رواية لقد كنت لعبة في يده الجزء الحادى عشر

 

 العمليات الحسابية جزء لا يتجزأ من حياتها اليومية
مضت نحو المصعد وهي تحمل بقالة تكفى عشاءا وفطورا
لأطفالها وهي تحصي الجنيهات بيدها الأخرى ١٦ جنيه ربع جبنه،٢٠ جنية ربع بسطرمة!



mpadsense

كيف ومتى قفزت الأسعار تلك القفزة الجنونية؟!
عقدت حاجبيها وهي تفتح الباب وكادت أن تصطدم بالخارج منه
وعادت للخلف خطوتين و لولا أنه أسرع ومد ذراعه نحوها لكان نصيبها حتما سقطة مهينة من فوق الدرجات العريضة تحت ناظريه
عبست بشدة فى وجهه وتمتمت بحرج شديد:
- متشكرة يا دكتور نبيل
تنحنح قائلا بحرج هو الآخر:
- أنا اللي آسف زقيتك منغير مقصد كنت مركز فى حالة مريض كده شغلاني.

ولمح بفطنته خطواتها المتقافزة نحو المصعد فقال:
-آسف مش هعطلك أكتر من كده
ودون أن تلتفت له مرة أخرى قالت:
- معلش أنت عارف الولاد بيبقوا قاعدين لوحدهم
ووقف هو يتطلع اللمصعد المغلق إثرها يتابع بعينيه تلاحق
الأرقام المضيئة على شاشته ونسي تماما حالته التي تنتظره في المشفى،
منذ أن انتقل للعقار منذ خمس سنوات وشغلته تلك المرأة التي تعيل بمفردها أسرة مكونة من ثلاثة أطفال أشقياء..أشقياء جدا.

فى الواقع، بل الصغير وحده.
متذكرا حوادث الصغير المتتالية آخرها حريق أشعله بمراب
العقار منذ شهران تقريبا عندما كان يجري تجربة على سرعة
إشتعال الحرائق بكميات مختلفة من الجازولين
أما الأوسط فصبي يبلغ إحدى عشر عاما معتدل في الطول معتدل في الهدوء
والكبير البالغ ستة عشرة أعوام أكثرهم هدوءا ورزانة كأمه بالضبط
وهو الأعزب الذي أصاب الأربعون كرمح لا يخطىء فوصل مداه بل وتخطاه بثلاثة كاملة
مكتفيا بمهنته السامية وبنجاحه وبخطبة وحيدة أثمرت عن ستة
أشهر لا أكثر بعدها هجرته لآخر أكثر مالا وسطوة

صوت التلفاز أثار استياء الجارة في الشقة المقابلة
علمت ذلك فور تطلعها لملامحها المنقبضة والغير راضية بالمرة
بل وأنها حاولت مخاطبتها ببعض كلمات الأسف التي أصبحت
تبتلعها كل صباح ومساء فلم يصل لسامعي جارتها والسبب
صوت المذياع الذي انضم للحفلة المسائية التي يقيمها صغيرها
دفعت الباب ووضعت أكياس البقالة بعنف ومضت نحو لوحة
المفاتيح التي تتحكم بكهرباء المنزل وأطفأتها بحسم
فغرقت الشقة في ظلام دامس.

وبعد لحظات اصطدمت عيناها بضوء المصباح اليدوي المنبعث
من كف صغيرها وهو يكتم ضحكاته فتقدمت منه غاضبه ونزعته
من يده ووجهته نحوه وهي تقول بغضب بالغ:
- أنا كل يوم أرجع ألاقي المهرجان ده شغال!
رد صغيرها:
- وأنا أعملك أيه أنت اللي بتتأخري وبحس البيت فاضي منغيرك
تهدلت كتفاها بتعب ونظرت إليه ولملامحه المشاكسة تماما مثل أبيه
بارع وبشدة في إشعارها بأن الخطأ خطؤها بالأساس.

والذنب كان ذنبها بالأصل
بل وعليها تقديم إعتذار فوري وحاسم
فرفضت بعند تلك المرة وقالت:
- فين أخواتك؟
أجاب متبرما:
-عمرو في الدرس وحسين حاطط السماعات في ودنه ونايم
تركها ومضى فى الظلام يتحسس طريقه:
- حضرتلك الغدا مع عمرو ..اتغدى هوا قبل ماينزل مع حسين

وأنا قلت أستناك،بس كنت غلطان
تمالكت ضحكاتها المختلطة بدموع الذنب وهي تراقب رحيله
الغاضب نحو غرفته وهي تفكر
"بل هو أبيه "
أغلقت التلفاز والمذياع وتحسست بقية الأجهزة تحسبا وبعدها
أعادت المفاتيح لوضعها وعمت الأنوار أرجاء شقتها الواسعة
الغرف كلها مضاءة حتى حمام الضيوف!
فصغيرها رغم شجاعته وحماقته اللامتناهية يرهب الوحدة كأي طفل في عمره،
دخلت غرفته التي يتشاركها مع أخيه الأوسط وهى تخاطبه:
- ماتزعلش يا أيهم ..يعني عاجبك كل يوم أرجع الأقي طنط اجلال مقبلاني بالشكل ده؟

جعد أنفه بحركة صبيانية مشاكسة:
- وأنا مالي بأم أويق دي عنفته سريعا:
- ولد! أتأدب ..مايصحش تقول عليها كده
ظل عابسا بل وصمم على مزيد من التجاهل همست وهي تقترب
- اللي خلف مامتش،طالع عنيد لأبوك
جذبته بحنان وقبلته بدفء وهي تعبث بخصيلات شعره الغزيرة الناعمة قائلة:
- أنا هروح أتشطف وناكل سوا
واطمأنت قبل أن تخرج على الآخر الغارق بسبات نوم لا ينتهي

إثر كل مباراة قدم يشترك بها فريقه ورفعت في طريقها للخارج
ملابسه المتسخة التي ألقاها بإهمال
وقبل أن تخلع ملابسها قامت باتصال هاتفي مع والدة صديق
إبنها الأكبر والتي يقام فى منزلها درس الرياضيات لتطمئن على ابنها

أن تفقد الأنثى إهتمامها فجأة بالرجل
فهذا يعني أنها قد توقفت عن حبه
بل ربما كراهيته أيضا منذ زمن بعيد
ولكنها لم تفقد إهتمامها به قط ولا توقفت عن الشغف به وبكل تفاصيله
حتى أنها وبعد مضي الساعة لازالت تنتظره بالشرفة
تفتقده وتشعر بالقلق البالغ عليه
ولكن كبريائها أو بالأصح بقايا كبرياء استقرت داخلها تمنعها من
أن تفعل وتريح على الأقل قدميها
ولاداعي لذكر العقل الذي توقف عن العمل منذ أن تخطت
الساعة منتصف الليل بكثير فالقلب قام بالمهمة على أكمل وجه

ومر بخاطرها كل الظنون والمساوىء اللعينة التي قد تصيبه أثناء
غيابه،وطرقت برأسها للمرة الألف ربما لهاتفها الساكن فوق الطاولة تراجع إشارته وصوته
إذا مالذي يمنعه من الإتصال والنزول من عليائه قليلا ليتصل بها ويطمئنها عليه؟!
" لو إمكانها الإتصال به كما كانت تفعل بالماضي
الماضي الذي يعد بالنسبة لها ماض سحيق يعود ربما لأول سنة من عمر زيجتهم
كان أحيانا كثيرة يقابل نوعية تلك المكالمات القلقة من جانبها.

بشيء من النفور حيث أنه لم يعد طفلا صغيرا
ولكن الأمر أضحى تبرما واضحا لإضاعتها وقته الثمين بتلك
الأسئلة الفارغة التي لا معنى لها سوى أنها تعاني من فراغ وضيق أفق بين وتوقفت عن الإتصال به
"فقط للطوارىء"
كانت تلك كلماته بالتحديد عدا ذلك لن يرد عليها
وماهي الطوارىء بالنسبة له سوى مكروها أصاب والدته المصون
أو أحد الأبناء بعيد الشر
أو هي .."قالها على إستحياء"

وربما كان داخله ذيظن أنه لا مانع هكذا توقن
وهكذا توقفت عن الإتصال به
حتى في الطوارىء
التي حدثت مرة أو اثنتان وتكفلت الجاسوسة نعمات بالإتصال
إذ وقع سليم من أعلى الدرج مرة كلفته شقا أسفل ذقنه ومن ستر
الله لم يكن ظاهرا للأعين ولكنه كان في نظره جرحا بليغا مهولا،جرحا يجسد تقصير وإهمال منها
هكذا كانت هي دوما المقصرة بحق أبناءه،أمه وهو ..
الجميع باختصار!

