بعنف من رقبتها وقذفها أرضًا ثم مدَّ يده إلى أذنها وخلع قرطها وقذفه خلف القلادة بعصبية دون أكتراث لأي ألم تشعر به كأنه ينتقم منها بتلك الطريقة، مال علي السرير وقذف الوسادة ثم بعثر الملاءة وأزاح السرير قليلا محركا إياه من مكانه المُعتاد واعتقل ساعدها وجرها خلفه بسرعة بخطواتٍ واسعة لم تدركها ؛ دون مراعاه لحذائها المرتفع وحالتها المزرية وصعوبة وقوفها باتزان كي يجعلها تسير!، فكانت تسير معهُ مابين العدو والركض وهي تبكِ بوهن دون أن تنبس بحرفٍ واحد إليه.

وصل إلى السيارة ودفعها داخلها في المقعد الخلفي وحدها كأنه يخبرها أنها أصبحت وحيدة وتم وضع الحائل بينهما من هُنا، صفق الباب بعنف جعلها تنتفض وسار ناحية مقعده واستقل السيارة وذهب..

في هذا الوقت في الأعلى، استيقظت بسمة من غفوتها الطويلة وخرجت من غرفتها تتثاءب بنعاس، رفعت حاجبها بتعجب عِندما أبصرت غرفة ليلي مفتوحة فساقتها قدميها إلى هُناك بفضول، وضعت قدم داخل الغرفة ببطء متوجسة وعينيها تجيل هنا وهُناك لتشهق بذعر عِندما تبين إليها خليل الراقد دون حراك بتلك الحالة المزرية، هرولت إليه بقلق وركعت على ركبتيها ببطء وانتباه بسبب بروز بطنها البسيط إثر الحمل.

صفعت وجنته بقوة صارخةً بإسمه بخوف كي يفيق: خليل، خليل، خليـ، توقفت عن النواح وعصفت برأسها فكرة غريبة قاتلة لكنها كانت لذيذة في نفس الوقت ستخلصها من الجحيم الذي تحياه معهُ، انتقلت يدها من وجنته إلى رقبته ببطء وتردد ووتيرة أنفاسها تعلو أكثر من فرط التوتر وعيناها تتسع بانفعال، وهو كان بالفعل قد بدأ يستيقظ، فتح عينيه ببطء متأوهاً لتتجمد محلها وتجحظ عينيها.

نظر بينها وبين يدها الموضوعة حول عنقه، فتحولت عيناه إلي لهيبًا مشتعلا شُل أطرافها ولم تستطع التحرك.
زمجر وهو ينتصب جالسا بعدم اتزان صارخا بها بخشونة: عايزة تجتليني يا (، ) ده أني هجطع خبرك..

انتفضت صارخة وركضت إلى غرفتها تختبئ بها بخوف وأغلقت الباب خلفها ليلحق بها بترنح هادرا بتهديد: ده أني هجتلك يا محروجة، الهي تنفجدي في نجره ميعرفوش يطلعوكِ مِنيها إلا وأنتِ جته، بس جيبي الواد وبعديها هجطع من جتتك نساير نساير.

رفق قوله بركل الباب بغضب وعاد إلى غرفة ليلى يرى الفوضى التي أحدثها عمّار في الغرفة لـ تتقافز شياطين الجن والإنس أمامه أثناء تحديقة في السرير المُبعثر بأعين جاحظة، لترصد عيناه قلادتها وقرطها اللامعين معا ساقطين يتوهجان في الأرض، وقف يفكر قليلًا بتريث لأول مرة دون أن يتهور، فهو يعرف عمّار! مهما حدث ومهما بلغت ذروة غضبه لن يتهور ويفعل هذا، منذُ سنوات وهو يحاول أن يمسك عليه شيء كهذا لكنهُ لا يجد، فمن المستحيل أن يفعل هذا ليس من شيمه إطلاقًا، رُبما حاول تهدئة نفسه بهذا التفسير لأنه حتي لو فعل هذا الفراش لن يتحرك بقدرٍ كبير مثلما يراه لأنه ثقيل، وهو لا يُريد خوض حربا هو ليس مستعدا إليها بعد، يُجب أن يفكر مليا بعمق وهدوء كي تنجح خطته ويجعلها تتزوجه.

كزَّ على أسنانه بغضب جامح وخرج من المنزل صارخا برجاله بعنف: انتو يا شويه بهايم..
صف عمّار السيارة أمام المنزل ثم ترجل وصفق الباب بعنف، سارعت ليلى بفتح الباب لكن يده كانت تسبقها وفتح هو الباب ولم يمهلها فرصة النزول وحدها بل سحبها من رسغها بطريقة أسوأ من سحب حيوان، كان يسوقها خلفه للداخل بطريقة مهينة أكثر من كونها قاسية بالنسبةِ إليها.
ـ سيدي عمّار حمد للـ..

حياة الغفير عِند رؤيته لكنه تخطاه دون الرد أو الالتفات وهذا أثار في نفسه التعجب..
دلف من بوابة المنزل مباشرةً، كان الهدوء يعم المكان عدي من صوت نهنه بكائها المضني لقلبه، خفف قبضته قليلا عن رسغها وهو يزفر بقوة وعدم رضى بسبب لين قلبه، صعد السلم بتباطؤ وأعصابه تحترق كابحا نفسه عن جرها خلفه أكثر كي لا تتعثر وتؤلمها قدميها من كعب حذائها.

فتح غرفته ودفع بها إلى الداخل ثم أخذ المفتاح من المقبض وأغلق عليها من الخارج وركض إلى الطابق الثالث..
فتح غرفة والدته متوجسا بخوف واضطراب مما قد يراه ويدعو بداخله ألا يكون أصابها ضرر، وطأت قدماه الغرفة ببطء وإمارة الحزن تتجلى فوق وجهه وعينيه تعلقت على السرير لتجحظ ويفرغ فمه عندما رأي دهب تجلس فوق السرير بجانب والدتها المستيقظة وتبدو بخير! هل كذبت؟ كي يأتي؟ كاد ينجلط في الطريق وهي تكذب؟!

شهقت دهب بسعادة عندما أدركته عينيها، فتحركت مهرولة إليه تستقبله بحفاوة لتتوقف مرتابة جازعة عِندما مال وخلع حذائه بعنفوان وقذفه عليها صارخا بجنون: بتكذبي يا بومة، بوووووومة كنت هتجلط هتجلط وانا جاي في الطريج.
ركضت واختبأت في زاوية بجانب الحائط بخوف صارخة بالمثل: أنت السبب مش بترد علينا ليه عاد؟ بت خليل خطفتك مِنينا ولسه مبجِتش مرتك اومال لما تيجي هتعمل ايه عاد؟

ضرب كفيه معًا من الغيظ وقام بشتم الجميع بعصبية: يلعن خليل على بته على اللي جابوكِ يا كذابة يا جموسية أنتيّ عارفة كنت ههبب ايه! غوري على بيت جوزك مش عايز اشوف خلجتك ديّ واصل غوري، ورفق قوله بقذف حذائه الأخر عليها لتصرخ بفزع وتلوذ بالفرار خارج الغرفة مقهقه عليه واغلقت الغرفة خلفها.

زفر بقوة وغضب لكن لن ينكر تلك الراحة التي غمرته بسبب كونها بخير، تهللت أساريره وسارع بالركض إلى والدته، جثى على ركبتيه أمامها فراشها أحتضن كفها بين يديه بحنو ومال يقبل ظهر يدها عدة قبلات متفرقة بلهفة فرفعت يدها تمسح على شعره بحنان أمومي وهي تبتسم بعذوبة.
ارتاح قلبه و غمره الدفء من حركة يدها الحانية فوق شعره فأدمعت عيناه تأثرا وأسند جبينه فوق يدها وهو يفكر بأسوأ الاحتمالات
إن أصابها شيءٍ ما سيء.

ـ حمد الله على سلامتك يا حبيبي..
رفع رأسهُ إزاء قولها مبتسمًا في وجهها بأعين حمراء ثم قبل يدها مجددًا ووقف وجلس بجانبها وعانقها بقوة شديدة لا يتحملها جسدها الضعيف في هذا السن لكن قبضته لم تؤلمها بل كان ما يحدث محبب إلى قلبها.
سألها بقلق قبل أن يلثم جبهتها: أنتِ بخير؟
أومأت بابتسامة بشوشة وطمأنته: خدش بسيط في كتفي ياولدي محصلشي حاجة عاد هي دهب إكده تحب العويل والنكد زى عنيها.

ابتسم وعانقها بحنان، فرفعت يدها وربتت على صدره برقة لتشعر بقلبه النابض يلكم راحة يدها بقوة، بدي القلق على ملامحها ومسدت صدره بنعومة سائلةً بقلق: مالك يا ولدي؟
همس بتعب وهو ينخفض قليلا يريح رأسهُ فوق صدرها باحثا عن الراحة: قلبي بيوجعني.
مسحت على شعره برفق هامسة بحزن: سلامة جلبك من كُل شر يا حبيبي، مين اللي تاعبك يا عين أمك مين؟

لم يرد على هذا السؤال الذي وجده في غاية الصعوبة لوصف ما يثقل كاهله، أغمض عينيه و استكان في أحضانها وبدأ في الهدوء تدريجيًا والتقاط أنفاسه دون إنفعال أو لهاث وقلبه عاد للخفقان بهدوء.
مرت نصف ساعة عليهما وهو مستكين ينعم بدفئها وحنانها بافتقاد شديد، فإن روحه خاوية، وقلبه واجل.
ثقل جفناه وكاد يغفى لكن سؤالها الذي خرج بلكنة حانية شعر بابتسامتها من خلال جعله ينتبه إليها مشدوداً: عاتحبها كد ايه يا ولدي؟

رد بشرود وهو يحدق في العدم: مش عارف؟
تبسمت حتى تجعدت بشرتها أكثر ثم سألته بمكر عالمة بما يحدث معه وما يواجه ويحزنه إلى هذا الحد الميؤوس منه: عاتحبها أكتر مني؟
رفع رأسه بقوة كأن أحدًا قام بشتمه ثم إحتج معترضا على هذا القول بكل جوارحه كأنها اتهمته بالكفر: محدش يجدر ياخد مكانك في جلبي ولا هيكون.

داعب وجنته برقة وهتفت بحنو وهي تفهمه برفق باسمة كما اعتادت مُنذُ صغره: مش عيب يا ولدي لما تحب مرتك وتعشجها أكتر من أي حد واصل؟
ابتسم بسخرية وقال بمرارة: مش لما تبجي!
وكزته في كتفه وقالت بثقة مشوبة بمكر: هتبجي وبكره تجول أمي جالت، هي اللي بجيالك يا ولدي وهتحبها أكتر مني كومان.
رفض قولها رفضا قاطع وقبل رأسها بقوة هاتفا بحنان: ربنا يديكِ طولة العمر ويديمك ياست الكل يا غاليِة..

شاكسته وهي تضيق عينيها: هي الغاليِة ومفيش حاجة تغلى عليك يا ولدي.
لا أحد يستطيع رفع معنوياته وجعله يشعر بشعورٍ جيد بقدرها، إنها لا تحط من شأنه مثلما تفعل الأخري كيف تقارن نفسها بها؟!.
استفاق من شروده على يدها التي وضعت فوق وجنته وهمست بحنانها الأمومي تذكره: نسيت أنا علمتك إيه يا ولدي؟

هزَّ رأسهُ بنفي وقال بابتسامة مستذكرًا طفولته معها: كيف أنسي واني مش عايش غير بيه! من غير الصبر مش عارف كُنت ههبب ايه في الحياة اللي مابيلها شكل ديّ.
واسته برفق وهي تتبسم ببشاشة: أنت صبرت كَتير يا ولدي! سنين وأنت صابر واهي هانت وفرجة عن جريب سدجني هانت.

ابتسم وكاد يرد عليها لكن تناهي إلى مسامعه صوت غوغاء وطلقة نارية تلا هذا صفق الباب بقوة وهرولة دهب إليهم هاتفه سريعا بانفعال: أنتو جاعدين؟ ابويا وعمي رجعو من إهنه وخليل جه وجاب رجالته من إهنه وبجالهم نص ساعة بيتناجروا تحت بسببك فين بت خليل يا عمّار تاوتها فين؟.

هبّ عمّار واقفًا واندفع إلى الخارج سريعا عِندما تذكر المفتاح الذي تركه في المقبض، جن جنونه وانقبض قلبه عِندما لم يجده في المقبض كما تركه، فانحني وراح يبحث في الأرض بانتباه شديد وتدقيق هُنا وهُناك حتى قطع عليه كل هذا، صوت ضرب عصي والده الأرض..
انتصب ووقف باستقامة ورحب به بهدوء دون أن يتقدم منه ويقبل يديه: حمد الله على السلامة يا بوي..

زجره بحدّة شديدة بوجه مكفهر من الغضب: وهياجي منين طول ما أنت بترمح ورا بت اللي مايتسمي ديه! فين بته؟ وعملت فيها ايه؟
تنهد عمّار وقال بجدية دون أي ملامح تنم على المزاح أو التراجع: خليل ما لوش بنات عندي، وأني يا بوي مش هتجوز غيرها ومش هخلف غير منيها! هتوافج يبجي تتفج مع خليل ونتجوز مش هتوافج هاخدها وهمشي وبردو هنتجوز، هتجوزها يعني هتجوزها! عاشجها يا بوي ومش رايد غيرها؟!

كان يسمعه بغضبٍ جامح تفاقم أكثر بعد انتهائه، أنه لا يعرف ما المميز بها كي يجعله بهذا الجنون والأصرار، لقد حاول منذ أن كان صغيرًا أن يخرجها من عقله لكنه كان متشبثا بها باستماتة ولا يعرف لمَ؟، فعندما أتاه صغيرا يخبره أنه يحبها أخذ صفعة ظن أن هذه الصفعه ستكون النهاية لكنها كانت بداية تفاقم تلك المشاعر وجلب المشكلات وطيشة وصنعه لوشم دون أن يعرف عواقبه، وتطلعه للمستقبل مثلما كانت هي مع والدها، هو يعرف ومتأكد أنه غدي هذا الطبيب لأجلها وليس لأجل نفسهُ، لقد قرأ ذلك الدفتر صدفة سلفًا ولم يظن أنه يخصها سوي عِندما قارن بين الخطوط والكلمات ورأي إسمها منقوش في معظم الأوراق.

كانت بالنسبة إليه سراب ولن تعود لكن الآن، عادت وهذا يزعجه بشكلٍ لا يوصف ولا مفر مما يحدث سيوافق و يزوجه كما يُريد طالما هذه رغبته، وليري ما سيحدث بعد هذا، فهو يتوق لرؤية حفيده ويعرف أن إبنه عنيد ولن يتزوج غيرها.
كزَّ على أسنانه من الغضب وضم قبضته فوق رأس عصاه واستدار على عقبيه وتركه ليصيح عمّار بتعجب: على فين با بوي بنتحدت؟

التفت إليه وقال بدون تعبير: ابوها جاعد تحت وعمال يضرب أخماس في أسداس وهيجول إنك اغتصبتها وخدتها وياك صوح الحديت ديه؟
هزَّ رأسهَ بنفي وقال بسخرية: أني يا بوي؟ كيف يعني وهاخدها معايه ليه في الاخر ده كذاب كذاب جـ..

أوقفه تخلل صوت شهقاتها المُرتفع المنبعث من الغرفة قوله، شتم بداخله ونظر لوالده الذي انتقلت أنظاره إلى الغرفة بريبة كأنه أدرك ما يحدث ليومئ بتفهم وهمّ بالحديث بجدية: إني هتحددت معاه وهطلبهالك للجواز أهه وهحدد كتب الكتاب وهكذب وهجوله أن بتك مش عِندينا وأنت مش مخبيها في اوضتك والخميس الجي هيبجي كتب الكتاب حلو المعاد ومناسب ليك يا ولدي ولا أغيره؟

أنهي قوله الأخير بسخرية لكن عمّار لم يلاحظ قط، بل كان شاردا فاغر الفاه بتعجب بسبب امتثال والده إليه والإذعان تلك المرة! بهذه السهولة؟، تنهد متولي بيأس بسبب حالة ولده وذهب دون أن يأخذ ردًا مباشر منه، فواضحة جدًا لهفته من بريق عينيه المتألق وابتسامته الجذابة عليها.
النساء سرهم باتع فيما يخص إسعاد رجل.

استفاق من شروده على مرور دهب من أمامه بتسلل فأمسكها من تلابيب عباءتها جعلها تشهق وهو يعيدها أمامه سائلا بغيظ:
رايحة فين عاد يا بومة؟
ابتسمت بتوتر وهمست بارتباك: هلمع أوكر هعمل ايه يعنيّ؟
حدجها بسخط وتمتم بقلق: عمالة ترمحي إهنه وإهنه وإنتِ حبله!

تبسمت دهب وأردفت بلطف: متجلجش عليِّه، وقهقهت متابعة بسخرية وهي تضيق عينيها: إجلج على نفسك في واحد عايز يجتلك ادخل اتخبي وياها، ورفقت قولها بوضع مفتاح الغرفة بين يديه في نهاية حديثها، فضرب جبهتها براحة يده بغيظ وقبض عليها.
فتملصت من بين يديه وذهبت خلف والده كي تسترق السمع صائحة: هسمع بيجولوا ايه وجاية ماتجيش..

بالطبع لم يستمع إليها وذهب خلفها لكن يد أمسكت مرفقة أوقفته، استدار على عقبيه بتعجب فإذا بها والدته.
أسندها بقلق وسألها بعدم فهم: هملتي فرشتك ليه عاد؟
أمسكت كفه بين يدها تضغط عليه بقوة وتوسلته وهي على حافة البكاء من القلق: خليك جاري متهملنيش خليك جاري..
أومأ بإذعان دون تردد وسار معها إلى غرفتها لكن صوت ارتطام قوي صدر من الغرفة مخترقا قلبه قبل أذنيه أستوقفهما.
تلفتت حسنه حولها وسألته باستفهام: سمعت!

أومأ بقلبٍ منقبض وهرول إلى الغرفة سريعًا لتلحق به بقلق، وضع المفتاح في المقبض وفتح الباب مندفعًا للداخل ليعتصر الألم فؤاده عندما أبصرها ساقطة مغشي عليها خلف الباب.
انحنى وحملها سريعًا بخوف صائحًا بإسمها بلهفة وهو يأخذها للفراش: ليلي، ليلي..
حطها عليه برفق وحاول إيقاظها صافعًا وجنتها بخفة وهو يتحسس نبضها: ليلي، ليلي..

ناولته حسنه زجاجة العطر التي التقطتها من فوق المنضدة، فنثره فوق كفه وقربه من أنفها بينما حُسنه أمسكت كفها وأخذت تدلكه برفق حتى بدأت في الاستيقاظ..
حركت جفنيها ببطء وهي تئن ليتنفس الصعداء براحة ثم إتجه إلى الشرفة وفتحها كي يجدد هواء الغرفة ووقف داخلها قليلا.

