رواية لقد كنت لعبة في يده الجزء السابع عشر

 

 ماذا لو سارت معطيات الحياة حسب ما اتفق هوانا ؟
ماذا لو لم نبذل جهدا مضنيا للحصول على ما هو حقنا بالأساس ؟

لكنا إذ نتحدث عن الجنة وما كان لحديثنا ركنا على أرض الله الواسعة ولكنها حتى الآن شاكرة رغم أنها منذ قليل كانت بمكتب محامية

مختصة بالأسرة والنزاع القضائي بشؤونها والتي أخبرتها بوضوح أنه لا مجال لاحتفاظها بسليم في حضانتها فهي ليست أمه ربما من تكون ربت وترعرع الصغير في كنفها إلا أن حقها في الإحتفاظ به معدوم الطفل لأبيه والطفلة لها حتى أجل معلوم وإن شائت تقدمت لها بدعوى ضم لحضانتها ولكنها بذلك تكون قد فرقت طفليها وما ذنبهما ؟

وأمل سخيف يتضاءل داخلها أن يكون جاسر قد تنازل عن الطفلين لها لقد مرت ثلاثة أيام منذ عودتها ليلا بالصغار وتفاجئت صباح يوم أمس بالسائق الخاص به ينتظرها أسفل البناية في تمام السابعة كي يقلها هي والأبناء إلي مدرستهم بناءا على أوامر مرؤوسه الذي أمره أيضا بإصطحابهم منها وأن يكون رهن إشارة منها في أي وقت من ساعات النهار حاملا معه ملابس جديدة لهم وبعض الألعاب الثمينة.

أفاقت من سحابة أفكارها أمام باب المركز ألقت عليها موظفة الإستقبال التحية كان بإنتظارها حالة واحدة لطفلة في السادسة من عمرها ولغرابة الأمر وجدت أن الأب من يصطحبها وعلمت منه سرا بوفاة الأم منذ ثلاث سنوات تأثرت كثيرا لحال الطفلة ورغم ذلك نظرت للأب بشيء من الإجلال، فبعد فراق زوجته لم يسعی لزواج من أخرى حرصا منه على مشاعر صغيرته فمر بخاطرها ذاك الذي تزوج بأخرى وعلى وشك إنجاب آخر منها يتجرأ ويمنع عنها طفليها ودون أن تدري اشتعلت نار الغضب داخلها بعد انصراف الطفلة وجلست تغلي وتزبد لابد لها أن تواجهه كيف لها أن تترك صغارها في رعاية تلك المتبجحة بحملها في عزاء حماتها وأن تأمن عليهم في غيابه هو عن القصر حتى ساعات الليل المتأخرة بل والأدهی کیف لها أن تخطو بزيارات يومية لأطفالها بعد رحيل صاحبة القصر عنه؟!

وضعت كفيها على وجهها وهي تغرق في بحور اليأس وقلة الحيلة وداخلها مشتعل بحنق غاضب ودت لو تكسر رقبته وبعدها تبكي إلى جوارها وانتبهت بعد قليل لتواجد کریم داخل الغرفة يراقبها بشيء من التسلية فأجفلت وعادت للوراء هاتفة به:
- خضتني على فكرة فاقترب منها ضاحكا:
- إيه نهاية العالم قالو كمان ساعة؟!
زفرت بنفس اليأس:
- ياريت كان زمان الواحد ارتاح عقد حاجبيه وجلس بالمقعد المقابل لها متمتما:
- ياساتر يارب، طب على كدة بقي نلحق نحتفل رفعت رأسها له دهشة:
- نحتفل بإيه ؟

وضع أمامها كوبان من العصير الطازج وطبق بلاستيكي يحوی قطعة حلوى شهية تقدر بمئات السعرات الحرارية وشوکتان وقال ببساطة:
- بيكي، ودى حاجة بسيطة تشجعك تكملي طريقك وماتتحججيش تاني بالولاد ضحكت ببلاهة وهي فعليا لا تفهم مغزی کلماته فأردف مفسرا:
- أنت مش حاسة بالإنجاز اللي عملتيه ولا إيه، مواظبة على الرياضة والحركة والأكل الصحي وخسيتي ولسه عندك طاقة وعزيمة أنت لازم تهني روحك وتكافئيها فضحكت سالي قائلة:
- والله أنت رايق يا دكتور فابتسم لها:
- وأنت لما تشيلي الهم حاجة هتتحل ؟

هزت رأسها مقرة، نعم فلن يجدي هذا نفعا مع ما تواجهه بل عليها التمتع بطاقة إيجابية كي تقف وتطالب بحقها وحق أطفالها في حياة مستقرة فهز کریم رأسه وشرع في تقاسم قطعة الحلوى وقال بفم ممتلىء متفکها:
- شوفتي معايا حق إزای ؟
دفعت سالي بطبق الحلوى وقالت وهي تبتسم له بخجل:
- أنا هشرب العصير بس ومتشكرة على اللفتة الطيبة دي منك لمعت عينا کریم وترك الحلوى وقال فجأة:
- أول مرة أخد بالي أن عندك غمازة في خدك اليمين بس وضعت يدها لا تلقائيا على خدها الأيمن وقالت هامسة بحرج:
- هيا أصلا مش ملحوظة كانت سالي مدركة أنها تظهر في أوقات وفترات متباعدة وقليل من يلحظها وبعمر زيجتها الكامل لم يلحظها جاسر ولا مرة فهز رأسه رافضا:
- بس دي حاجة مميزة فيكي وكان رنين الهاتف من أنقذها من طوفان دماء الخجل التي تواردت بغير حساب لوجنتيها وبخاصة اليمني فرفع کریم يده لیستأذن بالخروج تاركا لها حرية التحدث حاملا معه مشروبه فقط تناولت سالي الهاتف وعبست فالرقم أمامها غير مسجل وردت وهي تخشى سماع أنباء سيئة عن أطفالها حتى أتاها صوت رجولي معرفا بنفسه:

- آلو مدام سالي، أنا مجدي المحامي مش عارف إذا كنت تفتكريني ولا لاء، أنا محامي عائلة سليم يافندم تنفست سالي الصعداء وردت:
- آه، افتكرت حضرتك، أهلا وسهلا، خیر ؟
رد الرجل بلطف:
- كل خیر ياتری حضرتك تقدري تجيلي المكتب النهاردة لو مش في استطاعتك مليني عنوان منزلك وأنا أجيلك في الوقت المناسب تقافزت دقات قلبها بخوف ممزوج بالأمل:
- حضرتك عاوزني بخصوص إيه ؟
تنحنح الرجل بحرج:
- للأسف مش هينفع نتناقش في التليفون فقالت سالي على عجالة:

- أوكية أنا ححود على حضرتك في المكتب الساعة 3، مناسب رد الرجل بالإيجاب، وأنهت سالي المحادثة وداخلها يحدوها بالأمل أن يكون جاسر قد تراجع عن قراره بالإحتفاظ بالصغار بعد رحيل الجدة     منذ يومان والصداع يكاد يفتك برأسه ولايجد سببا له ولا علاج قد يداويه فقرر المرور عليها بالمشفى فهو لم يتحدث معها منذ فترة على إية حال ولم تعاود هي الإتصال به وهو لا يدري أتلك حجته في الوصول إليها تلك المرة بعد إنقطاع؟!
ولماذا هو راغب في إعادة الوصل بالأساس؟!
ولكنه لم يغرق نفسه بالتفكيير، فهو يعاني من الصداع، وتلك كانت بالفعل حجته كانت غاضبة ومع ذلك تعاملت معه ببرود منقطع النظير وهي ترفض الكشف عليه قائلة:

- حضرتك محتاج لإختصاص باطنة أو مخ وأعصاب ده مش من إختصاصي فزم شفتيه مستاءا:
- حضرتك؟!
فرفعت أنظارها له وقالت بصوت محتد:
- أومال عاوز أقولك إيه ؟
فقاطعها أو بالأحرى حاول مقاطعتها:
- ريم أنا . .- أنا ماعنديش وقت أضيعه وبصراحة زهقت من لعبة الشد والجذب دي، أنا فيه في حياتي أكتر من معضلة أولی بیا أتعامل معاها وعادت مرة أخرى لمطالعة المجلة العلمية القابعة بين يدها وأنظارها لا تلتقط أبعد من ألوان صفحاتها فهمس وهو يهم بالقيام منصرفا:
- على فكرة والدتي اتوفت من 3 أيام عشان كده ما اتصلتش بيك من يومها فرفعت رأسها فجأة وقامت وهي تقترب منه معتذرة برجاء:
- أسامة بجد أنا آسفه ماقولتليش ليه قبل كده ؟
رفع عيناه مؤنبا وقال بصدق أحاسيس لم يجرؤ على البوح بها من قبل:

- ماكنتش قادر اتكلم، ماكنتش قادر حتى أنطقها اتعاملت مع وفاتها زي أي راجل ما بيتعامل، مابين إجراءات وورق ووصية مش أكتر أنا لسه لحد دلوقت مش مستوعب فراقها . ولكأنما تحول الرجل الفارع الطول ذو الهيبة والمقدرة لطفل وحيد يتيم الأم دون سابق إنذار، وبعاطفة لم تدر منبعها اقتربت منه وتلقفت رأسه بأحضانها صامتة وأناملها تدور بحركات ضاغطه على جوانب صدغيه حتی همست:

- کده أحسن ؟
رفع حاجبيه وتنهد براحة لم يشعر بمثلها من قبل:
- أحسن كتير، الصداع راح ابتعد عنها للوراء قليلا حتى تاه في عيناها المتناقضتان فابتسمت له ببساطة وقالت بحزن وكأنما تتحدث عن نفسها هي الأخرى:
- أنت بتداري جواك كتير وده بيضغط عليك وأنت مش حاسس، مأجل لحظة المواجهة مع كل حاجة والمشكلة أنك ساعة لما تيجي تواجه هيحصل غصب عنك وهتلاقي اللي بتواجهه أكتر بكتير من الحجم اللي أنت فاكره فعبس معترضا:
- قصدك إني بهرب، لكن أنا بحاول وضعت يدها على فمه فجأة وأردفت:

- الهروب راحة بس هتدفع تمنها بعدين، صدقني أنا فاهمة أنا بتكلم علي إيه وأنت كمان فاهم عقد حاجبيه وهرب بأعينه بعيدا عن عنها، فعيناها كأنما تنومه مغناطيسيا إن صح التعبير باستطاعتها سبر أغواره والتحكم بأفكاره والنبش بين ثنايا ماضيه المؤلم هزت رأسها وابتعدت عنه هي الأخرى عائدة لمكتبها وقالت بأمر صریح:
- واجه يا أسامة واختار، الهروب مش حل   لقد أيقن أن الهرب بحالته مأزق وليس مخرج لذلك غادر وابتعد أعاد ترتيب أولويات حياته والنظر بعين الإعتبار لنواقصه المعنوية أولا ثم المادية نجح بشكل كبير في التغلب على معظم مشاكله والبدء بصفحة جديدة بحياته.

قد يكون كلفه الكثير كلفه فراق لم يدري بعد كيفيه التعامل معه ولكنه ليس متعجلا كما كان في السابق بل هو متقبل لنزعات الفراق وعواقبه، يشعر بداخله خلقا الإنسان جديد، إنسان يسعى للتعلم من سوابق أخطاءه ومايقض مضجعه ذاك الهاجس الذي يؤنبه ليلا أن يكون بالفعل فقدها وحتى إن تغير فلن تعود له أمسك الهاتف وللمرة العشرون ربما بعد المائة منذ أن غادر الإسكندرية حاول الإتصال بها ولكن كالعادة لم يستطع إكمال الاتصال وأغلق الهاتف حتى قبل أن تتزايد الأرقام لسبعة وعاد للواقع على صوت صديقه الذي كان يناديه:
- زياد أنا نازل البلد أجيب اللي اتفقنا عليه، تمام فرفع كفه بهمة مودعا له:

- تمام ماتقلقش وتمتم بعدها بخفوت لنفسه:
- مش هترجع يا زیاد إلا لما تستحقها      وصلت سالي لمكتب المحامي بمنتصف البلد في المعاد المقرر وتفاجئت بوجود نعمات في غرفة الاستقبال فأقبلت عليها الأخير بتحية حارة وهي تحتضنها بشوق لها وللأطفال الذين ما انفك لسانها عن الدعاء لهم بصلاح الحال قاطعتهم مديرة مكتب المحامي قائلة:
- اتفضلوا حضراتكوا أصرت نعمات أن تتقدمها سالي أولا فدخلت غرفة المحامي المخضرم الواسعة وألقت عليه التحية بهدوء واستقبلهم هو بحفاوة ولطف بالغ ودعاهم للجلوس قائلا:

- طبعا أنتو مستغربين إيه لم الشامي على المغربي فهزت سالي رأسها نافية وقالت مؤنبة:
- إزاي حضرتك إحنا عشرة مع بعض فرغم أنها كانت لا تطيق تلك المرأة إلا أنها في الأيام الأخيرة أثبتت لها ولأطفالها إخلاصا منقطع النظير لم يظهره له زوجها الذي عاشت بكنفه لسنوات فربنت نعمات على يدها بتقدير وهي تقول:
- ربنا يعلم بغلاوتك عندي والله تنحنح مجدي حرجا وقال:
- حيث كده نبتدي مدام سوسن الله يرحمها كانت سايبه ليكو أظرف هديهالكو في نهاية الجلسة وليا أنا ظرفين بشأنكم هقراهم عليكو دلوقت ولو تحبوا كل واحدة تعرف محتوى ما يخصها لوحدها ماعنديش مانع فنظرت كلتاهما لبعض بتعجب وقالت سالي:
- أنا ماعنديش مانع، خير ؟

وفي نفس اللحظة ردت نعمات بأن لا مانع لديها أيضا فوضع المحامي عويناته وشرع في قراءة الوصيتان اللتان تركتهما الراحلة بصوت هادىء وتعالى الذهول ملامحهما حتى انتهى مجدي من قراءة الوصيتان فأغروقت أعين نعمات بالدموع وهي تترحم على مرؤوستها بصوت مرتفع وأردفت بشفاة مرتجفة:
- بس ده كتير بيت ووديعه وأنا بس كنت هسيب شغلي أنا هفضل في خدمة ولادها لحد آخر يوم في عمري هز المحامي رأسه وقال:
- أنت تستاهلي كل خير يا دادة نعمات، أنا هعتبر دي موافقة منك وهبتدي بكرة بإذن الله في الإجراءات هيا شددت في الوصية أن البيت اشتريهولك في الحتة اللي تعجبك مهما بلغت تكفلته وجاسر بيه أصر أن الوصايا تتنفذ بحاذفيرها فوضعت نعمات يدها على شفتيها المرتعشة فيما كانت سالی محدقة بذهول لم تتخطاه بعد وداخلها رغبة بالرفض تتصاعد أفصحت عنها بقوة:

- أنا ماقدرش أقبل بالمبلغ ده، مستحيل فالتفتت نعمات لها وكذلك أنظار المحامي الدهشة قائلا:
- ليه بس يا مدام سالي ؟
قامت سالي وهي لا تود تبرير رغبتها ليس لأنها لا تمتلك تبريرا هي تمتلك الآلآف ولكنه هو ونعمات لن يتفهما قط ولذلك آثرت الصمت وعدم الاعتراف بشيء قائلة:
- أرجوك دي رغبتي ومتشكرة جدا وآسفة إني ضيعت وقتك هتف المحامي بها قبل أن تنصرف مسرعة:
- مدام سالي فالتفتت له قائلة:
- أنا فيه حاجة أكيد لازم أمضي عليها عشان أخلي مسئوليتك صح؟!
هز مجدي رأسه بالإيجاب ولكنه نفى:
- ده صحيح لكن مش معناه إني أخدت موافقتك كموقف نهائي، أنا هسيبلك فرصة أسبوع . . اتنين براحتك ومنتظر ردك بعد ماتكوني فكرتي فهزت رأسها رافضة العرض جملة وتفصيلا قائلة:

- لو سمحت إديني الورق أوقعه دلوقت منغير ما أضيع وقتك أكتر من کده جلس الرجل إلى مقعده وهو يشير لها بالنفي:
- مش هيحصل واجبي ناحية موكلتي الله يرحمها إني أنفذ وصيتها وأمنحك الوقت الكافي للتفكيير فقالت سالي بسام:
- براحتك بس هتفضل مستني كتير لأن رفضي نهائي فقال مجدي بلطف:
- طب إيه رأيك تبلغيني قرارك الجمعة الجاية، قدامك وقت أهوه تعيدي النظر فهزت رأسها بقبول تحت إلحاح من الرجل والذي انضمت له نعمات أيضا إذ قالت:
- ماتستعجليش يا مدام سالي، ده حقك مش كفاية . . . . وتوقفت نعمات عن الحديث عندما لمحت طعنات الألم تغتال صفاء أعينها فابتسمت لها سالی رافضة تعاطفها قائلة:

- متشكرة ومبلغ حضرتك قراري النهائي اللي مش هيختلف کتیر لكن طالما أنت مصر، عن إذنكوا      لو لم تكن سيدة الأعمال الأولى بالشرق الأوسط لكانت مزارعة الورود الأولى هكذا كانت تحدث نفسها وهي تنتقل بخفة فراشة من ركن لآخر مستنشقة عبق الورود اليافع تنتقي زهورا لصديقتها التي وضعت مولودها الأول بالأمس القريب وكان هو يقف يراقبها دون أن تشعر حتى قادتها خطواتها دون أن تشعر لصدام هو من خطط له فرفعت رأسها وجلة فابتسم لها وقال فجأة:

- آسف . . . . آشري، إيه المفاجأة اللطيفة دي ! فتمتمت بإعتذار هي الأخرى وهي تعود للخلف خطوتان وعند الثالثة اقترب منها ليصبح الفارق فقط خطوة:
- عاصم بيه، سوری ما أخدتش بالي فعبس ممازحا:
- عاصم بيه، إحنا لسه محتفظين بالألقاب بينا ولا إيه فهزت رأسها بحرج وأردف بلطف:
- ياترى بتشتري ورد لمين ؟
فابتسمت:
- واحدة صاحبتي ولدت إمبارح وكنت ناوية أزورها فرفع حاجبيه متصنعا الدهشة قائلا:
- ماتقوليش رايحة لعيلة المسلماني، أنا كمان كنت رايح وكنت جاي اشتری ورد فتعجبت آشري للغاية إذ إنها لم تدري بوجود علاقة تجمعهم بالأساس:
- معقول؟!

فبرر عاصم وهو ينتقي الزهور مثلها بزهو:
- دخلت شريك مؤخرا مع أحمد في مشروع ضخم أوي، ما سمعتيش خبر الصفقة دي ولا إيه . ده كل مصر بتتكلم عنها هل يظن أنها تتبع أخباره؟!
ياللعجب فقالت نافية وهي تتعجل الرجيل:
- لاء، سوري أول مرة اعرف، عموما فرصة سعيدة أني شوفتك فاستوقفها عاصم قائلا:
- طب ماتيجي نروح سوا فهزت آشري رأسها وهي تتعجل الهرب:
- أنا كنت هبعتهم ديلفيري عشان عندي مشوار مهم وأعدي عليها بعدين كان عاصم متفهما لحاجتها للابتعاد عنه كلما اقترب ولكنه في تلك المرة استوقفها قائلا بصوت خافت:

- زياد نقل وكمل حياته بعيد عنك، أظن أنه آن الأوان تكملي حياتك يا آشري فعقدت حاجبيها غاضبة وقالت بصوت محتد وأصابعها تقسو على الزهور المسكينة بحوزتها:
- أظن أنه نوت يور بیزنس ومش من حقك ولا أي حد يتدخل ويقولي إيه المفروض أعمله فرد مدافعا:
- أنا مش قصدي أتطفل عليكي لكن صعب ليدي جميلة زيك تضيع عمرها في إنتظار شيء مستحيل واحمرت وجنتها بغضب لم يمر بها في حياتها من قبل حتى قالت دون أن تدري:

- إنت إنسان وقح وانصرفت غاضبة من متجر الزهور والدموع تكاد تعمي بصيرتها أهكذا يراها الجميع متعلقة بدرب مستحيل؟!
تضيع لحظات عمرها الثمينة في إنتظار من سيعود وهو ليس بعائد تركها خلفه وشرع في المضي بحياته غير عابئ مضي نحو المستقبل وهي خلفه متعلقة بحبال ماض مهترئ حتى توقفت عن السير لوجهتها الغامضة حتى لها والتفتت حولها تبحث عن سيارتها بذهن شارد تمسح فيض دموعها وداخلها يتوعد الهارب " أبدا لن أسامحك " يزداد شعوره بالخواء الذي أصبح يعشش داخله كلما عاد ليلا للقصر الخاوي دونهم أمه وأطفاله ومن كانت يوما زوجته حياة اختفت وأخرى تبدلت وماعاد يدرك أبسط ملامحها ولكم يرغب بالعودة وبشدة للماض بحادفيره بكل مافيه بكل الآمه وآماله طالعته أنظارها الساخطة واستقبلته بجفاء واضح قائلة:
- أنا عاوزة أعرف لحد امتى هفضل محبوسة ؟

تجاوزها حتى وصل للغرفة ودخلها وهو غير عابیء بخطواتها المتقافزة خلفه وشرع بخلع سترته ببرود دون أن يمنحها ردا ولا حتى نظرة فقالت بإلحاح:
- جاسر أنا بكلمك فرفع أنظاره الساخطة نحوها قائلا:
- عاوزة إيه يا داليا أنا راجع تعبان ومش رايقلك فاقتربت منه وهي ترسم إمارات الحزن ببراعة على ملامح وجهها- أنت هتفضل زعلان مني لحد إمتى؟!
فرفع حاجبيه ساخرا ولم يكلف نفسه عناء كتم ضحكة مريرة:
- مش بقولك أنك بتدي نفسك حجم أكبر منك وأنت مش مصدقة فهزت رأسها ودمعة فرت من عيناها دون قصد منها:
- عاوز تقول أني ولا حاجة بالنسبالك، أنا عارفة ومتأكدة واستمسكت بصدره وأردفت بشفاة مرتجفة:

- صدقني أنت مابتبذلش أدنى مجهود في أنك تعبر عن ده، لكن أنا مش هستسلم، أنا هفضل أحارب لحد ما أوصلك مش هسيبك ولا هتنازل عنك زي اللي قبلي جف حلقه وهي دون أن تدري تشق صدره بصلابة رأس عما يشعر به بالفعل لقد تخلت عنه سابقتها لم تدافع عن حقها به لم تشعره بأهميته تركته خلفها وترکت صغارهما ولم تبال سوی بالابتعاد عنه فقال بصوت متحشرج وهو يبتعد عنها:
- عاوزه تخرجي إخرجي، براحتك فاقتربت منه وأمسكت بذراعه قائلة:
- أنا عاوزة نسيب هنا . بكل الذكريات اللي فيه ونبتدي في مکان . . . . فهب من أحزانه زاعقا:

- أنا عمري ماهسيب هنا، ده بيتي وبيت ولادي، عاوزة تعيشي هنا أهلا وسهلا مش عاوزة بالسلامة فتعلقت به رغم ثورة غضبه الأسود:
- یا جاسر صدقني هنا هيموت كل حاجة بينا فأمسك بذراعيها بحزم ليبعدها عنه ويقطع إلتصاقها به قائلا بصوت كالفحيح:
- أنت مش هتفرضي عليا أعيش فین، نقطة وآخر السطر، وآخر مرة تفتحي فيها حوار زي ده تاني لمصلحتك واتجه للحمام ليغتسل تاركا إياها ترتجف بخوف، تلك المرة الثانية في أقل من يومان تقابل فيها جانب أحلك مايكون من جوانبه المتخفية تخطو بظلامه وظلمه وبعليائه يأمر وعليها الطاعة ظنت أنها بحبها ستنجو ولكن من الواضح أنها تغرق ولا سبيل للنجاة ولا سبيل أيضا للاستسلام     الغرفة الخاوية المظلمة دونها أصبحت ملاذه يجلس بالمقعد المجاور لفراشها البارد يدور بفلك أفكاره كسفينة فقدت ربانها ولا مرسى لها والهواء العليل يضرب صدره بسقيعه يثير إنتباهه، يمنعه من السقوط بهاوية ظلماته وهاتفه يضيء بعتمة الغرفة بالمكالمة التي انتظرها منذ صباح اليوم، أتاه صوت مجدي معتذرا:

- أنا آسف انشغلت وحقيقي نسيت أكلمك رد بصوت قاطع:
- رفضت همس مجدي:
- زي ما كنت واثق، لكني أكدت عليها إني منتظر قرارها النهائي يوم الجمعة ربما تتكاثر المتغيرات من حوله مما يثير حنقه ولكن المعطيات الثابته هي أساس الحياة ابتسمت عيناه في الظلام ولمعت برمادية نيران اشتعلت وأتت على كل شيء فلعبته لم تتغير وكما سيحرص لن تتغير وستعود مجددا خيوطها ساكنة بين أصابعه    الجمعة يوم تقليدي بالبيوت المصرية القديمة يوم تجمع العائلة وغداء دسم يعقب الصلاة والأحفاد يلتمون حول طاولة مستديرة والأحاديث لا تنقطع استيقظت صباحا وغيرت ملابسها سريعا وكذلك أطفالها وهي تعدهم بحلوى إن أحسنوا التصرف لهذا | اليوم وخرجت وألقت تحية الصباح على أمها المشغولة بشؤون المطبخ فقالت سالي عابسة:

- برضة يا ماما قولتلك أنا لما أرجع هعمل الغدا فابتسمت مجيدة لها:
- عبال ماترجعي يكون أختك وجوزها والولاد جم تريحني أنت وتفرشي السفرة فقبلتها سالي مودعة وكذلك الصغار قائلة:
- ماتقلقيش ساعتين بالظبط ونرجع بإذن الله فقالت مجيدة:
- أنا مش عارفة إيه حكاية النادي اللي كل يوم ده، حتى الجمعة لازم تروحيه ! فاعترضت سلمی:
- أنا عاوزه أروح النادي ضحكت سالي وقالت:

- مش هنتأخر، مع السلامة وما أن عبرت سالي بأطفالها أسوار النادي حتى تسارعت خطواتهم نحو مجموعة التدريب الملحقين بها فودعتهم سالي بتحية واتجهت بدورها لصالة الألعاب کي تمارس رياضتها المفضلة ولكن مع نسمات الهواء العليلة آثرت التريض بالمضمار العريض حول الفناء الواسع مارست أولا تدريبات الإحماء ثم شرعت بالركض البطيء وأفكارها تسبح بمعزل عن الضوضاء الخفيفة حولها، هي لم تصارح والدتها بفحوى الوصية التي لم تفهم مغزاها بعد واعترفت لنفسها أنها تخشى أن تؤثر والدتها عليها لتقبل تلك الأموال الطائلة وداخلها لا يدرى لم هي حقا ترفض قبولها هل لكونها منة وعطاءا من ناحية آل سليم، أم لأنها تشعر أنها بالأصل منحة منه، فهو الذي يكد بالعمل أولا وأخيرا ولم تكن والدته سوی متحصلة على نصيب بأمر الشرع ولكن في ذات الوقت هي تسعى للتفكير بعقلانية في الأمر تلك الأموال قد تحل كثيرا من مشاكلها المادية التي لا تعانيها حقا ولكن من يدري؟!

