-->

رواية لقد كنت لعبة في يده الجزء الرابع عشر

 

 سماء مكفهرة ورياح غير مستقرة وصباحا غابت عنه أشعة
الشمس كما غابت عروسه عن فراشه قام واغتسل وداخله دوامة أفكار ومشاعر متضارية وغاضبة كالإعصار على وشك الفتك بمن يقترب منه


بل والفتك بنفسه ترجل الدرج ورأى طفليه يجلسان إلى الطاولة المستديرة قرب الشرفة مكانه المفضل حيث ركن زوجته الأثير المطعم بزهورها.

فاقترب منهم فاكتشف جلوس الجدة برفقتهم تضاحكهما وتتبادل معهم الأحاديث الخافتة وهم ينصتون لها بوجه مشرق مما دفع حاجبيه للإنعقاد فهذا التناغم بينهم كان غريبا، بل كان فريدا من نوعه . رفعت أمه أنظارها فجأة وكأنما استطاعت فك شفيراته قالت بصوت هازیء:

- صباحية مباركة يا عريس، إلا فين عروستك ؟ أشاح جاسر برأسه فهو لا يدري بالضبط مكانها ولم يهتم، فالأرق
نال منه ليلة كاملة وعندما غافله سلطان النوم استيقظ بعدها بساعات قليلة ليكتشف اختفائها، تجاهل الرد على أمه وسار
ليجلس لجوار أطفاله وهو يبتسم لهم: - صباح الخير یا سلیم، صباح الخير يا لومی
ردت سلمى بنبرتها الطفولية: - صباح النور يا بابا، هتاكل، اعملك سندوتش ؟ ! توجت الضحكة عرش فمه المزموم دوما وداعب رأس ابنته
الصغير وقبله والتفت لسليم الصامت وقال: - مش تصبح علي بابا یا سلیم زى ما هوا صبح عليك زم سليم شفتيه فصار نسخته المصغرة العابسة تماما وقال بخفوت
- صباح النور

كانت أمه تراقبه وحاجبيها مرفوعان للأعلى ولقنته درسا أمام
أطفاله: - قبل ما تطلب من ابنك يصبح عليك أولى تصبح على أمك نظر لها جاسر وحملق بها ثم رفع كفها بعد برهة وقبله وقال:
- صباح الخير يا أمي جذبت سوسن کفها دون رد ووجهت حديثها لأحفادها: - ياله خلصوا فطاركم عشان تغيروا هدومكوا، بعد كده وتروحوا
التمرين فقال جاسر معترضا:
- هما مش هيرحوا المدرسة ؟

نظرت له أمه بطرف عيناها وقالت بتقزز لجهله مواعيد دراسة
أطفاله: - النهاردة السبت، المدرسة أجازة
تنحنح جاسر والتفتت لطفلته ليحثها على تناول الطعام فيما كان سليم يتناول كوب الحليب صامتا فتابعت أمه حدیثها المتبرم
بشأنه: - طبعا أنت بتروح الشغل ولا تدري ولادك بيعملو إيه في حياتهم ترجع بس آخر الليل يا تلحقهم يا ماتلحقهرمش، بس وقتها كانت أمهم معاهم، تقدر تقولي دلوقت مين هياخد باله منهم معايا، نعمات كبرت وأنا كبرت والغندورة بنت . . . . . .
عندها قاطعها جاسر بصوت محتد: - أمي ياريت نأجل كلامنا لما نكون أنا وأنت لوحدنا، ثانيا
ماتقلقيش أنا أعرف أخد بالي كويس من ولادي دقت أمه الأرض بعصاها بعنف باعتراض واضح وقامت وهمست
بأذنه: - أنت ماتعرفش حاجة ثم رفعت صوتها حتى يسمعها الأحفاد:

- يالا يا سلیم خد أختك واطلعوا البسوا لبس التمرين، عم صالح
هيوصلكم النادي ودادة نعمات هتكون معاكم

لم تنم مجيدة ليلتها وبقيت ساهرة تفكر في أمر ابنتها الحبيبة، تراجع قرارها مرة بعد الأخرى حتى أنهكها التفكيير، أكانت محقة في تشجيع ابنتها ومنحها مباركتها على قرارها أم كان يتوجب عليها تهدئتها فقط ثم الحديث لها عن أهمية الحفاظ على أطفالها وبيتها والتنازل ریما لبعض الوقت حتى يأذن الله
بأمرا كان مفعولا ترکت فراشها وتوجهت لخارج غرفتها ودهشت عندما رأت ابنتها مرتدية ملابسها كاملة حتى وشاح رأسها وتقف في المطبخ
الصغير تعد طعام الإفطار لهما فقالت مجيدة:

صباح الخير يا سالي، أنت لابسه ورايحه فين يابنتي ؟ ابتسمت لها بسمة جاهدت لتجعلها مشرقة ومع ذلك توسمت
بظلال حزنها الدفين وقالت:

- هنفطر سوا وبعدها أروح النادي . . الولاد عندهم تمرین
استبشرت مجيدة بتلك المعلومة وقالت:
- جاسر کلمك ؟
قطبت سالي حاجبيها واشتعل الغضب داخلها وقالت هازئة:
- لاء طبعا يكلمني ليه ؟
فقالت أمها بحيرة: - أومال أنت أزاي هتروحي مع الولاد ؟

ردت سالي بهدوء قدر استطاعتها: - ماما دول ولادي مافيش قوة في العالم هتمنعني منهم وأنا قولتهاله وبعدين أنا كنت متفقة مع الولاد أني هزورهم كل يوم بعد المدرسة أذاکرالهم وأعشيهم ويوم السبت هنقضيه في النادي
فقالت أمها بقلق: - طب وجاسر ؟
فهمت سالي ما ترمي إليه والدتها فقالت: - يوم مايرجع بدري بيكون على 9 يكونوا الولاد ناموا وشبعوا
نوم لكن معظم الأيام على نص الليل
فتابعت أمها تساؤلاتها القلقة:

- ومراته دي، اسمها إيه . . هتكون هناك ؟ عقدت سالي حاجبيها لدي ذكر الأخرى، فقالت هامسة اسمها
بحقد لم تتمالك أن تمنعه: - داليا . . . بیزنس وومن يعني أكيد مواعيدها هتكون زيه وبعدين
أنا مالي بيها أنا ليا ولادي ربتت أمها على كتفها وقالت بدعاء خالص لها: - ربنا يابنتي پرشدك للصواب ويصلحلك حالك
احتضنتها سالی وقالت بشبه بكاء: - أنا عارفه إنك يمكن من جواكي مش راضيه عن طلاقي، ويمكن أنا كمان مش راضيه بس أنا طول الإسبوع اللي فات
مانمتش ليله من ساعة ما قالي ولقتني كل يوم بحس أنه هوا ده
القرار الصح مهما كانت النتایج
تراجعت أمها للخلف وقالت مستنكرة: - أسبوع یا سالي وكاتمة في قلبك ماحكتیش ليا أنا أمك ؟ ! !

تمسكت بها سالي وقالت: - ماكنتش عاوزه أشيلك همي فاحتضنتها مجيدة بقوة وقالت:
- ومين يشيله معاكي إلا أنا . . مين ! ! ربنت سالي على كتف والدتها وقالت ضاحكة: - تعالي بقا أنا عملالك فطار ملوكي زي بابا الله يرحمه ماكان
بيعمله مشت مجيدة بضعة خطوات نحو طاولة الطعام وهي تردد باسی
هامسة: - الله يرحمك يا محسن

لم يستطع تناول فطوره ولم يكمل حتى فنجان قهوته ومضى نحو سيارته حتى وصل لأرض الشركة حتى دلف من الباب ملاحظا النظرات المتعجبة التي تلاحقه فقابلها ببرود تام إلى أن وصل للطابق الأخير فاستقبله وجه درية العابس والتي لم ترد عليه تحية الصباح فعاد عدة خطوات للخلف بعدما اجتازها قائلا بتصميم:
- أنا قولت صباح الخير يا درية نظرت له ببرود وشرعت بالطرق على أزره لوحة كتابة الحاسوب
دون رد، عندها قال بحنق:

- اطلبيلي فنجان قهوة وحالا رفعت درية حاجبيها وتنهدت بعمق تحت أسماعه فتركها واتجه للداخل مغلقا الباب بقوة مما أثار فزعها فالتفتت وأناملها تحك
بطرف ذقنها مرارا للباب المغلق بتوعد وبعد مرور نصف ساعة كاملة دخلت وقابلها بنظرة تحمل عنوان
" الصبر يا رب "
وضعت الفنجان على المكتب بحدة فتناثرت بضعة قطرات من القهوة فلطخته فنظر لها جاسر مستنكرا وتناول الفنجان الصغير ومسحه بمحرمة ورقية حتى زعق فيها:
- ده ساقع تلج فالتفتت له وتعبير الدهشة الكاذب يعلو ملامحها وقالت:
- هه معقووووول ! ! !