وعاودت النظر للهاتف مرة أخرى
وأبدا هي لن تتصل به
ولكنها ستظل واقفة لساعة أخرى ربما تنتظره وبعد أن يعود
ستتظاهر بالنوم كما كانت تفعل منذ أسبوع تقريبا
فبعد أن تحسنت الأجواء نسبيا بينهما وشعرت سوسن خانون
بتلك الهدنة المؤقتة حتى أشعلت حربا جديدا معها
وكالفراشة الساذجة التي تنجذب للهب مرة بعد الأخرى
وقعت بشرك مؤامرتها التي لا تكف عن اللجوء لها
افتعال مشكلة ما،تتطاول فيها عليها بالإهانات
فلا تسكت سالي ولا تنتبه أنها دوما تختار توقيتا مثاليا يكون
فيه جاسر على وشك العودة والدخول للمنزل ليرى أمه بهيئة.

أقرب للإغماءة وزوجته وقد اشتد غضبها واحمر وجهها وصوتها يهز أركان المنزل الواسع،
ولكن تلك المرة كانت سوسن خانون تمادت هي الأخرى
بالسباب والإهانة حتى طالت ذكرى أبيها المرحوم
فاندفعت سالي بسباب مماثل لها تلك الشمطاء
لم يكن سبابا بالمعنى الحرفي ولكنها فقط قالت أنها لن ترقى
أبدا لتكون إنسانة حتى تسب ميتا لم ترى منه شرا قط ولمحت في عيناه رفضا وتخاذلا.

فلا هو أسكت أمه التي تمادت بالسباب في حضوره
ولا هو واساها بعدها
بل تلك النظرة المخزية التي تخبرها أنها خذلته
اللعنة عليه وعلى أمه وعلى خذلانه الوضيع
كادت تلملم أشياءها
فلا بقاء لها في منزل تحت سقفه أهينت ذكرى والدها الحبيب
وكانت على وشك أن تجمع ملابسها وترحل للأبد
ولكنها توقفت وكفت عن جمع الملابس بل ورتبتهم من جديد
في هدوء بالغ وبديناميكية شديدة أعادت كل شىء لمكانه.

وكأنه كان بداية حريق أسقط فوقه دلوا مملوءا بماء بارد وانطفأ
عندما همست لها نفسها الجبانة أنه أبدا لن يأتي ليسترضيها
وسيتركها فى بيت أهلها حتى تتعفن
وكرهت نفسها وكرهت تلك حقيقة
وبقيت
ونفسها تواسيها أن في بقاءها غضبا أشد لتلك الشمطاء
فإن رحلت فهذا معناه أنها قد انتصرت عليها
ولاتدري متى تحولت من إنسانة هادئة خجولة مطمئنة لتلك التى
تترصد المضايقة والإنتقا ؟
حتى لو كانت خاسرة فهي رابحة طالما الطرف الآخر خاسر مثلها
متى فقدت طمأنينتها؟

متى فقدت سلامها النفسى ؟
متى تحولت نفسها الحلوة لتلك المرة
بل والسؤال الأهم متى ستسعيد صفاء روحها ونقائها ؟!
وهل كان يستحق ؟
أكان جاسر يستحق تلك التضحيات؟

في الصباح تكون أكثر نشاطا
أكثر تقبلا لمعطيات الحياة
وكأنها تعاهد نفسها على البدء من جديد رغم كل الصعاب
رغم كل مامر بها
فقدانها لأمها وهي طفلة فى الثانية عشر من عمرها قدر ماكان
قاسيا قدر ما لقنها درسا بقيمة الأشياء والأشخاص في حياتها
ويوما بعد يوم يزداد نضوجها وتقل حاجتها للناس من حولها
منذ إصابه والدها بوعكة صحية شديدة العام الفائت أخذت
تمرن نفسها على تلقيها خبر رحيله عن الحياة لتصبح بعدها وحيدة تماما دونه
نعم هي أحيانا تشعر بالوحدة.

بالرغم من أنها زوجة وبامتياز خمس أعوام مرت
لكن اليوم وتحديدا تلك الساعة المبكرة من هذا الصباح
وهي ممسكة بهاتفها وشاشته تحمل صورة واضحة لملامح
زوجها وهو يغازل أخرى فاتنة لم تكن تجهلها فالكل يعلم من تكون
"داليا الزهري "،
أيقنت بالفعل أنها وحيدة

"عملت أيه يا مجنونة ؟"
لم تلتفت لصراخ صديقتها المقربة منها وقالت بسأم:
- بعت الصور لمراته
قفزت إنجي من على الكرسى الممدد تحت أشعة الشمس
وجلست على طرفه لتقترب من صديقتها التي وبالرغم من جمال
بشرتها إلا أنها تصر على صبغها بلمحة برونزية قائلة:
- ليه ؟كده زياد ممكن يبعد عنك
خلعت نظارتها الشمسية ومالت قليلا ناحيتها وقالت بنفاذ صبر:
- ومين قالك إن زياد يهمني ؟!

شعرت أنها تتوه في مخطط صديقتها بالرغم من أنها كانت سابقا من تحركها بترتيبات لم يكن لعقلها قبل بها
- داليا بجد أنا مابقتش فهماك
ون الهاتف ليقاطعهم فنظرت فيه قبل أن تناوله لها قائلة:
- ده زياد ..أكيد آشري ماسكتتش
تناولت منها الهاتف وألقته في حقيبتها بإهمال فرفعت إنجي
حاجبيها بتعجب:
-كمان مش هترد عليه
وضعت نظارتها من جديد وأجابتها بهدوء:
- توء

وأطلقت بعدها ضحكة عابثة عندما تلقت ملامح الخيبة والتبرم
المرسومة بدقة على وجه صديقتها وقالت لها:
- الصبر يا إنجي ..كل شىء في وقته

استيقظ متأخرا على غير العادة فرغم تجاوز عدد ساعات عمله
مؤخرا للعشرون ساعة أحيانا إلا أنه كان يحافظ على موعد استيقاظه بعد شروق الشمس بقليل يتريض لنصف ساعة في
حديقة القصر وبعدها يتناول فطوره ويستمع
ربما لشكاوى المحيطين به
بدءا من صغاره لأمه،أما زوجته فتكتفى بسلخه بنظرات غير راضية
وأن أمن نفسه ضد هجمات عيناها سيظل فراشه البارد بها أو دونها دليلا دامغا على توتر العلاقة بينهما
إلا أنها في الآونة الأخيرة أضافت لمجموعتها أداة تعذيب جديدة
يراها من خلال إنعكاس مرآة سيارته كل ليلة وهي تنتظره في
الشرفة لوقت متأخر وعندما يهم بالصعود لغرفتهم يجدها وقد
تمددت فى الفراش متظاهرة بالنوم، وفي الصباح تهمل حضوره كليا!

واصبح لا يرى منها إلا ظلا غاضبا يتبعه طوال النهار ويلقي له بنظرات نارية، فلا يجد سوى بحر العمل ليغرق فيه هربا من ضيق صدره وغضبها المفتعل دوما
لقد وبخ أمه كثيرا لتطاولها على ذكرى حماه رحمه الله،فهو
برغم كل شيء إلا أنه يحمل ذكريات طيبة لهذا الرجل الرائع ويحترمه
وأحيانا يلقى على مسامع صغيرته سلمى حكايات عن جدها الحنون
ولكن سرعان ما وأن عالجته أمه بعيون دامعة واعتذار صادق عن
آلامها وماتسببه الأدوية التي تتعاطها.

ضيق خلقها مؤخرا بسبب
من تعب بالغ بالاضافه لمرضها الذي لابراء منه
تلك الآلام التي يقف عاجزا أمامها ويرقب أمه وهي تارة تحاربها وتارة تستسلم لها
بإختصار إنها تذوي أمامه وبالبطيء، بينما هو مكتوف الأيدى أمر قاتل
ومع كل ماتمر به أمه من معاناة مع مرضها العضال يجد زوجته
دوما سريعة الغضب والإشتعال في كل مايخصها، ويبدو أنها لاتقدر مطلقا حجم تلك المعاناة
مما يشعره بأنها ببساطة خذلته.