وخاطرة جديدة تمر بعقلها هل بإمكانها المساومة تمنحه الخمسة ملايين مقابل الاحتفاظ بسليم وسلمی وعند تلك الخاطرة الحمقاء انفلتت ضحكتها الساخرة فما قيمة الخمسة ملايين بنظره؟!
وأبطأت من سرعتها حتى توقفت لاشيء لاشيء بالمرة فهو لن يتخلى عن أطفالهما أبدا لا لشيء سوى العند القاتل والمتحكم بدمائه تحية الصباح المألوفة لها أخرجتها من دوامة أفكارها البائسة فالتفتت لمصدرها لتطالع وجهه المتبسم الذي قال:
- هوا على طول كده أنت شايلة الهم؟!

فابتسمت دون حيلة وقالت:
- لا والله بس أنت حظك كده معايا فاقترب منها قائلا بزهو:
- بالعكس ده حظك أنت لأني معروف عني إني حلال المشاكل هزت رأسها بتقدير وقالت:
- أنت بالفعل حليت أكبر مشكلة كانت بتواجهني فعقد حاجبيه وقال جادا:
- بجد ؟
إيه هيا ؟
فبسطت كفيها وقالت بخفة:
- اشتغلت فقال بتقدير:

- ده من حسن حظي، كنت هلاقي زيك دكتورة شاطرة مع الأطفال فين؟!
صمتت وابتعدت بعيناها عنه بخجل فقال ليتجدد الحوار بينهما:
- بس مش من عادتك تيجي النادي الجمعة هزت رأسها نافية:
- الصراحة لاء بس الولاد شجعوني عندهم تمرین إستثنائي النهاردة وأنا محتاجة أغير جو وأردف ليكمل:
- وتفكري فهزت رأسها بالموافقة وكررت خلفه:
- وأفكر فقال بإلحاح:
- في إيه ؟

ودون أن تدري قصت عليه قسما كبيرا مما كانت تفكر به فبطبيعتها الثرثارة التي لا تجد غضاضة في البوح بما يختلج بصدرها بصوت مرتفع استمع لها وقال دهشا:
- إنت إزاي ترفضي، وأنت تقدري تعملي حاجات كتيره بالمبلغ ده تنفعي بيه نفسك وتنفعي الست دي الله يرحمها فعللت موقفها:
- مقدرش أقبل، ده مش طبيعتي فتوقف عن السير والتفت ليواجها قائلا بحزم:

- النفع مش شرط يكون مادي يا سالي، هيا آه فلوس بس أنت تقدري تحوليها لمسار تاني تغير كل حياتك فكري كده إذا أخدتي الفلوس وعملتي بيهم مركز أسنان خيري، شوفي النفع اللي ساعتها هيعود عليكي وعلى حماتك الله يرحمها . . . وعلى الناس، طاقة إيجابية هتغير كل حاجة في حياتك وكأنما بعث هو بالطاقة في أوصالها وانتعشت أورتها وأزدادت دقات قلبها بها وقالت بحماس منقطع النظير:
- تصدق معاك حق فابتسم وتحولت بسمته لضحكة مرتفعة ونظر لها بتقدير بالغ:

- أنت طيبة أوي ياسالي مجرد فكرة أنك تاخدي الفلوس ليكي كنتي رفضاها ولما اتقلبت لمصلحة غيرك وافقتي فورا فهزت رأسها وهي تبتعد بعيناها عن نطاق حصاره:
- لاء أنا في دي بتاعة مصلحتي، يمكن الخير يعود عليا باللي بتمناه فقال مقرا بهدوء:
- لازم، عموما أنا في الخدمة وقت ما تنوي هتلاقيني معاكي ثم أردف ممازحا:
- وبحذرك ماحدش هيدير المشروع ده غيري دي فكرتي من الأول فضحكت سالي وقالت بلطف:
- بس كده أنا هتعبك معايا فهز رأسه نافيا:

- بالعكس أنت لو تعرفي أنا كان نفسي أد إيه من زمان في عمل خيري زي ده هتعرفي أنك بتعملي فيا معروف

عادت لمنزل والدتها منذ ساعتان وساعدتها بإعداد طاولة الطعام بهمة ونشاط فائقين حتى قالت مجيدة متعجبة:
- وأنا اللي كنت فاكرة هترجعي تعبانة ضحكت سالي وقررت مصارحة والدتها بأمر الوصية والأموال الطائلة التي ستحصل عليها فاصطحبتها لغرفة الصالون الهاديء وعرضت عليها الأمر منذ بدايته حتى قرارها الأخير بالاحتفاظ بالأموال وعلى عكس ماتوقعت سالي كان رد أمها بالرفض معللة- أنا خايفة يابنتي يكون عنيه على الفلوس دي وتدخلي في مشاكل معاه فضحكت سالي لبساطة أمها:

- ماما 5 مليون مش مبلغ عند جاسر، زائد أن المحامي أكد عليا إصراره بتنفيذ وصية أمه الله يرحمها بحذفيرها فاعترضت مجيدة بإصرار:
- وعليكي من وجع الدماغ ده بایه ما تاخدي الفلوس وتشيليهم في البنك وخلاص فرفضت سالي بإصرار:
- يا ماما أنا فكرت في كلام کریم، الفلوس دي أنا مسئولة عنها قدام ربنا ولما اقدمها في عمل خیر، بإذن الله ربنا يجعله في ميزاني وييسرلي حياتي فعبست مجيدة متوجسة:
ومین کریم ده كمان ؟
فابتسمت سالي لأمها بهدوء:

- ده الدكتور صاحب المركز اللي بشتغل فيه، إنسان محترم أوي فضاقت عينا مجيدة وهي تقول بهدوء حذر:
- یعني هوا مستغني عنك كده يقترح عليكي مشروع أنت ِ تكوني صاحبته فهزت سالي كتفيها بعدم فهم:
- وده هيضره في إيه وبعدين الدكاتره على قفا من يشيل، غير أنه أصر يشاركني في المشروع ده عشان نفسه هوا کمان في مشروع خيري فتنهدت مجيدة بمكر:
- آه قولتيلي، هيشاركك . . . طيب فاحمرت وجنتا سالي وهي تراقب نظرات أمها الماكرة المتفحصة لها وقالت بإعتراض وهمت بالانصراف لبقية شؤونها المتأخرة:
- على فكرة الموضوع مش زي ما أنت فاكرة خالص، وأنا رايحة أشوف الل ورايا قبل ما عصابة سيرين تهجم علينا راقبت أمها خطوات ابنتها الصغيرة الهاربة بقلب راجف وهي تدعو الله أن يسد خطاها وتهمس:

- ربنا يبعد عنك ولاد الحرام يابنتي وقفت أمام الباب لا تصدق ناظريها تطالعه لكأنما كان غائبا عنها عشر سنوات وليس فقط بضعة أيام تحاشت فيهم الاقتراب منه بأي شكل ألقي عليها التحية بصوته الواثق وعيناه تلتهم تفاصيلها القديمة لقد فقدت الكثير من وزنها وعاد جسدها لطبيعته التي ألفها سابقا عادت ضئيلة كما كانت بلمحات أنوثة طاغية اكتسبتها مع مرور السنون، قصيرة لازالت ترفع ناظريها له فرأسها لا يتجاوز كتفيه فتنحنحت وبصوت مرتجف أدركت أنه أتي لإصطحاب إبنائها وهي التي لم تشبع من صحبتهم فعقدت حاجبيها غاضبة وردت عليه التحية فقال بوجه عابس وصوت لائم:

- إيه يا سالي هنفضل واقفين على الباب كتير؟!
تراجعت للخلف خطوتان لكي تفسح له الطريق وقالت بهمس مكتوم:
- اتفضل وعندما دلف إلى الداخل لاحظ على الفور ظل أختها وأطفالها ومن خلفهم تتسابق خطوات صغاره نحوه فتلقفهم بصوت مرح وقبل رؤوسهم قائلا:
- وحشتوني كده برضه ماتتصلوش تسألو عليا فابتسم الصغيران بخجل وقالت سلمى ببراءة:
- ما أنا ماعرفش نمرة تليفونك فالتفت للساكنة وراءه قائلا بمكر:
- ماما تعرفها ثم رفع جسده مرة أخرى ليستقيم ويلقي التحية على سيرين التي كانت تنظر له شزرا ومن خلفها مجيدة التي خرجت من غرفتها وقابلته بعيون لائمة ورغم ذلك قالت بصوت هادىء يمليه عليها الواجب:

- البقاء لله يا ابني فهز رأسه بحرج وقال بصوت متحشرج:
- البقاء لله وحده فأشارت مجيدة لسالي قائلة:
- أدخلوا أقعدوا في أوضة الصالون مايصحش تخلیه واقف کده فأشارت له سالي بصمت فتقدم بخطوات واسعة حتى وقف بمنتصف الغرفة وهمت سالي بالانصراف لتتركه وحيدا مع أطفالهما فاستوقفها قائلا بحزم:
- استني ياسالي، أنا عاوز أتكلم معاكي والتفت إلى صغيره قائلا:
- سلیم خد أختك ورحوا اقعدوا مع تيته دلوقت، عاوز أتكلم مع ماما راقبت انصراف الصغار ودون أن تدري شعرت بالخوف لكونها بمفردها معه بين جدران أربع بالرغم من أنها جدران منزلها قاطع جاسر شرودها بإقتراب قائلا بصوت جاهد ليمحي عنه آثار الغيرة:
- معتصم هنا ؟

فعقدت حاجبيها بتعجب والتفتت له قائلة:
- لاء، بتسأل ليه ؟
فتنحنح قائلا:
- أبدا، فضول مش أكتر نكتفت ذراعيها بدفاع قائلة:
- وأديك عرفت الإجابة، خیر کنت عاوز إيه ؟
فابتسم لها دون حيلة، عصفورته الصغيرة عادت للمشاكسة ثم قال بصوت رصین:
- مجدي كلمني قالي أنك رفضتي الوصية فأخذت نفسا عميقا ورفعت حاجبيها وقالت بتوتر:
- إحنا اتفقنا إني هبلغه قراري النهائي النهاردة فهز رأسه واقترب منها قائلا بصوت حميم:
- کویس وأنا جاي أأكدلك إن ماعنديش إعتراض، أنا ماکرهلكيش الخير ياسالي فزمت شفتيها وقالت هازئة بكبرياء:
- وفكرك حتى لو اعترضت أنا هيهمني وعموما أنا قررت أني هاخد الفلوس فعقد حاجبيه وقد تفاجىء لا فقط بذاك القرار الذي سعى للحضور لإقناعها بالموافقة عليه بل ومساعدتها للتصرف بتلك الأموال الطائلة وليظهر هو بمظهر ملائكي بل لتلك النظرة النارية بعيناها فقال:
- وأنا سعيد بقرارك ده وماكنتش ناوي أقف قصادك وأمنعك من حقك فاقتربت منه وقالت بقوة:

- بس أنت فعلا مانعني من حقي هتف مستنكرا:
- أنا هزت رأسها ورددت بإصرار:
- أيوا حقي في أولادي فرفع رأسه بخيلاء سطر له وحده دون البشر قائلا:
- أنت اللي اخترتي فقالت تحمله الذنب:
- ده ماکنش موضع اختیار یا جاسر اقترب منها وداخله يعتمل بغضب:
- أنا الأول خيرتك ووافقتي وتكوني معايا لآخر الطريق وجيتي في النص ورفضتي واخترتي تمشي، وأنا ما أجبرتكيش على حاجة فاحمرت وجنتها بنفس الغضب وربما الضعف:
- وكنت عاوزني أعمل إيه أشوفك بتتجوز وأكمل معاك وأنا اللي أسميلك مولودك التالت، ولا كنت أعمل أيه ؟
فقال بهمس بارد جمد الغضب بعروقها حتى شعرت بالقهر:
- ليه أم تسميه كتمت دموعها بصعوبة بالغة وقالت بصوت ينهار ألما:
- ربنا يخليهالك فرفع رأسه بعد وقال:

- أنا أهم حاجة عندي ولادي، مش هيفارقوا حضني يا سالي فاقتربت منه بتحدي وقالت بعزم باد بقسمات وجهها التي أنارت مرة أخرى:
- ولا هيفارقوني ولمعت عيناها بإنتصار وهي تلمح إهتزاز شفتيه ورفعت صوتها لتنادي صغارهما للجلوس مع والدهما وانصرفت عنه بعيناها وهي تستمع لصوته الذي يحاول التحلي بالهدوء وهو يخبر صغاره أنه سيمر عليهم بعد غد لإصطحابهم مرة أخرى للقصر فأظلم محيا الصغيران فقال جاسر متوجسا:
- ولا أنتوا لسه عاوزين تقعدوا مع ماما ؟
فهتف سليم:

- أيوا بابا با سیبنا هنا حبه كمان فزم شفتيه وقال بصدق:
- بس أنتو بتوحشوني يا سلیم فشعر سليم وأخته بالذنب ناحية والدهما فأقبلت سالي عليهم مرة أخرى لتنفي عنهم ذاك الشعور فهما المذنبان بحقهما وليس العكس قائلة بثقة:

- انتو هترجعوا مع بابا بعد بكرة وأحنا هنرجع لنظامنا القديم ويوم الخميس هتيجوا تباتو معايا     نعم هو لا يحبذ التعاطي مع المتغيرات وما كان يبقيه واثقا ثوابت الحياة ولكن بعد تلك الزيارة القصيرة أدرك إنقلاب موازين الأمور فالمتغير أصبح ثابتا والثابت أضحى ماضيا ولعبته قطعت خيوطها وباتت حرة دونها تتحرك كيفما اتفق هواها وخطواتها لم تعد متعثرة بل هي واثقة بدربها والأدهى أنه درب يجهله.
تتعاقب الفصول والأزمنه وكذلك المشاعر ينقلب السخط إلى رضا، والحزن إلى فرح، والتوق إلى زهد وماكان مستحيلا بالأمس القريب يكون واقعا ملموسا بجوانبه تعملت أن تخوض دروب الحياة وتحصد ما تقدمه يديها بلحظة إنهارت حياتها وأطاحت بكل ما هو ثابت لها بيت وزوج وأسرة صغيرة باتت " شبه وحيدة " كما تحب أن تفكر، وتعلمت أيضا أن تأخذ بالجانب الإيجابي فقط من الأمور كما أخبرها کریم ذات مرة أنهت آخر حالة وودعها الطفل الصغير بإبتسامة عريضة وهو يردد لوالديه " ماحستش بحاجة خالص " فابتسم له کریم بالمقابل ودلف إلي العيادة ليحادثها مازحا:

- خلاص كل الأهالي بقت بتطلبك أنت بالذات للأطفال فابتسمت سالي ومازحته:
- ربنا يبعد عنا بس العين فضحك کریم:
- أنا مش بقر أنا بنق بس، المهم فاضية النهاردة على ستة كده ؟
فعقدت سالي حاجبيها قائلة:
- يعني ممكن نخليها سبعة، خير ؟
فقال كريم بجدية:

- السمسار كلمني وبيقول لقى موقع خرافي فابتسمت سالي هازئة:
- على الله يكون صادق المرادي بقاله يجي شهرين ملففنا وراه رفع کریم يده قائلا بحزم:
- لا أنا آخر مرة كلمته جامد وأكد عليا المرادي أنه فيه كل المواصفات فقالت سالي:
- خلاص بس خليها سبعة أكون لحقت أقعد مع الولاد شوية فاقترب منها كريم قائلا بلطف:
- هوا باباهم لسه مش موافق يعيشوا معاك تنهدت سالي بحزن:
- أنا فاهماه کویس، جاسر طول عمره عنيد، بس عندي أمل يفوق ويحس ده مأثر إزاي علي نفسية الولاد، سلیم بالذات فعبس کریم متشككا:
- هيا مراته بتعامل الأولاد إزاي ؟

فضحكت سالي هازئة:
- اللي عرفته أنه محرج عليها تحتك بالولاد وهيا أصلا مالهاش خلق على مراعيتهم فزم کریم شفتيه مستاءا:
- بجد شخصية غريبة أوي، أنا ممكن أعند في شيء يخصني إنما مصلحة ولادي دي مافهاش عند فهزت سالي كتفيها وقالت هامسة:
- ده جاسر هوا صح إلى أن يثبت العكس وتطلع أنت اللي غلطان برضه فقهقه کریم بصوت مرتفع وهز رأسه غير مصدقا وقال وهو يتأمل ملامح سالي المستاءة:
- وده كنت عايشة معاه إزاي؟!

فسرحت سالي بأبصارها بعيدا عنه ولكأنما تذكرت فكيف لها أن تنسى كيف كانت الحياة إلي جوار هذا الصلد العنيد؟!
فأقرت بحزن هامس:
كنت بسمع الكلام ظل کریم ينظر لها مليا حتى قال:
- بس الجواز مش واحد يتكلم والتاني يسمع ياسالي، الجواز اتنين يتكلموا ويتفاهموا فهزت كتفها دون حيلة قائلة بسخرية مريرة:
- یعني أنت كنت شوفتني كملت؟!
فاقترب منها هامسا:

- أنا مش بقولك كده عشان كنت تكملي أنا بقولك كده عشان تتأكدي أنك كنت صح " فن التجاهل " عنوان أحد كتب التنمية البشرية التي تكتظ بهم مكتبة کریم والذي اعتادت إستعارة الكتب منه وكان لا يجد أي غضاضة في ذلك، بل كان سعيدا بتلك الحالة من التفاهم والانسجام بينهما فلقد إكتشف ولعهما المشترك بنفس الأشياء القراءة والتريض ومشاهدة الأفلام الكلاسيكية القديمة ولشدة ولعها بذلك الكتاب منحها كريم إياه مازحا بأنه ارتكب أحد أكبر الحماقات في التاريخ إذ تبرع لها بالكتاب دون مقابل فالكتب بنظره ثروة، کنز ثمين، فكيف بصاحبه أن يتخلى عنه؟!

كانت بالماضي تختزن داخلها كل الذكريات والمواقف السيئة، تعيرها حجما كبيرا وتقتطع منها طاقة هائلة للتعامل مع كم هذا المخزون ولكن بخطوات بسيطة استطاعت تنمية هذا الشعور الرائع بل هو الأروع على الإطلاق " التجاهل " فأصبحت المضايقات المتكررة التي تلاقيها على يد تلك المدعوة داليا تثير سخريتها وليس غضبها تجعلها ترى أي إمرأة مهزوزة ضعيفة هي بل توصلت لحقيقة الأمر إنها أضعف منها هي شخصيا إنها ك " دون کیشوت " تحارب طواحين الهواء تسوق قدماها نحو الماضي لتحارب أشياء ماتت واندثرت وكل هذا في سبيل أن تتوقف سالي عن الحضور اليومي وملاقاة أطفالها والتمتع معهم بوقتها رغم أنها لم تری جاسر سوی مرتان فقط خلال الشهرين المنصرمين وفي المرتين تحاشت الإحتكاك به لا خوفا منه ولا مراعاة لتلك الغيورة بل لخاطر أطفالها وها هي تقف تبتسم لها بسماجة قائلة:

- كويس أنك بتعرفي تيجي المشوار ده كل يوم نظرت لها سالي بطرف عيناها وابتسمت لها ساخرة ثم التفتت لسليم الذي كان يحملق بكتاب الرياضيات غاضبا وقالت:
- سلیم حبيبي ماتدایقش نفسك حل مسألة تانية، فيه حاجات تأجيل مواجهتها بيكون أفضل مش لأنك مش قادر تحلها أنت بس ذهنك دلوقت مش صافي، في الآخر ماتضيعش وقتك فاحمر وجه داليا وزمت شفتيها وقالت:

- طيب واضح أنكو مشغولين وأنا الحمل بيخليني أدوخ هروح أرتاح شوية لم تكن سالي لترد على عبارتها التي تظن أنها قد تستفزها بها كيد النسوة الضعيفة، فلقد مرت هي بحمل وولادة ولديها بالفعل أطفال تراعهم وانتبهت سالي لصوت هاتفها الذي أخذ يعلو بالرنين فابتسمت وأجابت دون أن تدري بوجود تلك المتلصصة من خلف الباب:

- أيوا یا کریم . . . . ثم ضحكت قائلة:
- لا ماتقلقش مش ناسية . . سبعة بالدقيقة نتقابل زي ما اتفقنا ونروح سوا فوضعت داليا يدها على صدرها بفرح بالغ وهي تهمس لنفسها کریم، أي مصيبة المهم تاخدك وارتاح "    كانت تنظر له غاضبة، التغيرات التي طرأت على حاله فأصبح نزق المزاج مشتت كثير الانتقاد للمحيطين به ببساطة لكأنما خط فوق جبهته عبارة " سريع الإشتعال " فقالت بعند:
- دي رابع مرة أعيد فيها الشغل فقال زاعقا:

- إن شالله حتى عشرة يادرية فرفعت حاجبها الأيمن بانتقاد قائلة بنبرة خافتة:
- لو سمحت يا جاسر ماتعليش صوتك عليا وتفهمني إيه اللي ناقص المرادي فنفث غاضبا بلهب وهو ينزع ربطة عنقه الذي يشعر كأنها تخنقه قائلا:
- أنا مش لسه هعلمك الشغل بادرية فقامت درية وقالت بحزم:
- كويس أنك عارف، وأظن أنت كمان عارف دقة شغلي وعشان كده لو سمحت اتفضل وقع على الورق عشان التأخير مش في مصلحة الشغل فهز رأسه وقال بعند أكبر:

- لاء وسيبيه اسامة يراجعه طالما أنت مش عاوزة تعيديه نظرت له وملامحها تعلوها دهشة بالغة وتمتمت:
- ده كأني بتعامل مع أيهم فهدر فيها محذرا:
- درية وضعت عويناتها وابتسمت له ببرود:
- نعم فزم شفتيه وقال:
- علي التكييف واتفضلي على مكتبك نفذت ما أمرها به والتفتت له قائلة بنفس الإبتسامة التي قد تجمد مياه المحيط:
- أي أوامر تانيه؟!
فأقر بما يمر به مرهقا:

- هاتيلي حاجة للصداع ألم يفتك برأسه منذ الصباح فأطفاله على وشك الانتهاء من العام الدراسي وقد بكت له سلمي على مائدة الفطور وصرحت له برغبتها بقضاء فترة الصيف برفقة أمها، أما سليم فكان ينظر لها غاضبا وهمهم متبرما " بس يا سلمى بابا أصلا مش هيوافق " ولم يمتلك ردا سوى أن يغمغم لهم بأمر مقتضب للانتهاء من فطورهم وداليا لا تنفك عن محاولتها الحثيثة بالاقتراب منه واختراق الأسوار التي يصنعها حول نفسه وفي أوقات يجد نفسه ضیعفا للحد الذي يسمح لها باختراقها بقدر يسير فبالنهاية مالذي يمنع رجلا بتلقي الحب والرعاية من زوجته؟!