زم شفتيه غاضبا وقال بحدة: - خديه وهاتيلي واحد تاني سخن وحالا مش هستنا نص ساعة کمان
حملت الفنجان وسارت حتی النافذة وفتحتها وسقت النبتة
المستقرة خارجها بالقهوة الباردة ولاحظت الدهشة التي تعلو ملامحه فقالت بإبتسامة باردة:
- سماد
وانصرفت تاركة للشياطين حرية التصرف بنبض عروقه المتنافرة
وبعد مرور ربع ساعة أخرى رفع جاسر سماعة الهاتف وهو يفرك جبهته التي يكاد أن يفتك بها الصداع قائلا:
- فين القهوة يا درية ؟
ردت بهدوء: - البن خلص عندها صرخ:

- نعم باختي
فردت بنفس النبرة الهادئة: - أأقصد تاريخ صلاحيته خلص هيبعتوا يشتروا غيره
أخذ نفسا عميقا وقال بوعيد: - ورحمة أبويا درية اللي عمري مابحلف بيه، لو مجاتش القهوة
ومظبوطه زي مابشربها لأ . . . . . . .
عندها سمع دقا يتصاعد على الباب ونادل المشرب الخاص بالشركة يتقدم حاملا صينية لامعة تحمل فنجان قهوته ووراءه
تسير درية والتي ابتسمت له بسماجة وهي تقول:
- تؤمر حضرتك بحاجة تانيه يا جاسر بيه ؟ وضع سماعة هاتفه بحدة وهو يفرك كفيه وقال بعند محتد:
- للوقت الحالي لاء وضع الشاب الفنجان بهدوء وانصرف وتبعته درية بخطوات متمهلة ريثما تأكدت من تناول جاسر الفنجان بل وشرع في إرتشاف القليل منه فخرجت مسرعة مغلقة الباب ورائها بقوة
تفوق ذراعها أضعافا وسمعت صرخة جاسر من الداخل فتقدمت نحو مكتبها والبسمة تتسع على وجهها واتجهت لورقة بيضاء خارية وشرعت بالكتابة
بصوت مرتفع متلذذ: - جاسر صفر . . . اتنين درية
وتكررت فعلتها للمرة الثالثة على التوالي كلما خرجت من مكتبه أغلقت الباب بقوة فأطارت بصوابه فقام كأسد ثائر نحو الخارج
وهو ينذرها بإصبعه: - آخر مرة يا درية ترزعي الباب كده وأنت خارجه . . . أنت فاهمة ؟!

رفعت له عيناها المطعمة بعوینتها السميكة ذات الإطار الأسود
وقالت ببرود: - مش عاجبك إرفدني أو اقبل الإستقالة بغض النظر عن الشرط
الجزائي
حدق فيها جاسر مغتاظا والشرر ينبعث من عيناه ثم قال بتسلية
واضحة:
- لاء أنا هسيبك كده على مكتبك ده ومش هرفدك ولو زودتي يا
| درية هتشوفي . . . وأردف بتهدید واضح المعالم للمشقة التي سوف تلاقيها على يده:
- الله في سماه لأنقلك في كل قسم ومش هتقعدى فيه أكتر من
3 أيام بالكتير وابقي أعملي فيها جدعة بعد كدة واختفي داخل غرفته بعدما ركل الباب بقوة فأفزعها فقالت
بوعيد: - الأيام بيننا یابن سوسن

كانت قد استيقظت فجرا بعد الليلة المنهكة التي قضتها تحت وطأة ذراعيه وقامت دون أن تحدث ضجيجا وتوجهت للحمام واغتسلت فرکت جسدها لكأنما تمحو آثار إعتداءه عليها ولكن هيهات فالوحشية التي اغتال بها عذريتها رسمت آثارا وكدمات على جسدها البض فانهمرت دموعها كمدا وغيظا
، لعنته ولعنت قسوته والأكثر أنها لعنت إندفاعها نحوه کفراشة انجذبت نحو اللهب فاحترقت وسقطت أجنحتها
تشعر بأنها محطمة
تهشمت لألف قطعة
بعثرها وستجعله يدفع الثمن وخرجت وارتدت رداء زفافها وداخلها يخطط لحساب قریب مع
زوجها المتجبر لم يخلق بعد من یکسر " داليا الزهري " حتى هو، رغم العشق الكامن بصدرها نحوه
إلا كرامتها وغادرت القصر نحو شقتها بسيارة أجرة وعندما استقرت بها
بدلت ملابسها بأخرى عملية ثم أتمت زينة وجهها كما يفترض بعروس مشرقة وتناولت فطورا شهيا
وغادرتها نحو شركته وفي طريقها أجرت مكالمة هاتفية لمكتبه فردت عليها تلك المتحذلقة بنظرها فقالت:
- جاسر موجود ؟

ردت درية:
- مين معايا ؟
فقالت داليا ببرود:
- المدام فردت الأخرى بإستهزاء:
- أنو فيهم ؟ ابتسمت داليا وقالت ساخرة:
- الوحيدة ياروحي
فاتسعت عينا درية وقالت بصوت حانق يشتعل غضبا:
- ثانية واحدة
حولت لمكتبه المكالمة الهاتفية وحين سمعت صوته قالت زاجرة
وهي تشدد على لفظ " الوحيدة ":
- المدام الوحيدة على التليفون أغلق جاسر عيناه وأخذ نفسا عميقا وعندما هم بالرد لم يجد
إجابة فعبس مرددا:
- آلو، آلو . . داليا . . آلو ولكن لا مجيب وبعدها اقتحمت درية مكتبه وهي تسأله بحدة:
- أنت طلقت سالي ؟ ! !

رفع لها رأسه وقال معنفا: - مش شغلك وإياك تدخلي مرة تانية في حياتي الشخصية زمت شفتيها وأخذت بالعد على أصابعها تحت أنظاره حتی أصابت العشرون وهدأت أنفاسها نسبيا ثم لمعت عيناها وهي
تنظر له متوعدة: - افتكر إن أنت اللي طلبت
وضربت بتهديده لها عرض الحائط فأغلقت الباب ورائها بعنف مما دفعه للصراخ والطرق على سطح مكتبه بقوة قائلا:
- ياالله، الصبر وليته كان جادا بطلب الصبر والعون من الله فما هي إلا دقائق
حتى اقتحمت داليا مكتبه والغضب المستوحش يلمع بعيناها فقام واتجه نحوها فقال عازما توبیخها فالهجوم كان دوما أفضل
وسيلة للدفاع: - أظن مافيش عروسه تسيب بيتها . . . رفعت يدها أمام سيل الكلمات يكان يتلفظ بها وسارت حتى وصلت لسطح مكتبه وتموضعت عليه بجلسة مغرية تتنافي مع ملامح الصرامة المرسومة على وجهها وقالت بصوت لا يقبل الجدال ولا المقاطعة: - أولا ده مش بيتي وعمره ما هيكون . . ثانیا مافيش عريس يعامل عروسته العذراء بالشكل الهمجي اللي أنت اتعاملت بيه معايا امبارح . . ثالثا وده الأهم أنا مش كيس ملاكمة ياجاسر هتفرغ فيا غضبك وقت ماتحب وقامت وسارت بضعة طوات حتى لاصقته وقالت بصوت هامس و متوعد:

- أنا داليا الزهري وافتكر ده کویس فرق كبير بيني وبين أي
حد، فاهمني طبعا قبض على ذراعها برفق تعمده ومع ذلك سيطرته عليها كانت
واضحة المعالم وقال بهدوء: - أنا كمان فرق كبير بيني وبين أي حد یا داليا . مابتهددش ولا
بيضحك عليا بلعبة سحبت منه ذراعها ولفت كليهما حول رقبته وقالت بنعومة
وهمس خطير ينساب من شفتيها: - أنا ما بهددکش إحنا إيكوال زيي زيك بالظبط في الجوازة دي واتفقنا عليها ورضينا بيها مالكش حاجة عندي وماليش حاجة عندك غير الاحترام والتقدير يا جاسر
منطقها المستقيم غلب دفاعاته الملتوية فأخفض ناظريه وفاجأته
هي بقبلة رقيقة أعلى وجنته وقالت هامسة: - أنا عشان بحبك هسامحك على ليلة امبارح ومستنية منك تعوضني
نظر لها وقد جف حلقه وغابت كلماته وراء ضبابية تصرفاتها الفجائية فتابعت وهي تبتعد عنه لتوليه ظهرها مرسلة ناظريها
الخارج نافذته العريضة: - إحنا كمان لازم نحط النقط على الحروف أبسطها هنعيش فين . . أنا مقدرة أنه يلزمك وقت ترتب فيه أمورك وأنا هتنازل يا جاسر وهعيش معاك في القصر، لكن لوقت محدد وأتمنى ماتاخدش وقت طويل في تنظيم أمورك، والتفتت له وقالت:

- ده لمصلحتنا إحنا الأتنين هز رأسه موافقا ثم قال وهو يغير دفة النقاش:
- تشربي إيه ؟ ! ! أطلقت ضحكة خافتة ساخرة وقالت رافضة عرضها السخي:
- أنا ماشية، هعدي شوية على الشركة وهرجع على شقتي أرتب
شوية حاجات مستنياك تعدي عليا أما تخلص هز رأسه موافقا وراقبها وهي تغادر متعبا وداخله ندما يتصاعد
على ما زج به نفسه لقد كان يحيا حياة بسيطة مستقرة، بعثرها هو بلحظة غرور وعند
لا يضاهي ليخوض صراعا وتحديا من نوع جديد وإمرأة بمذاق ناري
مختلفة كليا عن لينة وطواعية زوجته السابقة جلس على مقعده وهو يعد نفسه أنها كسحابة صيف إلى زوال
وستعود له زوجته مرة أخرى وتستقر حياته.