صرخة شقت سكون القصر بعد إنصراف الأبناء لمدرسهم
"ألحقنى ياجاسر بيه"
- ماتقلقش شوية تعب بسيط.. هنغير بس فى بروتوكول العلاج وهنتابع
هكذا كانت كلمات الطبيب قبيل إنصرافه ولكنها بالتأكيد لم تنجح في تهدئته
تغيير نظام العلاج ليس له معنى سوى بأن مرض والدته انتقل لمرحلة أكثر تعقيدا وخطورة
رغم العملية الجراحية الناجحة على عكس كل التوقعات التي أجرتها منذ عام
قابلها أخيرا وجه لوجه غير متشبثة بنظرة عبوس ولا متظاهرة بنوم
عميق تقف أمامه،ترتجف بشبه إهتمام
-"هيا عامله إيه دلوقتي ؟ "

وبسخريته المريرة رد:
"لو تهمك أوي ادخلي اسأليها واتطمنى عليها "
زمت شفتيها وقالت:
- طالما أنت عاوزكده
عندها قاطعها بغضب بالغ،غضب استعر به،
كلا،فهو لن يطلب شفقتها على أمه
- لاء،أنا مش عاوز كده ...لكن لو يهمك أدي الأوضة وأدي
الباب...اكبرى ياسالي أنت مش لسه عيلة صغيرة
تحرك من أمامها لأنه كان يعلم جيدا أنه لاجدوى للحديث وأنها
أبدا لن تطرق باب الغرفة وتدخل لتطمثن عليها كما تدعي الاهتمام
وهو كان غير راغب بذلك المشهد

نظراته لم تعجبها ولم تعجبه على حد سواء
مااله؟ !
يتطلع إليها كأنها آخر إذمرأة على ظهر الكون
وهو الذي كان ساكنا في محراب زوجته الراحلة حتى بعدما توارت تحت الثرى
عدلت عويناتها مرة أخرى وهي تحدث نفسها "هكذا هم الرجال، يدفنون الوفاء بقبور زوجاتهم "
ثم تابعت بصوتها الرخيم الهادىء:
-"أنا بقترح نعجل بالشرا حتى لوكان التمن مبالغ فيه وإلا هنخسر أكتر بعد كده"
وضعت القلم في إنتظار لرد فعل من جاسر الصامت على مدى
ساعات النهار متجاهلة تماما تعلق أسامة بقسماتها واعتبرته اليوم
كليا،فقد عقله بعد رحيل زوجته وابنته الوحيدة
بل منذ عودته مجنون

وليس على المجنون حرج
"أنا أول مرة آخد بالي من لون عينيكي "
عبارته شقت الصمت المخيم على الأجواء
وكانت ببساطة تأكيدا على ذهاب عقله
أيغازلها الآن ؟!
هل ارتقت أفعاله الصبيانية منذ عودته لغزل صريح وبحضره أخيه الأكبر ؟!
وضع هو الآخر قلمه بعصبية شديدة فيما كانت هي تجمع أوراقها
المتناثرة على سطح طاولة الاجتماعات العريضة متجاهلة تماما ملاحظة أسامة الوقحة بنظرها،
شكرها جاسر بنبرة عملية مؤكدا عليها الأخذ بنصيحتها قيد
الإعتبار وهو يصب نظراته الغاضبة والمرهقة على أخيه الأوسط
الذي كان يخرج سيجارا رفيعا ويشعله في برود تام

- على فكرة ماما تعبانة أوي تلك العبارة كانت
" كفيلة بإخراجه من عزلته الباردة التي كان يعتنقها من حين لاخر
- مالها؟.سأل بإهتمام
رمقه جاسر بنظرة لائمة وهو يقول:
- الدكتور بيقول أن الموضوع نفسي أكتر ومع ذلك هيغير العلاج
وأردف:
- وأنت بطلت تسأل عليها أو تزورها
همهم بإعتراض:
- ما أنت عارف
- أيه ؟ الشغل ولا لون عيون درية !

ما أقساها سخريته، كسوط يمر فوق ظهره يجلده
وما أبغضها أنانيته،
انغمس بنفسه وجروحه ونسي المحيطين من حوله،
لقد أشفق على زوجته الراحلة من تحمل ويلات مرض أمه
وكالعادة قام جاسر بتولي الأمر الذي انعكس سلبا على حياته
واستقرارها ومزاج زوجته الشابة،
مكتفيا بزيارات متقاربة من حين لاخر وسؤال متصل ولكن بعد مصابه الأليم
انعزل بحياته وتخلى عن مسؤلياته تجاه أمه
وكم هو مر مذاق، التقصير بحق من نحب ونهتم
- هعدي عليها النهاردة

-آشري إيه المفاجأة دي
- أتمنى تكون مفاجأة لطيفة
-أكيد ..طبعا يل بيبي .هاه تحب أطلبلك إيه ؟
مافيش داعى يازياد ..أنا بس حبيت أسلم عليك قبل ما أسافر طيارتي كمان ساعتين
عقد حاجبيه بتعجب بالغ وقال بسخرية مريرة:
-لا والله وفجأة كده قررت تسافري وأنا إيه آخر من يعلم؟!
نظرت له بهدوء،لم يتغير قط هي فقط أصبحت تراه الآن أفضل من أي وقت مضى:
- هوا فعلا حصل فجأة بابا تعبان شوية والتحاليل مش كويسة.

أوي حجزتله متابعه مع الدكتور بتاعه في ألمانيا ..الموضوع تم
بسرعة وماكنتش عاملة ترتيب وقلت أهي فرصة
قام واتجه نحوها وهو لازال عاقدا الحاجبين يود استكشاف ما
هيئتها المثالية الباردة وهي متمسكة بقناع جليدي أعلى
قسماتها قائلا بتمهل:
- فرصة لأيه بالظبط؟
اقتربت منه وهي تعدل من ربطة عنقه قائلة بصوت خافت:
- اتطمن على بابا بنفسى .المهم ..خد بالك أنت من نفسك
ابتسم وقال:
- ماتقلقيش عليا
طبعت قبلة أعلى ثغرة فجأة وتركته بعدها مترنحا من أثرها ورحلت
رحلت ولم يرى سوى ظلها يتخافت رويدا رويدا مع رحيلها
بل ولم يرى دمعتها الحبيسة بعيناها والتي توارت خلف نظارتها الشمسية القاتمة.
يكاد حرفيا يقتله
ذاك الجنون الغاضب الذي يعتمل بصدره
وأنفاسه الحارقة بدلا من أن تمده بالأوكسجين
تخنقه!

حل قليلا ربطة عنقه التي يلتزم بها لآخر النهار وهو يتطلع مجددا
لصورة أخيه الأصغر الضاحك برفقة أحدى بطلات ماضيه المشحون
وتأملها لقليل من الوقت لم تكن نظراته عابرة
عشرة أعوام مضت بل إحدى عشر ليكون أكثر دقة
لازالت كما هي بل ربما ازدادت جمالا وقسوة
خصلاتها الطويلة ربما تقاصرت للنصف.

لكن عيناها الفيروزية لازالت تتمتعان بالغموض الذي لا يخبو مع مر الزمان بل يزداد تألقا
ورغم ذلك استطاع قراءة ماورائها بقليل من الجهد فمنذ ثالث
لقاء لهما أفصحت عن حب جارف له وعلاقة استمرت أربعة أشهر
ومع ذلك ببرود تخطاها نحو صالح العائلة،لا أكثر
لم يكترث لقلبها ولا دقاته التي خبتت مع هجرانه لها
ولا لكبرايائها التي سحقها هو بعنفوان تام
تحت مسمى كبريائي الأبقى والأعلى شأنا
ففارق العمر بينهما كان يصل لعشرة أعواما كاملة
ولكن لم يكن هذا العائق الوحيد بينهما،

بل كان والدها "أمين الزهري "
الذي كان يسعى لسحق اسم "آل سليم "بكل ما أوتي من قوة لتكون له اليد الأعلى.
والان عيناها تتوهج نحو أخيه الذي يصغره بخمسة أعوام، النسخة الباهته منه
مشاعره كانت أبعد ما تكون عن الغيرة
ولكنها كانت ثائرة
فهو يعلم أخيه تمام المعرفة
غر، ساذج، أهوج
وسيندفع نحوها مقدما لها كل القرابين التي يمتلكها و لا يمتلكها على حد سواء
وأعظم قربان قد يقدمه،
زواجه الذي أصبح على المحك
فمن أرسل لهاتفه تلك اللقطة التي تجمع بين العاشقين،لابد.

وأنه قد تكلف العناء وربما أقل قليلا نحو هاتف آشري
يحتاج للذهاب للمنزل وصب الماء البارد فوق راسه ربما تمكن
بعدها التفكيير بعقلانية لحل تلك لأزمة
فالحديث الودي الناصح مع أخيه لم يكن يوما فرضية مطروحة
ولكن قبل أن تتحرك خطواته نحو الباب ليغادر الشركة فاجأته
درية بإقتحام مدوي بدقات كعبها الصارخ وهي تقول بإنفعال حانق:
- للأسف أتأخرنا كتير أوي ..مجموعة الزهري سيطرت على كل الأسهم
لمعت عيناه واشتدت قبضته على زر ياقته وهو يغمم لنفسه
-إذا فهي الحرب !