ألأنه يرغب بتلقي المثل ولكن من أخرى أصبحت لا تعيره أي إهتمام أيسير بدربها كالمسكين خلفها يرجو منها شفقة ونظرة عطف لحاله وحال أطفالهما؟!
ويلقبونه هو بالعنيد ؟
أيهما العنيد؟!
سارت إلي جواره كطفلة صغيرة سعيدة تتلمس الجدران وبفضول تتجول في غرفه الواسعة بسرعة فائقة والبسمة المرتسمة على شفتيها أخبرته أنها أغرمت به فابتسم هو الآخر سعيدا ليس لأنهما أخير عثروا على مكان يناسب مشروعهما الصغير الذي يسعى حثيثا نحو النور ولكنه لأنه أخيرا حاز على رضا تام منها صاح مبتهجا:
- واضح أنه المسطح عجبك هزت رأسها لتقول بسعادة:

- جداااا فاقترب منها وعقد حاجبيه بمكر قائلا:
- أنت كده هتخليه يعلي السعر علينا فضحكت وزمت شفتيها ورسمت تعبيرا غامضا على وجهها وظهر أمامها السمسار وقال بحفاوة:
- أظن أهوه في الآخر عملت اللي عليا وزيادة فقالت سالي بنبرة متشككة:
- أنت شايف كده ؟
يعني أنا رأيي نبص على المكان التاني اللي قلت عليه بهت الرجل وأدار رأسه نحو کریم الصامت والذي كان يكتم ضحكاته قائلا:
- ماتحضرنا یادکتور، ده موقع يشرح الروح هوا فيه بعد كده والناس طالبين فيه مبلغ مش بطال فهز کریم رأسه موافقا وقالت سالي:
- لا لا . السعر بالذات لو يعني لو هنتفق هيبقي فيه كلام تاني خاالص فهز الرجل يده دون حيلة وقال:

- صدقيني يا دكتوره استحاله تلاقي حاجة أحسن من كده فتدخل کریم في الحوار جادا:
- طب سيبني ياحاج مع الدكتوره وهنرد عليك فقال الرجل يائسا:
- عموما إحنا ممكن نحرك السعر شويه بس بالكتير ٥ الآلآف مش أكتر وصلا كلاهما لحيث سيارة كريم المرصوفة وودع الرجل بتحية حارة وهو لازال يكتم ضحكاته حتى انفجر قائلا:
- إنت مش ممكن، ممثلة درجة أولى فعبست بوجهه قائلة:
- مش أنت اللي قولت كده هيعلي علينا فهز كفه نافيا وهو يضحك ممازحا إياها:
- نصابة درجة أولى ده الراجل طول الطريق لعربيته عمال يقنع فيا نقبل وهينزل السعر أكتر فضحكت سالي قائلة:
- من بعض نصائحكم فتح كريم السيارة وقال داعيا إياها للصعود:
- يالا طيب أوصلك في سكتي فاحمرت وجنتا سالي وقالت:

- مافيش لزوم تتعب روحك أنا هاخد تاکسي نظر لها کریم مليا فهي دوما ترفض بشكل مبطن مرافقته لأي مكان بسيارته وهو كان لا يمانع إذ أنه يجد من غير اللائق دفعها للقيام بأمر لاتحبذه فقال عابسا:
طب ماتجيبلك عربية بدال وجع القلب ده همت لتسخر من تلك الفكرة ولكنها تذكرت إمتلاكها لملايين وإمتلاك سيارة لن يؤثر على ميزانتيتها ولكنها مع ذلك قالت:
- ناوية بإذن الله أول ما أحوش مبلغ محترم أدفعه مقدم ففتح لها كريم الباب وبعند قال:
- طب اركبي أوصلك لأقرب مكان حتی وبطريقتي السحرية هقنعك أنه من الطبيعي تستغلي الفلوس في حاجات تانيه بخلاف المشروع الخيري فهزت سالي رأسها دون فهم فكيف إستطاع الولوج لعقلها ومعرفة السر الذي يمنعها من تحقيق رغبتها وبالفعل صعدت السيارته وما أن صعد هو الآخر حتى قالت للدفاع عن نفسها:
- على فكرة الموضوع مش زي ما أنت فاكر وأنا . . قاطعها كریم قائلا:

- من مبادىء الإحسان والخير أنه الواحد يحسن لنفسه الأول یاسالي عشان تقدري تدي لازم تاخدي . ده أمر ضروري عشان ماتهدریش طاقتك عقدت سالي حاجبيها وهي تفكر في مغزی کلماته فتابع هو:
- العربية دي وسيلة تسهل عليك الانتقال من مكان للتاني مهمة ليك وللولاد كمان، فرضا لاقدر الله أي حاجة حصلت بسرعة هتعرفي تكوني معاهم فظهرت إمارات الإقتناع على وجهها حتى قالت بامتعاض:
- أنت معاك حق بس الحقيقة إني حتى نسيت السواقة وبقالي زمن ماسوقتش عربية فقال كريم ببساطة وبإبتسامة واسعة:
- وأنا رحت فين كعادته مؤخرا طبع قبلة دافئة على جبين صغاره وهم نائمون وقبل أن ينصرف متجها لغرفته ليبدل ملابسه باغتته الصغيرة بعناق متشبث برقبته وغمغمة هامسة محلاة بطعم أحلامها البريئة:

- أنا بحبك يا بابا فتوقف عن الحراك للحظات وضمها لأحضانه مرة أخرى ودثرها جيدا وهو يغمغم لها:
- وأنا بحبك ياقلب بابا ثم اتجه لفراش أخيها مرة أخرى وقبل جبينه مرة أخرى قائلا بهمس:
- بكرة تكبر وتعرف أد إيه أنا بحبكوا خطواته كانت متعبة، في الواقع مذنبة مهما ابتعد بعناده السافر سيعود لأرض الواقع ليقر بحقيقة لاجدال فيها يفتقدها ويفتقد لذة أمان أحضانها حوله وحول صغاره عنادا بات مرا كالعلقم عندما يستيقظ صباحا ليجد أن من تحوطه بأحضانها أخرى، يجد نفسه غريبا عنها مهما حاولت هي الاقتراب وجدها تنتظره بغلالة إرجوانية تكشف الستار عن مفاتنها وعطرها النفاذ يستبقها لتستقبله بأحضان حارة وعلى النقيض استقبلها هو ببرود جم قائلا بصوت متجمد كعضلات جسده:

- لسه صاحية ! فابتسمت له بافتنان:
- أنا حتى لما بكون زعلانه منك بعمل نفسي نايمة بس مابقدرش يغمضلي عين وأنت مش في حضني فهز رأسه واتجه بصمته نحو الخزانة ليخلع سترته ليجد أن أناملها امتدت واقتحمت فتحة قميصه لتتولى هي خلعه عنه فغمغم بضيق:
- داليا أنا . . فمدت أصابعها بجرأة بالغه نحو صدره العاري قائلة بهمس مغوي:

- أنت محتاج مساج من بتوع زمان، فاكر ربما لم يستجيب عقله لتلك الذكرى ولكن جسده لم ينفر منها فهو بحاجة لذلك التلامس الذي يشعره بكونه على قيد الحياة بالفعل، مرغوبا وتلك الرغبة تزيد من رعونة أفكارة التي دفعته لدسها بين أحضانه وسحقها تحت وطأة ذراعه متجها بها للفراش وعقله مغيب بصورة الأخرى التي تحتل عرش قلبه الذي يصطرخ مبررا بكون مايخوضه لهو في حقيقة الأمر " هروبا مشروعا " " موسم الإمتحانات " عبارة تلخص معاناة كل أسرة أو بالأصح أم مصرية ولم تكن درية مستثناة من تلك القاعدة ليس لأنها تخشى حصول أبنائها على درجات متدنية فهي تؤمن بأن النجاح بالمستقبل يظل بید من يسعي له حتى آخر رمق ولو كان بآخر لحظة ولكنها تخشی توابعه فوقت الفراغ الذي يقضيه أبنائها بعد حصولهم على إجازة العام، كان دوما أمرا شاقا ينتهي بتدخل والدها الضاري والذي يسعد به الأحفاد أفكار انغمست بها حتى أنها لم تلحظ أنه كان يراقبها لدقائق منصرمة وهي تحيط نفسها بعدة أوراق وملفات وأصابعها تعبث بها بطريقة عشوائية ليست من شیمها وعندما لاحظته أخيرا ارتسمت على وجهها نظرة مؤنبة وقالت:

- خیر یا باشمهندس؟!
فاقترب منها مانحا إياها إحدى نظراته الماكرة دون حساب قائلا ببسمة متواضعة:
- أبدا كنت جاي لجاسر فقالت وكأنما تهذب طفلها المشاكس:
- أظن أنت عارف أنه بقي بيتأخر الصبح شوية هو كان يدرك تلك المعلومة إذ أن أخيه بحالة نفسية سيئة بعد رحيل أمهما فأصبح يستغرق وقتا في الاستيقاظ والتوجه بهمة لعمله ولدافع قوي ليعود لمنزله البارد دونها ودون طيف زوجته السابقة فقال وهو يهز رأسه بهدوء:
- طيب أن هدخل استناه جوه وهاتي البوسطة أمضيها فعبست بتوتر:

- علي أي أساس يعني فغمز بعيناه وقال وهو ينصرف لغرفة جاسر:
- على إعتبار ماسيكون فضمت حاجبيها بغضب وقامت لتتبعه بعند قائلة:
- بس جاسر ما دانیش أوامر بكده فالتفت لها هازئا:
- أصل الحاجات دي بتحصل فجأة يعني زي الخطوبة كده فنکست رأسها وقالت باستسلام:
- أنا ما اتخطبتش يا أسامة فاقترب منها ليقول حانقا:
- ماهو ده بقى اللي عاوز أفهمه، علي أي أساس كان بيتكلم البأف ده فنهرته بشدة:
- ماتقولش عليه بأف فاستشاط غضبا هو الآخر وزعق بها:
- نعم يا أختي ففغرت فمها بذهول وقالت مؤنبة:

- أسامة ثم انتبهت لزلة لسانها ريثما اقترب منها بل في الواقع اقترب بشدة حتي بات يخترق بأنفاسه حجابها الحاجز وهو يقول بهمس دافئ- يا عيون أسامة وتدافعت قدماها نحو الخلف هارية بخطوات سريعة كتدافع الدم لوجنتها:
- أنا ورايا شغل بذهن مشوش إنصرف من عمله كما أتی صباحا تاركا درية تنظر لإثره بشفقة بالغة عائدا للقصر الذي يدرك أنه في تلك الساعة تكون هي قد غادرته منذ قليل ورسالة نصية من داليا تخبره بوجود عطل ما في شقتها وأنها ستغيب عنه تلك الليلة رغما عنها فاستقبلها براحة تامة فهو بحاجة للاختلاء بنفسه ولكنه لايدرك ألسوء حظه أم لقدره السعيد دلف لغرفة أطفاله ليجدها لازالت برفقتهم فاستقبلته ببرود وقالت هامسة خشية أن توقظ الأبناء وهي تهرب من صحبته نحو الخارج:
- سلیم بكرة عنده إمتحان فضلت قاعدة جمبه لحد مانام فتبع إثرها وأغلق باب الغرفة وقال بهدوء مستفسرا:

- إمتحان إيه ؟
فالتفتت له وارتسم على وجهها رغما عنها ملمحا ساخرا:
- ماث فعقد حاجبيه ليقول بحنق:
- مش معنی أني مش عارف يبقى كده أنا مش مهتم، هيا الفكرة إني واثق بأنك واخده بالك منهم، فما كفرتش لما ريحت دماغي من جهة ولا حرام أرتاح من الفكر شوية فزمت شفتيها وقالت بصلابة:
- بإيدك ترتاح من الفكر تماما وتسيبهم معايا فاقترب منها قائلا بعند أكبر:
- عشان لما يكبروا يحسوا أني رميتهم توترت أنفاسها وقالت بحنق:

- ده اللي انت بتفكر فيه شكلك قدامهم؟!
، مابتفكرش أنهم طول النهار هنا في رعاية الدادات، جدتهم الله يرحمها وأنت بترجع بعد العشا وكلها أسبوع ويخلصوا مدرسة، مين هيراعيهم طول الوقت؟!
فقال مدافعا عن نفسه وهو يشعر بالغضب يختنق أنفاسه:
- أنت اللي سيبتيهم وجاية دلوقت تقولي مين هيراعيهم، مافكرتيش في ده قبل كده ليه ؟
شددت قبضتها على حقيبته المعلقة على كتفها وقالت:
- طبعا ماهو الذنب ذنبي لوحدي وحضرتك خالي من أي مسئولية فتهكم منها بضحكة خافتة:

- وأنا لما أسيبهوملك كده أبقى شيلت المسئولية فاقتربت منه دون خوف وأمسكت بذراعه في لحظة أطلقت لغضبها منه العنان:
- أنت بتعمل كل ده عشان حاجتين بس مالهومش تالت، عندك وإحساسك بالعظمة وأنه مهما كان أنا دوري على الهامش في حياة الولاد فنظر لكفها الرقيق الذي يحيط بذراعه بقبضة واهية وأمسك به فأجفلها وقال بصوت أجش هامس وهو يقربه من شفتيه ولثم باطنه بحرارة تختلج صدره شوقا:

كده يبقوا ۳ حاجات ياسالي والتلاته غلط فارتجفت شفتيها بل ارتجف جسدها كله لكأنما أصيبت بصاعقة كهربائية، لا قبلة صغيرة دافئة الملمس حطت على كفها الصغير القابع بين أنامله القوية لتفترش ذكرياتها البعيدة والقريبة قلبها لينوح بصراخ يدوي بالشوق إليه رغما عنها، فسحبت كفها بغتة وكذلك خطواتها لهروب نحو الخارج ودموعها تستبق الرحيل من مکمن جفونها المرتخية بعيدا عن أي شاهد   من كان يظن أنه لا يستطيع التنقل داخل حجرات القصر بحرية ويقبع منتظرا وصول أخيه بغرفة الصالون كأي ضيف لا لأنه ليس على وفاق مؤخرا معه أو لأن والدتهما قد رحلت بل لأن اخيه أصبح متزوجا بتلك الحية الرقطاء التي استقبلته بإبتسامة بارده وعللت عدم قدرتها بالترحيب به كما يجب بسبب حملها المزعج الذي كثيرا مايسبب لها الغثيان وكأنه يأبه لها ولغثيانها تلك اللعينة ! لو كانت سالي مازالت زوجته حتى الساعة لما شعر بحرج أفكار مريرة تناوشه تذكره بما خسره وبما تبقى له وتشعره بالنهاية أنه غاية في الضالة إن كان يشعر بالغربة بمنزل طفولته فكيف يشعر الطفلان ببعدهما القسري عن الحنون أمهما نظر لأعينهما المتسعة البريئة وابتسم لهم إبتسامة صافية من قلبه قائلا:

- هاه أخدتو الأجازة ولا لسه ؟
هزت سلمى رأسها بحماس قائلة بفرح:
- أخدتها بس سليم لسه أخدها النهارده، كان عنده امتحان ماث فالتفت له زیاد قائلا:
- وعملت إيه في الإمتحان یا سليم رد سليم بفخر:
- حليته كله صح ماما كانت مراجعه معايا كل المسائل فرد زیاد بدهشة:
- هيا ماما بتيجي هنا ؟
ابتسم الطفلان وقالا سويا:

- آه كل يوم فهز زیاد رأسه بتقدير بالغ فيبدو أنه قد بخس سالي حقها إنها أم بالفطرة ولم تكن تلك الحية ولا ذاك الرأس الصلد المتحكم بأفعال أخيه بعائق لها وانتبه لوجه أخيه وهو يحدق به بدهشة فقام وقال بسخريته المريرة:
- أرجو ماکنش بتطفل عبر جاسر باب الغرفة سريعا وقال بضيق:
- وقاعد في الصالون ليه فكرت جالنا ضيف زم زیاد شفتيه وقال:
- ماهو أنا فعلا بقيت ضيف، أسامة قالي أنك مصمم تشتري نصيبنا فالتفت جاسر لأطفاله وقبلهم وأمرهم باستباقه لغرفة المعيشة وما أن أطاعاه حتى التفت لأخيه قائلا بإصرار متألم لسوء ظن أخيه به- لأن مش من حقي أقعد فيه أنا وعيالي منغير ما أديكم حقكم فيه، لكن ده هيفضل بيتك بازياد ماتجيش تقعد في صالونه زي الأغراب تنهد زیاد وقال بشبه اعتذار:

- عموما أنا ماكنتش هطول أنا جيت أسلم عليك أنت والولاد وحشوني، كمان أنا رجعت إسكندرية بشكل دایم فعقد جاسر حاجبيه وقال:
- والكافية ؟
فرفع زیاد حاجبيه دهشة فاستطرد جاسر:
- ناس معارف قالولي أنك شارکت واحد وفتحت کافية في القاهرة فضحك متهكما وقال:
- قصدك جواسيس، عموما لو كنت استنيت شوية كانوا قالولك إني رجعت عشان أفتح فرع تاني هنا وفي الوقت الحالي بنجهز فرع في شرم فهز جاسر رأسه بتقدير ومد يده ليصافح أخيه الأصغر قائلا بصدق:
- مبروك صافحه زیاد وتابع بنفس النبرة الساخرة:

- عقبال ما أباركلك على المولود قابلت مراتك وبلغتني فتلاشت ملامح الود من على ملامح جاسر سريعا وارتسمت بدلا منها مشاعر الغضب والضيق فتابع زیاد بنبرة متوترة:
- برغم كل اللي بينا يا جاسر أنا فعلا مشفق عليك فرد جاسر بصلابة:
- مافيش حاجة بينا يازياد أنت هتفضل أخويا مهما كان وأنا کویس الحمد لله وفر شفقتك فابتسم له زیاد وقال وهو يدفعه لأحضانه:
- من قلبي بتمنى تكون كويس- والله بقينا مشغولين ومش فاضيين يا ست سالي قالتها مازحة وهي تعبر سياج الحديقة الصغيرة المحيطة بالممشى المستطيل داخل النادي فالتفتت لها سالي وقالت ضاحكة:

- والله يا آشري بجد ماعنديش وقت خالص وبالعافية بلاقي وقت للولاد حتى بقالي أسبوع ما عتبتش النادي فعبست آشري وهي لا تزال تشعر بالحنق من صديقتها:
- ولا حتى تليفون وبعدين ليه كل ده ؟
فمضت سالي تسرد عليها مجريات حياتها مؤخرا وما توصلت له و حتى اليوم فهتفت آشري بحماس:
- الله بجد مرکز خيري، بریلانت، جود فور يو أنا مبسوطة عشانك أوي فابتسمت سالي بود وقالت:
- بس ماتتخيلیش الموضوع مرهق أد إيه ولولا كريم أنا كنت ضيعت فالتفتت لها آشري وقالت بنبرة ماكرة:
- کریم، مین کریم ؟
فاحمرت وجنتا سالي رغما عنها وقالت بتوتر لا تدري سببه:

- ده مدير المركز اللي بشتغل فيه وصاحب الفكرة الحقيقة وصمم إنه يكون المدير المالي ده غير أنه ساهم معايا بمبلغ كده بس هوا شخصية محترمة جدا فضحكت آشري وهي تراقب ردة فعل الأخيرة وقالت:
- سالي وشك أحمر خالص فعقدت سالي حاجبيها غاضبة وقالت:
- ده من الشمس على فكرة وبعدين مافيش اللي في دماغك ده نظرت لها آشري بحنان وقالت بتصميم:
- على فكرة ده من حقك تعيشي حياتك بالشكل اللي تحبيه من غير قيد ولا شرط كفاية جاسر عايش حياته بالطول والعرض جلست سالي على أقرب مقعد وقالت بهدوء:
- أنا مش بفکر کده خالص والموضوع مش رد فعل ولا باي باك، کریم انسان محترم وأقرب لأخ وقف جمبي كتير زي ما أنت وقفت جمبي مش أكتر فهزت آشري كتفها وارتشفت القليل من قنينة المياه التي تحملها وقالت:

- أنا بتكلم إن جينرال، مستقبلا، ماتحسيش بتأنيب ضمير ولا تعقدي الدنيا يا سالي، موف أون، الدنيا مابتقفش على حد هزت سالي رأسها وقالت بمرارة الفقد التي تستشعرها دوما:
- حاليا واقفة على ولادي، نفسي أغمض عين وافتحها الأقيهم في حضني فربتت آشري على كتفها:
- هيرجعهوملك وبكرة تقولي آشري قالت نفضت سالي رأسها وكذلك نفضت الدموع بعيدا عن عيناها ووقفت قائلة:
- أنا أتأخرت يادوب أقضي نص ساعة في الجيم عشان ألحق أطلع على المشروع سارت آشري لجوارها قائلة بمزاحها المرح:
- وأنا هاجي معاكي وأتمنى تقبليني شريكة متواضعة وتقبلي الشيك اللي هيديهولك، ولا أخلي كلامي مع دکتور کریم فوکزتها سالي بغيظ وسارتا ضاحكتان وكلا منهما تفكر بالشريك الغائب الموصوم بلعنة آل سليم رغما عن كرامتهما الجريحة وما كانت تخشاه بالفعل واقعا متجسدا أمامها فقط بهيئة أكثر إثارة متمثلة في جسد فارع وحلة رياضية ونظارة شمسية تخفي ورائها نظرة ماكرة وأبيها يعلنها واضحة- طارق عرض عليا ياخد الولاد في رالي کررت ورائه ببلاهة وهي تحاول إستيعاب الأمر وكيفيه سوق رفض لائق وقاطع في الوقت ذاته خاصة مع أعين صغارها المشتعلة بحماس- رالي ! ! | استطرد طارق وهو يخلع نظارته وإبتسامة تعلو ثغره:
- رالي ده سباق عربيات قاطعته بحدة:
- أنا عارفة الرالي . . . السؤال فين ؟

اقترب منها مهدئا قائلا بصوته العميق وعيناه تبلعان تفاصيلها البسيطة والمغرية في الوقت ذاته- ماتقلقيش على بعد خمسة كيلو بس من المزرعة وياريت تيجي معانا هتنبسطي أووي وتعالت صيحات ابنها الأوسط مشجعا:
- ياريت يا ماما هتنبسطي جدا صدقيني تبعها تأكيد من الأكبر أن الأمر مشوقا أما الصغير فلم يتسنى لها فعل أي شيء تجاه حماسه المنقطع النظير إذ قفز يتسلق کتف طارق صائحا بابتهاج والتفتت لأبيها ونظرتها المخيبة للآمال استقبلها هو ببراءة تامة قائلا:

- ما هو الولاد أخدو الأجازة ومش معقول هيفضلوا محبوسين في المزرعة وفرصة أنت النهاردة أجازة نعم، بالفعل الكثرة تغلب الشجاعة بل ما غلبها حقا في تلك اللحظة عيناه الباسمتان وصوته الذي خصها فقط بهمس صادق لم تلتقطه سوى أذنيها- أرجو ما تعتبريهاش تطفل مني لأن في الواقع دي طريقتي للاعتذار انسابت ضحكاتها العذبة تحملها نسمات النسيم ورغم الفراق لم يكن لينساها وزاد إفتقاده لها فسار ببطء نحوها فهو يعلم أنها عندما تراه سوف تخفت تلك الموسيقى وتبهت إبتسامة وجهها ولم تكن تلك رغبته أشارت له صغيرته بتحية من قبضتها الصغيرة وتدافعت خطواتها نحوه والتفتت لتراقب تقدمه الحذر بدهشة فعبست رغما عنها وساورتها الشكوك رفع سلمي في الهواء بقوة ودغدغها تحت أنظارها المحملقة به بغرابة فهيئته كانت غريبة بعض الشيء إذ تخلى عن حلته الرسمية بل وسرواله الكلاسيكي ليستبدله بآخر كاكي قصير وقميصا قطنيا بلون أزرق اقترب أكثر ولاحظت لحيته النبتة واشتاقت رغما عنها لملمسها الخشن ولم يسعها إلا أن تلاحظ أيضا نظرة عيناه الماكرة  تبا له، يعلم جيدا تأثيره عليها ونبرة صوته تمتع بالعبث إذ قال بابتسامة جانبية:

- إزيك يا سالي ؟
بغضب متصاعد ودت أن تقول " أحسن منك " ولكنها ستكون كاذبة وسترقد في ظلمات الجحيم بكذبتها تلك فتنحنحنت واستجمعت أعصابها المتقافزة قالت بهدوء رصين بعد برهة:
- الحمد لله جذب کرسيا بالمقابل لها وجلس بأريحية متسائلا:
- فين سليم ؟
ردت صغيرته بالنيابة عن أمها:
- لسه ماخلصش تمرین فقامت سالي فجأة وقالت وهي تهرب بدقات قلبها التي فقدت إيقاعها السليم:
- أنا هروح أشوفه، خليكي هنا مع بابا ياسلمی فقام بدوره وقال ببساطة:

- نيجي معاكي أنا عاوز أشوفه أنا كمان عبرا البوابة المعدنية ليدلفا سويا عبر المكان المخصص لتدريب " الكارتية " وتشاغلت سلمى باللعب مع فتاة أخرى تماثلها عمرا تحت أنظار سالي التي تراقبها صامتة وفي الوقت ذاته تمنح بكفها تحية مشجعة لسليم والذي كان يبلي بلاءا حسنا بتمرینه خاصة بعد أن رأى طيف جاسر يراقبه هو الآخر ويمنحه تشجيعا إضافيا ظلا صامتين وإن كانت عيناه كالصقر لاتخفي عنه شاردة منها حتى قال بصوته الأجش:
- سليم لعبه اتحسن في الكام دقيقة اللي إحنا واقفين فيها سوا أنا وأنت فردت بعند متجاهلة تلميحه المبطن:
- هوا سليم دايما كده بيبتدي التمرين عنده رهبة وبعدين بيكمل کویس فالتفت لها وقد ضاقت عيناه وقال:
- قاوحي يا سالي واعندي وأركبي دماغك زي ما أنت عاوزة وكل ده وأنا صابر عليكي عشان مسيرك ترجعي ليا وللولاد فاحمرت وجنتها بشدة الغيظ واحترق قلبها بألم الغدر وقالت بمرارة النبذ مستنكرة:

- أنا ! أنا اللي بعند . . . وأنت . . . أنت اللي صابر یاجاسر ! ! . . كتر خيرك هقولك إيه غير كده فزم شفتيه وقال مؤكدا:
- هترجعي إمتی یاسالي ؟
، مش كفاية كده أنا كل ده وسايبك بكيفك فنفثت بلهيب الغضب:
- مش هرجع يا جاسر فوضع ساقا فوق الأخرى بعنجيهته الفطرية:
- عند يعني مش أكتر فمضت تراقب أطفالهما لترسل أنظارها بعيدا عنه في محاولة فاشلة للتجاهل قائلة بسخرية:
- آه عند فضحك متهكما فيهدي محاولتها صفعة مدوية إذ بائت بالفشل:

- وهتترهبني من بعدي ياسالي، خليكي حقانية، عمرك كله هتقضيه وأنت بتحاولي تنسيني ومش هتقدري، إستحالة تقدري فعادت أنظارها لتستقر دون تصديق على ملامح وجهه الواثقة والتي أهدتها إبتسامة واسعة ولجم لسانها وفتأت تحاول أن تجد ربما ولو شق كلمة لترد بها على غروره الوقح فتمحي بها آثار إبتسامته الواثقة دون رجعة ا ولكنها بائت بالفشل فاحمر وجهها أكثر وأكثر فأشفق عليها واستحوذ على كفها فجأة وربت عليه برفق ورفعه ليلثمه مرة أخرى في غضون أيام قليلة ويرسل المزيد من الشحنات التي أتت على ما تبقى من تماسكها الضعيف ورغما عنها أغلقت عيناها بقوة لتمنع سقوط مزر لدموع لا تستطيع التحكم بها وقامت فجأة قائلة بقوة:
- أنا هروح أسأل لسلمي عن معاد تمرینها...
أتراها تنساه يوما ؟
كيف وقلبها معلق بقطعتان تشبهانه راقبت انصرافهما بصحبته بقلب ينوح بعذاب صامت وأعين صغارهما معلقتان بظلها كرهته في تلك اللحظة أيما كراهية هو من يمزقهم بعناده ويدعي بعد كل ذلك الصبر ! فأني لها هي بالعودة والتراجع عن حياتها الجديدة؟!