تسابقت أرجلهم نحوها واحتضنتهم بشوق بالغ والدموع تتقافز
العيناها ابتعدت عنهم لليلة واحدة فكيف ستمضي ليالي العمر دونهم
غمغت بأحضانهم:
- وحشتوووني أووي أوووي أووووي أخذت تقبلهم وبالمقابل يطبعون قبلاتهم فوق وجهها بسخاء
وبقي سليم متعلق بأحضانها وهو يقول:
- ماتسيبناش تاني يا ماما وأصبحت كلماته كالخناجر تشق صدرها وتجلى الألم فوق معالم
وجهها وقالت: - أنا ماسيبتكومش ولا عمري هسيبكم يا حبايبي، فترة كده عبال
ما نقدر نتجمع تاني مع بعض
فقالت سلمى بحبور:

- یعنی هترجعي البيت تاني رفعت أنظارها لنعمات التي تراقبهم والدموع ترسم منحنياتها
فوق وجنتيها مستنجدة بها فنظرت لهم مجددا وقالت: - مش عاوزاكوا تشغلاو دماغكم بحاجة، إحنا مع بعض دايما، يالا بقا عشان تلحقوا التمرين
نکس سليم رأسه وسار بعيدا عنها وهو يغمغم:
- يبقا مش هترجعي البيت تاني
أمسكت بذراعه واستوقفته قائلة: - مش يمكن نروح كلنا نعيش في مكان تاني ارتسم الأمل على وجهه وقال:
- إحنا وبابا ؟ وتلك المرة لم تخذلها نعمات التي قالت بتصميم: - ياله یا سليم عشان تلحق التمرين بتاعك المدرب كده هيزعل
منك لو اتأخرت قبلتها سلمى قبل أن تنصرف وجلست سال تداري معالم الألم المنحوتة بدقة أعلى وجهها بكفها وعندما شعرت أنها لن تتمالك نفسها وضعت نظارتها الشمسية لتخفي عيناها وتحجبهم عن
أعين الناس تنحنحت نعمات قائلة:

- البيت وحش منغيرك ياست سالي والله ابتسمت لها سالی بعرفان وقالت:
- خلي بالك منهم يانعمات فاقتربت نعمات منها وقالت لتطمئن: - هوا أنت مش جاية بكرة تتغدي معاهم
هزت رأسها وقالت: - هاجي، أغديهم وأذاكرلهم بس الموضوع ده سر بيني وبينك فاهمة
هزت نعمات رأسها وقالت: - ماتقلقيش ماحدش هيعرف حتى الست سوسن ماتعرفش أنا ماجيبتلهاش سيرة وكدة ولا كدة هيا بتكون نايمة
عقدت سالي حاجبيها وقالت:
- هيا . . هما . . أأقصد ال أعفتها نعمات من نطق المزيد وقالت بتفهم:
- شفتها خرجت من القصر لوحدها وش الفجر، جاسر بیه صحی الصبح مادقش اللقمة قعد مع الولاد شوية وراح الشغل، أنا قلبي
حاسس أنه الجوازة دي استحالة تعمر وبكره . . . . . قاطعتها سالي فكانت لا ترغب في سماع المزيد من أماني خاوية لا تعني لها شيئا سوى أنها البديل عندما يفشل سيعود لها:
- ياعالم . . أنا هقوم اتطمن على الولاد

حلت ساعة الغداء فتركت كل مايشغل يدها يإهمال وتسابقت خطواتها نحو المصعد وفتح الباب فطالعت وجهه بمزيج من الدهشة والشوق الذي استنكرته ودلفت للمصعد صامتة فقال
متعجبا: - أنت كمان مش بتكلميني ؟ ! ! !
قالت ببرود: - هتكلم أقول إيه ؟
نظر لها وقال:
- على الأقل السلام عليكم يادرية
تنهدت وقالت: - السلام عليكم
باغتها قائلا:
- إيه حكاية الإستقالة دي لسه الورق واصلني النهاردة ؟
رفعت حاجبيها وقالت بإباء: - ده قراري ومش هتنازل عنه ؟
قال مستوضحا: - لقيت شغل في مكان تاني أفضل ؟ ! ! عزمت على الكذب ولكن خانتها شفتيها ونطقت:
- لاء بس هلاقي إن شاء الله
ضاقت عيناه وقال: - خلاص لو زعلانة من جاسر تعالي عندي أنا مش هلاقي
سكرتيرة أحسن منك
زمت شفتيها ونظرت له بتوتر وقالت عازمة رفض عرضه:

- شكرا . . بس أنا . . لم يمهلها وقتا للإعتراض فاندفع قائلا: - ما هو إحنا اللي لازم نصلحله غلطه مالهوش غيرنا يادرية وصل المصعد للطابق الأرضي فخرجت بخطوات بطيئة وقالت:
- یعني إيه ؟ وأنا صفتي إيه ؟
ابتسم لها: - نفس الصفة اللي أخدتي بيها قرار الإستقالة لما لقتيه بياخد
قرار غلط ازمت شفتيها وقالت حانقة:
- أنا أخدت قرار الإستقالة عشان . . . قاطعها مرة أخرى مقتربا منها وغير عابئ بالأنظار الفضولية التي
تراقبهم:
- عشان إحنا قريبين من بعض، ولما بنلاقي الناس اللي بنهتم
بأمرهم بيغلطوا بنقرب أكتر مش بنبعد ونسيبهم توردت وجنتها والتفتت بحرج لتواجه أنظار الجميع وقالت بجدية:
- هفكر سار لجوارها ولم يدعها تكمل خطة هروبها فقال متفکها:

- هاه هتغديني إيه النهاردة ؟ ! فالتفتت له متعجبة وقالت بفظاظة: - عندك الكافيتريا نقي منها اللي يعجبك فقال بعبث صبي في الحادية عشر: - أنا هاكل من اللي هتاكلي منه
عقدت حاجبيها وقالت حانقة: - على فكرة مايصحش كده، الناس بيوصلنا
فغمز لها:
- عشان كده أفضل تكملي كسكرتيرة لجاسر وأنا أبقا أطلعلك احمر وجهها وزجرته بنظرة نارية فقال مسترسلا بسرعة:
- یعنی لو احتجت حاجة في الشغل.
زيارة غير متوقعة أو بالأحرى غير محببة تلتها أخرى والفارق الزمني لم يتخطى الساعة فهي ليست مهيئة بعد لإستقبال أشخاص والحديث عما كان وكيف حدث؟
لم تكن آشري بحاجة لمعرفة التفاصيل لأنها كانت شاهدا رئيسا إنما سيرين الأخت الكبرى التي فزعت وهرعت إليها فور سماع الخبر من كانت بحاجة للمعرفة ابتعدت عنهم بناظريها إن كان الجرح غائرا فالأشد وطأة عليها نكأه مرة بعد الأخرى بسيل من الكلمات الفارغة وأماني لا قيمة لها نظرت لهما غاضبة:

- كفاية بقا كفاية أنا مش عاوزة أحكي ولا حتى أسمع أي حاجة أنا محتاجه أفصل سيبوني شوية في حالي من فضلكم زعقت بها سیرین حانقة:
- یعني تتطلقي منغير ماتاخدي رأي حد وتهدي بيتك ومش عاوزانا ننطق نظرت لها الصغرى بعند:
- أيوه با سیرین عشان دي حياتي أنا مش حياتك أنت ومن حقي أقرر مصيري تدخلت آشري لتهدئة الأختين قائلة:
- براحة يا سیرین، سالي مش غلطانه إحنا اللي غلطانين . . آفتر أوول هيا عملت الصح نظرت لها سيرين كمن تراقب مجنونة تجري بين الطرقات:
- صح؟!

صح إزاي تتطلق وتهد بيتها وتسيب ولادها وترجع تقعد هنا، ده الصح؟!
التفتت لها آشري قائلة بسخرية حانقة:
- لاء هيا كانت تفضل قاعده عندها وجاسر يتجوز عليها بدال المرة ثلاثة وتقعد هيا میسز أمينة تربیله العيال وتمرضله أمه قاطعتهم مجيدة بصوتها الهادیء وهي تضع صينية المشروبات أمامهم على طاولة صالون العائلة المتواضع:

- أنا شايفه كفاية كلام واشربوا حاجه وهدوا أعصابكم كانت سیرین ترمق آشري بغيظ تلك المتحذلقة لابد أنها من دفعت أختها لطلب الطلاق والتمرد ذلك التمرد الذي تطفيء شعلته مرة بعد الأخرى متعمدة للحفاظ على أركان البيت كي يظلل أطفالها بأمان أم وأب مجتمعان شكليا وكلاهما بعيدان بعد المشرق والمغرب لكزت مجيدة ذراع سالي وأشارت لها لتتبعها للخارج صامتة وما أن اختلت بها في المطبخ الصغير حتى قالت بصوت خافت:
- ماتسمعيش لحد باسالي يابنتي خلي قرارتك لنفسك بدال ماتنشغلي بيهم وأنت الأولى بروحك هزت سالي رأسها بإذعان:
- أنا مش عاوزة أسمع حد أصلا أنا نفسي الكل يسبني في حالي أمسكت مجيدة بذراع ابنتها بإصرار وحثتها قائلة:

- خلاص اخرجي قوليلهم كده حالا ودلوقت وكالغريق عندما يتشبث ببارقة نجاة تشبثت سالي بالشجاعة التي تمدها بها أمها لتكون للمرة الأولى بحياتها وقحة تقدمت من الصالون حتى وقفت على عتبته قائلة بصوت قاطع:
- متشكرة يا جماعة على زيارتكم لكن أنا عاوزه أقعد مع نفسي شوية رفعت سيرين حاجبيها متعجبة:
- إنت بتطردیني یا سالی شاهدة ياماما!
 تقدمت أمها ووقفت إلى جوار صغيرتها وقالت:
- أختك ماطردتکیش یا سیرین يابنتي ده بيتك زي ماهو بيتها وضعت آشري الكأس بعدما فرغت منه ببرود وابتسمت لسالي وتقدمت منها وقبلتها ثم قالت:
- ایتس أوكيه، آنی واي أنا عندي شغل كتير کنت جاية اتطمن عليك بس مش أكتر تيك كير ياسالي ثم قبلت مجيدة قائلة:
- ثانكس يا طنط على الجوس طعمه كان تحفة ربنت مجيدة على كتف آشري قائلة:
- هنيا يابنتي فالتفتت آشري لسالي قائلة:
- مش هتوصليني باسالي؟

تقدمت سالي بخطوات سريعة لأداء واجب الضيافة حتى آخر أركانها وودعت آشري بإبتسامة صغيرة والتي انتهزت الفرصة لدس بطاقة ورقية بكفها قائلة بهمس:
- أنا مش بتدخل أنا بس بديكي خيط صغنن للبداية إذا حبيتي، باي أغلقت سالي الباب عاقدة الحاجبين وهي تتأمل غموض كلمات آشري الأخيرة ونظرت بالبطاقة لتجدها تخص إحدى مراكز علاج الأسنان المتخصصة بوسط الأسكندرية فوضعتها على الطاولة بجوار الباب يإهمال فهي مرهقة لحد بعيد تحتاج للنوم ولا شيء أكثر منه تجاوزتها أختها لتنصرف دون وداع فاستوقفتها سالي قائلة برجاء:

- سلميلي على الولاد فردت سيرين ببرود:
- يوصل وانصرفت الأخت الكبرى حانقة، غاضبة وهي تعلم أن مصدر غضبها أن أختها تجرأت على القيام بما خافته ورهبته دوما والأشد أنها نالت مباركة الأم، تلك المباركة التي ظنت أنها لن تحصل عليها أبدا إذا ما أقدمت على نفس الخطوة، ولكن الصغرى دوما مدللة، دوما تحصل على ماتريد حب الأب ودلال من الأم بعد رحيله وزوج تركته خلفها نعمها بحياة ثرية مرفهة دون مشقة عيش أو إحتياج لمال وتبقى هيا الكبرى بمسئوليات ترهق كاهليها، تحيل حياتها جحيما تتمنى لو تستطيع فقط الخلاص والعودة كطفلة صغيرة بين جنبات بيتها القديم وبعد يوم شاق طويل أخلدت لفراشها بعدما قامت بإتصال هاتفي سري لنعمات التي صعدت لغرفة الصغار ليتحدثوا مع أمهم وقد عاهدتهم على اللقاء بهم بأرض الأحلام بعد ساعة لتحثهم على النوم باكرا فقال سليم:

- هتلاقيني لابس سوبر مان ومستنيكي فوق السحاب عندها جذبت سلمى منه الهاتف وقالت بطفوليتها المحببة:
- وأنا هكون لابسه ميرميد ومعايا فيش فضحكت سالي وقالت:
- وأنا هكون لابسة باربي ونتقابل، اتفقنا وبالنهاية نامت سالی وأطفالها فلديهم موعدا هاما

وقف أمام الباب وهو يفكر لم قام بتلك الخطوة، لم لم يستمر بعنده وكبرياءه وعاد للقصر دونها وتركها تتحمل هي نتائج أفعالها ولكنه لم يجد سببا مقنعا فقد كان متعبا للغاية فتحت له الباب ولم تكن ارتدت ملابسها بعد وما كانت ترتديه كان أبعد ما يكون عن مسمى الملابس فالغلالة السوداء التي كانت تصل إلى ما قبل ركبتيها بشق الأنفس كانت تكشف أكثر مما ينبغي بكثير فعقد حاجبيه غاضبا ودفعها للداخل بعنف حتى شهقت بإنزعاج قائلة:

- فيه أيه يا جاسر بترقيني كده ليه ؟
هدر فيها بثورة كالأسد الهائج:
- أنتي إزاي تفتحي الباب وأنت لابسه كده ؟

نظرت له بهدوء وضاقت عيناها وسارت نحو الداخل حتى وصلت لغرفة نومها وهي تقول:
- الدور أصلا مافيهوش غير شقتين دي والتانيه صاحبها بيرجع كل سنه مرة تابع هجومه الضاري وهو يسير خلفها حتى أصبح بمنتصف الحجرة:
- يرجع كل سنة مرة اتنين برضه ماينفعش تفتحي الباب کده فاقتربت منه بدلال وضعت يدها على صدره قائلة بغنج:
- بتغير عليا رفع حاجبيه مستنكرا قائلة بسخرية:
- لاء طبعا . . الفكرة أنك دلوقت حرم جاسر سليم ولازم من هنا ورايح تاخدي بالك من تصرفاتك ولبسك فاهمة؟!
قالت ببرود وهي تبتعد عنه لتتموضع على الفراش يإغراء:
- أوكيه نظر حوله بحيرة ودعك رقبته وهو يشعر بألم ثم فقال كمن يستنجد بأحدهم:
- إحنا إيه، مش هتقومي تلبسي عشان نروح؟!

عقدت حاجبيها بغضب متصنع وهي تهز رأسها فأنسابت خصلاتها الماجنة حولها كهالة من سواد الليل البراق قائلة:
- توء . . إحنا اتفقنا أنك لازم تعوضني عن ليلة إمبارح الأول كان بحاجة للجلوس ففعليا قدماه تنوء بحمله فاقترب من الفراش الوثير وجلس على طرفه وهو يقول بصوت مرهق:
- طيب ممكن تقومي تلبسي وفي السكة نكمل كلامنا قامت واقتربت منه وأحاطت رأسه بكفيها وأناملها تقوم بحركات دائرية منتظمة أسفل عنقه وتتغلغل داخل فروة رأسه فرفع حاجبيه وأغلق عيناه وتنهد متلذذا بما تقوم به أناملها الرفيعة فهمست بأذنه بصوت دافيء:
- أجيبلك حاجة تشربها؟!

هم ليفتح فمه ليعترض ولكنها انصرفت بمكر مسرعة وعادت قبل أن يلحظ ناولته كأسا من عصير العنب الأحمر المثلج مخلوط بورقيات النعناع المنعشة فتجرع نصفه وتحركت حتى أصبحت خلفه وهي تمسد كتفه المتشنج وعضلات عنقه المشدوده بخبرة فاستسلم لها ولم يمانع إذ أخذت بخلع سترته ووصلت أناملها المقدمة قميصه فخلعته بثوان معدودة وعطرها يغلف عقله بضبابية محكمة وظهره الصلب يصطدم بنعومه صدرها وخصلات شعرها الناعمة تهفو من حول وجهه وإن كان نالها ليلة البارحة بغضب إعصار ضاري فاليوم نالته هي بنعومة ودلال فائض والفضل کله يرجع لشهادة التجميل والتدليك التي حصلت عليها من فرنسا ومن قال أن الطريق لقلب الرجل معدته فهو لمخطی فاليوم الطريق يبدأ من عضلاته المتعبة التي تشدو الراحة تحت أنامل إمرأة مغرية تحت ظلال غلالة واستيقظت بمنتصف الليل وابتسمت بسعادة بالغة فحبيبها نائم كطفل صغير بين ذراعيها بفراشها فالليلة جعلته يترك القصر وأطفاله وأمه وأذعن لحاجته لها وبالغد القريب لن يستطيع التخلي عنها كما فعل بالبدينة قبلها.

وقفت صباحا أمام بوابة المدرسة العريضة تنتظر وصول أطفالها حتى لمحت الحافلة تقترب بهم فابتسمت وعندما رأتهم أشارت لهم بترحيب حار قفز سليم من الحافلة وكان الأسبق لحضن أمه تلته سلمي ووضعت سالي الحلوي بيديهم قالت:
- بعد ما تفطروا في البريك تاكلوا الحاجات الحلوة، اتفقنا؟!

أشار لها الصغار بالموافقة وحثتهم سالي للدخول حتى لا يثيروا غضب المعلمة وودعتهم بإبتسامة واسعة وهي تعدهم بأنها ستكون بإنتظارهم بالقصر عندما يعودون سارت سالي بخطوات متكاسلة وهي تفكر بالجدوى مما تفعله بحياتها تسترق لحظات بالقرب من أبنائها، ولم عليها أن تخوض هي ذاك الصراع أكانت هي المخطئة؟!

هي من تمتلك الحق بأبنائها حتى تمتلك الحق بسليم الصغير وليس هو فرت دمعة من عيناها فهي غير قادرة على النطق باسمه وتكتفي بتعريفه كأداة ضمير لا قيمة لها أضحى ذكرى مريرة بحياتها واليوم لا يخصها ولا هي تهمه أو تقربه وليت بإمكانها كراهيته مسحت دموعها ورفعت رأسها وعادت لتذكر نفسها أنه من تخلى عنها ولن تعيش هي الباقي من حياتها للبكاء خلف رحيله واصطدمت عيناها بتلك اللوحة الأعلانية عن مركز علاج الأسنان ذاك بوسط المدينة مرة أخرى فعقدت حاجبيها بعزم بالغ إلى متى الهرب؟!

عليها البدء بممارسة حياة فعلية بعده

لكم تكره أشعة الشمس وتكره وقعها على بشرتها الباهتة المزرية وتعشقها في الوقت ذاته فهي تعلن أنها استطاعت خوض يوم آخر ولم ترحل في غياهب الليل المظلمة رفعت ظهرها وأرسلت ناظريها تراقب حركة الأشجار تحت وطأة نسيم الشتاء القارص وتلك الشجرة بالتحديد زرعتها بنفسها عندما تخرج كبيرها من الكلية وأرسل لثكنات الجيش بعدها زرعتها وراقبتها تنمو يوما بعد يوم وكل عام يصيبها الشتاء ببرودته بالآم مبرحة لأوراقها فتسقط ميتة فترقبها هي أكثر وترقب حياتها من جديد لتطمئن على وليدها خشية أن يصيبه مكروة واليوم شجرته عارية أوارقها تتساقط بغزارة تتساءل داخلها أترها تشهد عودتها للحياة مرة أخرى أم تكون هي من ترحل قبلها أم أن ابنها قد حكم بعنده ورعونته على حياته بالخراب والدمار ولن يطل الربيع الدافيء على شجرته مجددا؟!

دلفت نعمات لغرفتها بهدوء فرفعت حاجبيها متعجبة وقالت بصوت هادیء:
كنت لسه جاية اتطمن عليك فقالت هازئة:
- تشوفيني عايشة ولا مت؟!

تجاهلت نعمات كلمات سيدتها القاسية كما اعتادت وقالت:
- أجيبلك الفطار هنا؟
وبالمقابل تجاهلت سوسن سؤالها وقالت:
- الولاد فطروا مع باباهم وراحو المدرسة؟
هربت نعمات بعيناها بعيدا فالسيد غاب عن القصر البارحة ولم يعد هو وعروسه الجديدة وقالت بصوت متردد:
- اه فطروا وراحو المدرسة من بدري عقدت سوسن حاجبيها وكالساحر عندما يتلاعب بأوراقه تلاعبت بكلماتها من جديد:
- وجاسر نزل فطر معاهم هو والعروسه؟!