الحظ يبتسم له مجددا
فجميلته دعته لأول مرة في منزلها الخاص
ولديه الليل بطوله ولربما استطاع إقتناص المزيد من ساعات
النهار الأولى،وزوجته قد سافرت صباحا ولن تعود حتى مرور أيام أو ربما أسابيع
قبض على ذراعها وهي تتجه نحو الطاولة المستطيلة لتجهز له مشروبا منعشا وهو يحادثها لائما:
- مابترديش على مكالماتي ليه ؟

عبست له وقالت بدلال لم تتصنعه
فهو يمتزج مزجا بدمائها المتحركة:
- زياد أنت عارف أنا مشغولة أد إيه في الشركة والزفت المندوب مبهدل الدنيا
جذبها إليه وهو يقول:
- حبيبتي أنا تحت أمرك قوليلي اللي نفسك تعمليه وأنا أساعدك
ازدادت خطواتها نحوه بإقتراب مهلك وعطرها يلفح أنفاسه قائلة برجاء:
- بجد يا زياد هتقف جمبي وتساعدني؟
هتف بها بشوق:
- طبعا في أي حاجة،أنت تشاوري بس
طوقته فجأة وهي تهمس له:
- ربنا يخليك ليا
شعرت بإشتداد قبضته فوى خصرها وحركات جسده المتطلبة نحوها
فتملصت منه بنعومة معنفة إياة بدلال بضحكة.

مثيرة:
- زياد وبعدين معاك
نظر لها كطفل خائب منعت عنه حلواه وهو يقول بتأثر:
- اعمل إيه معاك بس ؟
جذبته ليجلس وهي تقدم له شرابه قائلة:
-احنا هنقعد سوا نشرب ونلعب وبعدين ..
صمتت تاركة المجال لتخيلاته فقال بمكر وهو يتأمل هيئتها
المتواضعة التي لم تكن تنبأ عن نوايا مثيرة من ناحيتها
جينز باهت يحيط بساقيها المثيرة جدا للإهتمام فوقه تنسدل
بلوزة قطنية بسيطة بلون أزرق قاتم ووشاح مزركش يحيط برقبتها
وخصلات شعرها مرفوعة بمطاط صغير لا شكل له
وبعدين إيه ؟!

دفعت له بالشراب ليتجرعه، شرابا مخلوطا بمسحوق "سحرى" كما اعتادت تسميته
قائلة بمكر مماثل:
- بعدين دي هتعرفها من نهاية اللعبة
اقترب منها وهو يصب لنفسه كأسا آخرا وهو يقول:
- لعنة إيه ؟

أمسكت بورق اللعب وهي تقول له بحرفية تامة:
- هنلعب بالورق .واللعبة جولات واللي هيخسر جولة ...
صمتت وحدقت بعيناه وهي تعض على شفتيها فأرسلت
القشعريرة بخلاياه فقال بإندفاع:
- يعمل إيه؟

أسبلت عيناها الفيروزية ولمست بخفه يده القابضة على كأسه وقالت بصوت دافىء:
- يقلع
ولكم كانت لعبة رائعه بنظرة فهو يود وبشده إستتكشاف جسدها
القابع تحت تلك الهيئة الفوضوية المثيرة
وضع كأسه بحماسة وهو يقول:
- وأنا جاهز
لمعت عيناها بنصر وهي تجهز الطاولة كالصياد الماهر ألقت
الطعم ووقعت الطريدة بالفخ الذي نصبته لها
كالعادة استغرقت بعملها على الحاسوب وتناست الوقت الذي
كان يمضى سريعا خلف إنصراف جاسر هو الآخر

تطلعت لعقارب الساعة شاهقة لقد تجاوزت السابعة بقليل
فلملمت أوراقها وأغلقت الشاشة أمامها وارتدت حذائها المطروح أرضا إلى جوارها
وسارت بخطى مسرعة نحو المصعد وعندما فتح الباب تطلعت لوجهه بدهشة بالغة فابتسم وقال:
- سحبت الأسانسير قبل ما أضغط أنا عشان أنزل.

هزت رأسها وقالت:
- خلاص اتفضل حضرتك
وشددت على كلمة "حضرتك" فضاقت عيناه ومد يده ليمنع انغلاق باب المصعد
وقال بتوتر:
-أركبي يا درية أنا مش هاكلك
عقدت حاجبيها بغضب،أيظن أنها حتى
تخشاه ؟!
مضى يتطلع لقسماتها العابسة فقال بخفة:
جاسر مشى ؟

ردت بإقتضا:
من ساعة
عقد حاجبيه وتوقف المصعد وفتح الباب فهمت بالخروج مسرعة إلا أنه اعترضها قائلا:
- وأنت إيه اللي مقعدك كل ده ؟
رفعت عيناها إليه فبرغم أن طولها يتجاوز المائة وستون سنتيمترا إلا أنه كان يفوقها بكثير
وقالت بحرفية بالغة:
-كان عندي شغل
كان لازال يحملق بها عابسا وهو يقول:
- ومين اللي قاعد مع الولاد دلوقت ؟

ردت بتهكم ضائقة ذراعا بمحاصرته له بالكلمات والنظرات
الغير مفهومة:
- مافيش حد ولذلك بعد إذنك مضطرة امشي بسرعه قبل ما يحصل حاجة لا قدر الله
استبق خطواتها المسرعة وهو يقول:
- هوصلك هكذا،
انصرف وهو يلق لها بهذا الأمر ببساطة وكأنما عليها الطاعة فقط لاغير !
حملقت بأثره وقد اشتاطت غضبا وصممت على تجاهله
كان قد انصرف لسيارته الرياضية الفارهة ذات اللون الأحمر.

الصاخب إحدى مظاهر التغيير الغير مفهومة التي طرأت عليها
فهو كان يعتنق سيارة رباعية عائلية لمدة تزيد عن الخمس سنوات
وتوقفت جانبا في إنتظار لظهور مؤجل لأحدى سيارات الأجرة
الشاردة والتي قلما تجود الظروف بها في مثل هذا التوقيت
توقف بالسيارة أمامها محدثا عاصفة ترابية محدودة وهو يقول.

بنفاذ صبر:
- رقم واحد مش هتلاقى تاكس السعادي،رقم اتنين لو لقتيه ٩٠ هيكون شارب ومتنيل، فاركبي أحسن يادرية وبلاش عند
عقدت حاجبيها وهي تحدق بهيئته،إنه يصرخ بها آمرا إياها بتنفيذ ما قد ألقاه على مسامعها آنفا والأدهى أنه محق
فهي حقا تخاطر بإضاعة المزيد من الوقت في إنتظار اللاشيء.

وقد يظهر هذا اللاشيء ولكن قد يحدث مالا يحمد عقباه
كانت تغلي وتزبد ومع ذلك استنشقت نفسا عميقا وهي تفتح
الباب راسمة على وجهها ببراعة تلك الملامح التي تواجه بها
أفعال صغيرها التي تدفعها للجنون في كثير من الأحيان ومفادها "حسابك معايا بعدين"
ولغرابة الأمركاد يقهقه وكتم ضحكته بصعونه
لا يعلم مالذي يكتنفه مؤخرا عندما يكون بمواجهتها ولكن عليه أن يعترف أن الأمر أضحى ممتعا
بل هو في الواقع ممتع لحد كبير.

مكالمة هاتفية واحدة وراء الاخرى تطمئن فيها بصوت رقيق
على أولادها أذاب عظامه وختمت حديثها بضحكة عفوية وهي تقول لصغيرها:
- خلاص يا أيهم،اما ارجع،اقعد هادي ومؤدب وماتديقش إخواتك
وضعت هاتفها في حقيبتها وأخير كسر حاجز الصمت المرسوم بينهما ليقول بتعجب ايهم ؟!

قالت يإمتعاض:
- باباه الله يرحمه هوا اللي اختار الأسم
ضاقت عيناه وقال:
- وواضح إنه مش عاجبك أقرت بضيق:
- معناه مجنون قال بمكر:
- مايمكن مجنون بيك
ثم سألها:
- وبقية ولادك أساميهم ايه ؟

ردت بهدوء:
عمرو ١٦ وحسين ١١ سنة
ارتفم حاجبيه بدهشة:
- يااه على كده اتجوزت بدري أوي
توترت شفتاها وقالت بجفاف:
-كان عمري عشرين
حرك شفتيه ساخرا وقال وهو يسترجع لحن الأغنية الشهيرة:
- امبارح كان عمرى عشرين
نظرت له بطرف عيناها وصمتت وداخلها يؤكد لها أنها إحدى.