أفرجت عن مقلتيها المرهقة بتباطؤ شاعرة بالحرقة تغزوها، حدقت في السقف قليلا وهي تشعر بيدٍ تسمد كفها برفق، كانت تشعر بالوجل وبجسدها ثقيل غير قادرة الاستقامة والجلوس لكن تغير كل هذا عِندما سمعت صوتها الحاني يسألها: عاملة ايه دلوك يا غاليِّة؟

اتسعت عيناها وانتصبت بانتفاضة وعدم تصديق وعيناها تسمحها من أعلاها لأخمص قدميها وهي تمسك يديها الاثنين بقوة سائلة بلهفة وانفعال: إنتِ كويسة؟ كويسة؟ عمـ، أوقفها قولها بإبتسامة مطمئنة وهي تربت على ظهر يدها: بخير يابتي الحمد الله متخافيش اني بخير، أنتِ بخير؟
أغرورقت عيناها بالدموع، تشدد قبضتها فوق يدها طالبة الدعم وهي تطرق برأسها حتى صارت الرؤية ضبابية وأجهشت في البكاء بحرقة دون أن ترفع رأسها قط.

تأوهت حُسنه بحزن وضمتها إلي صدرها وأخذت تمسح على ظهرها بحنان تسألها ما خطبها بأسي: مالك يا حبيبتي فيكِ ايه؟ مين زعلك؟

دفعت بنفسها لأحضانها أكثر بانتحاب دون أن تنبس بحرفٍ قط ؛ فظلت تواسيها ببعض الكلمات الرقيقة تطيب خاطرها وعمّار يقف يسند رأسهُ على الحائط يراقبها بثقب وعمق متسائلا عن كم الرعب والهلع الذي سببه إليها بفعلته! فهي ستظل تبكِ حتى الصباح، كم يرغب في ضمها الآن وبشدة كي تهدأ وتريح عينيها وقلبها وقلبه معها.
ـ مين زعلك يا حبيبتي مين؟
رفعت رأسها وأردفت من بين شهقاتها بحرقة: عـ، عمّار..

تنهدت حُسنه وسألتها برفق وهي تجفف وجنتها بنعومة وعيناها تجيل على وجهها الباكِ شديد الاحمرار: عمل ايه اللي ينحش في معاميعه..
ضحك عمّار بخفة دون إحداث صوت كي لا تنتبه إليه مستمعا إلي قولها المتذمر المتلهف: بعد الشر عليه متقوليش كده انا اللي عصبته و استفزيته جامد بس والله مكنش قصدي..

وعادت تبكِ من جديد بندم وهي تضم سترته ذات الرائحة الذكية إلي جسدها أكثر تعانقها بدلا عنهُ لتعيد حُسنه سؤالها وهي تمسد ذراعيها مدققة النظر إلى ملابسها: جولي يا حبيبتي جولي متخافيش..
جففت عبراتها بكم سترته بخفة وهي تستنشق مابأنفها ثم بدأت تحكِ لها كل ماحدث منذُ الصباح وكيف تحولت سعادتها الغامرة لبؤس بسبب والدها.

التفتت حُسنه ورشقت عمّار بنظرة نارية معبرة أخبرته بكم الغضب الذي تشعر به فهزَّ رأسه مع كتفيه بانفعال يخبرها بقلة حيلته وغضبه الذي لم يستطع السيطرة عليه.
قبلت رأسها بحنو وأعتذرت بدلا عنهُ وهي تمسح على شعرها: حجك عليِّه أني يا حبيبتي، هي ساعة شيطان وراحت لحالها ده والله روحه فيكِ وميهيحبش حد كدك وميجدرش يأذيك واصل، ده جاني ندمان يبكِ ويجول جلبي بيوجعني..

تفاقم ندمها أكثر وغمرها حزنًا عميق بينما عمّارفغر فمه ونظر إليها باستنكار! إنها تشوه سمعته أمامها من هذا الذي بكى؟، قطب كلا حاجبيه بانزعاج شديد وعقد يديه أمام صدره مراقبًا إبعادها لسترته عنها وقذفها أرضًا متقصدة كي تزعجه وتضايقه بينما تقول: تجيله وزمانها خنجاكِ اني هخليهم يجيبولك خلجات..

تحركت للذهاب لكنها أمسكت يدها ومنعتها قائلة بامتنان ببحة أثر البكاء: لأ، لأ، متشكرة أنا مش عايزة ممكن قميص بس بدل ده..
أومأت بابتسامة وتحركت لكن ليلي أمسكت يدها استوقفتها، نظرت إليها بحنو تحثها على قول ما تريد لتخجل وتتوتر أثناء قولها ببعض الألم: عـ، عمّار كان ماسكني جامد أوي وأنا مش قادرة أستحمل الوجع عايزة مُسكن أو مرهم أي حاجة..

ـ حاضر يا حبيبتي، قالت وهي تترك السرير وسارت في طريقها للخروج لتترك ليلي السرير عِندما شعرت بالهواء الذي لفح ظهرها العاري ارجفها، انحنت تلتقط السترة وقامت بارتدائها تحت أنظار عمّار الذي عادت إليه البسمة لكنها كانت مقتضبة..
اجفلهما صوتها الحانق: أنت لسه واجف مكانك؟ مفكرني ههملك وياها ولِّيه؟ يلا فوت جِدامي!

شهقت ليلى بتفاجئ و استدارت على عقبيها تنظر خلفها بأعين متسعة ليدركها الخجل ولا غيره، لم تهابه أو تنكمش خوفا منهُ بل خجلت لأنه كان يراها كل هذا الوقت وهي لا تعرف.
ضمت طرفي السترة حول جسدها وهي تزدرد ريقها متبادلة معهُ نظراته الجامدة بأخرى تسأله التسامح ورحابة الصدر، لكنه لم يلين قط، أخفضت بصرها بندم ثم تقدمت من حسنه تأخذ الأذن منها: ممكن أتكلم معاه شويه؟

نظرت بينهما بتردد ثم أطلقت أنفاسها بتنهيدة طويلة وهي تعطيها الموافقة بقلة حيلة: ماشي، واني مش هتأخر عليكِ لو دايجك نادمي عليه هجيلك طوالي..
أومأت بإبتسامة مراقبة ذهابها بهدوء ثم شجعت نفسها وسارت تجاهه كي تطلب السماح فهي إن لم تغتم أي فرصة كي ترضيه فلا تستحق هذا الحب.

توقفت أمامه تفرك يديها بتوتر وقلبها يخفق بقوة لا تعرف من أين تبدأ أو ماذا تقول، رفعت رأسها إليه تناظره بندم ورجاء أن يُبدل هذا الجمود وتلك النظرات الخاوية التي تسلبها أمانها الذي تشعر به بجانبه.
أسبلت جفنيها وهمست بنبرة مرتعشه بالكاد وصلت إليه: أنا آسفة..

لاحت ابتسامة ساخرة على شفتيه وظل على جمودة ووضعيته دون التحرك يشد على قبضته المخبئة من عقدة يديه بقوة كابحًا نفسه عن عناقها، إنه مذنب وتقريع الضمير لا يتوقف.
لكنهُ أيضا لم يرد يُجب أن يأخذ منها موقف كي تتعقل لأنه يشعر بكونه يتعامل مع طفلة صغيرة ليس إمرأة كبيرة تظل تخبره كلما سنحت لها الفرصة أنهُ طفلا صغير.

أطرقت برأسها وانهمرت عبراتها بغزارة وظلت تبكِ وتنهنه أمامه كـ طفله تطلب الصفح من والدها، صمد أمامها ولم يتراجع ويضمها، رفعت رأسها وتقدمت خطوتين منهُ ورفعت يدها تضعها فوق ذراعه لترتجف دواخله إثر نعومة يدها أثناء همسها بنبرة مضنية: عمّار إنت عارف كويس إني مقصدش أي كلمة قولتها وكل اللي حصل كان غصب عني.

لم يرد عليها مجددًا لكن لم يظل على جموده بل غضب منها بشكلٍ مضاعف وهي تعترف مستطردة بلومٍ لهُ: وعارف كمان إني مش بخاف من حاجة في الدنيا قد ما بخاف منهُ..
قبض على ذراعها صارخًا بها بعصبية حتى نفرت عروقة أجفلها: ولحد إمتي هتفضلي تخافي منه ها؟ الناقص لما نتجوز تيجي تقوليلي طلقني عشان أبويا حبيبي طلب مني وأنا بخاف منه! فين شدتك وصوتك العالي ولا دول بيطلعوا عليا أنا بس؟!

تبسمت بحنان ووضعت كفها فوق يده التي تمسكها بقوة مداعبة هامسة بشغف: مش هقدر أقول كده لأني هبقي شديدة بيك ومسنودة عليك.
كادت ابتسامة بلهاء تنفلت من بين شفتيه لكنه كبحها بصعوبة أكثر من صعوبة المحافظة على جموده أمامها، إنها تمتص غضبه بكل سهولة ويسر، تعرف كيف تنتقي كلمات تصمته.
أشاح بوجهه للإتجاه الآخر محافظًا على ثباته المزيف.

فرفعت يدها إلى وجنته كي ينظر إليها هاتفه بتوسل تستعطفه: متقساش عليا وتستغل إني مليش حد في الدنيا وتعذبني بعد ما بقيت كل حاجة بالنسبالي.
استنكر قولها وهتف باستهجان: أنا بستغلك؟ أنا! كويس والله كويس أوي.
أبعدها من طريقه بسأم وتحرك للخروج لكنها أوقفته بقولها وهي على حافة البكاء: إحنا بنتكلم متسبنيش وتمشي!

التفت إليها وصاح ملوحا بيده بانفعال وبينه وبين الجنون شعره بسببها: أعملك إيه أنتِ و كلامك المستفز يعني؟ مين اللي بيستغل التاني أنا ولا أنتِ؟! انا عملت كل حاجة وحاولت بشتي الطرق عشان ترضي بيا وكُنت هرجع الشغل عشانك! ولسه عندي استعداد أعمل اي حاجة عشانك لكن أنتِ عملتي ايه عشاني ها عملتي ايه؟
تقدمت منه بخطوات متلهفة ثم أمسكت يده بدفء وسألته بحنان: عايزني أعمل ايه وأنا هعمله مش هتردد لحظة؟

أبتسم بحزن وهتف بنبرة متألمه: حبيني لأني مش حاسس بحبك ولا مصدقك.
اهتزت مقلتيها و أدمعت عيناها وقبل أن تنبس ببنت شفة كان يصدح صوت طلقات نارية..
شهقت بفزع بينما هو تحرك للخارج متجهما فسارعت بالركض ووقفت بينه وبين الباب تمنعه من الخروج بخوف: مش هتخرج من هنا مش هتخرج انا مش مستغنيه عنك.
زفر وقال برفق لم يخفي عصبيته وانفعاله: طيب اوعي وسبيني أخرج لأني هخرج يعني هخرج..

انسلت عبراتها وصرخت في وجهه بخوف: لأ مش هتخرج فاهم ولا لأ، وانا بحبك غصبن عنك سواء صدقت أو لأ بحبك.
مسح وجهه بعصبية ممتنعا عن الصراخ في وجهها يكفيها ما فعله بها اليوم.
ارتفع كلا حاجبيه تزامنا مع تحريك رأسها وتحديقها في الباب بتعجب عِندما تناهى إلى مسامعه بل في أرجاء المنزل صوت زغاريد.

لم يتحكم في هذا التشويق أكثر فابتعدت هي من تلقاء نفسها عِندما تقدم وخرج من الغرفة ليجد دهب صاحبة تلك الزغرودة المجلجلة في المنزل..
سألها بعدم فهم مضجرا وهو يقف أمام غرفته تاركا الباب موارب قليلا وليلي تقف من خلفه تستمع باهتمام: خبر إيه يا بومة أنتيّ خليل مات؟
قهقهت بخفة ليزداد ضجرًا مُنتظرا إجابتها لتهتف بسعادة وهي تضرب صدره: مبروك قرأوا فاتحتك تحت وكتب الكتاب يوم الخميس الجاي.

طرف بتعجب وأردف مكذبًا إياها: قرأتوها من غيري كيف؟ ولا تكونوش هاتجوزوا عيل في أعدادي إياك؟
لوت شدقيها وردت متهكمة: شوف شوف اللي مكنش طايل حاجة واصل!
رد بحنق هازا رأسه بعدم تصديق: مش مسدجك مش مسدج اتفجوا كيف بالسرعة ديّ كيف كيف؟
ـ كيف مابيتفجوا هيبجي كيف يعني!.
جذب انتباههم صوت والده الذي إقترب، لاذت دهب بالفرار وهي تقهقه بينما عمّار أغلق الغرفة كي لا يراها والده.

توقف أمامه وهتف بنبرة غليظة بوتيرة مرتفعة قليلا كي يسمعها هي الأخرى: قرأنا الفاتحة واتفجنا على كتب الكتاب يوم الخميس في بيت ابوها وتاخدها وتاجي حلو؟.

ضحك عمّار بسخرية مدركا ما يحاول خليل فعله بخبثه الشيطاني المعتاد فشرع في الحديث بجدية أخفي خلفها تهكمه من هذا الاتفاق العقيم: يوم الخميس عندها في بيتها! وهو اللي هياجي يشهد ويمشي زي زي أي حد غريب، ولما نتفج على معاد الفرح أني وهيِّه مع بعض هنعمله هناك بالنهار و هيكون في واحد هنا عشانكم بليل نخلص ده وناجي علي ده ده اللي عندي، ولو خليل مش عاجبه ميعجبوشي لأني هتجوزها بيه أو من غيره ولما النهار يشجشج اني هاخدها وهنمشي ونتجابل يوم الخميس.

ضحك والده بخشونة وأردف بسخرية غليظة مستفهماً: وليه كل ديه ليه؟ لا تكون مفكرها صغيرة وبت بنوت إياك؟
ابتسم عمّار باستفزاز وقال بثقة مطلقة شوبت بتحدي: هي أحسن ولو طولت اجيبلها نجمة من السما هجيب واعملها ميت فرح كُمان ويبجي جليل عليها.
صرّ والده على أسنانه غيظًا و كيدًا منهُ ثم وافقة باستسلام قائلا بضيق جلي: ماشي يا عمّار لما نشوف أخرتها ايه مع بت الـ..

قاطعه عمّار عن ما أراد قوله وقال بكل هدوء وهو يحك ذقنه: إسمها ليلي يا بوي يعني جولها ليلي او ندى وممكن تجولها يا مرات ولدي أو أم عـ..
قاطعه بحدّة وسأم: هشش كفاياك رطرطة في حديت فارغ وشوف هتهبب ايه، ورفق قوله بمغادرته من أمامه بغضب..
قهقهة عمّار بخفة وإنزاح الثقل عن صدره وأخيرًا تنفس الصعداء بصدرٍ منشرح ؛ يبقى فقط الظفر بها كي يرتاح قلبه.

عدد على أنامله عدد الأيام حتى تصبح زوجته بابتسامة بلهاء: النهاردة التلات بكره الأربع وهنقول بكره ضايع والخميس، الله.

تراقص قلبه فرحا وكاد يدلف إلى الغرفة لكن أبصر والدته تأتي من آخر الممر فهرول إليها بينما ليلى في الداخل كانت تجلس خلف الباب تستمع إليه بقلبٍ يخفق بعشقٍ جارف، متى سيتوقف عن جعلها تغرق في عشقته أكثر، إنها تذوب كُلما سمعته يتحدث عنها، تعرف الآن الفرق بينهما، ربما هو جيد في البوح بمشاعرة عن طريق الكلمات أكثر منها، لكنها تستطيع التعبير بمشاعرها عن طريق الأفعال، هي سيدة أفعال لا أقوال، ورُبما عِندما يقتربان أكثر يفهمها ويعرف قدر حُبها، سوف تجعله يشعر به.

وقفت من مكانها عِندما سمعت صوت وقع أقدام في الخارج..
ترجاها عمّار للمرة العاشرة وهو يحاول أخذ ما تحمل بيدها عنوة: متتعبيش نفسك هدخلهم أني..
زجرته بحدّة وهي تضيق عينيها: ملكش صالح يا عديم الربايِة ومفيش تعب صباح هي اللي جابتهملي، وتلا قولها دخولها الغرفة وصفقت الباب في وجهه خلفها.

وضعت القميص فوق السرير وفوقه زجاجة صغيرة بها خليط زيوت طبيعية كانت قد استخدمته عِندما أتت ليلى أول مرة وكانت تتألم بظهرها بسبب عمّار والآن خصرها بسببه أيضًا.
ـ عايزة حاجة تانية ياحبيبتي؟
سألتها بدفء وهي تبتسم، فابتسمت ليلي في وجهها بنعومة تشكرها بامتنان: شكرا ربنا يخليكِ..
أردفت برفق كان كـ سؤال: ادهنلك أني؟
هزت رأسها بنفي وانحنت وقبلت يدها بنعومة هامسة بحب: تسلمي ربنا يخليكِ ويطول في عمرك يا أمي..

ابتسمت حُسنه بحنان وربتت على شعرها بينما تقول برضى: الله يرضي عليكِ يابتي ويهنيكِ ويتمملكِ بخير..
ردت بتمني وهي تحتضن ذراعيها بدفء: أمين.
ربتت على وجنتها بحنان ثم همت بالخروج كي تتركها ترتدي ملابسها. ، وجدت عمّار يقف أمام الغرفة كالحارس شاردا يفكر في سبب تلك الموافقة السريعة كأنه لم يفتعل شيءً في منزله! لا يشعر بالراحة تجاه خليل بتاتا ولا يصدقه.

ضربت كتفه بخفه موبخةً لهُ أفاقته: واجف كيف الصنم ليه عاد؟
تنهد وقال وهو يمسد جبينه بتعب: مستنيها عشان نمشي.
لانت ملامحها وربتت على كتفه وأردفت برفق: طيب خليك شويه متفوتش عليها دلوك عشان بتغير، ومتطولش علينا يا ولدي جلبي بياكلني عليك، أومأ وقبل يدها قبل أن تغادر وسألها الدعاء إليه.

خلعت قميصها الممزق ووضعته فوق السرير لتبقى بكنزتها السوداء الناعمة ذات الحمالتين الرقيقتين والتنورة، خلعت الحزام الرفيع وأنزلت التنورة قليلا ورفعت كنزتها ليتبين خصرها المكدوم، هرولت إلى المرآة ووقفت تحدق بذلك الإحمرار وهي تضغط عليه بسبابتها ببطء لتتقلص ملامحها بألم، كل هذا بفضل قبضته الفولاذيه، فقط كيف يتحول بتلك الطريقة الوحشية إنها لاتستوعب ماحدث منذَ ساعة لا تصدق أنها خاضت كل هذا ؛ تنهدت بحزن عندما تذكرت أنه مازال حزينا وغاضبا منها لتبدأ بتدليك تلك المنطقة برفق وهي تفكر بشيء ما.

إنتهت وارتدت القميص وعدلت ثيابها ورتبت شعرها باهتمام مراقبه شحوب وجهها وإرهاقه البين.
جلست على طرف الفراش دقائق حتى بدأت الحرارة تزحف إلي جسدها شاعرة بالحكة، تحسست خامة قماش القميص بشك لتزفر بقوة بسبب عدم انتباهها لهذا فهي تعاني من الحساسية ولا ترتدي أي شيء.
جلست محلها تفكر بوجه محُتقن والحرارة تجتاحها بشدّة عاجزة عن فعل شيء، طرق عمّار الغرفة عدة طرقات قبل أن يدخل بتردد.