رفعت نعمات عيناها وقالت بنبرة غاضبة:
- البيه مابتش هنا إمبارح لا هوا ولا العروسة وإن كانت نعمات ظنت أنها من تشعر بالغضب فما رأته بعدها بل وما سمعته لهو بركان من الغضب حتى شعرت بالقلق الشديد على مخدومتها التي أمسكت بصدرها وهي تتألم بصوت مرتفع وصرخت ببقية الخدم ليأتوا لها منقذين وبسرعه اتجهت للهاتف وأول من تبادر لذهنها كان أسامة الذي أمرها بالهدوء قليلا وأخذ أنفسها والتحدث كي يستطيع فهمها فقالت بعدما هدأت أنفاسها نسبيا:

- الست سوسن تعبت أوي كانت ماسكة صدرها واغمى عليها بعدها ألحقني ولم تجد منه إجابة فقد حمل هاتفه وترك الشركة ليقود سيارته بسرعة بالغة لنجدة أمه

ربما تكون رياضية ذكورية بعض الشيء ولكن تلك أقاويل الرجال فالملاكمة تجري بدمائها منذ أن كانت طفلة في السادسة من عمرها تراقب حركة اللاعبين وسرعتهم والنيل من بعضهم بلكمات قاضية كما علمها والدها والمفضل لديها على الإطلاق " محمد علي كلاي " ذلك الأسطورة الذي حصد بطولات وألقاب عظيمة واليوم تمارس تلك الرياضة بإنتظام فهي أولا وأخيرا شغف لا يضاهيه شغف، كما أنها تمد ساعديها بالقوة التي تلزمها لإجراء العمليات الجراحية الطويلة الصعبة قطع صوت الهاتف تدربيها المنتظم الصارم منذ ساعة أو أكثر فرحبت به وهي ترتشف الماء لتروي عطشها وترد قائلة بأنفاس متقطعة:

- آلو أتاها صوته مستنجدا:
- دكتورة ريم، أنا أسامة سلیم حضرتك فكراني وهل غاب عن خاطرها ولكنها كذبت كحواء متمرسة وهي تخلع قفاز الملاكمة الضخم وتمسح عرقها المتصبب من جبهتها قائلة بإستخفاف:
- همم مش أوي . . لكن عاوز إيه ده الأهم؟!
رد أسامة قائلا - والدتی تعبت وأغمي عليها وأنا مش عارف إيه اللي حصل أنا السه رايحلها ممكن حضرتك تيجي تكشفي عليها أكون شاكر جدا زمت شفتيها وقالت بإحترافية متجاهلة مشاعرها المتضاربة:
- هوا أنا في الغالب مابروحش بيوت لكن أنا عندي ساعة زمن فاضية لو العنوان قريب مني هروح غير كده آسفه ياحضرتك تجيبها المستشفى يا إما قاطعها راجيا:
- العنوان في كفر عبده وأرجوك هيا حالتها ماتنفعش تروح مستشفى عقدت حاجبيها وقالت:
- مليني العنوان بالكامل

رنين الهاتف قض مضجعه فقام فزعا وهو يتأمل جدران الغرفة حوله لاعنا تأثير داليا السحري عليه ليلة الأمس لقد بات ليلته بشقتها تاركا صغاره بمفردهما مع أمه رد بصوت نائم نسبيا:
- آلو فقال أسامة غاضبا:
- ممكن أعرف أنت فين دلوقت؟!

فرد كاذبا فهو يخجل من التصريح بأنه قد بات ليلته بشقة زوجته - أنا في البيت خير في حاجة عندك في الشغل فقال أسامة ساخرا حانقا:
- ولما أنت في البيت نعمات بتتصل بيا ليه، عموما ماما تعبانه وأغمي عليها وأنا رايحلها وكلمت دكتورة ياريت تسيب ست الحسن والجمال وتفضيلنا نفسك ساعة دي أمك برضه أغلق الهاتف وألقاه جانبا وقام ليغتسل مسرعا فاصطدم بجسد داليا التي كانت تلف نفسها بمنشفة أرجوانية عريضة وهي تقول له بحبور:
- صباح الخير يابيبي مالك مكشر كده ليه؟!

دفعها جانبا وهو يدلف لداخل الحمام قائلا بخشونة:
- ماما تعبانة أوي وأنا لازم أنزل بسرعة عقدت داليا حاجبيها وخرجت وهي تهمس حانقة:
- الحرباية، كل ده عشان مابتش هناك إمبارح، صبرك عليا یا سوسن هانم * * * * * * * * * * * * وقفت أمام باب المركز مترددة في الدخول داخلها يضج ببدايات حديث والخلاصة لاشيء فهي فعليا تقف خاوية الأيدي حتى من شهادة خبرة أو سيرة ذاتية وماذا عساها تذكر فيها؟!

أنها عملت لعامين في تكليف حكومي ثم تخلت عن مهنتها لتقوم بالعمل سكرتيرة لزوجها السابق لمدة لا تزيد عن بضعة أشهر وأدارت مرکزا شبيها إدارة دون المتوسطة لتفشل بعدها فشلا ذريعا وبالنهاية هي ربة منزل بإحتراف مشاعرها المتناقضة كانت ترتسم بوضوح على وجهها مابين الخيبة والإحباط والغضب الشديد وأخيرا اليأس فقررت العودة أدراجها غير مدركة أنه هناك من يراقبها وكادت أن تصطدم به فشهقت وعادت للخلف خطوتان فقال معتذرا:
- أنا آسف جدا ماقصدتش تأملته سالي لقليل من الوقت وأقرت أنه يشبه أسامة قبل التغيرات التي طرأت عليه فقالت:
- ولا يهمك وهمت بإنصراف مسرع فاستوقفها الغريب وقال:

- هوا إيه المركز مش حلو ماعجبتكيش الخدمة؟!
فقالت نافية بسرعة:
- لا لا أنا مادخلتش أصلا، مش جاية لعلاج يعني رفع حاجبيه وقال:
- آه، خضتيني . . یعنی معظم الناس بتشكر في الموجودين هنا وأصل الأسنان دي رعب فعلا أشارت له لتطمئنه:
- ماتقلقش حضرتك أنا كنت جاية أقدم على شغل هنا بس ماعييش سي في فقال يإهتمام:
- هوا حضرتك دكتورة أسنان ؟
هزت رأسها:

- آه فتح فمه فجأة واقترب منها وهو يقول بصوت غوغائي:
- هوا الضرس ده محتاج يتخلع؟!
نظرت سالی يإنزعاج لداخل فکه ورأت مايشير إليه فقالت وهي تسترجع معلوماتها الطبيه ثم قالت:
- هوا الأفضل حضرتك تعمل أشعة بس أظن هيحتاج تنضيف وحشو وممکن کراون بس عندك ضروس العقل اللي فوق واللي تحت في الغالب هتخلع حالتهم مدمرة . . أفضلك يعني ابتسم لها الغريب ومد يده يصافحها قائلا:
- أنا دكتور كريم مدير المركز وكنا فعلا محتاجين دكاترة، أهلا بيك يادكتورة تقدري تبدأي شغل معانا وحبذا لو اتعرف بإسمك نظرت له سالي متعجبة وهي تمتم بخجل وتصافحه بالمقابل:
- سالي محسن

أنهت الكشف على المرأة السبعينية والتي استعادت وعيها بحرفيتها المعتادة متجاهلة أسامة الذي كان يقف ملاصقا لفراش أمه والآخر الذي اقتحم الغرفة بصوته المرتفع وسلسلة من الأوامر لم تعيرها أي إهتمام عن فريق طبي آت في الطريق وأن عليها التنحي جانبا، وأن سعيها مشكورا تلك الكلمة التي جعلتها ترمقه بنظرة إستعلاء بتوقيع " ريم الراضي " الطبيبة المحنكة الحاصلة على شهادات طبية تفوق فريقه الطبي الذي ظهر بعد لحظات وهو يوليها فروض الطاعة وفي إنتظار إشارة من طرف إصبعها بفهما المزموم دوما وعيناها المتناقضتان اللتان تنضحان بالبرودة تجاوزته وخلفها سار الفريق الطبي وأسامة وجاسر يتبعهما كمن لاحيلة له حتى قال رئيس الفريق متملقا:

- لو عرفنا يادكتور ريم أن حضرتك هنا، إحنا كنا ماجناش خالص فقالت ببرود وقح:
- حضرتك يا دكتور تقدر تشوف شغلك مع اللي اتصل بيك في الوقت الحالي أنا وقتي ضيق ومحتاجة أتكلم مع الأستاذ أسامة صرف جاسر الفريق الطبي شاكرا بعدما نقدهم أموالهم ووقف البرهة يراقب رحيلهم ومشاعره تتقاذفه كأمواج بحر لا قرار له حتى اصطدم بصخور الواقع الذي يعلنها له صراحة إنه مقصر مقصر بحق أطفاله، مقصر بحق أمه التي شارفت على الموت دون أن يكون إلى جوارها وأنه لم يعد أهلا لحمل لواء الأسرة بعد فلقد تكفل أخيه الأوسط بالمهمة وقام بها على خير وجه حتى الفريق الطبي الذي استدعاه في آخر ساعة وقف مثله قليل الحيلة، عاجزا أمام تلك المحكنة والذنب يقع على عاتقه والغضب أيضا يقع على عاتق المحيطين به واقتحم مجلس الإثنان ليستمع لما تقوله تلك المتحذلقة التي كانت تشرح لأخيه حالة أمهما المريضة:

- یعني طبيعي في السن ده مع الكيموثيرابي والإنفعال اللي اتعرضتله تحصل أزمات زي دي الفكرة أننا ننتبه ليها ونحاول قدر الإمكان نبعدها عن الإنفعال دي أكتر حاجة تأذيها فقال جاسرا مستنكرا:
- بس كده . . الإنفعال ممنوع . . طب ماطول عمرها بتنفعل عمرها ماجالها أزمة بالشكل ده قامت ریم واقتربت منه بهدوء حتى قالت بأمر غير قابل النقاش وعيناها المتناقضتان تلمعان بشراسة قباله فهي تكره أمثاله من الرجال ممن يظنون أن باستطاعهم تحقير مجهود المرأة لمجرد إنها إمرأة:
- عشان كده من هنا ورايح ممنوع الإنفعال فهتف جاسرا مستحقرا:

- دي أمي وأنا عارفها إكتبيلها مهدي على الأقل التفتت ريم الأسامة الذي سارع لفض الإشتباك قائلة بسخريتها المعهودة وهي تتوق للتخلص من ذاك المتذاكي:
- أنا بلغتك إني عندي ساعة واحدة بس فاضيه وحيث إن خلصت الكشف ماعنديش استعداد أضيع وقتي ولا أرهق خلايا مخي الثمينة جدا في الرد على الأستاذ فقال أسامة بأسف بالغ:

- أرجوك تعذريه، وأنا ماتتصوريش متشکرلك أد إيه سارت لتنصرف عندها استوقفها جاسر قائلا:
- استني يا دكتورة مش تاخدي حسابك الأول نظرت له ريم من رأسه حتى أخمص قدميه وقالت بإستهزاء:
- خليهو ملك التفت له أسامة وهو يتوعده سرا حتى أوصلها لسيارتها الفاخرة التي قادتها بسرعة فائقة وعاد له ليقول موبخا:
- یعني أكيد واحدة سابقة لامبورجيني مش مستنيه منك فلوس وكمان تديهوملها بكم الأستهزاء ده وبعدين أنا اللي متصل بيها فكلامي يبقا معاها أخفض جاسر رأسه متعبا فكم الكراهية والإستهزاء اللتان أصبح يتلقاهم بشكل دوري دائم أصبح أمرا مقززا مرهقا فهو لم يعتد أبدا الركون لمكانة زياد بالعائلة فقال بعند:
- وأنا غلطت في إيه ولا أنت عشان خايف على منظرك قصدها؟!

حملق به أسامة وقد بلغ به الصبر مداه:
- أنا بحاول دائما أقدر الحالة النفسية اللي أنت أكيد فيها بس ده مش معناه إنك تتمادی یاجاسر أنا اللي يهمني أمنا هز جاسر رأسه بأسف وهو يشعر بمزيد من السخط الغير مبرر فهو لم يعتد تكرار أخطاءه قائلا:
- نعمات ماقالتش إيه اللي دايقها أوي كده ؟
رد أسامة بغموض:
- ما سألتش ظل جاسر صامتا حتى قرر الرحيل قائلا:
- أنا رايح الشغل أنت راجع ولا وراك مشوار ؟

ضاقت عينا أسامة وقال:
- مش هتدخل تطمن عليها قبل ماتمشي؟!
هز جاسر رأسه نافيا وهو يتوق للهروب من تلك الأحداث المتلاحقة:
- أكيد نامت أما أرجع هبقي أشوفها

مضى يضغط على هاتفه لإعادة الإتصال مرة ثالثة وأخيرا أتاه صوت أخيه الناعس فقال ضائقا:
- أنت فين؟
دعك زیاد وجهه وقال:
- عند واحد صاحبي غمغم أسامة مستفهما:
- سيبت البيت ؟
فرد زیاد متبرما:
- رجعت لقيت نص هدومي متعبية في شنط عند السيكورتي فقال أسامة:
- طب هات نص هدومك وتعالي اقعد معايا هم زیاد بالرفض فقاطعه أسامة بصوت لا يقبل الجدال:
- أنا مش بعزم ولا بتحايل عليك هتيجي وهتقعد معايا لحد ما أمورك تتعدل ماهو أنا مش هفضل ألف وراكوا أنتوا الاتنين ده غير أمكم اللي تعبانه هتف زیاد بقلق عارم:
- ماما جرالها إيه ؟

فغمغم أسامة:
- جاتلها أزمة كده النهاردة وأغمي عليها، المهم أرجع ألاقيك في البيت عندي عشان نروحلها نطمن عليها سوا بالليل، إتفقنا هز زیاد رأسه مذعنا:
- اتفقنا

عودته للبلاد كانت مفاجأة سارة وأيضا حملت في طياتها أسئلة أرقت مضجعها خاصة عندما يقتحم مكتبها ويخصها بتلك النظرة التي بإمكانها دوما سبر أغوراها فرفعت أنظارها له بإبتسامة صافية:
- خير يا بابي اقترب يسري الطحان من صغيرته الوحيدة وجلس قبالها:
- شوفي أنا عمري ما اتدخلت في قرارتك من وأنت بنت سبعتاشر صح؟!
أومأت آشرى برأسها هامسة:
- صح فعقد أبيها حاجبيه قلقا:
- بس یا آشري أنت مش عجباني، الحياة يابنتي مش شغل وبس فهزت رأسها نافية وهي تقول بصوت حاولت تضفي عليه المرح - يابابي ما أنت شايفني بخرج واتفسح و . . . فقاطعها والدها:

- زیاد فین یا آشرى ليه مش بشوفه؟
صمتت لقليل من الوقت حتى قالت بهدوء:
- بابي أنا وزياد قررنا ننفصل نکس والدها رأسه حزينا ثم قال راجيا:
- القرار ده نهائي یا آشري وبالمقابل أومأت له برأسها مؤكدة:

- نهائي يا بابي، وصدقني لما أقولك أنه كان مفروض ناخده من زمان قام أبيها ليحتضنها وقامت هي وغاصت في أحضانه الدافئة وهو يقول لها:
- ماتستعجليش يا آشري خدي وقتك جلست بعد إنصرافه وهي تعيد حساباتها مرة أخرى ولكنها كانت دوما تصل لنفس النتيجة أنها لم تخطيء باتخاذ مثل ذاك القرار ربما أخطأت في تقدير بعض الأمور وربما أخطأت أيضا عندما أخفت أموارا غاية في الأهمية عن زياد فتحملت لومه وتقريعه لها دون ذنب ولكنها لم تكن ترغب في إيذاء مشاعره الذكورية خاصة وهي الناجحة بعملها، كانت تظن إن صارحته فسوف تزيد الفجوة بينهما وبالنهاية هذا ماحدث رغم جهودها المتواصلة لرأب الصدع بينهما ولذلك القرار يعد لصالحهما وقد اتخذته بوقت متأخرا بالفعل .
شعور بالاختناق يكتنف صدره والأفق حوله يزداد ضيقا والهرب يبدو حلا مثاليا وتعثرت خطواته في الحديقة أمام صغاره، جرت سلمی نحوه وتشبثت بعنقه بينما ظل نسخته المصغرة مكانه لم يتزحزح أنملة وبعيناه أسوء ما قد يراه أب " خيبة أمل " طعمت صغيرته وجنته بقبلة دافئة وهي تقول:

- وحشتني أوي يا بابا أنت كنت فين إمبارح؟!
 ولم لم يقرر الهرب باكرا؟!
 فهو فعليا عاجز عن الرد أو الإتيان بسبب مقنع فتنحنح وهو يسوق كذبة لأسماعها البريئة وهو يضعها أرضا:
- معلش ياحبيبتي أضطريت أبات في الشغل إمبارح فباغتته سلمي بقولها:
- شوفنا ماما النهاردة هم بإعتدال ولكنه توقف واقترب أكثر ليحدق بعيناها التي تشع سعادة وتصاعدت خطوات سريعة من سلیم نحوها وهو يزجرها:
- سلمی يالا ندخل جوه عشان نعمل الواجب فالتفتت له العنيدة كأبيها:
- لاء مش هعمل حاجة لحد ما ماما تيجي زي ماقالت وتذاكر معانا وتصريح آخر ينبثق من شفتيها لتنتفخ أوادجه، كان يعلم أنها لن تستطيع الصمود طويلا وحتما ستعود فلمعت عيناه وابتسم بسعادة الصغارة قائلا:
- بالراحة ياسليم وبعدين إنت فكرك إني مش عارف أنا وماما متفقين على كدة من الأول فتعلقت أعين الصغير به قائلا برجاء:
- طب مانروح نقعد معاها وتيجي أنت تشوفنا أنت كدة كدة بترجع متأخر وساعات كتير مش بنشوفك زم شفتيه ضائقا فولده محق أين هو من حياة صغاره؟!
 أين كان بالأمس؟!

هاربا من خيبة واقع بأحضان أخرى لم يألف حتى أنفاسها عقد حاجبيه وقال:
- یالا ادخلوا اتشطفوا وغيروا هدومكو . . عمو أسامة جوه وتهللت ملامح الصغار فهم يشتاقون لعمهم الطيب وانصاعوا لأمره مذعنين وانصرف وهو يعدهم بوجبة عشاء برفقتهم    لم تصدق عيناها وهي تطالع ساعة معصمها فقالت بدهشة ضائقة - الساعة بقت واحدة ! فالتفت لها كريم قائلا:
- إيه عندك معاد ياكتورة ؟ فابتسمت له بخجل قائلة:
- ولادی بيطلعوا من المدرسة الساعة ۱۲ ونص يادوب ألحقهم فارتفع حاجبية بدهشة وعيناه متعلقة بإصبعها الخالي من خاتم زواج قائلا:
- حضرتك متجوزة؟!

هزت رأسها وقالت بصوت خافت:
- کنت فتوارى بأعينه حرجا هو الآخر وقال:
- أنا آسف . . بس . . . یعنی احنا . . . أصل في المركز فقاطعته قائلة:
- أنا فاهمة يادكتور طبعا معظم المراكز بتفضل حد متفرغ وأنا آسفه أن ماقولتش لحضرتك قبل كده بس زي ماقلت أنا ماعييش سی في ثم حملت حقيبتها وهمت بالإنصراف قائلة:
- أنا آسفة إني ضيعت وقتك فاستوقفها سريعا.