علامات اللوثة التي أصابت عقله وعادت للتركيز مجددا على
الطريق ثم قالت بنبرة خاوية من أية إنفعالات:
- أنا هنزل آخر الكوبري
ولدهشتها انصاع لأمرها ولم يعترض بعد أن كانت جهزت ردا
صاخبا ونادها قبل أن تترجل برقة قائلا بإبتسامة واسعة:
- هستناك بكرة يادرية

عقدت حاجبيها وأومأت براسها بتعجب وسارت خطوات قليلة وهي تفكر بغرابة عبارته
ولم تكن عبارته غريبه قدر فعلته فما أن ركبت سيارة الأجرة
حتى تبعها إلى حيث منزلها وأعطاها إشارة ضويثة من سيارته
وهو يشير لها مودعا منصرفا وهو يدندن الأغنية الشجية التي كان يهواها

إنها بحاجة ماسة لحمام بارد تصبه فوق جسدها المتعرق جراء جريها لساعة منصرمة
ألقت تحية المساء على طفليها وقبلتهما وصعدت فورا لغرفتها متحاشية لقاء حماتها أو خادمتها
وخلعت ملابسها دفعة واحدة ولفت جسدها الذي تناقص خمس
كيلوجرامات بمنشفة وردية عريضة وتأملت قدها بفخر في المرآة وهي تفكر،
ستستحم وتتناول المشروبات الحارقة التي أوصتها بها المدربة والعشاء "زبادي وثمرة فاكهه"
ولن تفكر أبدا في تناول حلوى التشيزكيك القابعة في البراد

وعندما التفتت لتدخل الحمام كان هو قد دفع الباب ليخرج فصدم حافته جبهتها فصرخت متأوهة
أمسك برسغها سريعا ويده الأخرى تستقر على كتفها العارى
وتأملها بشغف حارق قائلا بصوت أجش:
- أنت كويسة؟!

رفعت أنظارها له بخجل شاعرة بعريها تحت أنظاره المتعلقة بها
وازداد خجلها منها عندما لمحته هو لآخر يلف جسده بمنشفة
حول خصره ولازالت بعض قطرات الماء متعلقة بجسده وخصيلات شعره لم يغيره الزمن قط
فقط هي من ترهل جسدها وازدادت ملامحها عمقا
رمقت عضلات صدره بحسد وابتعدت عنه قائلة بخشونة:
- رجعت بدري يعني.

شعر بنفورها منه فاستقام في وقفته كتمثال إغريقي وقال متهكما
- قلت أرجع قبل ماتقفي تستنيني في البلكونة وتعملي نفسك نايمة أول ما أدخل الأوضة
ازداد إحمرار وجنتها وضمت المنشفة أكثر حولها وهي تتجه ناحية الحمام مرة أخرى قائلة بإتهام:
- ما أنت لو كان يهمك كنت على الأقل اتصلت.

أمسك برسغها مرة أخرى وقال:
- أنت اللى لوكان يهمك كنت اتصلتى
التفتت له بحدة وقالت:
- للطوارىء يا جاسر،اتصل للطوارىء
اقترب منها ووعيناه تلومانها قبل لسانه:
- وكأنك ماصدقت
تقافزت الدموع لمقلتيها وهي تستنكر:
- ده أنا ولا أنت ؟!.

هز راسه وهو يردد بإقرار:
- أنا .أنا اللي مهما أعمل مش عاجب
فابتسمت بسخريرة مريرة وهي تغالب دموعها المتساقطة وبصوت خافت متقطع
ردت:
-لا ده هوا ده بالذات،أنا
مد يده ومسح دموعها بعنف وقال هامسا بقسوة:
- مابحبكيش تعيطي.

رفعت راسها وقالت بعند:
- معاك حق أصلا مافيش حاجة مستاهله عياط
وانصرفت لحمامها وهي تلعن كل شىء
تلعن الصمت المجروح والكلمات الجارحة
تلعن إشتياقها له ونفوره منها
تلعن ضعفها وجبروته
تلعن إحتياجها له وإجتياحه لها
وتلعن بالذات تلك البقعة على كتفها التي باتت تصرخ ألما من أثر فراقها للمسة إصبعه

استيقظ صباحا بصدغ متورم جراء نومه على الأريكة بغرفة
المعيشة بمنزلها وصداع يكاد يفتك برأسه
نادى وهو يدرك أن أنفاسه تحمل رائحة الخمر والزجاجات
الفارغة المتناثرة أمامه خير برهان عليها:
- داليا ..داليا!

لم يجد ردا قام ومشي بخطى متثاقلة وتعثر في طريقه بسروالها
وبلوزتها الملقاة أرضا فعقد حاجبيه وابتسم بمكر لاعنا تأثير
الخمر الذي حرمه تلك اللذة
فهو لايتذكر تلك التفاصيل المثيرة
اللعنه لقد هجر الخمر منذ زمن طويل عاد فقط ببضع كؤوس من حين لاخر
مضى ينادي بصوت يؤلم رأسه وحلقه:
- داليا ..أنت فين ؟

ولم يجد ردا وبعد مرور الساعة التي أمضها متنقلا بين حجرات
منزلها صب فيها الماء الساخن فوق رأسه وتناول كوب من القهوة
أعاد له صوابه ترك منزلها تاركا لها ملاحظة ماكرة على رأس البراد
"الليلة عندي "

كانت تجلس في السيارة إلى جوار محاميها المخضرم وعيناها
تلمعان بجذل، وكيف لا وكلماته لازالت ترن في آذانها
"شركة زياد سليم بقت ملكك رسميا وقانونيا "
وهكذا سقط أول بيدق في معركتها نحو الملك
تكاد لا تتخيل رد فعله
إحدى شركات إمبراطورية سليم وقعت في يد الخصم
خصومة امتدت لسنوات طويلة بين والدها ووالده
خصومة ظنت بعقلها الفتي وقتها أنها ستتحول لأسطورة
كأسطورة رميو وجيوليب

غير أن لسذاجة عقلها ظنت أن نهايتها ستكون مختلفة هي بالفعل كانت نهاية مختلفة
إذ لم يختنق جاسر بالسم
ولا هي ابتلعته مضحية بحياتها وراءه
ولكن عوضا عن ذلك اختنقت هي بكبرياء جريحة إثر هجرانه لها،كأي إمرأة مرت بحياته من قبل
والآن وفي تلك اللحظة بالتحديد تشعر بأنها قد ثأرت لكرامتها
فهي واثقة بأن جاسر إن اضطر فسوف يجوب الأرض إثرها فقط
ليسترجع ماهو له ولكن لكل شيء ثمن

تنحنح المحامى الجالس جوارها وهو يقول:
- على فكرة كده خطر
رفعت حاجبها المنمق ودون أن تلتفت له قالت:
- خطر على مين ؟
أردف بنبرة عملية:
...وعليا ولازم أعرف أنت بتفكري في إيه ؟
التفتت له أخيرا وقالت بجدية: ١
- عليكي
- أنت بتفكر في أيه ؟

رد سريعا:
- جاسر سليم مش هيسكت وهيقلبها عاليها واطيها
له بسعادة بالغة لتقول بحالمية:
ابتسمت
-عارفة ومستنياه
نظر لها بحيرة بالغه وهم ليعترض ولكنها باغتته قائلة بصرامة:
- بكره تروح لزياد ومعاك مذكرة قانونية تأمره فيها بأنه يخلي
مكتبه في الشركة وإني استغنيت عن خدماته

لقد انتصف الليل وأكثر،وهي لازالت جالسة فى سريرها الواسع لا يسعها النوم
وقد احتلت الأفكار والمخاوف حيزا لا يستهان به من دماغها الذي لا يهدىء لحظة
هي تعلم حق المعرفة بأنها تهرب بأفكارها العملية من التفكيير
فيه وبتصرفاته الغير مألوفة مؤخرا.

تركز بعملها أكثر وأكثر وتغيب بأرقامها عن واقعها
لطالما كانت هكذا دوما تهرب من مشاعرها المحبطة بأي عمل
يشغل يديها ويحتل جزءا يسيرا من عقلها
في الماضي كانت تنشغل بالطهي وترتيب المنزل لتهرب من
التفكيير بمشاكلها التي كانت لا تنتهي مع زوجها الراحل
هذا الوسيم الذى يطل عليها بنظراته الحزينة بصورته التي تحتل الحائط المقابل لسريرها
وقد خلت جدران المنزل وأركانه بالكامل من أي ذكرى له سوى تلك البقعة
لم تكن بطبيعتها إمرأة عاطفية ولا ضعيفة.

كانت عملية لأقصى حد
فهي فتاة وحيدة تربت على يد رجل عسكرى أنف الزواج بعد رحيل والدتها حتى وصلت للثمانية عشرة من عمرها وفاجائها
حينها برغبته بالاقتران بمطلقة تصغره بعشرين عاما قد وقع في غرامها !
لم تتفهم كيف لرجل وهو على مشارف الستين عاما بأن يقع صريعا للهوى
كيف وهو العسكرى القوي الصارم الذي لم ترى ابتسماته قط إلا
في لحظات نادرة تنطلق قهقهاته كلما تشارك المجلس مع تلك المرأة
كانت غاضبة وحانقة وبشدة.