جاب الغرفة بأنظارة ودلف عِندما لمحها تجلس، توقف على بعد خطواتٍ وأردف سائلا بنبرة عملية: تحبي تمشي دلوقتي ولا الصبح؟
تنحنحت متمتمه وهي تُفرق بين ياقة القميص الملتصق عليها باختناق: لو ممكن دلوقتي لاني قلقانه على نادين وعايزة أتصل بيها.
أومأ والأفكار تتزاحم في عقله، تقدم من خزانته يأخذ ملابس من الملابس القليلة التي يضعها هنا وعينيه معلقه عليها في المرآة.

لاحظ حركتها الغير مريحة كأنها تجلس فوق لوحٍ من الثلج فسألها باستفهام: إنتِ كويسة؟
أومأت بابتسامة متوترة وهي مازالت تلامس ياقة قميصها ليعقد حاجبيه وعيناه معلقة على يدها، استدار على عقبيه واقترب أكثر منها ليتبين له ذلك الاحمرار فسألها بقلق: في حاجة قرصتك؟
هزت رأسها بنفي وقالت بنبرة مستغيثة: لأ عندي حساسية من القماش ده..

نظر إلى القميص الذي ترتديه ثم إلي الممزق الذي خلعته فحمله بين قبضته وتحسس قماشة الناعم ليناولها قميصه الأبيض الذي أخرجه لنفسه قائلا دون تردد: إقلعى.
طرفت بتعجب وردت بذهول وتفاجئ: نعم؟
تنهد وعدل قوله كي لا تفهم خطأ: ده نفس قماشة قميصك خديه إلبسيه.
نظرت إليه بتردد وهي تفكر لثوانٍ قليلة ثم قالت باعتراض: بس ده كبير؟

رد بلا مبالاة: عادي يعني ايه المشكلة هيبقي حلو بردو، ورفق قوله بتقدمه إلى خزانته وأخذ قميص آخر وترك لها الغرفة.
تلعق بصرها في طيفة بذهول تعيد حديثه في رأسها متعجبة، هل هو يمزح؟ سترته كانت تبتلعها كيف سيكون القميص! لن ترتديه مستحيل..

خرجت بعد بعض الوقت ترتدي القميص الواسع بعد أن أدخلت نصفه في التنوره وقامت بـ طي أكمامه الواسعة وارتدت فوقه سترته لأنها تشعر بالبرودة، دلكت عنقها بخجل ورائحته تحوطها من كل الاتجاهات شاعرة بحضوره الطاغي معها، تلفتت حولها باحثة عنهُ بأنظارها بلهفة لتجده يقف بجانب الباب يتفحصها بمقلتيه ببريق جذاب لم تراه منذُ ساعات، أسبلت جفنيها بخجلٍ طفيف وكادت تتحدث لكن إقتراب حُسنه وخلع السترة عنها فاجأها وجعل عمّار يطلق صيحة غاضبة: واه هو في ايه عاد؟

قذفتها حُسنه عليه بعدم إهتمام وأحاطت كتفي ليلى بـ شال ثقيل صوفي بينما تقول إليه بفظاظة وهي تمسد كتفيها: جتتها متلجه وأنت ولا على بالك؟
سحق شفتيه أسفل أسنانه من الغيظ ثم انحني وإرتداها بحركة سريعة عصبية وقال بهدوء دون أن ينظر إليها: يلا بينا..

أومأت بطاعة مراقبة تقدمه وتوديعه لوالدته بحنان ثم تقدمها في السير، قبلت حُسنه وعانقتها بالمثل مودعة وسارت خلفه طواعية وهي تضم الشال حولها تنظر إلى خطواتها جيّدًا أثناء نزولها خلفه.
فتح لها باب السيارة الخلفي منتظرًا صعودها فظلت جامدة تقف محلها تنظر بين الباب وبينه قاطبة ما بين حاجبيها بانزعاج شديد وعدم رضي.

ظل جامدًا دون أي تأثر أو حديث منتظرًا إياها لتتخطاه وتجلس في المقدمة تاركة إياه يقف في الخلف.
زفر وصفق الباب بقوة وهم بالتحرك واستقل السيارة وجلس في مقعده الأمامي وبدأ في القيادة بهدوء سيطر على الأجواء قطعة طلب ليلي بتضرع: عايزة أكلم نادين ممكن؟
لم يرد عليها بل أخرج هاتفه ونقر على رقم نادين مترقبا إجابتها لكن لم يتوقع نفاذ الطاقة وانطفائه في وجهه.

تنهد وقذفه محله مجددًا بحنق ثم قال كي تطمئن عِندما أبصر ملامحها المقاربة للفزع: أنا كلمتها من شوية كانت نايمة ولمار هي اللي ردت عليا وقاعدة معاها متقلقيش.
أومأت بتفهم وأرخت رأسها للخلف مع جسدها بأريحية وهي تضم الشال بقوة، تريح ظهرها وعيناها وجفنيها المتورمان قليلا من كثرة البكاء، دقائق معدودة من شرودها في الخارج، كان الهواء قد خدرها وذهبت في ثباتٍ عميق.

أوقف عمّار السيارة أمام أحد المحال التجارية، أشتري بعض الطعام و المياة بسبب طول الطريق وعاد مجددًا، وضع الحقيبة على المقعد الخلفي و عينيه معلقه عليها، خلع سترته ووضعها فوقها برفق وابتسامة حانية لاحت على طرف شفتيه، متأملا سكونها ونعومتها أثناء النوم، امتدت أنامله تبعد خصلاتها المتطايرة شجارا أمام وجهها البشوش الناعم.

ودني منها أكثر مستمعا إلى صوت غطيتها الهادئ و استباح لنفسه تقبيل تلك الخصلة بنعومة وهو يوصد جفنيه باستمتاع، أبعدها خلف أذنها بابتسامة سعيدة متألقة وتوقف الزمن به وهو يتأملها دون كلل أو ملل، دون ان يشعر بمرور الوقت كأن الزمن توقف به وتم حذف الساعات الفائتة من رأسهِ.

ـ لأ يا قُصيّ مش موافقة..
قالت بجمود وهي تبعد يديه عن خصرها ودلفت داخل الشرفة و أولته ظهرها برفض.
صدمة ردها الجامد وعدم موافقتها وحملق في ظهرها بعدم فهم؟ إنها جادة في هذا الشأن، لم تكن تمازحه أو تنتظره أن يتوسل إليها كي تتزوجه لأنها رفضته حقا!
إقترب منها بلا تفكير وسألها باستفهام بنبرة ثقيلة وهو يمسد ذراعيها من الخلف: ليه لأ يا عشق! مش إحنا كنا مستنين الفرصة دي من زمان؟!

ضحكت بسخرية كادت تتحول لبكاء هيستيري لكنها تماسكت وقبضت على سور الشرفة الحديدي بعنف قائلة بنبرة محبطة وهي تستدير كي تكون قبالته: كُنا! تقصد كُنت انا لوحدي اللي كنت بتمنى أتجوزك مش أنت!
أحاط ذراعيها بحنان وقال بتلهف موافقا لها و عينيه تناظرها بحب: ماشي و دلوقتي جاي أطلب منك إننا نتجوز يبقى لأ ليه؟
أنزلت يديه عنها بطريقة أقرب للعنف قائلة برفض: عشان أنا متـ..

قاطعها بنبرة محتدة غاضبة: متطلقة، متطلقة يا عشق وبطلى تمثيل بقي ووافقي! دى فرصة مش هتجيلنا تاني؟!
ناظرته بهدوء تام بينما تقول بنبرة خافتة وابتسامه باردة تعلو ثغرها: أبطل تمثيل! أنت جي تحنن عليا؟ مش عايزاها يا قُصيّ الفرصة! ومش عايزاك اللي بينا انتهى وخلاص.
ابتسم بعصبية وقال من بين أسنانه: لأ مش جي أحنن عليكِ جي أصلح غلطتي.

أدمعت عيناها وهمست بنبرة منكسره وهي تعود اللاستداره تستذكر جميع أفعاله معها: تصلحها بعد ما فضحتني مش كده؟
رفع عيناه إلى السماء قليلا مبديا ضيقة عبر زفرته النافذة هاتفًا للمرة الأخيرة بحزم وانفعال: للمرة الأخيرة يا عشق هسألك هتتجوزيني ولا لأ!
لم تأخذ وقتا طويل أو حتى دقيقة كاملة تفكر مليا في إجابتها بل ردت عليه بحزم مماثل وجدية دون رجعه مرة أخرى: لأ مش هتجوزك يا قُصيّ..

المحزن أنه لا يستشف أي عِند من نبرتها، إنها صادقة ولا تعاند بتاتا وترفضه حقًا، ويبدو عليها اليأس كذلك.
عانقها من الخلف بحميمية دافعا بها إلى صدره بقوة هامسًا بجانب أذنها بترجي: يلا نبدأ من جديد يا عشق.
حركت يديها المرتعشتين ودفعت يده عنها بقوة هامسة بتعب: لأ، يا قُصيّ مش هنبدأ من جديد..
شد شعره بقوة وسألها بخشونة كابحًا نفسه عن الصراخ في وجهها بصعوبة: ليه يا عشق ليه؟

استدارت تنظر إلى عينيه بتأمل مدققة النظر إليها أسفل ضوء القمر هامسة بإبتسامة حزينة: أنت اتغيرت يا قُصيّ! دي عمرها ما كانت بصتك ليا وعينك مفيهاش حُب! أنت جاي تعمل واجب شايف أنك لازم تعمله مش جاي عشان بتحبني؟ أنت مقولتليش بحبك حتى لو كذب!
قبض على ذراعها بعنف وصرخ في وجهها باستهجان: إنتِ غبية؟ أنا بقولك تتجوزيني وأنتِ تقوليلي مقولتليش بحبك؟ اومال هتجوز عشان بكرهك؟

مدت يديها إلى وجهه وهتفت بانفعال و أعين متسعة وهي ترتكز بنظراتها داخل عيناه: بُص في عيني يا قصي وقولي بحبك ومقدرش اعيش من غيرك زي زمان يلا قول.
أنزل يدها بعصبية وهتف باستنكار: عشق أنا مش مصدق اللي بتعمليه! بقولك هنبدأ من جديد وهنتجوز وأنتِ مش موافقة؟ نسيتى زمان اللي بتتكلمي عنهُ؟ نسيتي نفسك؟
ابتسمت بألم وانسلت عبراتها وهي تنظر إليه، فإنه لا ينفك عن جرحها قط.

همست بانكسار وهي تبتسم في وجهه أغضبته أكثر: لأ منستش بس مش هيتكرر تانى على هيئة جواز وأنت زي ما أنت!
سألها باقتضاب: يعني ايه الكلام ده؟
أجابت ببرود وهي تستنشق ما بأنفها: يعني مش موافقة يا قُصيّ مش موافقة واتفضل إمشي..
قبض على فكها بقسوه وسألها بتهكم وعيناه تغيم في سوادٍ قاحل والنيران تتأجج بين جنبات صدره: وده ليه بقي إن شاء الله؟ عجبك الدكتور؟

شهقت بحرقة وهمست من وسط بكائها بحسرة: حلوه اوي الثقة اللي بينا دي هيبقي لينا مستقبل باهر لو اتجوزنا..
تركها زافرًا بعصبية لتعلو شهقاتها الحارقة، فركل الكرسي الذي وجده خلفه بعنف يشفي به غليله قبل أن يفتك بها تلك الغبية، ضم قبضته فوق سور الشرفة بقوة لاهثًا وصدره يعلو ويهبط بانفعال وعينيه معلقة على الشرفة المقابلة بنظرات حاقدة.

لا يُجب عليه أن ييأس أو يسئم الآن هذا ليس الوقت المناسب لفعل هذا، يقدر حالتها المتذبذبة لكن لن تأتيه فرصة أفضل كي يغتنمها.
هدأ قليلا ثم عاد للإقتراب منها، جفف عبراتها بحنو وهمس برفق وأطرافه تداعب وجنتها: عشق أنا مسافر ومش عارف هرجع أمتي ومش عايز أسيبك هنا لوحدك خايف عليكِ.
وضعت يدها فوق يده تربت فوقها بنعومة هامسة بابتسامة مطمئنة: متخفش يا قُصيّ إطمن وريح ضميرك هبقى كويسة.

تأوه بحزن وضمها إلى صدره بقوة لتدفع نفسها في أحضانه متشبثة في سترته بقوة تودعه بقلبٍ منشطر فينقبض قلبه خوفا عليها متوسلا إياها بكل جوارحه: عشق انا مش عايز أجبرك على حاجة أنتِ مش عايزاها بس فكري وهجيلك تاني.
هزت رأسها بنحيب فوق صدره وهمست بصوت مكتوم وهي تحوطه بقوة: لأ متجيش مفيش مجال لينا تاني يا قُصيّ ربنا يوفقك في حياتك الجاية.
رفع رأسها بأنامله ولفظ إسمها بنبرة ناعمة مترجية: عشق.

هزت رأسها يمينًا ويسارًا بقوه وعيناها تفيض من الدمع كي يدرك أن لا مجال للعودة، وابتعدت عنه و أولته ظهرها برفض مجدداً.
ظل نظره مُعلق عليها بعجزٍ يشعر به لأول مرة ومازال جزءا بداخله يكذب مايحدث، إقترب و عانقها من الخلف لاصقا ظهرها بصدره بتملك حتى التحما.
طغي الحزن ملامحه و أسند ذقنه فوق كتفها وهمس مودعا بنبرة هادئة منهزمة ويديه تداعب يديها برقة: هتوحشيني يا عشق.

عضت على شفتيها كاتمة شهقاتها بقوة، لتضم جفنيها بعنف عِندما شعرت بقبلته الرقيقة توصم نحرها أحرقت روحها.
إنه الوداع.
حررها وابتعد بخطواته إلى الخلف ببطء وعيناه معلقة علي ظهرها لعلها تستدير وتتراجع لكنها لم تفعل، ولم تفكر أن تفعل قط، استدار على عقبيه وغادر وذهب دون عوده.
لم تحملها قدميها أكثر فانهارت ساقطة على الأرض تبكِ وتشهق بحرقة عِندما تناهى إلى مسامعها صوت صفق الباب بعنف.

ظلت تبكِ بقوة وإفراط دون أي تقصير حزنًا وقهرًا على نفسها، وليد كان محقًا وحدث ما أخبرها به..
توقفت عن البُكاء عِندما صدح صوت هاتفها، هرولت إليه سريعًا كأن حياتها تعتمد على هذا الاتصال، رفعته بانفعال ووضعته على أذنها تجيبه سريعا بلهفة وهي تشهق بحرقة: كان عندك حق يا وليد كان عندك حق هو مبيحبنيش، مأجبرنيش ولا خدني معاه كان مجرد سؤال سؤال بس وأنا قُلت لأ..

أنهت قولها باختناق نادمة على هذا القرار واستطردت سائلةً بلهفة: بس هو ممكن يرجع يطلب مني تاني لو عمل كده أوافق صح؟
تنهد وليد وأخذ شهيقاً طويلا قبل أن يأتها رده: ارتاحي يا عشق وبطلي عياط وبكره نتكلم..
صرخت بهيستيريا وهي تشد على شعرها بقوة: أهدى إزاي وأنا ضيعت الحاجة اللي كُنت بتمناها بسببك وبسبب كلامك؟

هتف بنبرة مستنكرة وهو يذرع عيادته ذهابا وجيئة بعصبية: بسببي؟ ده جزائي عشان بخليكِ تحافظي على كرامتك المهدورة؟
تعالت شهقاتها ووضعت يدها فوق وجهها بانهيار معتذرة بندم وعيناها تفيض من الدمع: آسفة والله آسفة بس أنا بحبه وقلبي بيوجعني.
مسد جبينه بقوة وقال بنبرة هادئة كي يزول البأس عنها: عارف يا عشق عارف، ارتاحي وبكره نتكلم مع السلامة.

أغلق الهاتف دون أن ينتظر ردًا منها وأخذ حاجياته وترك عيادته وغادر، أسقطت الهاتف من يدها وأسندت رأسها فوق المنضدة وتابعت وصلة بكائها بانكسارٍ وحدها.
خرج قُصيّ من المصعد بوجه مكفهر و شياطين العالم تتقافز أمام وجهه في الوقت الذي ترجل جاسم من السيارة في طريقة إليها.

ضرب كتفه دون أن ينتبه أثناء دخوله من مدخل البناية فالتفت يعتذر ليتجمد محله عندما أبصره، إهتز صدر جاسم بعنف وضم قبضتيه بغضب جامح بينما قُصيّ لم ينتبه عليه حتى بل تابع سيره واستقل سيارته وغادر.
ركل جاسم الحائط الصلب بقوة شاتما بقهر لاعنا غبائه وقلبه الذي جعله يعود إليها كي يعتذر وهي مازالت تتابع خيانتها دون أن تكترث به كأنها كانت تنتظر الفُرصة لكي يحررها، هي لم تتغير قط.

اعتصر قلبه بقبضته بقوة ضاربا جبهته في الحائط وهو يوصد جفنيه بعنف وملامحه تتقلص بألم إثر خذلانه، يُعاقب نفسه بقسوة متوعدا أشد الوعيد لـ ريمة شقيقته، يقسم أنهُ سيدمرها مثلما فعل شقيقها معهُ.

رفع رأسهُ لاهثًا بانفعال وعاد أدراجه وخرج واستقل سيارته وقاد عائدًا إلى الإسكندرية بسرعة كـ سرعة خفقاته القوية المؤلمة، إنه مقهور يشعر بأنه سيموت من كم الألم هذا إن لم تصبه ذبحة صدرية في الطريق، إنها تحطم قلبه للمرة الثانية بسهولة.
مرت نصف ساعة، وصل فيها قُصيّ إلى منزله، صف قُصيّ السيارة بغضب وترجل ودلف إلي المنزل.
صاحت غرام بسعادة من غرفة الجلوس عندما أدركه بصرها: بابي..

لم ينتبه إليها وصعد إلى الغرفة مباشرةً بملامح جامدة دون أن يلتفت إليها.
أدمعت عينيها وسألت ريمة بحزن وصدرها يعلو ويهبط بانفعال وهي على حافة البُكاء: بابي مش رد عليا ليه؟
مسدت ريمة صدرها بحنان وهدأتها برفق وهي تربت على وجنتها بنعومة: معلش يا حبيبتي تلاقي مخدش باله بس متزعليش.
أومأت بخفوت ودست نفسها في أحضانها وتابعت معها مشاهدة أحد الأفلام الكرتونية.