سارت ببطء دقات قلبها عائدة لمنزل عائلتها مشيا على الأقدام صراعها الداخلي كان أكبر من سعة صدرها والدموع تنهمر من مقلتيها بلا حساب ولا رادع حتى مع نظرات المارة المتعجبة نهرت نفسها مرارا وتكرار ولكن لا فائدة لحسن حظها عندما وصلت للمنزل لم تجد أمها في انتظارها، فلابد وأنها في زيارة لأختها الكبرى فاتجهت قدميها دون أن تشعر لملاذ والدها الراحل حاولت الاعتناء بزهوره وزروعه ولكنها لم تكن ناجحة بقدره ومع ذلك استطاعت الإبقاء على بعض المزروعات القوية والتي لا تتطلب جهدا في الرعاية.

مرت سريعا وهي تتفقد حالتهم وانشغلت أناملها بحالهم وكذلك عقلها، لكن القلب كان لا يزال يأن من وقع كلماته القاسية تمتمت لنفسها بحنق جم " صابر . . هه " ثم جلست على الأريكة الخشبية لترتاح قليلا وربما يرتاح عقلها من تكرار كلماته على مسامعه، ثم أتاها صوت العظيمة كوكب الشرق " لكأنما تواسيها وتشد من أزرها وهي تصدح بأغنيتها الرائعة " فات الميعاد " وتجد نفسها رغما عنها تنساب دموعها من جديد تحت وطأة كلمات أم کلثوم العذبة المعذبة " بيني وبينك هجر وغدر وجرح في قلبي داريتوه آآآه  بيني وبينك ليل وفراق وطريق أنت اللي بيدتوه آآه " وهمست لنفسها وهي تمسح دموعها بقوة " أنت اللي بديت ياجاسر والبادي أظلم      لا تعلم إن كان رد فعل على حوار الأمس أم هو بالفعل الطريق الذي يجب أن تنشد لتتخطاه نحو حياة بلا رجوع موافقتها الفورية أثارت تعجبه ودهشته إذ توقع أن ترفض بحمرة خجل وتحفظ عهده دائما بها فقال مرة أخرى ليتأكد:

- یعني على تلاتة كده نروح سوا بعربيتي؟!
هزت رأسها قائلة:
- خليها تلاتة ونص یا کریم أكون خلصت كل الحالات اللي عندي فهز رأسه ضاحكا:
- خلاص تلاتة ونص نروح نقابل صاحب الشركة وإن شاء الله التوريد خلال أسبوع بالكتير فابتسمت له وهي تعود مرة ثانية للحالة التي تتابعها:
- إن شاء الله خرج من غرفة العيادة منتشيا بسعادة لا يعرف سببها الفعلي، يعلم بأنه يخطو بخطوات متسرعة على أرض متصدعة ولكن ليس هنالك على الفؤاد سلطان    وبغرفتهما كانت تدلله بتدليك صباحي سريع لكتفه رفضه بضيق أنفاس قائلا:
- أنا اتأخرت یاداليا فعبست بوجهه بدلال وقالت:

- إن كان عليا مش عاوزاك تروح الشغل النهاردة، فيه مشوار مهم لازم نعمله سوا فقضب حاجبيه متعجبا وقال:
- مشوار إيه ؟
وضعت يدها على كتفيه من جديد وقالت بعيون راجية:
- جاسر، من أول ما حملت وأنت ماروحتش معايا ولا مرة للدكتور، إيه مانفسکش تشوف البيبي ؟
فابتسم ساخرا وتمتم:
- وهشوف فيه إيه ده لسه يادوب فعبست بغضب وقالت بدموع تماسیح:
- أنا كان قلبي حاسس أنك مش هتحبه قد حبك ل . . . فقاطعها زاعقا:

- داليا منغير مزایدات كلهم ولادي وحبي ليهم مابيتجزأش، مش عاوز اسمع الكلام السخيف ده تاني فاقتربت منه سريعا وريتت على وجنته وقالت لتدر عطفه وشفقته- یعني هتيجي معايا النهاردة، محتجالك أووي، جاسر دي أول مرة أكون أم أنا . . فقاطعها مرة أخرى بنفاذ صبر:
- خلاص يا داليا الساعة كام معاد الدكتور ؟

فابتسمت له إبتسامتها الساحرة وهي تطبع على وجنته قبلة خفيفة- يعني عدي عليا الساعة تلاتة كده فابتعد عنها وهو يهز رأسه:
- تمام تلاتة بالدقيقة تكوني جاهزة ومستنياني تحت     كانت بطريقها نحو المصعد لتتجه للدور الرابع حيث مكتبها ولكن شيئا ما حث قدماها على التوقف ولا تدري أهو نداء قلبه أم قلبها الذي جعلها تستدير تلقائيا للخلف لتراه يقف على بعد أمتار قليلة بذلة غير رسمية وقد نبتت لحيته ومنحته مظهرا ناضجا فاقترب منها بنظرت عيناه الثاقبة وخطواته الواثقة قائلا:

- إزيك يا آشري؟!
فاستجمعت دقات قلبها الخافقة بسرعة وردت:
- الحمد لله، إزيك أنت یازیاد ؟
صمت لوهلة وقال:
- أنا الحمد لله أحسن وساد الصمت بينهما لفترة أطول لكأنما فقد الإثنان النطق وكلاهما يخوض صراعا مابين تحذيرات العقل واشتیاق القلب حتى أمسك هو بزمام المبادرة وقال بصوت هادیء:
- أنا كنت جاي أعزمك على حفل افتتاح الكافية بتاعي ارتفع حاجبيها دهشة وقالت:
- فتحت كافية ! فابتسم بود قائلا:

- في الواقع هيا سلسلة . . فرع في القاهرة واسکندرية وحاليا بنجهز أنا وشريكي لفرع في شرم هزت رأسها وقالت بفرح صادق:
- مبرووك یازیاد فاستطرد سریعا برجاء:
- النهاردة الساعة سبعة ورغما عنها انسابت الكلمات منها مؤكدة:
- أول ما أخلص شغلي أكيد هاجي ولم يكن بينهما وداع إذ قفزت قدميها بهروب نحو المصعد وهي تلوم نفسها على موافقتها السريعة بينما وقف هو يراقب انصرافها بدقات قلب مضطربة دقات الساعة نبهته بالإضافة لإتصالها الملح فوضع القلم جانبا ورتب أوراقه وجمعها ورد على إتصالها الملح للمرة الثالثة على التوالي قائلا بتبرم:
- الساعة لسه اتنين یا داليا فقالت بدلالها المصطنع:

- ما أنا بس بتأكد إنك مش ناسي قال بحزم ليقطع الإتصال بعدها:
- تلاته یا داليا هكون عندك وكعادته لا يخلف موعدا قط، حتى لو كان يشعر بثقل يخدر أوصاله، جنينا ينمو بأحشاء إمرأة لم يخطط لأن يكون إرتباطه بها أمرا واقعا ومتجسدا لتلك الدرجة خاصة وعقله بل وقلبه مازال معلقا بأخرى نظر في ساعته الثمينة وارتقب بعدها خطواتها المتسارعة نحو سيارته وما أن قفزت بداخلها حتى قالت بعتاب:

- طيب مش كنت تدخل تستناني جوه ! فقال متهكما وهو يقلع بالسيارة:
- هتفرق إيه وبعدين أنا قلتلك تلاتة بالدقيقة فنظرت له بطرف عيناها مستنكرة:
- ياسلااام ولو كنت أتأخرت ياجاسر فقال حازما:
كنت هرجع شغلي يا داليا فعبست وظلت واجمة لفترة حتى قالت:
- جاسر أنت بجد حاسس بأبوتك للطفل ده فتأفف بصوت مرتفع قائلا:

- داليا الأوهام اللي في دماغك دي أنا مش مسئول عنها، ودلوقت بقى العنوان فين ولا هنفضل ماشيين تايهين کده کتیر فقالت بصوت مستكين:
- خليك ماشي على طول بعد الإشارة على شمالك ادخل ففعل مثلما أرشدته حتى وصلا للإشارة المرورية وتوقف السير بأمر من الضوء الأحمر الذي قد يطول لدقائق عدة، فهم بالحديث معها مجددا ليمحو أثار شكوكها المثيرة للشفقة بداخلها ولكنه لم يسعه سوى التحديق بقوة للمشهد المتجسد أمامه لزوجته السابقة تقف بصحبه أحدهم يتضاحكان سويا وبالقرب منهما إشارة إعلانية لمركز علاج أسنان شهير فما كان منه سوى أن يترجل من سيارته بخطوات مسرعة غير عابیء للمارة ولا للسيارات التي بدأت في إصدار أصوات معترضة بأبواقها إذ توقف ذلك المجنون فجأة عن الحركة والشارة الضوئية أضحت خضراء، ولا لصوت داليا الذي ارتفع هاتفا بإسمه مستنكرا فجل ماكان يتملك عقله في تلك اللحظة لم يكن سوی شیطان أسود وخلفه قلب يضج بلهيب عذابه وتملكت أنامله رقبة ذلك الفارع عبر ياقة قميصه حتى كاد يخنقه وتعالت صرخة سالي فزعة قائلة:

- جاسر . . أنت اتجننت أنت بتعمل إيه؟!
 فدفعه ذلك الفارع ونهره:
- فيه إيه يا جدع أنت؟!
أيسأله مالخطب ؟
يقف على قارعة الطريق يتضاحك معها تحت أنظار المارة بل وتحت أنظاره ويسأله ما الخطب ! ! فما كان منه إلا أن لكمه بقبضته القوية فأصاب جانب وجهه الأيسر بعنف حتى كاد خصمه أن يسقط مترنحا لولا قوة جسده زاعقا به:
- دلوقت، أنا هعرفك في إيه فصرخت سالي بقوة:

- جاسر ! فالتفت لها ولم ينتبه لذلك الذي استعاد توازنه بسرعة مذهلة وعالجه بقبضته القوية التي أسقطته أرضا فصرخت سالي مرة أخرى ولكن تلك المرة بإسم غريمه:
- کریم . . . . أستنی فقام ليمسك بتلابيب ذلك الكريم ليريه وضاعة مكانته بالمقارنة به، وانخرط الإثنان بعراك دام تدخل المارة لفضه وبالفعل نجح أحد الرجال بعد معاناة لمنع الإثنان من الإقتتال مجددا، ودفعت سالي بنفسها نحو سيارة كريم وتولت هي مهمة القيادة بصحبة كريم الذي أصاب وجهه تشوها كبيرا لايقل عن التشوه الذي الاقاه الآخر على يديه والذي مضى يراقب انصرافهما بأعين مستعرة، ثم التفت لينتبه أن أصوات الأبواق قد خفتت وأن سيارته توقفت على الجانب وداخلها داليا التي تولت مقعد القيادة وتحرك بخطوات مسرعة نحوها وما أن اقترب وهم بفتح الباب حتى نظرت له غاضبة وقادت السيارة مبتعدة عنه تاركة إياه يحدق بها بذهول حانق    مرت الدقائق بصمتها الثقيل حتى قطعته هي بهمسها الرقيق:

- کریم أنا آسفة فنظر لها قائلا بإبتسامة حانية:
- بتعتذري على إيه ؟
فتنهدت بحيرة:
- أنا مش عارفة بجد إيه اللي حصل، جاسر . . . . وصمتت لم تدر بأی حروف تكمل ولا كلمات تتابع حديثها فما فعله بعيدا كل البعد عن إتزانه ورصانة تصرفاته بل وغروره البارد أحيانا فاستبدل کریم حيرتها بعبارة تشجيعية:
- سواقتك اتحسنت عن الأول كتير فضحكت ساخرة بمرارة من نفسها:
- على الرغم إني مش مركزة بالمرة فنظر لها مليا ثم قال بدفء:

- أنا معاكي ومركز وتأوه رغما عنه عندما عمد لتغيير وضعية جلوسه فالتفتت له بسرعة وقالت بقلق:
- نروح عيادة نكشف فطمئنها بسرعة:
- أنا كويس ماتقلقيش، بس مش هينفع نطلع نقابل حد وأنا مبهدل كدة عندك مانع نأجل معادنا فقالت سریعا بإرتياح جم:
- أنا كنت هطلب منك كده فعلا فأشار لها لتتوقف:
- وقفي هنا بقى نشرب حاجة من عند الراجل بتاع العصير ده وأكيد هيعجبك ففعلت مثلما امرها وهمت بالترجل فاستوقفها قائلا بضيق:
- استني رايحة فين أنا هنزل . . هاه هتشربي إيه ؟

فتنهدت وقالت بإستسلام:
- اللي هتشرب منه عاد بكوبان من عصير الرمان الطازج ليجدها قد اتخذت مقعده ليتولى هو مهمة القيادة فقال مازحا:
- خلاص يعني عشان ماسواقتك اتحسنت هتبخلي علينا فابتسمت منه وهي تتناول كوبها اللذيذ قائلة:
- أبدا والله بس قلت كده أريحلك، وبعدين أنا هنزل هنا أركب حاجة وأروح فقال متوجسا:
- هتروحي للولاد ؟
طرقت رأسها بضيق وقالت رغم استشعارها الحنين لأطفالها:
- أفضل استنى لبكرة مش عاوزة أحتك بيه وهوا في الحالة دي ارتشف القليل من کوبه ثم قال فجأة:
- غیران فالتفتت له سالي بنظرات متسائلة فأردف:

- أكيد غيران، مالهاش تفسير غير كده فابتسمت سالي بسخرية وقالت نافية:
- لاء مش غيرة، هوا بس لسه بيتعامل معايا كجزء من ممتلكاته، وقال إيه صابر عليا فتمتم کریم بتعجب:
- صابر ! فزمت سالي شفتيها بقنوط وقالت لتوضح:
- أرجع فاقتحم رأسها الذي غاب في حديث الأمس المزعج قائلا:
- وهترجعي يا سالي؟!
فهمست نافية بسرعة:

- مستحيل مضت ساعة كاملة قضى نصفها في محاولة الحصول على وسيلة مواصلات مريحة ليصل لقصره واستقبله الصغار بنظرات حذرة فهو كان يبدو على شفا بركان أوشك على الإنفجار صرخ للمرة الثالثة بنعمات التي كانت تعد للصغار مشروبا منعشا- الساعة كام يا نعمات ؟
أخذت نعمات نفسا عميقا وقررت القيام بمواجهة قد تكلفها عملها ولكنها ماعادت تبالي فهي أصبحت تشعر بالفعل وكأنها خادمة بإمتياز رحيل صاحبة القصر وغياب الزوجة المطيعة لتحل محلها أخرى ماكرة- من نص ساعة سألت حضرتك وكانت يادوب خمسة نظر لها متمعنا وتعالت إشارات الحنق مختلطا بالأسف على وجهه فالمرأة تخطت الستون من عمرها وهي ليست بخصم مکافیء لنوبة غضبه المتحكمة به فتمتم:
- متشکر یا نعمات، ياريت تحضرلي الغدا هزت رأسها وترددت لبرهة قبل ان تنصرف فاستوقفها قائلا:
- فيه حاجة يا نعمات ؟

ولم تدر بانها أطلقت الشياطين من معقلها بسؤالها:
هي الست سالي مش جاية النهاردة، الولاد بيسألو عليها؟!
فزعق بها:
- وأنا أعرف منين؟!
فانصرفت نعمات بخطوات مسرعة هاربة منه وظل هو يدور بالغرفة كأسد حبيس ويتمتم لنفسه بغيظ تملکه:
- يظهر أنك مابقتش عارف حاجة يا جاسر خطوة مجنونة أخرى يخطوها دون تفكيير أو حتى إمعان فيما قد يليها فبعد أن هاتفته بالأمس بعد منتصف الليل تدعوه لرحلة سفاري بصحراء سيوة، قبل دعوتها في الحال ثم أعد حقيبة سفر خفيفة ودلف لفراشه وهاهو بمغيب الشمس يقف على أرض سيوة الشاسعة هدوء لوثه الجمع من حوله ولكنه لازال محتفظا بهيبته داخله نظر لها وهي تتجه نحوه بخيلاء قائلة:
- هاه جاهز؟!

تناول منها كوب الشاي الذي صنعته إحدى البدويات قائلا بتلذذ:
كده بقيت جاهز صعد فوق الدراجة الضخمة وصعدت خلفه بعد أن انتهيا من شرابهما الساخن وانطلقت شارة البدء من قائد المجموعة وانطلقت الدرجات في سباق سريع وتعالت الصرخات المشجعة من خلفه ومضى هو بسرعته الفائقة يناور هذا وذاك مثيرا عاصفة ترابية لاحدود لها حتى صرخت هي بحماس فأفزعته وتوقف فجأة فكادت أن تنقلب الدراجة الضخمة بهما وتطلبت منه جهدا فائقا للسيطرة عليها مرة أخرى حتى توقف عن الحركة تماما والتفت صارخا بها:

- أنت مجنونة؟!
وأتبعه بسؤال مضاد لحالته الحانقة يشوبه نغمة إعتذار:
- أنت كويسة يا نرمين ؟
وكانت إجابتها نظرة دهشة ترافق توضيحا كان لا يجب أن يخطئه بالأساس:
- أنا اسمي ريم على فكرة دعك وجهه بتعب وترجل الدراجة وسار بضعة خطوات هاربا من تساؤلات قد تطيح بما تبقى له من هدوء أعصاب وتركته هي لعزلته لوقت طويل حتى سار مجددا نحوها قائلا فجأة:

- نرمين تبقى مراتي الله يرحمها، ماتت هيا وبنتي في حادثة عربية كنت أنا اللي سايق، نمت مش فاكر أد أيه مجرد دقایق أو ثواني صحيت على صرختها وضوء جامد عماني وبعدين . . . . . .

خشيت أن تتكلم فقد كان يبدو أنه غارق بالعالم الآخر، بعالم موازي يتجسد له فيه آخر ذكرياته مع الذين فقدوا، مستعيدا اللحظات التي عاشها بقسوتها ومرارة ماخلفته ورائها حتى همس- فقت في المستشفى مالقتهومش جمبي، كانوا خلاص . . .

وأنا المسئول وأنا اللي عيشت مضت لحظات الصمت ثقيلة لحظات مهيبة لكأنما كانوا بالفعل في حضرة أرواح سكنت الثرى وهمست بدورها:

- بتوحشك؟!
فاختنق بعبراته:
- في كل لحظة . كل ما أدخل البيت واتخيل أنها هتطلع جري من أوضتها تنط عليا وتسألني بابا جيبتلي إيه ؟
فهزت رأسها باسمة بمرارة قائلة:
- كنت بسألك على نرمين، طبیعي تفتقد بنتك نظر لها مليا وشاعرا بحيرة بالغة، بماذا يجيبها ثم هز رأسه:
- نرمين كانت إنسانة بسيطة، مالهاش طلبات في الحياة، العادي بتاع أي ست بيت وزوج وحياة سهلة من غير تعب . اتجوزتها لأنها كانت . . . . . ثم توقف عن الحديث شاعرا بخجل من ذكراها التي ملكت جوانحه للحظات ماضية فكيف بعد أن تسبب في رحيلها عن الحياة يصفها بلفظ أجوف، بارد، عار من المشاعر ولكن من منظور جراحة متمرسة مثلها، بعض الجراح يجب أن تنكأ حتى تندمل ولا تعود للظهور مرة أخرى وكأن لسانها هو المبضع، تابعت دون خوف:

- لأنها كانت مناسبة . . . بس على أي أساس ناسبتك؟!
نکس رأسه وأقر بصدق:
- كانت مختلفة، عکس مرات جاسر الأولانية . . . عکس أمي الله يرحمها فابتعدت بعيناها بعيدا وتركته يغرق مرة أخرى بذكريات ماضيه المضني فهي أيضا غرقت بصراع يدور بداخلها، فالرجل الذي تعلقت به رغما عنها ليس فقط هارب بضمير مثقل بذنب زوجة راحلة بل ويعاني رهاب تکرار زيجة فاشلة كأخيه الأكبر والمرأة الأعظم بحياته لم تكن بحد ذاتها مثالا يحتذى به وقد رحلت منذ فترة قصيرة وانتشلها هو من الضياع بنتائج هذا الصراع قائلا بصوت حاول أن يضفي عليه المرح:

- بما أننا خسرنا السباق فأيه رأيك نشرب كوباية شاي على الفحم زي اللي شربناها من شوية فابتسمت له موافقة وسارت إلى جواره وعيناها لا تفارق وجهه الوسيم الذي كان يبتعد عنها بأنظاره خشية مواجهة أخرى وتصريحات تصيبه بعدم الراحة     منذ أن عادت مساء الأمس واستمعت لقراراته العنترية التي اتخذها بلحظة غضب أعمى لا يحق له وهي صامتة وداخلها دوامة لا مستقر لها غرقت بها متى تتخلص من شبح الأخرى ؟

كيف استکانت له واستسلمت ؟
أين أضحت بعد كل تنازلاتها ؟
والأهم ما مصيرها ؟
عليها بترتيب أوراق لعبتها من جديد واتباع خطة أخرى فالاستسلام والخنوع لشخص مثل جاسر يجب أن يقترن بحساب دقيق وإلا ضاعت وتلاشت ملامحها وأضحت تابعا لا أكثر برقت عيناها واتجهت نحو خزانة ملابسها وعندما تفشل حواء في إثارة إنتباه آدم تلجأ لخطة لا بديل لها ألا وهي اثارة غيرته جذبت ذاك الرداء الذي اشترته منذ شهور برفقة صديقتها الحميمة إنجي ولكنها آثرت عدم إرتداؤه كما نصحتها صديقتها خشية غضبه وحنقه وماكانت سوى دقائق حتى جلست أمام مرآتها العريضة تضع مساحيق التجميل بأصابع خبيرة وترسم شفتيها بلون الكرز اللامع وصورتها المنعكسة تزداد بهاءا ودلالا وإغراءة ولن تثير فقط غضبا وحنقا بل وغيرة يجب أن تكون في المقام الأول عليها وليس على سابقتها والغضب الوحشي المشتعل بعيناه الآن خير دليل أنها قد أصابت هدفها بدقة صياد محترف وصوته المرتفع بجنون يخبرها بكلمات لا مواربة فيها:

- إيه اللي أنت لابساه ده ورايحه بيه على فين إن شاء الله؟!
! ترجلت الدرجات الرخامية حتى تبقت لها واحدة فقط فظلت تحتلها حتى تكون بإرتفاع يكافئه قائلة ببسمة باردة:
- يهمك أووي، ليه تكونش بتغير عليا يا جاسر ؟
فرد بنبرة حارقة:
- أنت متجوزة راجل مش کيس جوافة باست هانم هزت رأسها بسخرية والتوت شفتيها بمرارة كلماته:
- مش دي الإجابة اللي كنت مستنياها فوضع يديه في جيوب سرواله خشية أن يفقد إتزان أعصابه وقال بنبرته التي أرسلت بأوصالها رجفة قاسية:
- وكنت مستنية مني إيه يا داليا ؟

فهمست بضعف أنثوي تملكها رغما عنها:
- إهتمامك، غيرتك عليا، تهد الدنيا عشاني زي ماهديتها عشان طليقتك ونجحت في إثارة المتبقي من رباطة جأشه فتملك ذراعها بقبضة قاسية قائلا بحدة:
- مايخصكیش پاداليا أنت دخلتي حياتي وأنت عارفة أنه فيه غيرك فاندفعت نحوه وتخلصت من قبضته بعنف قائلة:
- لكن ماعدتش فيه غيري ياجاسر، فيه أنا والجنين اللي أنا حامل فيه ظل صامتا لفترة ليست بالقصيرة ثم ابتسم لها وبعيناه تلمع بنظرة شيطانية وأخرج لفافة تبغ وبدأ في إشعالها بتلذذ قائلا بنبرة تحمل تهديدا خطيرا:

- أي محامي بتلاته تعريفه على كام شاهد على حفلاتك البايظة والفستان اللي أنت ناويه تخرجي بيه ده وشوفي أنهي قاضي هيسيب حضانة طفل بريء لأم مستهترة زيك ولكن تهديده لم يلقی صدا بداخلها إذ استيقظت شياطين أنثى شعرت ولثاني مرة بتاريخها معه بالدونية وعدم الأهمية فاتجهت نحوه بثبات وسحبت لفافة التبغ من فمه وألقتها أرضا ودعستها بحذائها المدبب قائلة بترفع:
- وماله، نجرب وسارت في طريقها نحو الخارج دون أن تلتفت نحوه مرة أخرى کابحة دموع لا تغفر ضعفها الذي تمكن منها أمامه لوقت طويل.

 

تاااابع ◄

أحدث أقدم

نموذج الاتصال