- لا لا لا أنا ماقصدتش، إحنا بس كده محتاجين نعمل تنظیم جديد للمواعيد يناسبك يادكتورة هزت سالی برأسها قائلة:
- أوكيه أنا يناسبي فترة الصبح ولو يعني لازم فترة مسائية أفضل تكون من ۸ بس ساعتين مش أكتر صفق بكفة مرة واحدة قائلا بحماسة:
- تمام مناسب جدا وسار إلى جوارها حتى وصلا لباب المدخل الزجاجي وفتحه لها وهو يقول:
- أشوفك على خير بكرة بس ياريت تجيبي السي في عشان نحطها في الملف ردت بإبتسامة صافية:
- إن شاء الله وعندما خطت بخطواتها نحو الشارع تصاعد رنين هاتفها فردت وهي تعلم أن المتصل حتما والدتها التي كانت بالفعل غاية في القلق عليها إذ قالت:
- یعني استنيت تكلميني تطمنيني عليك وأنت ولا أنت هنا ضحكت سالی بصفاء لا تعلم مصدره قائلة:
- معلش ياماما والله أما أرجع هحكيلك فعبست مجيدة:

- أنت راجعة دلوقت مش رايحة للولاد زي ماقولت ؟ نفت سالي سؤالها وهي تشير لسيارة أجرة:
- لا ياماما رابحة أهو . . أأقصد لما أرجع زعقت بها والدتها غاضبة:
- یعنی هتسيبني على عمايا لحد بالليل ردت سالي وهي تقفز داخل سيارة الأجرة:
- كفر عبدة لو سمحت، ثم همست لتهدأ أمها:
- خلاص يا ماما ولا تزعلي روحك، أنا كنت بلف ولقيت شغل الحمد لله اعتدلت مجيدة في جلستها بسرعة قائلة:
- إنتى بتتكلمي جد ؟ فين ؟ فقالت سالي متفكهة:
- هيكون فين يعني، في مركز أسنان طبعا فقالت أمها ممازحة:
- أوعي يكون سكرتيرة فروت سالی بمرارة:

- لا ماتخافيش لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين تمنت مجيدة لو كانت تمالكت لسانها الذي تسبب في غياب البهجة عن صوت صغيرتها فقالت بحرج:
- أنا ماقصدتش، حقك عليا هزت سالي رأسها طاردة شبح الدموع بعيدا فهي فعليا تقود حياتها نحو تغير لا رجعة بعده قائلة بصلابة حديثة عليها:
- ولا يهمك هكلمك لما أوصل سلام    لم يتغير شيء بحياته بضعة أيام اختل فقط توازنه والآن وبعد تصريح شمس حياته الصغيرة كل شيء عاد لمكانه الصحيح أو بات قريبا جدا التمتع بقيادة حياته بعيدا عن عبث المحيطين بها وإحكام السيطرة من جديد كان هذا سبب أكثر من كاف للبريق الوحشي الذي يلتمع بعيناه وهو يخترق الردهة هاتفا بأمر لا يقبل الجدال:

- دراية، ورايا كانت تتمنى لو استطاعت فعليا تجاهله ولكن عيناه تنذر بشيء خطير جعلها تؤثر السلامة وداخلها يتوعده برد صادم إن تجاوز الحد دخلت لتراه متخذا مجلسه بعنجهية مفرطة لا تليق إلا بجاسر سليم دون البشر فقال دون مقدمات:
- عاوزة تستقيلي، مع السلامة مش هلزمك بحاجة، راجعتي نفسك وعاوزة تكملي شغل معايا أنا أكتر من مرحب، هاه إيه قرارك ؟ ألا يعلم الرجال أن إتخاذ قرار وتحديد خيار في التو واللحظة لهو أعظم فخ تقع به إمرأة ربما يجهل الكثير ولكن ليس هو والخيار لدرية لم يكن بين وظيفة واللاوظيفة بین راتب مجز وبين عوز لوالد الخيار لدرية كان بين الكرامة ولا خيار دونها ضاقت عيناها وهي تجيب:
- وياترى غيرت رأيك ليه ؟، مش كان لازم شرط جزائي ولحد إمبارح كنت هتلففني على الأقسام . . . قاطعها بحسم:
- لحد إمبارح، النهاردة غير . . من غير مراوغة يادرية آه ولا لاء رفعت كتفيها بشموخ تمثال إغريقي:
- أنا زي ما أنا مش هتغير فرد بالمقابل:

- ولا أنا بتغير وساد الصمت بينهما هو لم يستجدي بقاء زوجة وبالتأكيد لن يستجدي بقاء سكرتيرة وهي لن تقدم تنازلات ولا إعتذارا عما بدر منها بالأمس وعندما يتلاقی خصمان كلاهما يمتلكان عزة وكبرياء يناطح إحداهما الآخر يستوجب التدخل فورا للحد من الخسائر فقال أسامة مقاطعا والذي اقتحم الغرفة على نحو مباغت لهما:
- ومافيش حاجة هتتغير هتفضلي هنا في شغلك يادرية، أظن نشوف اللي ورانا بقا ولكم كان تدخله محمودا بنظر أخيه الأكبر الذي قال:
- أنا شايف كده برضة فقالت درية وهي تقول بعند أنثوى أخرق:

- عشان خاطرك بس یاباشمهندس إذ أن الأخير ما لبث أن تمسك بجملتها فبعد ساعة زمنية تلقی هاتفها رسالة نصية عبثية جعلت الدم يتوارد بلا حساب لوجنتها وأناملها تتشبث بالهاتف لكأنه قارب نجاة وعيناها تعيد قراءة السطور ومابين السطور " لو كنت أعرف أن خاطري غالي أوي كده عندك أنا كنت عليت سقف مطالبي " والأسوء أن هناك شاهدا ناظر هذا التورد بمكر حصري لأفراد آل سليم وهو يقول هازئا:
- بعد ماتخلصي الشات اللطيف ده عاوز آخر إحصائيات الأسهم في البورصة يادرية    ألحت نعمات عليها للمرة الثالثة على التوالي:
- طب مش هتاكلي ليه ياست سالي ؟ فالتفتت لها سالي بأعين عاتبة:
- قولتلك شبعانة يانعمات ترك سليم طعامه وقال:
- مش هاكل إلا لما تاكلي أخذت نفسا عميقا وأغمضت عيناها بألم، كيف لها أن تتذوق طعاما ببيته؟!
 كيف لها أن تضع بمعدتها غذاءا لم تصنعه هي هي ليست بضيفة ولا هي صاحبة البيت كما تصر نعمات ولا تملك الحق حتى بشربة ماء هي أشبه بکائن طفيلي يسترق الساعات بمنزل دون علم أصحابه لتكون فقط بصحبة أولادها بالماضي كانت صاحبة حق حتى تنازلت هي بملى إرادتها عن تلك الحقوق فالتفتت لصغيرها وقالت بصوت متألم من تلك الحقائق ساعدها في إثبات إدعائها:

- أنا بطني وجعاني أوری یا سليم أما تخف هاكل يالا اتغدي أنت عشان نلحق نقعد مع بعض تركت سلمى طعامها وهي تقول بصوت باك:
- إنت هتمشي ياماما مش هتباتي معانا ؟ فالتفتت للصغرى قائلة بصوت متنهد:
- وبعدين معاك ياسلمی، ما تیته وبابا بیباتوا معاك فاندفعت سلمی بیکاء طفولي:
- بابا مابتش معانا إمبارح وتيته نامت بدري وسابتنا وانتقلت دموع طفلتها لعيناها غير أنها سجنتها بمهارة وقالت:
- معلش أكيد كان عنده شغل ولا حاجة فقال سليم ضائقا:
- هوا قال هيرجع يتعشا معانا ياسلمى بطلي عياط فتمسكت سلمى بكفها قائلة:
- طب لو مارجعش باتي أنت معانا يا ماما ربتت سالي على كف صغيرتها وقالت:

- يحلها حلال ياسلمی يالا بقا خلصي أكلك ظاهريا كانت تغتصب الإبتسامات من داخلها لتظهر أمام أطفالها بمظهر مشرق عکس کل خیالاتهم السوداء بهجر الأب والأم لهم في آن واحد وداخليا كانت بالفعل تنتحب حتى أوشكت الصرخات على شق أضلعها لتذكر نفسها مرة أخيرة أنها لم تعد زوجته وأن يحق له التمتع بأحضان غيرها ونفسها الحمقاء المتدثرة بغطاء أحلام وردية عن معاناته دونها تنازعها بسؤال لا تجد له إجابة شافية بتلك السرعة ؟ بل والأدهى كيف ؟ كيف جعلته يترك أمه المريضة وأولاده الصغار ويبتعد عنهم ؟ كيف استطاعت تملك قلبه وتغيير مفاهیم عقله المتحجر؟!
كيف فعلت بليلة واحدة ما عجزت هي عن الإتيان به طيلة سبع سنوات ماضية؟!