خلع حذائه وقذفه وسط الغرفة تبعه معطفه الصوفي و كنزته وبنطاله وتحرك تجاه خزانته يخرج ملابس كي ينام.
مد يده لأحد الرفوف باقتضاب ليشعر بيدٍ ناعمة تمر على خصره صعودًا إلى بطنه تحديدا فوق جراحته..
عقدت كلا حاجبيها بقلق عِندما شعرت بخشونة جلده في هذه المنطقة، أدارته إليها تتطلع إلى جرحه بأعين متسعة قلقة سائلةً بخوف متصنعه الجهل بما خاضه: قُصيّ حصل إيه مالك؟

أبعد يدها عنه وأردف بجمود وهو يرتدي كنزته القطنية: مفيش حاجة نامي.
لم تتحرك قيد أنملة وكتفت يديها أمام صدرها بعدم رضي، فزفر باختناق والتقط سروال قطني و ارتداه تحت أنظارها المترقبة انتهائه كي تبدأ وصلة أسئلتها.
انتهى ولم يمهلها فرصة للحديث عِندما تخطاها و أوي إلى فراشة، استلقي واغلق الضوء من جانبه ودثر نفسه أسفل الغطاء كـ طفل تم ضربه من قبل والده.

تمعنت النظر إليه وتجزم أن به خطبا ما! ساقتها قدميها إلى السرير، تمددت بجانبه وعانقت منكبيه من فوق الغطاء بحنان وأسندت رأسها فوق رأسه هامسة باستفهام: مالك؟
أخرج تنهيدة طويلة من أعماقه شعرت بارتفاع جسده من خلالها، فعادت تسأله من جديد مشددة قبضتها حوله علها تحتويه كما يُجب أن تفعل: مالك يا حبيبي مين زعلك؟

لم يرد عليها، بل كان شاردًا يستعيد ذكريات سنوات سابقة عِندما كان يحيا سعيدًا بلا هذا الإزدحام داخل عقله.
سقط نظره على حذائها الملقي بإهمال كما الحال مع حذائه فسألها بصوتٍ هادئ ناعس: أنتِ خرجتي؟
تذبذبت قليلا وكاد ترخي قبضتها فوقه لكنها تداركت هذا وقالت بهدوء: كُنت بتمشي شويه بره عشان مخنوقة.
سألها بهدوء لكن بنبرة ساخرة: بتتمشي بكعب عالي وأنتِ حامل وفي الشهور الاولي كمان؟

حركت رأسها ضد رأسه بنعومة هامسة: مش هلبسه تاني خلاص، مالك بقي؟
ردّ باختناق شاعرا بثقل يجسم فوق صدره والحزن يستعمر قلبه: جـنّـة أنا مخنوق لوحدي أرجوكِ أسكتِ.
استعمر الحزن قلبها هي الأخرى بسبب رفضه المتكرر لها و معاملته الجافة، رفعت رأسها وأرخت قبضتها عنهُ كي تبتعد لكنهُ أوقفها بقوله الراغب بيأس: خليكِ..

أخذت وقتا تستوعب قوله وهي تطرف بتعجب ؛ كان هو قد تقلب للجانب الأخر وضمها إليه متوسدًا صدرها ويده تتحسس بطنها برقة، إن هذا أكثر ما يحب أن يفعله ؛ يشعر بالراحة والسعادة تغمره عِندما يتحسس بطنها أثناء الحمل.
ثقل جفنيه وتوقفت يده بعد دقائق وبدأ بإغلاق عينيه بتثاقل حتى غفى واستقرت أنفاسه.

ناظرته بتعجب وتأكدت أن خطبا ما أصابه، خللت أناملها في شعره وأخذت تمشطه قليلا ومالت تقبل جبهته بدفء ؛ تحركها ببطء و نعومة مداعبة كي يسترخي أكثر عوضا عن تجعيد ملامحه بهذا الشكل كأنه يتعارك أو يرى كابوس سيء.
تأملت ملامحه الرجولية الآسرة بإبتسامة عاشقة وظلت مستيقظة تتأمله بهيام دون ملل أو نعاس يطاردها.

لكن ما أصابها بالتعجب حقًا كانت قبضته القوية التي تشتد حولها وجسده الذي يلتصق بها حد الالتحام، متأكده أنه ليس طبيعيا هذه ليست تصرفاته.

تجلي النهار وأشرقت شمس صباح جديد.
كانت عينيه شديدة الإحمرار تحرقة بشدّة بالكاد كان يفتحها وبصعوبة كي يكمل قيادة بسلام، فهو يحتاج للنوم أكثر من أي يوم مضى يريد أن يرتاح.
مدّ يده وأخذ قنينة مياه من الحقيبة البلاستيكية و أفرغها فوق رأسهُ ونظره معلق على الطريق.
غصت الطعام في حلقها بسبب فعله هذا فنظر إليها بجمود لتبلع ما في حلقها بهدوء وعينيها معلقه عليه بنطراتٍ متوجسة كانت لطيفة.

فهي أمس لم تغفى طوال الليل لا ؛ بل إنها استيقظت بعد ساعتين بسبب قيادته السريعة وكثرة الانزلاقات التي كانت تفزعها وتحركها من مكانها بعنف، فظلت مستيقظة معهُ وهو كاد يصفعها منذُ دقائق، يخبرها أن تأكل لأنها لم تأكل منذُ أمس ويبدو عليها الأرهاق ؛ فترفض وتقول بكل إهمال أنها لن تموت دون طعام، كاد يعنفها لكنها وافقت وأخذت الطعام عِندما رأت بوادر الغضب تظهر عليه.

شعرت بالشبع فلملمت بقية الطعام و أعادته داخل الحقيقة في الخلف ومعه الشال والستره بسبب دفء الطقس ؛ نظفت فمها بأحد المناديل ثم أرخت رأسها على ظهر المقعد وظلت تتابع الطريق بهدوء بقي لهُ القليل فقط وستصل إلى منزلها.
توقف بعد دقائق أمام منزلها، أسند رأسه فوق المقود بإرهاق منتظرًا نزولها لكنها لم تتحرك.

مرت دقائق ولم يسمع صوت الباب ؛ فرفع رأسه بتعب ونظر إليها بتعجب بسبب عدم تحركها من محلها وجلوسها باديا عليها التردد فأردف سائلا بخشونة: منزلتيش ليه؟
ازدردت ريقها بصعوبة بالغة وأردفت سائله بخجل: عمّار إنت لسه زعلان مني؟
أجابها ببرود وهو يعاود إسناد رأسه فوق المقود: مش وقته الكلام ده يلا إنزلي.

فأعادت بإصرار وهي تمد يدها إلى كتفه: عمّار إنـ، صفع يدها وزجرها بجفاء: إنتِ مش بتسمعي الكلام من مرة واحدة ليه بقول انزلي يبقى تنزلي؟
اجتاحت الحرقة مقلتيها و أدمعت عيناها تناظرة بلوم بشفتين مرتعشتين ؛ تمسد ظهر يدها المصفوع بيدها الأخرى بألم.
أفزعها صوت زعيقه الغاضب: أنتِ لسه هتقعدي تعيطي؟ انزلي و اعملي حسابك كتب الكتاب يوم الخميس!

انسلت عبراتها بمهانة وترجلت من السيارة وهي تكتم شهقاتها، وتوقفت في الخارج أمام السيارة تبكِ عاقدة يديها أمام صدرها بقوة.
طفح الكيل به وضرب كفيه معًا شاتما من بين أسنانه قبل أن يترجل بتجهم.
أردف صارخا بها بعصبية مُفرطة: أنتِ في ايه واقفة بتعملي ايه ادخلي شوفي بنتك مش وحشتك؟
صرخت به بحرقة في المقابل وعيناها تفيض من الدمع: ماشي يا عمّار زعقلي براحتك، زعقلي كمان.

وعقبت قولها بدخولها إلى المنزل باكية وتركته يحدق في أثرها باقتضاب، لا يعرف يشعر وكأنها تهدده!
هزّ رأسهُ بيأس ودلف إلى سيارته وقاد إلي المنزل فجسده يصرخ طالبا الراحة.
بينما داخل منزل ليلى..
وضعت لمار الطعام فوق المنضدة وجلست جوار نادين التي تضجع على الأريكة تعانق وسادتها بشرود بعينين حمراء وجفنين متورمين ؛ ربتت لمار على ظهرها بحنان وطلبت منها برفق: كُلي يا حبيبتي أنتِ مأكلتيش من إمبارح!

أردفت بأعين دامعة وهي تشدد قبضتها فوق الوسادة بخوف: مش هطمن ولا هاكل غير لما تيجي وأطمن عليها.
مسحت على شعرها بحنان وأردفت مواسية: حبيبتي عمّار إتصل إمبارح وأنتِ نايمة وطمني عليها هي معاه و كويسة وعلى وصول كُلي عشان متزعلش لما تشـ...
توقفت عِندما سمعت جرس المنزل كادت تتحرك لكن سبقتها نادين ركضا إلي الباب.

فتحت الباب بلهفة لتشهق وترتمي في أحضان والدتها تجهش في بُكاء مرير، تشدد قبضتها حولها بقوة كأنها ستختفي، أخذت ليلى تمسح على شعرها برفق تقبل أنحاء وجهها بحنان ؛ تضمها إليها بإفتقاد شديد وعبراتها تتساقط بغزارة.
همست بنحيب وهي تدس نفسها داخل أحضانها: كُنت هموت من الخوف عليكِ.

فصلت العناق واحتضنت وجهها بين يديها وجففت عبراتها بأناملها بحنان وهي تبتسم وسط بكائها هامسة بحنو: بعد الشر عليكِ ياحبيبتي أنا كويسة الحمد الله كفاية عياط..
استنشقت ما بأنفها وهي تشملها بنظرة متفحصة سائلة بصوت مبحوح: مالها عينك! أنتِ كنتِ بتعيطي؟
هزَّت رأسها نافية وهي تجذبها لأحضانها تهدئها بنعومة: لأ يا حبيبتي مكنتش بعيط أنا كويسة خالص إهدي إهدي.

أومأت وهي تريح رأسها على صدرها وجسدها ينتفض إثر البكاء لتمازحها لمار كي تبدد هذا الحزن: وأنا مليش حُضن ولا إيه؟
بسطت ليلي كفها إليها بابتسامة تحثها على التقدم فعانقتها لمار بدفء وهي تبتسم بنعومة لتهمس ليلى بامتنان و شُكر: شكرا جدًا ليكِ يا لمار مش هنسي اللي عملتيه أبدًا.
ردت بلطف قبل أن تشاكسها بمكر: انا معملتش حاجة، وبعدين إيه القميص القمر ده؟

ارتبكت وجالت عينيها في أرجاء الغرفة بتوتر وقبل أن تتحدث تساءلت نادين وهي تستنشق ما بأنفها: صح يا مامي قميص عمّار ده ولا ايه؟ شكله كبير.
ازدردت ريقها بتوتر كأنها افتعلت مصيبة وكادت ترد لكن لمار قالت بخبث: لبست قميصه قبل الجواز أومال بعد الجواز هتعملي ايه يا قادرة؟!

تخضب وجهها بالحمرة وخجلت خجلا شديدًا وتبادل نظراتها البريئة مع نظراتهما الماكرة بارتباك هاتفة بتلعثم: لـ، لأ، على، فكره، ده، أنا بس عندي حساسية..
ضربت لمار كتفها بعبث وراقصت كلا حاجبيها قائلة بمشاكسة: معقول حضن عمّار بيعمل حساسية؟
شهقت ليلى واتسعت عيناها وأردفت بخجل ووجنتيها تنصهر من الحرارة: ايه، ايه اللي بتقوليه ده بس! كل الحكاية إن عندي حساسية والقميص بتاعتي..

ضحكا على تعبيراتها وتذبذبها وخجلها أثناء تبريرها اللطيف.
لتصرخ بهم بغيظ: انتوا بتضحكوا على ايه؟
قرصت لمار وجنتها برقة هامسة بلطافة: كميلة أوي وأنتِ مكسوفة كده.
هزت ليلى رأسها بيأس وأردفت بحنق وهي تتحرك صاعدة للأعلي: أنتِ سخيفة أنتِ وهيه مش هرد عليكم.
قهقهت لمار عليها وهمت بأخذ حقيبتها كي تذهب لكن استوقفتها نادين: خليكِ معانا.

عانقتها بابتسامة واعتذرت منها: لأ كفاية كده هسيبكم بقي عشان ترتاح و تتكلموا مع بعض.
كادت نادين تعترض لكن أوقفها هتاف ليلى من فوق الدرج: كتب كتابي بكرة يا لمار هستناكِ.
اتسعت ابتسامة لمار وهتفت بفضولٍ قاتل: أنتِ عملتي ايه هناك امبارح بالظبط؟
ابتسمت بحزن وأردفت بندم: لما تيجي هقولك.
أومأت لمار بتفهم ثم ودعتها وغادرت بهدوء لتهرول نادين خلف والدتها بفضول.

وثبت ليلى إلى غرفتها ظافرة بالراحة والاطمئنان ؛ خلعت تنورتها ورفعت قميصه الذي لا يتخطي فخذيها تنظر إلى خصرها في المرآة، تحسست موضع الألم برفق فتألمت لكن ليس بنفس قوة أمس، بحثت في الأدراج الملحقة بالمنضدة عن مسكن للألم حتى وجدت واحدًا، دلكت خصرها بسبابتها برفق متمنية أن يذهب الألم قبل الغد..

أنزلت القميص سريعًا وتركت ما بيدها عِندما دخلت نادين عليها، استدارت إليها وفتحت يديها على مصراعيها لتهرول لأحضانها بابتسامة..
قبلتها بنعومة وهي تمسح على ظهرها بحنان هامسة: وحشتيني أوي يا حبيبتي.
قبلت نادين يدها ورفعت رأسها وأردفت سائلة بقلق: أنتِ كويسة ومحدش أذاكِ صح؟
أومأت بابتسامة مطمئنه وأردفت وهي تسير بها إلى السرير: لأ يا حبيبتي محدش أذاني أنا كويسة خالص تيجي ننام بقي؟

أومأت بابتسامة وأردفت باستفهام وهي تشملها بنظرة: هتنامي بالقميص؟
تنحنحت ليلي وأردفت والراحة تغمرها: هو مُريح بس!
ابتسمت نادين وضيقت عيناها قائلة: طب و بيجماتك مش مُريحة؟
تنهدت ليلى وقالت بيأس وهي تفتح أزراره الأمامية كي تخلعه عنها: اقلعه وأولع فيه عشان ترتاحوا؟
قهقهت نادين ونفت وهي تعانقها بقوة مداعبه وجنتها بوجهها: لأ يا حبيبتي مش تولعي فيه، مبروك أنا مبسوطة أكتر منك على فكره.

ضمتها بقوة وهمست بتمني وهي تبتسم: عقبالك يا حبيبتي، ده هيبقى أجمل يوم في عمري.

في مقر عمل مصطفي..
كان يجلس خلف مكتبه شاردًا يحدق في العدم وعقله لا يتوقف عن تكرار مشهد قتله لآدم وتالين معًا قط، هو ليس حزينا عليها ولم يُحبها يوما، أكثر ما يضايقه أنهُ شقيقة وليس غريبا، هي لا تهمه فلتذهب إلى الجحيم لكن شقيقة سيظل شقيقة، سينتظر فقط حتى يرى نتيجة الاختبار وبعدها لا يلومه أحد.

شعر بشفتين رقيقتين توضع فوق شفتيه وجسدها يستقر فوق قدمه، فأحاطها مبتسمًا وسط قبلتهما الحميمية التي أذابته، فهذه السالي لا توصف بكلمة، إنها مختلفة عن الجميع ولا يعرف كيفية التخلص منها!؛ حاول كأي مُدير يمر بنزوه عابرة أن يتخلص منها لكنها لم تكن عابرة قط، إنها رائعة و ذكيه تعرف ما تفعل جيدًا.
فصل قبلتهما بلهاث وصدره يعلو ويهبط باضطراب ؛ ورفع يدها وقبلها بنعومة هامسًا بصوتٍ متهدج: بحبك..

ابتسمت برقة ورفعت كفه وقبلته بالمثل ثم ضمته إلى قلبها هامسة بنعومة بينما تداعب وجنته: شكلك مش عاجبني سرحان في ايه القهوة بردت!
طغي الهم ملامحه وأردف وهو يداعب وجنتها بظهر يده بنعومة: مفيش بفكر بس شويه..
قبلت وجنته بقبلة مسموعة ثم وقفت وأنزلت تنورتها وأردفت بجدية: طيب يلا بقي وقع الأوراق المهمة دي عشان الشغل.

أومأ وهو يستقيم جالسا ثم التقط قلمه وانتظر أن تضع الأوراق أمامه، رتبتها داخل الملف بتركيز ثم وضعتهم أمامه قائلة بابتسامة: إتفضل حضرتك..
ابتسم وبدأ بقراءة الأوراق بتدقيق قبل أن يُوقع، راقبته بتوتر ونفاذ صبر وعينيها معلقة على الاوراق التي كادت تنتهي عدي من الورقة الاخيرة، إنه يدقق ويقرأ وهذه مشكلة!

عقد كلا حاجبيه وهو يقرأ إحدى الأوراق لينقبض قلبها بقلق ؛ ازدردت ريقها بتوتر وعمدت على الهائه مثل كُل مرة تدس ورقة وسط الأوراق ويتم توقيعها دون مشاكل، لكن هذه مختلفة إنها الورقة الأخيرة.
خلعت حذائها وجلست على قدميه بدلال جعلته يعود بالكرسي للخلف بابتسامة ؛ خلعت حذائها وسارت بقدمها فوق قدمه من الأسفل مداعبة ليضحك سائلا بتعجب: سالي! أخلص الورق بس؟

أحاطت عنقه بدلال وأردفت بتذمر وهي تداعب أطراف شعره بأناملها: أنت عارف إني مقدرش أبعد عنك كتير لازم تديني حاجة تقويني وبعدين هو الشغل أهم مني يعني؟.
هز رأسه بنفي وهو يناظرها بهيام ثم أردف سريعًا دون أن يعبأ بالعمل: لأ طبعا ومش هراجع وراكِ كمان أهو، وقام بتوقيع الورقة الاخيرة دون قراءة محتواها وترك القلم وهم بتقبيلها لتعيد رأسها إلى الخلف بابتسامة زاهية.

نظر إليها بتعجب لتقف هامسة بسرعة قبل أن تطبع قبلة سطحية فوق شفتيه: هعمل قهوه بسرعة عشان مزاجك يروق وجيالك..
أومأ ببلاهة وراقب ذهابها بابتسامة، أغلقت الباب وظلت متيبسة خلفه بأعين متسعة و فاه فاغر وهي تضم الملف إلى صدرها المختلج وتسارع خفقاتها غير مستوعبه نجاحها.
ضحكت بصوتٍ رنان مجلجلة وعيناها تمر فوق كل ركن من أركان الغرفة بتملك وحشي.

لقد أصبحت المالكة لكل شيءٍ الآن، لا تطيق ذرعا كي تري شهيرة قعيدة من صدمتها عِندما تعرف أنه تم تجريدها من كل شيء وأصبح بإسمها هي، حتى منزلهم تستطيع أن تقوم بطردهم منهُ وتأخذ سياراتهم كذلك.

ظنت أنه رجلا ذكي مخضرم كما يبدو عليه، هو هكذا بالفعل لكن ليس أمام إمرأة ومفاتنها ؛ إنه يخضع لرغباته وهي تخضع للأموال، لم يهمها أنها ضحت بجسدها كي تحصل على كل ذلك لكنهُ يستحق العناء، هي زوجته أيضًا في النهاية لم تكن بذلك القدر من الرخص لأنها لم ترضي بأي شيء.