إذ تمكنت تلك المرأة في وقت قصير للغاية من تغيير حياة أبيها بالكامل
فتحول من رجل عبوس ضيق الخلق عملي لأقصى حد دوما، لضاحك باسم حالم بل ومتفاعل أيضا
حاولت كثيرا تفهم التغييرات التي طرأت على والدها ولكنها لم
تتفهم أبدا رحيلها عن شارعها وأصدقائها والإنتقال لحي آخر بعيد صاخب
وكانت هي الفتاة الجديدة

وبشعرها المعقود وملابسها المحتشمة اجتذبت ناظريه فورا وهو
الشاب العابث الذي أذاب قلوب عذروات الحي
ظل يطاردها لعام كامل ولكنها كانت دوما تصده وهي تحلم بالسفر لخارج البلاد
تجتهد بدراستها لعلها تنال منحة لإحدى الجامعات الأجنبية
وعندما نالتها أخيرا وقف أبيها في طريقها مانعا إياها من السفر وتحقيق حلمها ومررت عقابه
ولم تدري بأنها فى الواقع تعاقب نفسها وتعاقب هذا العابث
فوافقت على الزواج منه بعدما مل ملاحقتها بين أورقة الطرقات لتبدا ماسآة من نوع آخر
زيجة كانت فيها هي الرجل قبل الأنثى

لمهندس حالم طموح ولكنه ضيق الأفق فيضيع من يده فرصة تلو
الأخرى ليرحل عن الحياة مبكرا تاركا إياها وحيدة بين ثلاثة
صغار وديون تكبلها لبقية عمرها
ورفضت بإباء أن ترضخ لمحاولات أبيها المستمرة بالتدخل وحمل تلك الأعباء عنها
فهذا يعني أنها تعود مجددا لعباءته التي طرحتها منذ زمن
وفضلت الإستقلال بأبنائها وبمعيشتها متحملة مسئوليتها بالكامل
فضلت الحرية

وهاهو ينال من حريتها بأفكار عبثية وبدقات قلب خائنة
لا تنكر أنها تمتعت بحب زوجها الراحل ولكنها لم تفهمه قط
فكيف لكلمات معسولة وأبيات شعر مرسلة أن تقبض على أوتار إلا بالحب الفعلى وهي لا تومن
الأفعال هي المترجم الوحيد لمشاعر الحب الغامضة
فالإهتمام والعطف فعل والود والألفة فعل والشغف والجنون أيضا فمل
لا تلك الرسومات البائسة التي تمتلىء بهم الصناديق أسفل سريرها
ولا أبيات الشعر التي كتبها فى خصلاتها وعيناها وقدها وسط
دفاتر التى تحتل الرف الأخير من خزانتها
" طرقات ضعيفة تنمو على باب غرفتها فابتسمت بحنان

وهي تقول:
- تعالى يا أيهم
فتح الباب وأطلت نظرات صغيرها حزينة فعبست بشدة وقالت:
- مالك يا أيهم ؟
دخل خطواتان وهو يقول:
- الدنيا شتيت على سريرى
تهدل كتفها وابتسمت له بحنان وقالت:
-كده،طب تعالى ننشفك وننشف سريرك

فقال بإبتسامة ضيقة خجولة:
- أنا نشفت نفسى خلاص
للساعة جوارها فوجدتها الثانية صباحا وهي فعليا مجهدة
الجسد والفكر فقالت:
- طب تعالى نام معايا وبكرة الصبح أنشف سريرك
نظرت
قفز الصغير مرحبا بدعوة أمه بين أحضانها وهو ينظر لصورة والدة
الباسم ويقول:
- تصبح على خير يا بابا
لأجل تلك الكلمات هي لم تستطع حمل صورته بعيدا
ولأجل تلك الكلمات أيضا هي ستطرد كلمات ونظرات الآخر بعيدا
ويعود هو لظل لزوجته الراحلة أو لا يعود
ولكنها ستظل متشبثة بالذكرى لأجل صغيرها ولأجل حريتها.
قد يقع كأسا من الزجاج على الأرض وينكسر أو قد يصيبه شرخا صعب الإلتئام في أحسن الأحوال، ولكن إن كان من الكريستال الرقيق فالنتيجة المتوقعة هي أن يتحول لفتاتا في الحال، وببضع خطوات ثقيلة راقصة ومتواصلة فوقه فالنتيجة هي مسحوقا ناعما ضعيفة ذراته في مواجهة الرياح.

وهذا كان أقرب ما يشعر به، بل أن واقع الأمر قد يفوقه بكثير. فمنذ لحظات غادر مكتبه بشركته أو بالأحرى ما كانت يوما شركته، جبرا وقسرا وبدفع من أيدي رجال أمن مستأجرون فهي الآن ملك ل "داليا الزهري" بعقد بيع وشراء وبتوقيع صريح وسليم منه.

ضحك بسخريرة مريرة
سليم
زياد سليم
بل جاسر سليم
ضحك حتى تقافزت الدموع من عيناه
وأخذ يصرخ في الهواء وفي المارة من حوله
- غبي،غبي،ضيعت كل حاجة،غبي وعشان إيه، والله لأوريكى، يا أنا يا أنت..
كان يسير بخطى تائهة وعقله قد جن تماما
أيذهب لقسم الشرطة ؟

وماذا عساه أن يخبرهم لقد باعها شركته ولم يقبض ثمنها
لا بل أخذ الثمن فهذا ما أخبرته به تلك المتحذلقة بالهاتف
لقد كانت جولة مثيرة فقط هو من أثقل بالشراب فلم يدري متعتها وهذا كان الثمن
أم ينطلق لمحامي العائلة ليحلا سويا تلك المعضلة؟!
محامى العائلة الذي رفض تسليم أي من أعمال تخصه لأي محامي آخر تحت ضغط من جاسر وانصاع له بالنهاية حتى يستطيع الفوز بنصيبه من الأرث
نصيبه الذي أضاعه بالكامل.

اللعنة على كل شئ
سيعلم جاسر حينها بمافعله
وسيعود كموظف صغير تحت إمرته وليس هذا فحسب بل ستعود
زوجته قريبا لتكتشف ضياع ثروته وليس بسبب أعمال أو مغامرة
خاسرة بالبورصة بل لأجل مقامرة قام بها ليتمتع بجسد إمرأة أخرى
وإن كان لخيانتة شاهدا فهذا هو أعظمها

- آلو يا آشري،انت ما بترديش على تليفونك ليه ؟
قالتها بعتاب خالص،
فمنذ سنوات انقطعت علاقتها ب "منى" صديقتها الوحيدة التي
سافرت لاحدى دول الخليج وباتت الإتصالات بينهم غير منتظمة
حتى تلاشت تماما وكانت آشري المتنفس وشعاع الصداقة
الوحيد الذي يطل بحياتها ومع مرور الوقت اكتشفت أن آشري
تمتلك قلبا طيبا وأخلاقا سمحة وكان هذا أعظم درس لها عن
خداع المظاهر فقد كانت تخيلتها فتاة مدللة مغرورة ولكن اتضح
أنها على العكس تماما فهي تماثلها عمرا وإن كانت تتمتع بشخصية قوية عكسها

ردت آشري وهي تبتسم بإجتهاد:
- معلش والله ياسالي ملخومة خالص بابا الحمد لله بقي أحسن
ردت سالي بإهتمام وقد عادت لها ذكرى مرض أبيها ووفاته:
- ما أنا هموت من القلق عليكو،المهم طمنيني هوا بجد كويس
هزت آشري رأسها وهي تنظر لأبيها الذي كان يتابع الجريدة وقالت:
- الحمد لله أحسن كتير،المهم أنت عاملة إيه؟
- زي ما أنا،بس خسيت ٦كيلو،قالتها بسأم

عبست آشري وقالت:
- ومالك بتقوليها كده،المفروض تكونى فخورة بنفسك تنهدت وقالت:
- عارفة يا آشري بس لسه فاضل خمستاشر بحالهم
- أوعي مهما يحصل تقللي من قيمة حاجه تعبتي عشان توصليلها وخلي عندك دايما عزيمة
شعرت بأنها منافقة إذ أنها توجه النصح لسالي وهي الهاربة التي اخترعت حجة مرض أبيها لتبتعد عن زياد،
فالفحوصات التي يقوم بها دورية وكان يقوم بها أحيانا بمفرده
عندما تنشغل هي بعمل أو صفقة ما بل وانه اتخذ مسكنا دائما
للإقامة هنا بألمانيا سواءتطلب أمره متابعة طبيةأ لا
وها هي تمكث معه بحجه تغير جو".