ربما لم تكن بالقوة كافية لتوقف إعصار جاسر سليم ربما كان الضعف من يكمن بها واستكانت هي له كما كانت تخبرها آشرى دوما وترفض هي تصديق تلك الحقيقة وتغلفها بأكذوبة أن هذا ما يتوجب عليها كزوجة     لكم تكره سماع صوت تلك المتحذلقة ولكنها اضطرت للإتصال به عبر هاتف الشركة حيث أنه لم يجب على أي من اتصالاتها المتكررة قالت درية بصوت يقطر سأما وسما تمنت لو نال من شرايين تلك الحرباء:

- ثواني . . . هحولك ليه ثم قالت بعد مضي لحظات بصوت جاهدت أن تغلفه بالبرود:
- المدام على التليفون عقد حاجبيه قائلا بلامبالاة طاغية:
- حوليها كمان خمس دقايق فاتسعت عيناها وقالت:
- نعم فقال بصوت قاطع:
- سمعتي عادت مرة أخرى لتجيبها:

- عنده إجتماع خليك معايا ولم تمهلها فرصة للرد ووضعتها تحت إنتظار الفرج " من جاسر سليم بنغمة موسيقية هي الأكثر مللا على الإطلاق لقد طلب منها خمس دقائق فقط ولكنها كانت في مزاج" اکرم دري " بالغ فزادتهم عشرا حتى اشتعلت الأخرى غضبا، صبته فوق رأسه عندما رد بصوته الذكوري العميق:
- بتصل بيك من الصبح مابتردش والسكرتيرة تلطعني كل ده على الويتنج یاجاسر ! ! فرد بهدوءه القاتل:
- وطي صوتك وإلا هقفل السكة اتسعت عيناها وحبست شهقة حانقة وبدلتها فورا بصوت باك کاذب:
- ده جزاتي إني عاوزة اتطمن عليك وعلى طنطا نفث سيجارته وقال:
- إحنا الحمد لله كويسين ومتشكر على إتصالك فقالت بدلال:

- مالك يا جاسر أنت زعلان مني؟!
 أغمض عيناه ثم قال بصرامة:
- داليا أنا ورايا شغل متلتل ومش فاضي وياريت بعد كده تتصلي للضرورة فقالت غاضبة:
- مافيش حاجة اسمها كده أنا مراتك مش موظفة عندك ووقت ماتصل بيك دي ضرورة بالنسبالي فقال بعنده الموروث:
- أنا كمان مش بالضرورة أرد عليك كل مرة هتتصلي فيها فقالت بلا مبالاة:
- أوكيه براحتك، مستنياك تعدي عليا نروح سوا فقال بنفي قاطع:

- سكة البيت ماتوهش يا داليا وانقطع الخط وعالمها الوردي يتزلزل من تحت أقدامها فقد ظنت أنها استطاعت سبر أغواره والغوص بأعماقه والتغلغل بكافة إحتياجاته وفرض قوانین عرفية بينهما وتلقينه كيف ينبغي له أن يعاملها واتضح أنها كانت حالمة أكثر مما ينبغي وضعت سماعة الهاتف والحيرة تلتمع بعيناها الفيروزية وشعور بالخواء والضياع يجتاحها وللمرة الأولي بحياتها لاتدري بالفعل " الخطوة التالية " فالحياة كما علمها والدها دوما رقعة شطرنج والحصان الأسود دوما بيدق رابح ودوما عاشت الملكة    ألقى نظرة غاضبة على ساعته الثمينة وهو يلعن انشغاله بعمله حتى أنه لم يشعر بمرور الوقت وتسابقت خطواته نحو الخارج ليلحظ درية لازالت غارقة بالعمل هي الأخرى فزجرها قائلا قبل أن يختفي من أمامها:

- روحي لولادك يادرية كفياكي شغل رفعت هي الأخرى أبصارها نحو الساعة التي كانت لم تتجاوز السادسة بعد متعجبة فمنذ متى يهرول جاسر سليم عائدا لبيته بتلك السرعة في ذلك الوقت المبكر أم إنها ست الحسن والجمال؟!
 عقدت حاجبيها غاضبة وهي تلملم أشيائها بصوت متقطع:
- مالكیییش دعوة، يتفلق، يتحرق، يولع . . . وقاطعها صوته المرتاب:
- ده یارب مایکون أنا فحملقت به بغضب وقالت موبخة لكأنما تخاطب صغيرها أيهم:
- يظهر أنك اتعودت تنط كل شوية زي عفريت العلبة فقفز قفزة بهلوانية ساخرا فعبست وهي تمنع ضحكة غير ملائمة ثم قالت بعتب:
- أنا اتأخرت ولازم أروح قال لها:

- شفت بقا أنا مستحمل كل ده إزاي ؟ فحملقت به بريبة:
- مستحمل إيه ؟ رد أسامة وهو يدعوها لداخل المصعد:
- قاعد مخلص شغلي ومستنيكي كل ده . أخرتيني أووي على فكرة فقالت وهي ترفع رأسها آنفة:
- وأنا ماطلبتش منك تستنا فقال بنبرة فكاهية عكس العبوس الكاذب الذي تدفع به لملامحها:
- وأنا مش مستني منك تقوليلي استنا فابتعدت بأنظارها عن مجال عيناه الذي يطوقها من رأسها لأخمص قدميها لترسم وجها فولاذيا بالمقابل وهي تخرج بخطوات مسرعة من حجرة المصعد الواسعة والتي كان يحتل هو بحضوره أكثر من نصفها فسار إلى جوارها صامتا وفتح لها باب السيارة وعيناه تخبرانها أنه لن يقبل الرفض ردا فقالت بهدوء:

- شکرا یا باشمهندس تعبتك معايا أومأ لها برأسه وهو يقول بتقدير بالغ:
- تعبك راحة يادرية     كان يصارع الطريق وعقله يعمل كآلة حاسبة والناتج كان مابین دقائق وساعات، يلزمها ساعة على الأقل لتناول طعام الغداء برفقتهم، واستذكار الدروس لا يعلم بالضبط، أما اللعب واللهو فحدث ولا حرج فهي تكاد تمضي يومها بالكامل كطفلة بالخامسة من عمرها برفقتهم فابتسم بحنين لتلك اللحظات التي أهدرها هو دون أن يدری قيمتها الفعلية يتمنى لو تقدم تنازلا واحدا فقط لا أكثر وتعود وبعدها يقسم أنه قد يتنازل عن نصف كبريائه وعناده ولطالما كان محظوظا، محظوظا جدا في الواقع إذ إستطاع اللحاق بآخر لحظات الوداع بينها وبين أطفالهما والصغيرة تتشبث بأحضان أمها بقوة قائلة:
- طب هتتأخري بكرة؟!

واتاه الرد الذي أخبره أنه لم يعد محظوظ بل هو في الواقع " ملعون " - أول ما أخلص شغل هاجي على طول مش هتأخر أوعدكم عقد حاجبيه واسودت ملامحه بغضب وحشي حتى أنه لم ينتبه لهمسة سليم القلقة:
- بابا جه ! ! فالتفتت بفزع أثار ضيقها ورفعت قامتها بكبرياء ناشدت به الضلوع لتستقيم أمامه وربتت على كتفي صغارها ليلقوا التحية على والدهم فساروا نحوه فاحتضنهم مرحبا هو الآخر وهو يكاد يتمالك أنفاسه وفي الوقت ذاته يستبق خطواتها ليمنعها من الهرب قبل أن تؤكد له أو كما يتمني تنفي صحة ماسمعه قائلا بتصميم:

- سلیم خد أختك واطلعوا فوق عاوز اتكلم مع ماما شوية وقبلتهم مرة أخيرة قبل أن تشير لهم مودعة وهي تراقب صعودهم الدرجات وسارت بخطوات سريعة متجاهلة وجوده حرفيا حتى استوقفها بسؤال قاطع:
- اشتغلت ؟ عقدت حاجبيها وهمت بإجابة وقحة ولكنها تمالكت أنفاسها فهي أولا وأخيرا ضيفة بمنزله لتجيبه بهدوء بارد:
- أيوه فاقترب منها وعيناه تلتهم تفاصيل وجهها الذي غاب عنه ليلتان إثنتان لا أكثر قائلا بإتهام وأنفاسه المتسارعة تكاد تمزق صدره:
- بالسرعة دي ولا دي حاجة كانت من ضمن تدبيراتك السرية اللي ماكنتش أعرف عنها حاجة فقالت بضيق وهي ترغب في الأختفاء بعيدا عن أنظاره التي تحرقها ووجوده الذي يسبب لها الإختناق:
- يهمك في إيه؟!
 زم شفتيه وقال:

- أنا كنت كلمت المحامي النهاردة يحطلك بكرة في البنك المؤخر والنفقة . . . يعني أنا شايف مافيش لازمة للشغل وللبهدلة ابتسمت له هازئة وقالت بنبرة ساخرة مرة لتذكره بموقعه الفعلي بحياتها:
- والله ماعدتش من حقك إنك تشوف وزار الأسد بأعماقه فاقترب منها على نحو خاطف واحتبس ذراعها بقبضته قائلا بصوت خفيض:
- أنا ممكن أردك ياسالي، المأذون ماوثقش الطلاق بس أنا , سايبك ترجعي براحتك، ساعتها... قاطعته بعند وهي تنفض ذراعها بعيدا عن مرمي قبضته:
- ماتلمسنيش... وأعلى مافي خيلك أركبه یا جاسر والتفتت لتطالع وجه الأخرى الغاضب التي كانت تراقب مشهد زوجها المفتون کليا بأيقونة ماضيه يقف وحواسه كلها منصبة عليها وعيناه تحملان رجاءا لم تره من قبل وكيانه کله موجه نحوها ولكن للغضب الأعمى بداخلها لم تكن تبصره هي فقط تبصر خيالا لليلتان قضاهم من كان يوما زوجها بأحضان غيرها، حتى أنه قضى ليلة الأمس برفقتها فقط فمضت تخطو مسرعة لتتجاوز بعدها تلك الفاتنة التي اقترن اسمها به نحو الخارج نحو هواء لايحمل أنفاسهما نحو أفق لا يحمل مشهد حميم يجمعهما نحو دفء يقبع بیت محسن ومجيدة وكما اعتادت فور وصولها الصعود للأعلى حيث مكان أبيها المفضل وتعثرت بالدرجات الخشبية فأحدثت ضجة فدموعها كانت تهطل بغزارة دموع الفقد للظهر والسند دموع الاشتياق للمسة حانية تخبرها أن كل شيء سيكون على ما يرام دموع الحاجة للشعور بالأمان وأن هناك من يقف خلفها تماما يراقب ويحمي دموع تحتاج وبشدة لمن يمحيها ويبدلها ببسمة ولكنها وجدت أحضان أمها من تتلقفها فتشبثت بها قبل أن تغرق أكثر ببحر دموعها قائلة:

- بابا واحشني أوي ياماما ولمس وجهها وجنة أمها التي كانت غارقة هي الأخرى بنفس الطوفان فردت هامسة:
- أدعيله بالرحمة باسالي

 

تاااابع ◄