مايثير تعجبها أنهُ يعرف أنها عبدة للأموال ومع هذا يظل يعطيها دون ملل!، في كثير من الأحيان تشفق عليه لأنه يتحرك بين يديها ويد والدته كـ عروس الماريونيت، فكرت بالتراجع أكثر من مرة لأنها تعرف أن مشاعرة صادقة ؛ ولن تكذب هو يعجبها وتميل إليه وكثيرًا حتى الآن، كان يمكنها أن تعطية فرصة وتتراجع لأنه يستحق ويحبها، لكن رضوخه لوالدته يخنقها ويجعلها تصر على هذا.

من البداية كان هذا هدفها لكنها ضلت طريقها مره لأن قلبها خفق وهي بين يديه لكن شهيرة لم تترك لها مجالا كي يحيا هذا الحب! بل كانت تضع كرامتها أسفل الأقدام دائما كُلما قابلتها، وهي توعدت ودعست على قلبها ولن تتراجع.

الآن هي تملك كل شيء حتى ورقة الزواج الخاصة به معها أخذتها منهُ، متبقي فقط الخطوة الأخيرة وهي السفر وسيحدث كل شيء كما خططت إليه بالتأكيد فهي بذلت مجهودا جبارًا وصبرت كثيرًا ودرست جميع خطواتها كي تصل إلى هنا.
جلست خلف مكتبها بهدوء، أخرجت الورقة من الملف وهي تتلفت حولها كـ اللصة ثم أخرجت ملفا آخر من حقيبتها الموضوع به الاوراق التي جعلته يوقعها بشكلٍ متفرق على مدار الأيام والشهور.

تبسمت بحماس ووضعتها مع شقيقاتها بسعادة لا توصف وعيناها تشع بالحماس وقلبها يخفق بقوة، أعادت قرائتهم جميعا وعيناها تمر على كل حرف بتركيز مع تحريك شفتيها متلذذة بنطق كل كلمة من البداية حتى توقيعه الأخير.
أغلقته وقبلته بقوة ثم ضمته إلى صدرها مشددة يديها حوله ثم وضعته في حقيبتها من جديد وقامت تصنع له قهوة.

كان آدم يغط في ثباته العميق أو أن كان يغط في ثباته قبل أن تهاتفه حياة وتخبره بأن تالين تم نقلها إلي المستشفي بسبب نزيفها..
كان يركض بسرعة متسابقًا مع الرياح متخطيا الجميع بعد تخبطه بهم ودقات قلبه تسبقه إليها، توقف أمام المصعد كي يصل للطابق المطلوب لكنه لم يطيق الإنتظار وركض صاعدا الدرج بلهاث حتى كادت تنقطع أنفاسه.

ذرع الممر ركضا حتى تبينت إليه حياة تلك قصيرة القامة تقطع الممر ذهابًا وإيابًا بخوف، هرول إليها بقلبٍ مُنقبض.
أردف باستفهام ولهفة: تالين، مالها عاملـ..
توقف عِندما ارتمت في أحضانه تنتحب بقوة هاتفه بحرقة وهي تبكِ: أنا خايفة أوي..
ربت على ظهرها بلطف عكس تيبس يديه بجسد متصلب وملامح جامدة وصدره ينقبض وينبسط ونظرة معلق على باب الغرفة منتظرًا خروج الطبيب.

جلس وأجلسها بجانبه وأردف متصنعًا الهدوء بينما داخله اندلعت نيرانه المستعرة: حصل إيه؟
جففت عبراتها وهتفت بهلع وهي تستذكر ماحدث وجسدها ينتفض بخوف: دخلت أصحيها عشان تفطر لقيتها مش بتصحى والغطي مليان دم ومفيش نبض خالص، جريت بسرعة وطلبت الإسعاف وجينا على هنا، بابا مكنش موجود كل يوم بينزل يدور على شُغل من ساعة ما رجعنا الشقة وماما سبتها تقعد مع أخواتي الصغيرين.

أومأ بتفهم ومسح على ظهرها برفق كي تهدأ بينما هي ظلت تبكِ على صدره حتى خرج الطبيب.
وقف باندفاع دون أن ينبهها كادت تسقط غفلة لكنها تماسكت ووقفت خلفه.
سأل الطبيب بلهفة و إنفعال والقلق يشع من عينيه: حصل ايه يا دكتور هي كويسة؟

شرع الطبيب في الحديث شارحا حالتها بهدوء: كان عندها نزيف ولحقناه الحمد الله والجنين متقصرش بس لازم تخلي بالها أكتر من كده لأن هي عندها فقر دم حاد ومناعتها ضعيفة ومحتاجة تغزيه عشان صحتها وصحة الجنين.
أومأ آدم بلهفة وعاد يسأل: طيب عشان تتعالج نعمل ايه؟
أومأ وحثه على الذهاب معهُ: ممكن تيجي معايا هكتبلها انواع البرشام والفيتامينات ايه وتفهم حالتها اكتر.

أومأ وذهب خلفه وظل معهُ نصف ساعة تقريبًا يسمع منهُ بتركيز حتى فهم حالتها ثم ذهب إليها بعد أن هاتف مصطفي كي يأتي، يجب أن يضع حدا لهذا الوضع.
وثب إلى الغرفة بقلبٍ مضطربا يخفق بقوة مؤلمة، أعتصر الألم قلبه وطغى الحزن ملامحه عندما رآها راقدة بذلك الضعف والشحوب فطلب من حياة بغصةٍ تركهم معا على إنفراد: حياة ممكن تسيبينا لوحدنا شويه؟

أومأت وتركت الغرفة لهُ بهدوء وغادرت بعد أن قبلتها، ابتسمت تالين إليها ثم ابتسمت في وجهه ابتسامة شاحبة لكنها لم تخلو من الحياة.
بادلها إياها بأخري باهته رغم محاولته كي تكون مبهجة، جلس على الكرسي مقابلها وأردف سائلا بنبرة حانية: عاملة إيه؟
أجابت بنبرة خافته متعبة وهي تبتسم: الحمد الله.

مد يده إلى كفها المحقون به المحلول المفرود بجانبها، رفعه بين يده برفق وطبطب عليه بنعومة وهمس بندم: أنا آسف يا تالين، آسف..
نظرت إليه بعدم فهم ليردف متابعًا بندم مبتلع غصته بمرارة: آسف عشان بوظت حياتك و قُلتلك إني بحبك من الأول، مكنش ينفع أقولك ولا كان ينفع اتخطى حدودى معاكِ، فوقت متأخر سامحيني يا تالين انا بجد آسف.

لم يبدر عنها سوى إبتسامة بسيطة ناظرته بها بإرهاق دون أن تتحدث، لكنها أخبرته من خلالها الكثير و طمئنته أنها بخير.

أومأ بتفهم كأنها ألقت على مسامعه محاضرة طويلة ثم تابع بقية ما أراد أن يقوله وكان سيذهب إلى منزلها خصوصا كي يخبرها بهذا: تالين أنا كلمت مصطفى، أنا عارف إنك مش قبلاة ولا عايزة ترجعيله بس يا تالين إنتِ عارفة إنه بيشُك إنك حامل مني أنا مش هو ولازم تبيني براءتك سواء هتفضلي معاه أو هتسبيه لازم يعرف أنك أشرف من ميت واحد زيه! فاهماني؟

انسلت عبراتها بصمت وظلت ساكنة دون أن تبدي أي رد فعل ليتابع رغمًا عنهُ بقلبٍ مدمر: أنا أتصلت بيه يجي عشان تعملوا تحليل DNA طالما أنتِ هنا ولحد ما تطلع النتيجة هتفضلي في بيتك ولما تطلع ويعرف أنك بريئة مش هيسيبك وساعتها قرري وشوفي هتعملي ايه..

صمت قليلا يفكر مليا كأنه يستذكر شخصية شقيقة ليقول: بس خليكِ عارفة إنه هيتغير لما يشوف ابنه مصطفى طيب، ويمكن هو مش بيخونك يا تالين وتكون دي مراته التانية متتسرعيش وفكري كويس.
أومأت بتفهم وهي تأخذ شهيقًا بصعوبة موصدة جفنيها بقوة ليقف آدم هاتفًا قبل أن يغادر بإبتسامة لم تصل إلى تقاسيم وجهه: ارتاحي إنتِ دلوقتي وانا هفضل بره هطمن عليكِ من وقت للتاني.

هزت رأسها بشكلٍ غير ملحوظ لم ينتبه له وخرج ليصطدم بمصطفى الذي كان يدخل.
كانت نظراته حادة متجهمة وهو ينظر إليه بغضبٍ مشلول، دفعه آدم للخلف قليلا برفق بينما يقول وهو يغلق الباب خلفه: نايمة، تعالي أنا عايز أتكلم معاك عشان كده جبتك.
زفر مصطفى بغضب وأردف بغلظة: خلصني أنا مش فاضيلك ومش جيلك أصلا!

عقب قوله بتحركه واندفاعه إلى الغرفة كي يدخل عنوة لكن آدم دفعه للخلف صائحا بحدة وصوتٍ مُرتفع شديد: افهم ياغبي بقى وبطل اندفاع! أنا جايبك عشان تعمل تحليل الـ DNA وياسيدي لو طلعت أنا أبوه إقتلني وقتي ومش هقاومك خالص.
هدأ قليلا ونظر إليه بتردد واقتضاب وصدره يعلو ويهبط في عنف ثم أردف ساخرًا: أعمله هنا؟ أعرف منين أنك مش مظبط حد عشان يطلعه زي ما أنت عايز! لو هعمله يبقى هعمله عن طريقي أنا مش أنت.

وافقه مذعنا إليه بقلة حيلة: موافق في المكان اللي تحبه بس هروح معاكم.
جذبه مصطفى من حاشية قميصه وهدر بخشونة وتهديد وهو ينظر داخل عينيه وأنفاسه الحارة تلفح وجهه: لو طلع إبنك هقتلكم؟
ردّ عليه بحدّة مماثلة وهو يصفع يده: ولو طلع إبنك هتركع تبوس رجليها وتطلب السماح.
هتف بلا مبالاة: موافق
وافق آدم بالمثل وهو يدس يديه داخل جيب بنطاله: موافق، استني الدكتور لما يسمح ليها بالخروج وبعدين نروح لأنها تعبانة.

تقلب في الفراش يتابع غفوته بخمول واسترخاء تخلله أنامل تتحرك على صدره بنعومة، قاوم خموله وجسده الهامد وفتح عينيه على مهل بسبب الضوء لكن الغرفة كانت مظلمة وهادئة كما يُحب، مط ذراعيه بكسل متثائبا بقوة.
بعثرت جـنّـة شعره بابتسامة وحثته على الاستيقاظ: كفاية نوم بقى بقينا العصر؟

فرك عينيه بنعاس وأخذ هاتفه من فوق الكومود يرى كم الوقت ليضرب الضوء عينيه فأغلقه وتركه من يده زافرًا يحث نفسه على الاستيقاظ.
أخذت هي الهاتف تري الوقت وأردفت بهدوء: الساعة 3 مع إنك مش نايم متأخر أوي يعني! قولي بقى مين زعلك عشان تنام كل ده؟!
تنهد ودس رأسهُ أسفل الوسادة راغبًا في المزيد من النوم لكن قولها بصوتٍ مشحون بالغضب جعله يرفع رأسهُ إليها: مين البنت دي يا قُصيّ؟

انتصب جالسا بتكاسل وحدق في صورة لمار التى التقطها أمس قليلا قبل أن يضحك بخفة قائلا ببراءة وهو يضرب كفيه معا بتعجب: أه أصحابي عاملين جروب على الواتس وبيبعتوا عليه صور بنات..
رفعت زاوية شفتيها بسخرية وأردفت بتهكم وهي تراقص الهاتف أمام أعينه: الصورة أنت مصورها يا قُصيّ واتس ايه شايفني هبله قدامك؟!
ابتسم وأردف بتفاجئ وهو يأخذ الهاتف من يدها ينظر إلى الصورة بتفحص: ايه ده بجد؟

أومأت بعصبية وهي تحدجه بنظراتٍ نارية ليحذف الصورة بكل هدوء ثم وضع الهاتف في يدها قائلا ببساطة: مفيش صور خلاص.
ورفق قوله بوقوفه و وثوبه إلى المرحاض تاركا إياها تحدق في الهاتف باستنكار شاعرة بالغباء.
صرخت بغضب واندفعت خلفه بهجوم صائحة بجنون: إنت بقيت تعرف ستات يا قُصيّ؟

صفقت باب المرحاض بقوة ودلفت خلفه بعصبية مفرطة وصدرها يعلو ويهبط بعنف فكان يغسل وجهه بهدوء، رفع رأسه والتقط المنشفة وجفف وجهه وعيناه معلقة عليها باستمتاع بسبب غضبها هذا.
صرخت في وجهه بنفاذ صبر: أنت بتضحك؟ مش حاسس باللي بيحصلي!
وضع المنشفة فوق كتفه وهو يبتسم ثم سحبها من خصرها بغته لتلتصق بصدره تزامنا مع شهقة ناعمة أطلقتها.

أردف سائلا بسخرية ويديه تتحرك فوق ظهرها بنعومة مثيرة للقشعريرة: أحس بـ إيه معلش؟ إنتِ سبتيني لعشق مجتش على دى يعنى؟!
أطرقت برأسها وأخرجت أنفاسها الحارة بتعب و ادمعت عيناها وهمست بغصة بشفتين مرتعشتين: أنا عمري ما هسامح نفسي عشان عملت كده، بس يا قُصيّ دلوقتي أنا معاك ورجعنا وفي مجال إننا ننسى ونبدأ من جديد ليه مش موافق؟

هتف بقلة حيلة هو يرفع وجهها كي تنظر إليه: أنا مش مش موافق يا جـنّـة، أنا مش قادر ومش عارف، أنتِ خرجتي من حساباتي وخرجتي من قلبي قبلها.
فقدت الأمل به واستسلمت لواقعها وتقبلت هذا، تقبلت خسارته بصدرٍ رحب فهي تحصد ما زرعته ليس إلا، انسلت عبراتها بغزارة وأومأت بانسكار وانسحبت مبتعده إلى الخارج.

تنهد وأغلق الباب خلفها وأخذ حماما باردا، خرج بعد بعض الوقت كانت الغرفة فارغة منها، التقط هاتفه وقرأ بعض الرسائل الواردة ليبتسم باتساع، وهم بارتداء ملابسه بسرعة بعد أن قذف الهاتف.
انتهي في وقتٍ قياسي ونزل إلى الأسفل، كانت جـنّـة مسطحة على الأريكة شاردة بحزن وغرام تنام مستيقظة في أحضانها تعبث بأصابها في أنحاء وجهها وهي تقهقه قهقهات ناعمة.

توقف قُصيّ وغير مساره واتجه إلى الأريكة عِندما تناهي إلى مسامعه صوت ضحكاتها المغردة، جثي أمام الأريكة وقرص وجنتها بخفة فتجاهلته وتقلبت تدس نفسها بأحضان جـنّـة وأولته ظهرها بغضب طفولي.
رفع كلا حاجبيه بانزعاج وسأل بضيق: ده اسمه إيه ده بقي إن شاء الله!
خللت جـنّـة أناملها داخل شعرها برفق مداعبة بينما تبرر موقفها بهدوء: قالت إنها امبارح ندهت عليك لما جيت وأنت مردتش عليها عشان كده زعلانه.

أنزل حاجبيه وهو يستذكر ما حدث أمس باقتضاب فهو لا يذكر هذا، كيف يتجاهل أميرته كيف؟
مدّ يده إلى ذقنها بصعوبه وهو يقهقه بسبب التصاقها بجنة أكثر كي لا تترك له مسافة ولا المجال كي يراها، قبل وجنتها بحنان وهو يقف على ركبتيه ورفع وجهها متأملا تلك الأهداب الطويلة ووجنتيها المتوردة وضم شفتيها بعدم رضي بلطافة.
لثم جبينها بلطف وهمس برقة: بابي كان تعبان يا حبيبتي ومكنش سامع حاجة خالص خالص متزعليش.

أفرجت عن قدحي القهوة خاصتها وغشاوة رقيقة تجمعت داخلها إثر تكدس عبراتها وناظرته بأعين دامعة لائمة وبدأ وصدرها ينقبض وينبسط بانفعال فضمها إلى صدره بقوة وواساها بحنان: لأ، لأ، متعيطيش أنا آسف والله هركز المرة الجاية متعيطيش مينفعش تعيطي وإحنا خارجين ها متعيطيش..
توقفت وطرفت بأهدابها سائلةً برقة: هنخرج؟
أردف مؤكدًا بثقة وهو يمسد صدرها: طبعا هنخرج يلا غيري هدومك وهستناكِ هنا يلا..

أومأت وهي تستنشق ما بأنفها ثم نظرت إلي جـنّـة وهمست باستغاثة: مامي ممكن تساعديني؟
أومأت بابتسامة حانية وحملتها وصعدت بها إلى الأعلى ليجلس قُصيّ محله متنفسا الصعداء بإرهاق شاكرا إن هذا انتهى دون أن تبكِ، جاورته ريمة في جلسته وناولته كوب عصير سائلةً بابتسامة: تعبِتك؟
قهقهة ومسد جبينه وبرر بقلة حيلة: مخدتش بالي خالص إمبارح ومسمعتش كنت مضايق اوي، كل ده بسببك وبسبب تربيتك.

قهقهت وأراحت رأسها فوق كتفه هامسة برقة: هي حساسة زيي ومينفعهاش حد بارد زيك..
نظر إليها بطرف عينيه وأردف بدون تعبير: أنا بارد؟
رفعت يده وقربت كوب العصير من فمه قائلة بابتسامة: أه بارد يا حبيبي ويلا إشرب العصير قبل ما تمشي واحكيلي كُنت متضايق ليه؟.
أردف بمرارة وهو يستعيد ذكريات أمس: طلبت من عشق الجواز ورفضت تخيلي!
تعجبت من هذا وعقد كلا حاجبيها وأردفت باستفهام: ليه رفضت مش بتحبك؟

هزَّ رأسه بجهل وغلت الدماء داخل عروقة وهتف بانفعال بوجه مكفهر: متفكرنيش أنا بولع كل ما أفتكر اللي حصل، هتجنن ليه قالت لأ؟!
ضيقت عينيها بشك وسألته: إنت عملت ايه لما قالت لأ؟
قال باستياءٍ شديد: قولتلها فكري ومترديش دلوقتي لكن قالت لأ وودعتني كمان فا سبتها ومشيت بعد ما ودعتها!
هزت رأسها بتفهم وهي تطالعه بتدقيق سائلة باستفسار: وأنت حسيت بـ إيه لما ودعتها ومشيت؟

فكر مليا بعمق وهو يحدق في العصير ثم قال بهدوء: زعلت وجيت نمت بس.
سألته بتفكير: قُصيّ ليه مألحتش عليها أوي عشان تتجوزك أو حتى متخانقتش معاها وقولتلها هجيلك تاني ليه؟
هز كتفيه بجهل وقال بهدوء: عشان انا قُلت مش هجبرها على حاجة هي مش عايزاها!
ومضت عيناها وحاصرته بسؤالها وهي تتأكد من شيء ما: طب وأنت؟!
تأفف بحنق وسألها بازدراء: ريمة إنتِ عايزة إيه؟

ضحكت بمكر وحثته على إرتشاف العصير وهي تدلك عنقها ونظرها معلق عليه بابتسامة: إشرب يا قُصيّ إشرب..
إرتشف العصير سريعًا كأنهُ مياه وهتف بعد أن استطعم ما ارتشف: مشمش؟ جـنّـة بتموت فيه.
ردت ممتعضة: هدخل أدلق الباقي حاضر.
قهقهة وبعثر شعرها كي يزعجها لكن هي من أزعجته بقولها الجاد وهي تمسك كفه بين يديها كأنها تعرف شيءً لا يعرفه هو: على فكره إنت مش بتحب جـنّـة ولا عشق.