فهي لا تريد لأبيها أن يتدخل أو أن يعلم شىء عن مشاكلها الشخصية
-إمبارح شفت إعلان كده عن مركز أسنان فاتح جديد وطالبين أطباء
قالتها بصوت خفيض فابتسمت آشري وقالت بلؤم:
-آه قولي كده بقى،بتتصلى بيا عشان أديكي دافعة ولا أطلبلك واسطة
اندفعت لتنفي قائلة:
-لا والله يا آشري أنا بس بفضفض معاكى
عقدت حاجبيها وقالت بجدية:
- طب وماله روحى قدمي السي في بتاعك

تهدلت كتفاها ببؤس وقالت:
-أقدم أيه وازاي ما أنت عارفه جاسر آخر مرة اتكلمت معاه في شغل
طلع فيا وقالى ما انت كان عندك المركز بتاعك وأن أنا اللي مابروحش لحد ما باعه
تنهدت آشري قائلة:
- تاني يا سالي تاني جاسر،انت من جواكي لازم تصممي
وتؤمني أن جاسر لاهوا عقبة في طريقك ولا حتى سلم لمكانة
أفضل،ده ركنك أنت بتاعك انت وبس،جاسر عامل مكمل ليس الااااااااا
هذا ما كانت تؤمن به وتنفذه ولكن ترى ماذا أكسبها
نعم ربما كسبت النجاح والقوة ولكنها في المقابل خسرت حب زوجها
حب اقتنعت في تلك الفترة القصيرة التي اعتزلته فيها ولم يكلف

خاطرة بمكالمة تليفونية واحدة أنه لم يكن موجود بالأصل معت عيناها بتحدي وقالت:
- صح أنت معاكى حق أنا سلمته أمري في حاجات كتير أوى
وهوا ولا حاسس بيا ولا حاسس أد أيه ده كلفني
كانت تقف بالشرفة وهي تحادثها ولمحت سيارته تخترق البوابة المعدنية فقالت بسرعة:
- هبقى اطمن عليكي قريب وابقي ردي،ماشى ؟
ردت آشري بعزم هي الأخرى:
مافيش داعي أنا راجعه مصر آخر الأسبوع بأذن الله هبقى أكلمك وقتها،سلام

كانا يتعاركان
طفليه الصغيران يتعاركان في غرفتهما بمفردهما ولا أحد يهتم بهما
قال بنفاذ صبر وهو يقف على باب الغرفه صارخا بهم:
-كفاية كده ياسليم رجع لسلمى لعبتها
رفض سليم العنيد الإنصياع لأمر والده واندفع صارخا ببكاء نحو
سالي التي ظهرت أخيرا بنظره قائلا:
- بصي يا ماما مش دى لعبتى أنا
فاندفعت سلمى الأخرى صارخة ببكاء:
-لا يا ماما دي بتاعتي أنا صدقيني

نزلت سالي على ركبتيها لتصبح بمقربة من أبناءها بدلا من الصراخ بهم من الأعلى وقالت بلطف:
- تعالو انتو الأتنين قربوا مني
اقترب الإثنان حتى الصقتهم بأحضانها وقالت بدفء:
- أنا بتاعتك دلوقت أنت لوحدك يا سليم ولا بتاعة سلمى كمان ضحك الإثنان سويا وقالت سلمى:
- ماما بتاعتي لوحدي وبدأت بجذب ذراعها ففعل مثلها الصغير سليم حتى قالت سالي ببكاء طفولي:
- حاسبوا هتقطعوني أنتو مش بتحبوني
راقبها جاسر بإبتسامة صغيرة دافئة وهي تطيب بخاطر صغاره
وتقربهم سويا لها ليدركوا كم هم مشتركون بكل شيء، لذلك هو اختارها ووقع بحبها لدفئها وعطائها ولكن ماذا حدث لتتوقف عن العطاء ؟

لماذا بات محروما منها رغم قربها ؟
أم أنها باتت بعيدة بالفعل نظرة صامتة
هذا كل ما نالته منه قبل أن ينصرف لغرفتهما متجاهلا وجودها
متجاهلا الجهد الذي تبذله في سبيل إرضاءه هو وكل من ينتمي إليهم وينتمون إليه
ولكم يكلفها هذا الجهد من طاقة !

طاقة باتت تستنزفها مع كل زفرة حارقة تمر بصدرها وعيناها تتقاتلان ربما للحصول على لفتة إهتمام أو حتى مديح عساه يتجاوز الشفاه
ولكن لا
ليس لجاسر العظيم
مرت بخيالها أمام المرآة التي تتوسط غرفة صغارها وعادت مرة أخرى لتطالعه بإهتمام
ألهذا السبب هو ينفر منها ؟
أكانت زوجة بإمتياز جسد ملفت وعندما توارى هذا الجسد
تحت طبقات الشحوم توارى إهتمامه بها وبمشاعرها ؟!
عادت لغرفتهما لتراقبه يخلع ملابسه بعيون ملتهبة وهتفت:
- أنا عايزه اروح أبات عند ماما كام يوم
كانت تسعى لشجار
فهذا هو السبيل الوحيد لها

لتثبت لنفسها أنها لازالت تؤثر به وإن لم تستطع إشعال جذوة
إهتمامه فحتما ستشعل غضبة
فتلك الجملة بالتحديد وهذا الطلب بالأخص كان دوما الوقود المثالي
التفت لها وهو يخلع قميصه وقال بنظرة باردة:
- براحتك وانصرف للحمام ليغتسل
هكذا دون أي إهتمام وأقسمت داخلها لو أنها جمعت قدر
اللامبالاة من العالم بأجمعه لم يكن ليرقى لنصف ماقابلها به وكانت فعليا تأن لقد فقدته

ظلت على تلك الحالة المتوترة بعد مكالمة المحامي المختص
بشئون المجموعة الطارئة والغير عادية والتي تحمل في طياته بإختصار
"خبرا أسودا"
لا تدري كيف سيتقبله جاسر ولا ماذا سيفعل بعد سماعه؟
وللمرة الألف بعثرت خصلاتها من جذورها بأنامل مرتعشة وهي
تمسك بالقلم وخرمشاته قد أصابت الورقة المسكينة أسفله فعمت
بفوضى أسهم ودوائر لا حصر لها ولا انتظام
لقد سيطرت ابنة الزهري على شركة الصغير الساذج

كانت تنتفض فعليا
وتخيلت نفسها لوكان زياد بشحمه ولحمه أمامها لأوسعته ركلا وضربا
كيف له أن يقدم على تلك الفعلة الشنعاء؟!
ولكن الواقف أمامها لم يكن زياد بل كان هو بإبتسامته العابثة
مؤخرا يطالع لوحة سيريالية عنوانها
"جنون إمراة تدعى درية
تقدم منها بطوات متمهلة وهو يقول بصوته الرخيم:
- مالك يادرية ؟

- ابعد عنى السعادي يا أسامة
وهكذا عم طوفان مشاعرها المحترقة أرجاء المكان
وقامت بظل متفجر بإغراء نحو سترتها الرمادية تشدو دفء وربما
فبلوزتها الحريرية البيضاء تكشف عن الكثير والكثير، كما أنها
برعونة إمرأة زادت كيلوجرامين لا أكثر صارعت تنورة قديمة
قابعة في خزانتها منذ عامين فقط لأنها الوحيدة "المكوية" فقد
تأخر الصبي في إحضار ملابسها من المغسلة بالأمس فوصلت
لحافة ركبتيها بصعوبة وتشبثت بقسمات ردفيها بقوة

راقبها بعيون وقحة فالتفتت له زاجرة واقتربت منه وهي لا تبالي
لا نظراته الملتهبة ولا لهيئتها الأنثوية الصارخة قائلة بأمر غير قابل للنقاش:
- روح دور على أخوك، واطلعو سوا على المحامى قبل ما جاسر يعرف
وهمت بإنصراف لولا أنه قبض علي ذراعها وقربها منه قائلا بغضب وأنفاس متسارعة:
- دي مش طريقة تكلمي بيها عضو مجلس إدارة يا درية
حاولت نفض ذراعها من قبضته ولكن كل مانالته حصار متمكن
ولكنه خفيف الضغط وصوت متبرم هادىء:
- ممكن تقوليلي بالراحة زياد عمل إيه ؟

رفعت عيناها نحوه بصلابة وهي تقول آمره بهمس:
- سيب دراعي يا أسامة
كان يركز بأنظاره على شفتيها بلونها الوردي الهادىء الخالى من الأصباغ وقال كاذبا وهو ينفذ أمرها:
-آسف، هاه زياد عمل ايه ؟
هندمت خصلات شعرها تحت أنظاره المترقبة وقالت بعدها بإيتسامة مريرة:
- باع شركته لداليا الزهري
هكذا ألقت القنبلة بوجهه

قبل أن تتحرك بخطوات هادئة نحو المصعد
وفقد هو كل تركيزه بتفاصيل درية التي كانت تغيب
خلف أبواب  المصعد المذهبة وأنفاس حارقة تشتعل بصدره ليستمع بعدها
لنغمة هاتفه المميزه تعلن عن إستقبال مكالمة من أخيه الأصغر
الذى ما أن أجابه حتى قال:
- أسامة عاوز أقابلك ضرورى فرد قائلا بحزم:
- مستنيك في البيت