عقد كلا حاجبيه ورفع عينيه إليها في ترقب ولا يعرف ما هذا الشعور الغريب الذي راوده من وقع هذه الكلمات على مسامعه.
ابتسمت ريمة بنعومة وهمست بثقة لطيفة: أنت بتحبنى أنا.
تنفس الصعداء براحة وصاح مؤكدًا: عندك حق والله هاتي حُضن..
ضحكت بصخب وعانقته بقوة ليقبلها بنعومة هامسًا بصوتٍ حاني مفعم بالحب: أنتِ بنتِ الأولي، وأمي كمان..
همست بدفء وهي تقبل كتفه: حبيبي ربنا يخليك ليا.
ـ بابي بابي خلصت..

صاحت غرام بسعادة وهي تنزل السلالم ركضا.
فصل العناق ولثم جبينها بحنان وودعها ثم وقف وفتح يديه على مصراعيها يستقبل غرام بحفاوة هاتفًا بحماس: قلب بابى يلا بينا..

مساءا..
كان عمّار يغط في نومٍ عميق فوق الأريكة في غرفة الجلوس منذُ أن عاد ؛ دون أن يعي مايحدث حوله.
تقلب وهو يفرد ذراعه الذي يتوسده ليلامس شعر حريري ناعم، تقلب بانزعاج ورائحة طعام شهي جعلت معدته تقرقع مطالبةً به، تجاهل هذا وكاد يتابع غفوته لكن سقوط أواني الطعام في المطبخ أحدثت صوتا مدويا أيقظة.
فتح عينيه بتباطؤ لتتسع عيناه وتفرج شفتيه عن ابتسامة زاهية عِندما أبصر غرام تجلس أسفل الأريكة بهدوء.

انتصب جالسا نصف جلسة مستندا على مرفقة سائلا بنعاس: فين قُصيّ؟
رفعت رأسها إليه بابتسامة وأردفت بلطافة: عمو صحيت؟
أومأ بابتسامة ناعسة ومد إليها كفه مصافحا لكنها تمنعت وسألته باهتمام: عمو إيدك نضيفة؟
فغر فمه ونظر إلى يده قليلا بصمت حتى هربت قهقهاته وسألها بامتعاض: ايه التربية اللي شبه تربيه أبوكِ دي؟
رمشت بلطافة وسألته بجهل: يعني ايه يا عمو؟

رفعها من خصرها وأجلسها على قدميه وهتف برقة: ولا حاجة يا روح عمو يلا ناكل.
أومأت بابتسامة وهي تنظر إلى عينيه بنفس ذات الانبهار السابق، فمد يده إلى قطعة الدجاج ليستوقفه سؤالها: مش هتغسل سنانك؟
ابتسم بلطف وقال بامتعاض: لأ مش هغسل كُلي..
أومأت بقلة حيلة وراقبته وهو يمد يده لتستوقفه مجددا: الشوكة يا عمو!

أخذ الشوكة وهو يتنهد بنفاذ صبر فلم تسعفه كثيرا في تقطيعها فقالت باستياء طفولي وهي تضرب فخذيها: السكينة كمان!
قال بغلظة وهو يجلسها فوق الأريكة: هو في ايه يابت ده أنتِ بنت قُصيّ حتى!
ـ ماله قُصيّ يا حليتها؟
أتاه صوته الساخر وهو يتقدم بالعصير، حطة على المنضدة بعنف جعله يرفع نظره إليه بعدم فهم.
غمغم بضيق بسبب نظراته الجاهلة بما يحدث: وكمان جبلة مش حاسس! يعني أنا أستناك كل ده وتاكل لوحدك؟

أردف بسخط وهو يلتقط هاتفه: لأ وأنا عارف أكل من بنتك أوي وبعدين تستني ايه ما أنت جايبه جاهز أنت هتمثل كُل..
ألتقط قّصيّ الشوكة حانقًا وغمغم بضجر: أنا غلطان اني عبرتك وجبتلك أكل ومش عاجب أهلك كمان..
لم يكن عمّار يستمع لهُ من الأساس بل كان نظره مرتكزا على ما يفعل بيده فجذبه من ياقته فجأة وسأله بتهكم: من أمتي بتاكل بالشوكة والسكينة معايا؟ خايف من بنتك؟

ضحك بصخب وهو يهز كتفيه باستسلام ثم برر موقفه بقلة حيلة: عمّار يا حبيبي هي صغيرة ولسه بتتعلم لازم تاخدني مثال وقدوة وخصوصا إنها بتحبني أوي فا عيب يعني عيب نزل إيدك!
تركه وأخذ الشوكة من يده بقوة وأمره بحزم: كل بأيدك ومص صوابعك يلا..
رفع زاوية شفتيه بسخرية وأردف بجدية: لأ هبت منك عالآخر بقي سمعتي مش هتبوظ لأ..
تنهد وقال بابتسامة: أنا هسيبك عشان مبسوط بس
ابتسم قُصيّ وضرب كتفه سائلا بعبث: ابسطني معاك..

قال بنبرة تشي بالحماس: كتب كتابي بكرة..
قفز قُصيّ وجلس على الاريكة بأريحية أكثر هاتفًا بعدم تصديق وعيناه تومض بحماس: أقسم بالله..
أومأ عمّار بإبتسامه ثم حمل هاتفه ووقف: كمل أكل وجي على طول احكيلك.
صاح بخبث مراقبا ذهابه: ايوا ايوا والعه معاك..
تنهد بإبتسامة متمنيا السعادة إليه من كل قلبه، على الأقل أحدهم سيكون سعيدًا، انتقل بنظراته إلى غرام الجالسة بهدوءٍ تام تحدق في الطعام دون أن تقترب منهُ..

مسح على شعرها برفق وسألها بحنان: مش بتاكلي ليه يا حبيبتي؟
ضمت قبضتها الصغيرة ووضعتها في حجرها وقالت بخفوت: مستنياك تقولي كُلي.
حملها وأجلسها على قدميه وأطعمها بيديه زاجرا نفسه بشدة: أخص عليها معقول غرام هانم تستني!
هزت رأسها بنفي وهي تبتسم بنعومة ليتابع إطعامها بهدوء مراقبا إياها بحنان بالغ وهو يفكر بعمق.
في هذه الأثناء في منزل ليلى..

دخلت نادين غرفة والدتها تطل عليها وهي تحادث عمّار في الهاتف: لسه نايمة يا عمّار، أه قالت لي مبروك، عمّار عربية ماما أختفت من قدام البيت والمفتاح كان في الشنطة متهيألي انها اتسرقت ممكن تاخد الرقم ونبلغ؟
ـ إبعتيه..
قال بهدوء وكاد يغلق الهاتف لكن ندائها باستغاثة استوقفه: عمّار..
همهم باهتمام لتسأله بندم وهي تعض أناملها: أنت لسه زعلان مني؟
أجابها ببرود: زعلان! عشان كُنت كُبري وكده؟ لأ عادي..

تنهدت بـ همٍ وتجمعت الدموع في عينيها وتوسلته بنبرة مهزوزة وهي على حافة البُكاء: عمّار أنا آسفة والله مكنش قصدي ومكنش عندي حل غير ده!
تنهد وأردف بلطف: نادين، اهدي ومتعيطيش انا مش زعلان ونسيت أصلا، متفتحيش الموضوع ده تاني وانسيه أنتِ خلاص من بكره هتقوليلي يا بابا!
ضحكت بنعومة ومحت عبرة سقطت من عينيها وهتفت بابتسامة زاهية: أنت بابا من زمان على فكره.

قهقهة عليها وهتف باستياء: أنا مش عجوز اوي كده على فكره!
أردفت مشاكسة: بكره نشوف، واستطردت بحماس: انا دلوقتي هصحي مامي عشان نظبط لبكرة بقي وكده باي باي..
ودعته وأغلقت ثم وضعت الهاتف جانبا وأخرجت صندوق الهدية الخاصة بـ عمّار من الخزانه واتجهت إلى السرير.
أيقظتها برفق وهي تمسح على شعرها هامسة فوق أذنها بلطف: مامي، مامي، اصحي بقي كده كتير.
أتاها صوتها بهمسٍ مماثل وهي تغمض عينيها: ليه؟

قهقهت نادين وعانقتها بينما تقول بتذمر: يلا قومي عشان نشوف هنلبس ايه بكره!
أطلقت تنهيدة حزينة وهي تتثاءب مفكره، هل سيتزوجها و يبدءان حياتهما معًا وهو غاضبا منها؟ هذا ليس عدلا.
صاحت توقظها من شرودها بتذمر: مامي، مامي سرحانة في إيه بس؟
قبلتها بحنو ونفت بنعاس: مش سرحانة يا حبيبي، ها هنلبس ايه؟

ابتعدت عن أحضانها وانتصبت جالسة وقربت الصندوق منها بحماس وغمزت إلى ليلى التي جلست بالمثل وناظرتها بعدم فهم فأردفت نادين سائله أولا: أنتِ شوفتي الهداية ولا لأ؟
قالت بهدوء وهي تحدق به محاولة تذكر فحواه: اه شوفتها مش فستان وبرفيوم والسلسلة اللي كانت ضايعة مني العروسة دي ومتهيألي سلاسل تانية بس!

قهقهت نادين لسبب عجزت ليلى عن فهمه ثم أخرجت الفستان وقالت بهدوء: بصي هنسيب الفستان على جنب دلوقتى، والبرفيوم كمان معاه و السلسلة وكده يتبقي حاجة كمان المجموعة دي!
ورفقت قولها بإخراج بعض القلادات كما ظنت ليلى، بعضا منها كان مذهبا و البعض الاخر فضي، سألتها بعبث وهي تضعهم فوق راحة يدها: تعرفي إيه دول؟
عقدت كلا حاجبيها متعجبة تصرفات ابنتها ثم أجابت بهدوء: سلاسل!
هزَّت رأسها بنفي وهمست بخبث: دي خلاخيل..

حركت أهدابها وهي تهز رأسها بجهل ولفظت بشك وهي ترفع حاجبها: خلاخيل؟ إزاي دي كبيرة؟
قهقهت نادين وقالت باستسلام لأنها لن تتوصل إلى الإجابة وإن ظلت تسألها حتى الصباح: يا مامي يا حبيبتي ده إسمه خلخال بطن، يعني وأنتِ بتهزي وسطك الجميل ده تلبسيه و اوعي بقي.
اتسعت عيناها بعدم تصديق و اخذتهم من يدها تفحصهم بنظرات ثاقبة ووجنتيها تتورد تلقائيًا وهي تفكر أمام نظرات نادين العابثة.

هتفت بحدّة لم تنجح بها بل غلب عليها الخجل: قليل الأدب هو فاكرني هرقصله ولا إيه؟ ازاي يجبلى هدية زي دي؟!
ضحكت نادين وهي تضع يدها أسفل ذقنها باستمتاع قائلة وهي تفحصها بنظراتها بثقب: قليل الادب ده هيبقي جوزك بكره وهو نفسه اللي أنتِ لابسة قميصة ومرتاحة فيه شوفتي بقي! وخدي الكبيرة رقصتي معاه وسط الرجالة مرة تخيلي!

غمرت ليلي وجهها بين راحتي يديها بخجلٍ قاتل هامسة بصوت مكتوم نادم: أنا مش عارفة عملت كده إزاي متفكرنيش.
قهقهت نادين وأبعدت يديها عن وجه والدتها برفق ورفعت رأسها وهمست بابتسامة ناعمة وهي تتأمل وجهها المتغضن بسبب ذكرياتها هُناك في منزله: رقصتي عشان عمّار، أنا متأكده إنه كان عجبك من ساعة ما شُفتيه بس مكنش فيه فرصة، بس دلوقتي مفيش داعي لأي خوف ولا قلق ولا تأجيل أنتِ معاكِ عمّار الأمان كُله.

انسلت عبراتها بتأثر وقلبها يخفق بعشقه لتستطرد نادين بحب: أنا كُنت بحب عمّار ودلوقتي بحبهُ أكتر عارفة ليه؟
همست بشفتين ترتعشان و عِبراتها تنساب: ليه؟
مدت أناملها أسفل ذقنها وأردفت برقة: عشان بسببه بقيت أشوف القمر مبسوط وبيضحك دايما.
جذبتها لأحضانها بقوة هامسة من بين بكائها مقبلتا إياها بحنان: روحي أنتِ والله.
لفت يديها حول خصرها و استطردت ممازحة: وعلي فكره عمار يستاهل ترقصيله.

ضحكت بنعومة ومسدت ظهرها وهي تدعو بداخلها أن تكتمل تلك الفرحة.

اليوم التالي في منتصف النهار..
إرتدي سترته السوداء ذات الملمس الناعم ناظرا إلي نفسه في المرآة بعدم رضي، وقف بجانبه ينظر إلى نفسه بتدقيق ثم وقف بظهره متحيرًا أيخلعها مثل شقيقاتها أم يبقَ بها؟
هتف قُصيّ بملل وهو يقلب في هاتفه: على فكره بقي انا زهقت خلص!

زفر عمّار بعصبية ومشط شعره للمرة العاشرة وشذب ذقنه التي قصرها قليلا للمرة العشرون ثم نظر إلى حذائه اللامع ليسخر قُصيّ: يلا لمعها تاني يلا تاني مجتش عليها يعني.
زفر وجلس على الكرسي وهتف بإحباط وهو يهز قدميه بتوتر: أنا حاسس إن شكلي وِحش!

قهقهة قُصيّ وترك محل جلوسه و إقترب منهُ بابتسامة سعيدة فرحة، وقف أمامه ونظف غبار وهمي من فوق كتفه وأردف بثقة: إنت كده تمام مش محتاج حاجة، عيب أوي تقول شكلي وِحش وِحش إيه بس ده أنت وشك نور!
عانقه عمّار بقوة ممتنا لوجوده في حياته هو وآدم، آدم! أين هو؟
أبتعد وسأله بحيرة: فين آدم؟
قال بهدوء وهو يلتقط زجاجة العطر: في المشتسفى مع تالين من إمبارح لأنها تعبانه بس متقلقش هييجي على المعاد.

أومأ بتفهم وأخذ شهيقًا طويلا ثم سأله الذهاب وقلبه لايهدأ بتاتا: يلا!
أومأ ونثر بعضًا من العطر عليه ثم بدأ يضع لـ عمّار فابتعد رافضًا بانزعاج: لأ، لأ مش عايز..
هز رأسه بتعجب واستفهم عبر قوله: وده من امتى؟ ده أنت بتغرق نفسك؟
نفي مجددا وهو يخرج هاتفه كي يهاتف نادين ويطمئن أن والديهما لم يصلا بعد أو قبله على الأقل: لأ مش عايز النهاردة يلا.
في منزل ليلى الآن..

كانت تجلس فوق الكرسي أمام المرآة ولمار تميل عليها تضع مساحيق التجميل بتركيز وهي تدندن بكلمات أحدي الأغنيات بتسلية.
توقفت يدها عن الحركة عِندما انسلت عبرة شاردة من عينا ليلي، انتصبت واقفة وسألتها بتعجب: بتعيطي ليه في يوم زي ده؟ النهاردة كتب كتابك؟!
غمرت وجهها بين راحتي يديها وهمست بألم: عمّار..
سألت مشدودة: ماله عمّار؟

هزت رأسها وهمست بعذاب: زعلان مني ومش هيسامحني أبدًا، وقصت عليها جميع ما حدث أمس بنحيب.
تنهدت لمار وجففت عبراتها بنفسها وعادت للإنحناء فوقها وبدأت تثرثر بغيظٍ منها ومن تصرفاتها: هو لو فضل زعلان حقه الصراحة، بس عمّار بيحبك وأنتِ عارفة ومش هيعمل حاجة ده هيتهبل لما يشوفك صدقيني روقي كده بس ومتفكريش، تحبي أقولك نكته؟
أومأت بلهفة كي تخرج نفسها من هذا الحزن الذي تلبسها فجأة..

تنحنحت لمار وهتف بابتسامة وهي على وشك الضحك: مرة واحدة نفسها تفتح بيوتي سنتر مبتعرفش ترسم الأيلاينر، ورفقت قولها بضحكات مجلجلة سعيدة كأنها مضحكة بينما ليلى كانت تنظر إليها بدون تعبير.
توقفت لمار عن الضحك عِندما سمعت نفسها فقط ولاحظت سكون الغرفة عدي من ضحكاتها فأردت سائلة بلهاث: نكته سخيفة مش كده؟
أومأت ليلى بازدراء وأكدت كي لا تترك مجال للشك: جدا جدا جدا.

قهقهت لمار ووافقتها الرأي وهي تضع اللمسات الأخيرة فوق وجهها: عارفة والله أنا كُنت بتأكد بس، بس هي ساعات بتضحكنى مقدرش أنكر!
رفعت جسدها وهتفت بفخر وهي تحثها على رفع رأسها: خلاص خلصنا، حاجة خفيفة مش تقيلة أوڤر زي ما طلبتي ومن غير روچ ودلوقتي بقي هتعملي شعرك؟
هزَّت رأسها رافضة وقالت بابتسامة خلابة وخفقاتها تتعالي: لأ هخليه عمّار بيحبه كده.

نظرت إليها عبر المرآة بعبث وهي تحوط كتفيها ثم أردفت سائلة بمكر: هو اللي قالك؟
هزت رأسها بخفة وهتفت و عينيها تومض ببريق مميز لا يظهر سوي في الحديث عنهُ: لأ عينه هي اللي قالت لي، ساعات بحس إنه بيبص على شعري أكتر مني، مش عارفة بس نظراته بحسها بتعززني، بحس إني أجمل ست في الدنيا كلها لما بيبصلي، دايما بشوف إني غالية في عنيه، إني أكون حلم بالنسبة لحد ده مش حاجة قليلة بالنسبالي.

أدمعت عينا لمار ومسدت كتفيها برفق وهتفت بابتسامة: ربنا يسعدك ويتمملك بخير يارب، أنا هسيبك تكملي لبس وهكون مع نادين تحت متتأخريش..
أومأت بابتسامة ووقفت كي ترتدي فستان.
توقف عمّار بالسيارة أمام المنزل وضربات صدره تتزايد أكثر و وتيرة أنفاسه تعلو حتى لاحظه قُصيّ فسخر منه: ايه يا عمّار دي مش الدخلة متتوترش كده مالك؟
رد بسخط: بس يا قذر أنت.

رفع كلا حاجبيه ولاحت ابتسامة ساخرة على شفتيه أثناء قوله بسخط: على أساس إن الشيخ عمّار هيتجوز عشان يحطها في النيش ويتفرج عليها طول العُمر من بعيد صح؟
حرك شفتيه كي يرد لكنه أوقفه بسخرية مضاعفة: بس بس متردش هنشوف بعد الكتاب هتعمل ايه!
لوي شدقيه ونظر تجاه حديقة المنزل قليلا كي يبدد هذا التوتر ليخرجه من شرودة قول قُصيّ: إفتح تليفونك كدة وشوف المكان اللي بعتهولك عشان تعمل فيه سيشن.

فتحه عمّار باهتمام ليصيح في وجهه بلا هوادة: إنت مجنون؟ إيه اللى هيودينا هناك دلوقتي؟
قلب قُصيّ عينيه وقال بازدراء: المكان تحفة وهتعملوا شغل حلو اوي والله، إكتب الكتاب بس وأمشي على طول هتلاقي مصور مستنيكم هناك، هو أنت بتتجوز كل يوم؟، أهم حاجة السيشن يا عمّار بالله عليك فرحني.
أردف بامتعاض: زمانه تلج حرام عليك! أنت أفكارك دي؟!
همس بابتسامة بلهاء: حلوة وجميلة وجديدة وهتروح! ايه ده وصلوا وصلوا.

ترجلا من السيارة بهدوء وتقدما من البوابة يراقبان السيارات التي صفت أمام المنزل.
همس قُصيّ بإحباط عندما أبصر كم الرجال والأسلحة التي يحملونها: أنا من ساعة ما عرفتك وأنا نفسي أشوف دم بس للأسف كل مرة تقولي حليناها ودّي وتراضينا وطلعتوا مش قد كده بردو!
وكزه في ذراعه كي يصمت ويحتفظ بآرائه لنفسه ومال يقبل يد والده مرحبا به بقوة واكتفي بإلقاء نظرة عابرة على خليل الذي كان يبتسم في وجهه وهذا أغرب ما يكون.

أخذ عمّار والده وتقدم إلى الداخل مع الشيخ بعد أن رحب به قُصيّ ثم عانق خليل بحفاوة هاتفًا بسرور: نورت القاهرة يا عمي والله.
نظر إليه خليل بطرف عيناه وأردف بخشونه: ومين أنت عاد؟
هتف بابتسامة وهو يسير معهُ إلى الداخل: أنا صاحب عمّار مش فاكرني يا عمي؟
قال بجمود: لاع مش فاكر ومش عايز أفتكر.
غمغم قُصيّ بسخط خافت أسمع نفسه فقط ودلف خلفه، وبقي رجال خليل في الخارج مع رجال متولي ينتظرون.

أخذ كُل شخصًا مكانه فوق الأريكة، خليل يجلس في الجانب ومتولي في الجانب الأخر وبينهما الشيخ..
كان عمّار يقف كمن يحمل ذنبا مرتبكا أيما إرتباك ومعدته تتقلص بتوتر، ولمار كانت في المطبخ تحضر مشروبا مع نادين، تركتها نادين عندما جاءوا واندست بين قُصيّ وعمار وهمست بخفوت: أخلي مامي تنزل ولا لسه شويه؟
أجابها عمّار بهدوء: استني شويه، وروحي سلمي على جدك وبوسيه.

نظرت إليه بتعجب ثم حولت نظرها عنه ونظرت إلى جدها ذات الملامح القاسية الجامدة بتردد.
أردفت بتذبذب وهي تتعلق في مرفقة بخوف: هيضربنى بالعصاية لو روحت صح؟
كاد يضحك عليها لكنه نفى وشجعها: مش هيعمل حاجة متخافيش يمكن تحنني قلبه شويه روحي..

أومأت بتفهم وتقدمت من خليل بتباطؤ راسمة ابتسامة رقيقة على شفتيها، رفعت قبضته من فوق عصاه غفلة فاجأته وقبلتها بنعومة ورفعت نظرها إليه هامسة أمام نظراته المتعجبة: إزيك يا جدو انا نادين حفيدتك نورتنا.
نظر إليها ببرود تلاشى عِندما ضحكت وجلست فوق يد الاريكة واعتقلت رقبته معانقةً إياه بقوة: جدو حبيبي وحشتني.
قهقهة عمّار وهو يراقبها ثم أردف سائلا بنبرة نافذة: مش يلا يا بوي ولِّيه؟، فين آدم يا قُصيّ؟

كاد يرد لكن رنين هاتفه أوقفه، ابتسم عندما رأى هوية المتصل وسارع بالرد: اهو آدم اهو، الو، ايه؟ طيب، طيب..
أغلق الهاتف وهو يضحك وتحرك للخارج سريعًا بينما يقول: آدم واقف بره هخرج أجيبه..
هتف خليل بحنق وهو يحاول إبعادها: واه بعدي بعدي خلينا نخلصو من الهم ديه..
قبلت جبهته وهمست وهي تشدد قبضتها حول رقبته: هم ايه بس يا جدو هم ايه ده انا بحبك جوي.
صاح بعصبية وهو يضرب بعصاه أرضا: طيب متشكرين بعدي بجي!

إبتعدت ضاحكة ثم قبلته مجددًا زادت حنقه وركضت إلى الأعلى كي تأتي بـ ليلى عندما أشار إليها عمّار.
تذمر بحنق وهو يدخل معهُ: إيه كُل ده داخلين حرب أنا اتخضيت وكُنت هرجع!
قهقهة قُصيّ وربت على كتفه سائلا بقلق وهو يشمله بنظراته: أنت منمتش من امبارح صح؟
أومأ وهو يفرك عينيه بإرهاق وقبل أن يتفوه بحرف اتسعت ابتسامة وأسرع بخطواته أكثر إلى عمّار بينما قُصيّ استوقفته ضجة صادرة من المطبخ فذهب إلى هُناك.

هتف بتفاجئ عِندما أبصرها تحدق في الأكواب بتركيز وهي تعض على شفتيها تري تساوي العصير إن كانت ملأت كوب أكثر من الآخر أم لا: إنشراح إنتِ هنا!
قهقهت ورفعت نظرها إليه مرحبة به: أبو نُكت سخيفة موجود معقول؟
أردف وهو يلتقط كوب كي يرتشفه: لأ عندها كنت كتاب مش وقته، حلو الشربات بس ناقصه حاجة!.
سألت باهتمام بعد أن تذوقته: ايه؟
قال بعبثٍ وهو يراقص كلا حاجبيه: ناقصها مهلبية..

غادر بعد قوله هذا لتطرف بعدم فهم ثم نظرت إلى شربات وتمتمت بتعجب: الشربات مش بيتحط عليه مهلبية!
إرتدت حذائها ثم وقفت تطالع هيئتها في المرآة بإبتسامة زاهية وأعين تومض بسعادة وإعجاب بدءا من شعرها المجعد تأملا لملامحها التي أبرزها تبرجها الرقيق، إن الفستان يكاد ينطق على جسدها من جماله وروعته، كأنه صُنع خصيصاً إليها، أحذر مقاسها دون خطأ وهذا طبيعي لأنه حملق كثيرًا.

أخذت شهيقًا طويلاً تهدأ نفسها من حدة توترها المُفرط. فكان فستانها طويل ضيق مصنوع من القطيفة، رقيق لونه أسود بأكمام نسيجها شفاف بـ ذيلٍ قصير من الخلف، خللت أناملها شعرها من الجانب وهي تطلق أنفاسها دفعة واحده.
نظرت إلى الباب بترقب منتظرة إتيانه إليها لكنها تعرف أنه لن يأتي.
شهقت بخضة عِندما صفعت نادين الباب بقوة أفزعتها بينما تصيح بحماس: لسه مخلصتيـ، يا قمررر!

ضحكت ليلى بنعومة وسألتها بتوتر وقلبها ينتفض داخلها: حلوه؟
صرخت بحماس قائلة بذهول: حلوه بس؟ ده أنتِ قمر قمر قمر، هاتي أيدك بقي يلا بسرعة مفيش وقت بدأوا كتب الكتاب!

كانا يضعان أيديهم بأيدِ بعضهما البعض يرددان خلف الشيخ بهدوء والجميع صامت يشاهدون في سكون عدي لمار التي تتحرك بالهاتف وتارة تصب تركيزها عليهم وتارة أخرى على تعابير عمّار وإنفعاله البيّن وتنفسه المرتفع صابا كل تركيزة عليهما مشدودا يعد الدقائق التي تمر منتظرًا إنتهاء هذا.

مسد جبينه بانفعال وصدره يتضخم مطلقا أنفاسه الحارة على دفعات وعينيه تجيل في أنحاء المنزل، توقف عن التنفس لوهلة وتسارعت دقات قلبه وتفجر الأدرينالين في جسدة مبصرًا إياها وهي تنزل الدرج، توقف الزمن حوله وخفقاته تزداد عُنفا كأنها تنزل على أوتار قلبه وليس السُلم.
ـ بارك الله لهما وبارك عليهما وجمع بينهما في خير.

لم يسمع ولم ينتبه لهذا بل كان يسير معها خطوة بخطوة متأملا هيئتها الرقيقة ونزولها بتبختر منتظرا إقترابها على أحر من الجمر، وكزه قُصيّ بمرفقه كي يستيقظ هاتفًا وهو يمد يديه بالأوراق: يا عاشق يا سارح في الملكوت مبروك إمضي.

نظر إلي الأوراق بتفاجئ ثم استدار ونظر إلى والده الذي يراقبه بثقب ليتدارك نفسه محمحما ثم أخذ القلم من قُصيّ و وقع على قسيمة الزواج بعدم تصديق وعيناه تمر على إسمه وإسم ليلى الحقيقي في الأعلي دون استيعاب إلى الآن، لم ينتبه من تشوشه أين يخط قلمه ليدعس قُصيّ قدمه هاتفًا بسخط: صباعي اللي بتكتب عليه ده صباعي ركز مش هتطير.
ضحك بإشراق وقلب الورقة يتابع توقيعه هامسا بخفوت: أنا هيغُم عليا من الفرحة.

قهقهة قُصيّ وهو يراقبه بابتسامة جذابة ظهرت إلى لمار عبر شاشة هاتفها أثناء التصوير، ابتسمت وتأملتها قليلا ثم حولت الهاتف عنهُ وتابعت تسجيل ما يحدث لترصد ابتسامة آدم الخافتة وهالة البؤس تحوطة كالعادة.
توقفت ليلى أمام عمّار المحني فوق الأوراق يوقعها تتأمله بإبتسامة ناعمة مطلقة أنفاسها المرتعشة ببطء والفرحة تغمر قلبها ويديها بدأت في الارتجاف، ونادين توقفت بجانب قُصيّ تراقبهم بابتسامة بلهاء.

انتصب ورفع رأسهُ ظافرا بالنصر هاتفًا بذهول: خلصت!
قهقهة قُصيّ وقرب الأوراق من ليلى وأردف بابتسامة: هي لسه مبروك يا ندي مقدما إتفضلي..
ابتسمت في وجهه بعذوبة وأخذت القلم من يده بأنامل مُرتجفة وبدأت توقع بأعصاب تالفه واضطراب ودموع سعادتها تكدست داخل مقلتيها بينما عمّار كان يقترب منها خطوة بخطوة بمشاعر مبعثرة وعينيه معلقة على يدها بترقب.

انسلت عبراتها مع نهاية توقيعها وترك القلم من يدها، ولم تكاد تلتفت حتى وجدت نفسها محتجزة بين أحضانه.
انسحب قُصيّ وابتعد إلى الخلف صائحا بـ لمار التي تراقبهم بابتسامة متأثرة: زغرتي يا إنشراح زغرتي..
قهقهت لمار بنعومة ثم أطلقت زغرودة صدحت في أرجاء المنزل لتجهش ليلى في البكاء على صدره من السعادة وهي تلف يدها حول خصره بقوة.

شدد قبضته الفولاذية حولها بدفء واحتواء دافنا رأسهُ في حنايا رقبتها يملأ رئتيه برائحتها بانتشاء، فهي كوعدٍ رقيق تجعل عيناه تدمعان، لا يحتاج عطرا فجاً كي يغطي على رائحتها هو لا يحتاجه أبدًا بدءا من اليوم، عقله لم يستوعب بعد أنها زوجته وأصبحت ملكه.

فصل العناق دون أن يبتعد، رفع وجهها الباكِ وجفف عبراتها بإبهامه بنعومة وعيناها تأسرانه للمرة الألف، لثم جبهتها مطولا فأغمضت عينيها باستمتاع ويديه تسير على ظهرها صعودا ونزولا برقة لا تليق سوى بها هامسًا بنبرة مفعمة بالحب وأنفه تلامس أنفها وأنفاسه الحارة تضرب وجهها: بحبك.

افترت شفتيها عن ابتسامة ناعمة وفتحت عينيها، ورفعت يدها إلى وجنته تداعبها بنعومة هامسة بهيام: وأنا بحبك أكتر يا عمّار، ورفقت قولها بضمه بقوة، تربت على شعرة بابتسامة عاشقة تلاشت عِندما سقط نظرها على والدها المبتسم بخبث.
اختض قلبها وارتعدت دواخلها وحولت نظراتها عنهُ بخوف ودست رأسها في كتف عمّار كي لا تراه، فلن يعكر صفوها اليوم ليس اليوم.

هتف قُصيّ بابتسامة متعجبة وهو ينهي توقيعه ثم أزاح الأوراق لآدم: هو أنا ليه حاسس إني أنا اللي اتجوزت!
قهقهة آدم بخفوت وأردف بتعجب مماثل وهو يوقع: أنا حاسس بـ كده بردو عشان كُلنا واحد.
رد قُصيّ وهو يضع راحة يده فوق قلبه: طب أنا قلبي بيدق أنت قلبك بيدق؟
قهقهة آدم وأعطاه الأوراق وحثه على الذهاب: مش هنختلف كتير بيدق لأنك عايش مش أكتر بطل دراما، وروح فوق عمّار بقى عشان الضِباع اللي قاعدة دي.

أومأ وناول الأوراق للشيخ ثم اتجه إلى عمّار ليشاكس نادين في طريقة قارصا وجنتها بخفة: ليكِ عندي عريس على فكره بس لما أفضالك.
ظفر بالنصر ولا يعرف للمرة الكم قد فعل هذا، مسح على شعرها بحنان وطبع قُبله خاطفة على أذنها وهو يرفع رأسها إليه، كاد يتحدث لكن استوقفه ضربات فوق كتفه مع قوله الخافت: أنت مش لوحدك يا حبيبي كفاية كفاية معانا أندر إيدج هنا.
وأشر على نادين في نهاية قوله لترمقه بغيظ ثم ضربت كتفه بسخط.

أحتضن عمّار راحة يدها وأخذها وتقدم من والده، فوقف وأردف مهنئا وهو يستعد للذهاب: مبروك يا ولدي.
مال عمّار وقبل يده ورد بابتسامة سعيدة: الله يبارك فيك يا بوي.
هزّ رأسهُ بإبتسامة ثم حوّل نظره عنهُ ونظر إليها بتعالٍ وقال بدون تعبير: مبروك
ازدردت ريقها بارتباك ومدت يدها كي تصافحة تزامنا مع قولها بتهذيب: الله يبارك فيك.

دفعها عمّار برفق إلى والدها قبل أن تصل يدها إلى والده كي لا تصافحه، فهو لن ينسى بتاتا أنه نظر إليها ورغب في الزواج بها يوما، إضافة لكونه لم يكن ليمد يده إليها وكان سيحرجها يعرفه جيّدًا.

توقفت على بعد خطواتٍ منهُ متوجسة وهي تفرك أناملها بإرتباك وقلق فسحبها من خصرها فجأة لتشهق بذعر وتتقلص ملامحها بألم عِندما عانقها بقوة مهسهسًا بجانب أذنها متوعدًا إليها بالشر جعلها تختنق: بكره لما تلاجي نفسك ضايعة وحديكِ هاتجيني لحد عندي، وتخيريني بين إني أسامحك وأني أجتلك، إشبعي بإبن الصعيدي حبة من نفسك يا حبيبة أبوكِ.

شحب وجهها وأصفر ورفعت رأسها إليه بأعين دامعة بشفتين مرتعشتين وهي على حافة البكاء. ، كادت تصرخ سائلة عن سبب ما يفعله لكن يد دافئة أحاطت خصرها عوضًا عن تلك القاسية وقربها منهُ برفق سائلا بقلق: أنتِ كويسة؟
أومأت وهي تستنشق ما بأنفها و أراحت رأسها على صدره بضعف ليردف بدون مقدمات: هنعمل الفرح بعد يومين يا بوي.

رفعت ليلى رأسها تنظر إليه بأعين متسعه متفاجئة بهذا القرار! إنه مبكر! لم يسعفها لسانها الملجوم في الرد وهذا أفاده كثيرًا لتطلق لمار زغرودة أخرى في أنحاء المنزل بفرحة، أثناء خروج خليل من المنزل بغضب كان جلي لم يخفيه حتى عنهم بل كان واضحًا يتجلى فوق وجهه.
هم والده بالمغادرة هو الأخر بعد أن عرف معاد الزفاف قائلا قبل أن يذهب: ماشي يا ولدي مستنظرينك..

أومأ عمّار وراقب ذهابه بظفر ليستفيق على معانقة آدم إليه ومباركته ثم استئذانه في نفس الوقت: عمّار ياحبيبي مبروك ربنا يوفقك وتكمل على خير، أنا لازم أمشي بقي عشان تالين إنت عارف ها؟ هبقي أتصل بيك.
بادله عناقه بابتسامة حانية وقال بلطف: تبقي طمني عليك و ارتاح شويه.
أومأ إليه بابتسامة وصفع قُصيّ بخفة في طريقة للخروج متمتما بمزاح: أنت مش عريس مش هحضنك سلام.

قهقهة قُصيّ ولوح إليه مودعا، فتهد عمّار ثم طلب من لمار ببعض التردد وهو يقرص وجنه نادين بخفة: لمار ممكن تفضلي مع نادين كام ساعة كمان لحد ما نرجع؟
أومأت بابتسامة مُرحبة بالفكرة، ليشدد قبضته فوق يد ليلى ثم نظر إليها وسألها بابتسامة: نمشي؟
أومأت بتيه وهي تنظر إلى عينيه دون أن تعرف إلى أين وسارت معهُ طواعية وخرج قُصيّ خلفهما كي يذهب لكن استوقفه قول نادين المتوسل: خليك معانا نتسلى شويه.

نظر إليها وهو يفكر بعمق لتهرول لمار إلى حقيبتها الموضوعة فوق طاولة الطعام في الزاوية صائحة بحماس: أنا كُنت عاملة حساب حاجة زي دي عشان كده جبت معايا كوتشينة يلا نلعب الشايب.
رفع قُصيّ كلا حاجبيه وأعاد بمكر: الشايب!
أومأت مؤكدة ليسأل وهو يكتف يديه أمام صدره: هتنفذوا الأحكام؟
قالتا معًا في وقتٍ واحد: هنفذ
تألقت ابتسامته العابثة فوق شفتيه وخلع سترته وقذفها قائلا بحماس: يلا..
بعد ساعة...