كان يجلس علي الأريكة حاملا كيسا من الماء المثلج فوق أنفه
ليتوقف النزيف الذي أصابها جراء لكمة قبضة أخيه والتي
استقرت تماما فوقها وهو يستمع لنقاشه مع محامي مجموعة الشركات عبر الهاتف
وعيناه تتابع خطوات أخيه التي كانت تدور بغير انتظام في غرفة
المعيشة الواسعة وقلبه يصلي برجاء أن ينبثق الحل من الهاتف وتعود شركته لملكيته
ولكن كلمات أخيه المتسائلة أسقطت تلك الصلوات عندما قال
بغضب مكتوم:

- بعتها بكام يازياد ؟ياترى كان التمن إيه ؟!حسابك في البنك مازادتش مليم
فرد ببكاء:
-أنا اتضحك عليا
شعر بتعب يصيب ساقه فجلس أمامه وقال بهدوء:
-اتضحك عليك إزاى؟
ولكن زياد ظل صامتا فماذا عساه أن يقول لقد قبض ثمنا مرئيا
نساه بفعل شراب مخدر وقد لا يكون حتى رآه ولكن الأوراق الرسمية تثبت صحة توقيعه
ظل منتظرا لإجابة أخيه الأصغر وعندما لم يحصل علي شيء

صرخ بقوة قائلا:
- إزاي يازياد، انطق
ارتعد زياد وعاد للخلف وقال:
- يا أخى دا أنت طلعت أنيل من جاسر
قام وشده من تلابيبه صارخا به:
- أيوه أنا أنيل من جاسر،عشان رقم واحد أنا اللي شجعته يديك
نصيبك ورقم اتنين خنت ثقتى فيك ورقم تلاته طلعت أنت مغفل
اتضحك عليك من واحدة ست كانت عشيقة أخوك في يوم من الايام

ثم تركه لاهثا واتجه نحو الطاولة خلفه وأشعل لفافة تبغ وأردف بصوت يرتعش إنفعالا:
- أنت عارف أنت إيه ؟!، مش بس أتاخدت منك كتك لاء كمان طلعت كوبري
ألقي زياد الكيس الثلجى على الأريكه وقام وتقدم نحوه برجاء:
- أنت لازم تساعدني أرجع شركتي
ضحك أسامه بسخرية قاسية:
- ياترى هتقول لمراتك يا زياد ؟ هتقولها أيه؟ رحت تجري وره واحده من ماضي أخوك
بيعتك اللي وراك واللي قدامك

فصرخ فيه قائلا:
-كفاية بقى يا أخي أنت إيه مابترحمش
أشار له بإصبعه قائلا:
- الدنيا مش بترحم وداليا ولا آشري ولا جاسر مافيش حد منهم هيرحمك
- أنا فعلا مش هرحمه
قطع صوته الصمت المخيم بينهما فالتفت له زياد مرتعبا واتجه نحوه أسامة مرحبا قائلا:
- درية كلمتك ؟
نظراته كانت كالرصاص الذى لايخطىء الهدف ونبرة صوته كانت تهدد بقتل رحيم إن أمكن الأمر
- المحامى كلمني وجاي ورايا ودلوقتى قدامك ربع ساعة
تحكيلي فيهم بالظبط إيه اللي حصل
امتقع وجه زياد وهو يومىء براسه:
- حاضر هاحكي كل حاجة

أيمكن لهذا اليوم أن يكون له نهاية أروع من تلك ؟!
خاطرة مرت بذهنها وهي تقف مرة أخرى على قدميها بمساعدة من جارها الوسيم
لقد سقطت على الدرجات بفعل اندفاع غير محسوب الخطوات
مع تنورة ضيقة تشد على ساقيها وكانت السقطة تماما تحت
أنظاره عندما كان يدلف هو الآخر من باب العقار المعدنى
فاندفع نحوها عارضا يده بمساعدة جاذبا إياها برفق لتقف مرة
أخرى على ساقيها فالتفتت له بحرج عارم تشكره وهي تهندم

مظهرها الأشعث قائلة بكلمات متناثرة:
- شكرا ...دكتور..عن إذنك
وكادت أن تسقط مرة أخرى وهي تهرب من حصاره فحمل عنها
متاعها المعتاد مع كل ليلة بضحكة دافئة وهو يقول:
- على مهلك يا مدام درية، بالراحة
التفتت له قاضبة الجبين "بالراحة، وأين لها بالراحة؟!"
فقالت بجمود وهي تتسلق الدرجات على نحو هادىء تلك المرة

وتمد له بذراعها لتحمل أشيائها:
ضغط على زر إستدعاء المصعد متجاهلا يدها الممدوة وهو يقول بحبور:
- على إيه الجيران لبعضيها
نظرت له تلك النظرة المتشككة وتقدمت نحو المصعد
فكما هي العادة
"النساء أولا حتى يتزوجن
واستقلت المصعد وهو يجاورها وأنظاره تحوم فوقها بتسلية فهي
اليوم على غير العادة ممتعة جدا للأنظار مما أشعره بالغيره، فكم من أنظار سبقته إليها
وعندما ظنت أنها النهاية لهذا اليوم اتضح أنه بلا نهاية
فقد استقبلتها صرخات صغيرها مرحبا بها بتلك الكلمات التي

كانت ببساطة الضربة القاضية:
- أتأخرتي كده ليه يا ماما،جدو هنا من بدري
ولكن تلك الكلمات لم تكن ترقى لمسمى القاضية تماما إزاء
النظرات المسددة نحوها على نحو غير راض تماما وزعيق أصم أذنيها وهي تغلق الباب:
-ايه اللى أنت لابساه ده يادرية،فيه واحده في سنك تلبس كده،ده اللي أنا ربيتك عليه
وأنا اللي كنت مطمن أنك عايشه لوحدك
وضعت أكياس البقالة على الطاولة وهي تنفث غضبا من جملته

"واحدة في سنك،إنها تبلغ سبع وثلاثون عاما " ومع ذلك التفتت له بهدوء قائلة:
-أزيك يا بابا ؟!
وتنهدت لتطبع على وجنته قبلة صغيرة وأردفت ببرود:
- وحشتنا
وتنهدت وهي تحصي داخلها ربما للألف فأبيها لن يكف عن
الحديث المهترىء بشأن إستقلالها بحياتها دونه ولكنها ترسي داخل ابنها قاعدة أبدية
"على الصغير دوما أن يحترم الكبير"

نظراته كانت تصب عليها غضبا لايحتمل وهم يتناولون طعام العشاء وقال بغير رضى:
- مش معنى أنك تشتغلي تهملي بيتك وولادك، ويكون مظهرك كده في الآخر
وضعت الملعقة بهدوء وقالت بأنفاس متهدجة:
- بابا من فضلك ممكن نبقى نتكلم على إنفراد
نفث غير راض وقال مؤكدا بتهديد:
- طبعا إحنا لينا قاعدة مع بعص
وبعد إنتهاء وجبة العشاء،حملت له فنجان القهوة كما يفضلها
للشرفة بعدما أمرت أولادها بالتوجه لأسرتهم دون نقاش

ووضعتها بحذر وهي تقول بأدب:
-اتفضل يابابا
أمرها بكلمات مقتضبة:
- رايحة اتطمن على الولاد عاد ليأمرها مجددا:
- سيبي الولاد دلوقت كبروا ويعرفوا يناموا لوحدهم،أنا عاوزك في موضوع مهم
له في محاولة واهية لفرض الود المفقود بينهما:
ابتسمت
- تحت أمرك يابابا
ركز أنظاره عليها وهو يقول:
- اسمعي اللى هقولهولك كويس ومش عاوز رد عليه قبل ماتفكرى فيه
تشبثت يدها بالمقعد وهي تقول بإقرار هادىء:
-حضرتك جايبلي عريس رد بفخر:
- عقيد متقاعد،٤٣ سنة،على خلق وأدب إنسان ملتزم وأنا اللي
مربيه عنده شركة أمن محترمة

هزت رأسها وقالت وهي تنصرف لغرفتها:
- أوكيه،عن اذنك .تصبح على خير يابابا
عقد حاجبيه غاضبا وقال:
- هوا إيه اللي أوكيه وتصبح على خير
التفتت له وقالت بهدوء:
- مش حضرتك قولتلي إنك مش هتاخد رد قبل ما أفكر فيه
كويس،وأنا دلوقت محتاجه أنام واستحاله أفكر في حاجه كويس وأنا في الحالة دي
أشار لها بإصبعه منذرا:
- وأنا مش هقبل برفضك زي كل مرة يادرية وخصوصا بعد اللي شوفته النهاردة
سارت نحو حجرتها ودمائها بالفعل كانت تحترق
فأبيها الغالي يعترض على ملبسها الذي اضطرت له في ظروف
غير عادية وزوجته يكاد يكون مظهرها المعتاد على نحو أكثر فجورا

 

تاااابع ◄

أحدث أقدم

نموذج الاتصال