هتفت بذهول وهي تنظر من النافذة تراقب تكدس الغيوم في السماء والهواء البارد يلفح وجهها منبهرة بالمكان: سانت كاترين!
صفّ عمّار السيارة بابتسامة وترجل ليلفح الهواء البارد جسده!، كيف لم يفكر في هذا الغبي سيتجمدان هُنا قبل أن يخطو خطوتين، نظر حوله بحسرة مراقبًا الصف الذي يسير بتنظيم كي يصعدون الجبل بينما هو لن يستطيع التحرك إنشًا.

ضرب جبهته بغضب وفتح إليها باب السيارة محبطًا، فترجلت بابتسامة متحمسة لتدب القشعريرة في أوصالها من البرودة ارجفتها.
لاحظ اهتزازها و جفنيها المسبلين من قوة الرياح فخلع سترته الثقيلة ووضعها حول كتفيها وبقي فقط بقميصه فوق جسده وأغلق السيارة وتقدم معها وصدره يهتز من شدة البرد لترفع طرف الفستان قليلا بيدها من الثلج ويتلفت هو حوله باحثا عن ذلك المصور وأسنانه تتطاحنان ببعضهم البعض.

فكانت السماء أشبه باللون الرمادي الفاتح والجو مُختنق لكن الهواء كان شديدا رائعا بطريقة تمني لو يتوقف قبل أن يتجمد، الثلج كان يغطي المكان حوله، الجبال، والمنازل ومقعد خشبي رآه صدفة وكان من حسن حظة وجوده، زمجرة الرياح كانت تدفع بهما للخلف، كان الجميع يرتدي ثقيل يحشون أنفسهم داخل الملابس وهم يسيرون خلافهما، فحرارة جسديهما كانت مرتفعة بسبب تدفق الأدرينالين لكن البرودة كانت تزحف إليهما على مهل.

فالمكان رائع أروع مايكون وهو لم يسبق لهُ الإتيان، وكانت فكرة جيدة لكنهُ ليس الوقت المناسب لأنهُ غبي ونسي أن يأتي بمعطف وسيظل يدعو على قُصيّ حتى عودتهم هذا إن لم يعودا متجمدين.
همست بصوتٍ مُرتجف وأنفاسها المتجمدة تتصاعد من بين شفتيها تسير بصعوبة أثناء سؤالها وتحديقها في الثلج بإبتسامة بينما الآخرين كانا يحملقون بهما بتعجب: ليه مقولتش كُنا عملنا حسابنا؟ أنا جزمتي بتغرز في التلج!

كان لوقع أقدامهما صوت فوق الثلج وقدم ليلي كانت تغرق داخله، لعن نفسه ومسد كتفها من فوق سترته محاولاً تدفئتها بشتى الطُرق وهو يرفعها بقبضته ينقذها من الانزلاق ناظرًا إلى قدميها بتأنيب وشعرها يتطاير ضاربًا وجهه بقوة.

تجمدت أطرافها و ألمتها قدميها من تصلب حذائها وغرقه داخل الثلج كل ثانية والأخرى، فكادت تسقط لتمتد يديه أسفل فخذيها والأخرى حول ظهرها ورفعها بين يديه، شهقت بخجل وتوردت وجنتيها فوق توردها بسبب البرودة هامسة بحياء وهي تخفض رأسها تخبئها في حنايا رقبته: عمّار الناس بتتفرج علينا؟
أردف بإبتسامة عابثة وهو يسير بها: بيبصوا عشان مش لابسين تقيل بس.

أحاطت عنقه بيديها ليتنفض بتفاجئ بسبب برودتها المجفلة، فأبعدتها سريعا وضحكت بصوتٍ رنان أطرب مسامعه وذبذبه و ما ضاعف سعادته وهو يتأملها كان همسها الرقيق وهي تنظر داخل خضراوية: الجو برد بس أنا مبسوطة.

طبع قبلة بريئة فوق وجنتها بسبب هذا القرب المدمر لتعاود إحاطة رقبته بخجل واضطراب وصدرها يفضحها بثورانه المبالغ ووجنتيها بتوردهما كـ ثمرة فراولة طازجة، فهي تخوض معهُ تجربة مختلفة لم تجربها يوما وشعورًا لذيذًا يجتاحها، شعورًا كان مدفونا داخلها جاهلةً بوجوده يخرجه هو بسهولة.

لفت نظره أحد الرجال يرتدي الأسود مثلهما يقف وسط هذا البياض كـ نقطة سوداء في الصفحة، يقف بمعطف ثقيل وقبعة صوفية يقلب في آلة التصوير الخاصة به وهو يتحرك في مكانه للأمام والخلف كأنه يسمع واجبه المدرسي وأسنانه تتطاحن معا بقوة، مرتجفا ينكمش على نفسه وكتفيه متهدلين.

أنزلها برفق وأوقفها بجانبه ومال ينظف ذلك المقعد من الثلج حتى احمرت يديه بشدة من تمجد الدماء وتيبسها داخل عروقه، أجلسها فوق المقعد وهرول إليه بسرعة لعله يبذل مجهودا ويدفئ جسده، فهو يحتاج لرؤية خليل كي ينفعل قبل أن يتثلج.
سأله وهو يفرك يديه معا بقوة: إنت المصور تبع قُصيّ!
اتسعت عينيه وأومأ بسرعة كأنه وجد منقذة وهتف باستغاثة: إنت العريس؟

أومأ عمّار وحرك شفتيه المتجمدتين كي يتحدث لكن قاطعة برجاء: أرجوك نخلص بسرعة لأني هتلج ومش لابس تقيل كفاية!
نظر عمّار إلي معطفه الثقيل بتعجب ولم يعقب على قوله ليتابع سائلا: تحب تطلع الجبل وتتصور في الأماكن السياحية ولا ايه؟

نفي باقتضاب راغبا في تهشيم وجهه بسبب الغباء ألا يرى حالته: لأ، لأ، جبل ايه مش هنقدر خالص، مرة تانية، بُص إنت مش مطلوب منك حاجة غير إنك تلقط صور وبس تلقائي كده احنا مش هنعمل حاجة ولا هنتأخر خالص.
أومأ بتفهم ووقف يستعد وهو يسعل وأنفاسه المتجمدة تتصاعد من بين شفتيه، عاد عمّار أمامها فكانت تجلس تراقب الآخرين أعلي الجبل بابتسامة سعيدة لطيفة وعيناها تلمع ببراءة الأطفال.

أخرج دبلتين من جيب بنطاله ثم جثي على ركبتيه متجاهلا تلك البرودة كي يحصل على الدفء الذي يُريد.
بسط كفه المتجمد أمامها وأردف سائلا بأعين براقة: موافقة تبقي مراتي بعد يومين؟
تراقص قلبها فرحًا ونظرت بينه وبين كفه بابتسامة طالت لوقتٍ لا يعرف قدره فرفع يده الأخرى وفرق بين حاجبيه المقطوبان بتصلب وهمس بتشنج: أنا ركبتي هتلج والله!

ضحكت بنعومة ومدت يديها إلى كتفه وأوقفته وأجلسته بجانبها ثم سألت بعدم فهم: ليه مستعجل يا عمّار؟
أجابها بصدق بنبرة ولِه وعينيه تذوبان عشقا بها: عشان أنا بدأت أحسب عمري من ساعة ما دخلتي حياتي.
لقد أحرز نقطة لصالحه.
تبسمت بنعومة وعضت على شفتيها السفلية كابحة إبتسامتها المتسعة وهي تبعد خصلة متجمدة نسبيًا خلف أذنها ظنًا أنها تزعجها لكنهُ لم يكن شعرها، بل الثلج كان يتساقط فوقهما كـ بتلات الزهور البيضاء.

تداركت تلك البعثرة التي أحدثها داخلها وسألت سؤالا آخر وهي تضم يدها إلى قلبها: كتبتوا مهري إيه يا عمّار؟
أجابها بشاعرية: عمري كلهُ.
أمسكت كفه بقوة وأردفت بدلال وهي تطرف: موافقة والله موافقة..
ضحك بدلال وضم كفه فوق الدبلتين وجذبها لأحضانه بشغف وافتقاد شديد ممرغا أنفه في شعرها هامسًا بنبرة متهدجة حارة ونيران الشوق تلهبه دافعا بها أكثر لجسده
: أنا عرفت دلوقتي إحنا متلجانش ليه.

ضحكت مطلقة صراح أنفاسها الدافئة المرتجفة التي داعبت أذنه ليشدد قبضته حولها أكثر هامسًا براحة وشغف: أنتِ متعرفيش الحضن ده بيريحني وبيطمني قد إيه؟، ربنا يديمك في حياتي.
مسحت على شعره بحنان تستمع إليه باهتمام شديد وابتسامة ناعمة تعتلي ثغرها وهي ترفع بصرها للسماء والثلج يتساقط فوقهما، إنه يوم لن يُنسي، توقف وفصل العناق وأمسك كفها برقة وقام بإدخال الدبلة في بنصرها بتمهل ومال يقبله بشغف.

رفعت يدها أمامها تتأملها بسعادة لتتسع عينيها وتشهق واضعة يدها فوق فمها بعدم تصديق عِندما رأتها، أنزلت يدها وظلت تحملق بها وتحركها داخل إصبعها مكررة فعلها هذا أمام نظراته الحانية.
نظرت إليه بحب عجزت عن وصفه وهتفت بنبرة مرتعشة وهي تستذكر: الدبلة دي الـ.

قاطعها وتابع بدلا عنها وهو يداعب وجنتها المتوردة بأطرافة برقة: اللي عجبتك وإختارتيها لـ نادين على ذوقك ومخدتهاش عشان معحبتنيش!، أنا اشتريتها في نفس اليوم.

أدمعت عينيها بتأثر وحدقت فيها بسعادة لا توصف، لأنها لم تنسي شعورها بالإنسكار والحرمان ذلك اليوم عِندما رأتها قط. ، فإن سألها أحدًا في هذا الوقت أن تبدأ من جديد وتحب لضحكت بصخب وسخرت منهُ، لكنها الآن لا تفعل سوى البدء من جديد والحُب، أروع شيء في الحياة قد تخوضه إمرأة كي تشعر بكونها أنثي، إنها تذوب عشقًا به، ويتوقف هذا على طبيعة الرجل الذي تملكه، لا تعرف هل جميع الرجال رائعون كـ عمّار أم لا، لكن هو فقط يجعلها تشعر بروعتها وقيمتها من بضع كلمات ونظرات، إنه اليُسر بعد العسر.

والجائزة بعد الإمتحان، والفرج بعد الكرب.
استفاقت من شرودها على وضع دبلته الفضية بين راحة يدها التي بدأت في التيبس من شدة البرودة، ابتسمت باتساع وقامت بإدخالها في بنصره وقبلت يده بنعومة و احذرت السبب في كون دبلته فضية عكس التي كان يرتديها أثناء خطبته من نادين وهي تربت على يده: وجبت الدبلة فضة عشان معجبتنيش التنجستين صح؟
أومأ وهتف مؤكدا بإبتسامة: صـ، اتشووو، آآه.

تلاشت ابتسامتها وناظرته بقلق ومدت يدها تتحسس حرارته وهي تحثه على الذهاب: أنت بردت يا عمّار يلا نمشي، ورفقت قولها برفع السترة من فوق كتفها كي يرتديها فإختطفها سريعا بحدة وأعاد وضعها فوقها بقوة موبخًا: هتبردي أنتِ كده!
هتفت مجدداً بقلق وهي تتحسس وجنته: خلاص يلا نمشي أنت شكلك أخدت برد.
أنزل يدها برفق وقبل باطن كفها وقال بلطف: إنتِ مبسوطة ودي أهم حاجة عندي دلوقتي.
قبلت هي ظهر يده بدورها وهمست بهيام:.

أنا مبسوطة عشان أنت معايا يا عمّار، وتبسمت وتابعت بحماس وهي تنظر داخل عينيه: تبقي هاتني مرة تانية ونكون مستعدين.
أحاطها بحميمة وهمس مقترحا بجدية: ده أنا ابنيلك بيت هنا لو تحبي؟
ضحكت بنعومة و أراحت رأسها فوق صدره هامسة لنفسها بصوتٍ خافت: أي حاجة معاك تبقي جـنـة..
رفعت رأسها وأغلقت ياقة قميصه كادت تخنفه كي لا يشعر بالبرد وهي تقول بحزم: يلا يا عمّار كفاية كده.

أومأ بطاعة ثم حملها لتضحك بسعادة وهي تلف يديها حول رقبته ودار بها في مكانه كي لا تتوقف ضحكاتها وتظل تطرب سمعه بسنفونيتها، سار بها إلى سيارته، أجلسها داخل السيارة فاضجعت على الكرسي وأرخت رأسها إلى الخلف متوسدة شعرها الصقيل كالمعدن ونظرت في الخارج مراقبة هرولة عمّار إلى المصور.

حادثة لخمس دقائق وهو يتحرك مكانه مرتعشًا، تبادلا أرقام الهواتف وهما يرتجفان ثم عاد إلى السيارة مهرولا كما ذهب، أغلق النافذة التي تصب عليه الهواء ثم أسند ذراعة فوق مقعدها ومال عليها ومد يده وأغلق نافذتها لتضرب أنفاسها الدافئة وجهه، صنع تواصلا بصريا معها ومقلتيه تجيل على ملامحها بتيه وصدره يهتز بذبذباتٍ لذيذة، يطالعها بنظراتٍ آسرة دون أن يحيد عنها قط وأنفاسه تداعب بشرتها لتشد على فستانها بقبضتها متهربة من نظراته بخجل، تسارعت أنفاسها واهتزت مقلتيها بارتباك لتتوقف نظراتها على شفتيه رغما عنها، دني منها أكثر لـ يتراخا جسدها وأوصدت جفنيها بعنف وصدرها يعلو ويهبط باضطراب وهي على وشك فقدان وعيها من فرط التوتر، ابتسم بهيام وطبع قُبلة رقيقة أعلى شفتيها محاربًا نفسه كي يتماسك ويبتعد، فرقتها هذه تذهب بعقله وتجعله يتراجع لأنهُ إن أقترب سيغرق معها ولن يتركها قبل أن يتملكها.

ارتفع بجسدة وأشعل محرك السيارة وقاد والابتسامة تزين ثغرة، لتشعر بالفراغ وتلاشي الدفء الذي يحوطها فـ همَّت بفتح عينيها ببطء وهي ترفع يدها إلى قلبها الخافق وانتقلت بنظراتها إليه وظلت تتأمله بابتسامة..
حانت منهُ التفاته فابتسم وبعث إليها قبلة هوائية وحرك شفتيه للتحدث لكنه عطس بقوة وبدأت أنفه بالسيلان..

تلاشت ابتسامتها ونظرت وهي تقطب كلا حاجبيها بقلق، فزفر وهتف بامتعاض: ما أنا كنت حاجز مطعم وهنتعشي عشى رومانسي بدل الفزلكة دي يا ربي!
ضحكت بنعومة ومدت يدها ووضعتها فوق يده الباردة الممسكة بمقود السيارة تضغط عليها بنعومة وأردفت ببهجة: فزلكة لطيفة على فكره وأنا حبيتها أوي.
رفع يدها وقبلها بشغف ثم شابك أناملهما معًا وأقترح عليها وهو يضم يدها إلى قلبه وعينيه على الطريق: في مجال نروح المطعم صح؟

أومأت بإبتسامة وهي تميل برأسها هامسة بدلال: صح جدًا..
تهللت أساريره وزاد من سرعته وضغط بنزين وظل محتجزا قبضتها ونظره مستقرًا على الطريق..
إنعطف جانبا سريعًا عِندما خرجت إليه سيارة من العدم وضغط المكابح كي يهدأ من سرعته ويبطئ قليلا لكنها لم تعمل.
عقد كلا حاجبيه وترك يد ليلى مستمرًا في الضغط فوقها بتعجب وهو على حافة الضحك لكنها لم تتوقف.

ضرب المقود بقوة حتى تألمت يده وضحك بسخرية وقدميه تسحق المكابح سحقاً بعنف هاتفًا بانفعال وعروق نافرة: كنت فاكر إني فقر بس اتأكدت دلوقتى.
اعتدلت في جلستها بقلق وسألته التباطؤ وهي تحدق في الطريق من خلف الزجاج بخوف: عمّار مش بتهدي ليه؟ وبتقول كده ليه؟

مسح وجهه بقوة مستمرًا في الانعطاف يمينا ويساراً بترنح بين السيارات التي لايعرف من أين جاءت فجأة ضاغطا على أسنانه بعصبيه صائحا بشدّة: مفيش فرامل أمسكِ كويس.
امتقع وجهها واختض قلبها وتمسكت بخوف لتصرخ بفزع وتنحني عِندما اخترقت رصاصة المرآة الخارجية هشتمها..

صفّ قُصيّ سيارته أمام المنزل وترجل وهو يدندن بمزاج رائق، وضع سترته على كتفه وفتح الباب بإبتسامة تحولت إلى قهقهات عِندما استذكر ما حدث في الساعة السابقة وهو يصعد الدرج، إنه يشعر بالبهجة عِندما يحادث لمار، هي شخصية ساحرة و دافئة ورقيقة.

خرج من شروده واستفاق على وثوبه إلى غرفة غرام، ابتسم بحنان عِندما وجدها تغفي في أحضان ريمة التي تجلس نصف جلسة ورقبتها ملتوية بعدم راحة، يبدو أنها نعست وغفيت معها أثناء قصها عليها قصة قبل النوم.
دني ولثم جبهتها بحنان ووضع يده خلف ظهرها وحركها برفق وتريث وأراح رأسها فوق الوسادة معدلا نومتها كي لا تؤلمها رقبتها صباحا ثم قبل غرام وجذب الغطاء فوقهما ودثرهما جيدا وذهب إلى غرفته.

وثب إلى غرفته ليجد الظلام الدامس يعمها دون أي إضاءات! هذا غريب جـنّـة لا تنام في الظلام؟!
تنهد بقوة وجسدة يطالب بالراحة، فقذف سترته على الأريكة وأشعل إضاءة خافته ووقف يخلع قميصه أمام المرآة.
تثاءب وهو يتأمل وجهه في المرآة لتجحظ عينيه وتوقفت أنامله فوق الأزرارعِندما أبصر بركة الدماء على السرير، استدرار سريعا بقلب منقبض وهرع إليه، أشعل الضوء القوي متمنيا ألا يكون ما يراه صحيحًا.

هزّ رأسهُ بعدم استيعاب وقلبهُ يكاد يتوقف من الخوف محملقًا في الدماء القانية الكثيرة التي غطت الملاءة البيضاء بطريقة مفزعة، استدار يتلفت حوله كالمجنون باحثا عن جـنّـة ثم ركض وفتح باب المرحاض ليبصرها ساقطة أرضًا أسفل حوض الاستحمام والهاتف بجانبها والدماء تغرق منامتها والأرضية بكثرة.

جثي أمامها وأمسك كفها البارد ونظر إلى شحوبها المشابه لشحوب الأموات صارخًا بإسمها بانفعال وهو يهزها بين يديه: جـنّـة! جـنّـة! فوقي.

تااااابع ◄ 

 

أحدث أقدم

نموذج الاتصال