رواية حب خاطئ الفصل الثامن


 

 

- يُجب على الإنسان تقبّل حياته كما هي بهدوء لا داعي لصنع ضجة وجلبة دون فائدة -.

التقط الرجل المدِّية التي تتوهج بذلك اللون البرتقالي بسبب وضعها فوق النيران المستعرة لوقتٍ طويل من فوق الصينيّة، ومن دون مقدمات وضعها فوق صدر عمّار النازف..

جأر بصوتٍ مُرتفع مُتألم وهو يقبض على الملائة بقبضته بخشونة حتى إبيضت، وجميع جسده متصلب من الألم الذي يفتك به وعروقة نافرة يتفصد عرقًا بغزارة من جميع جسده ضاغطًا على أسنانه من الداخل بقوة جعل صوت صقيق أسنانه يصل إلى آدم الذي بهت وجه من الذُهول وهو يراقبه مُستنكرًا ما يراهُ! لِمَ يُعذب نفسه بتلك الطريقة لِمَ؟

تخدر جسده وصدره يعلو ويهبط في عنف ووتيرة أنفاسه تنخفض بالتدريج شاعرًا بالمدِّية الحارة التي تغوص داخل صدره كي تقتلع وتخرج تلك الرصاصة..
أغمضت تالين عينيها بضعف وهي تترنح إلى الخلف بعدم اتزان، تكاد تفقد الوعي وهي تراه..

وضعت يدها على عينيها كي لا تتابع هذا ووقفت بعيدًا وحدها دون النبس بحرف وهي تراجع التفكير في مستقبلها المهني عندما تصبح طبيبة، هذا القلب الذي تملكه لا يتحمل رؤية ما يحدث كيف ستكون ناجحة إذًا؟.
زفر الرجل براحة وابتسم باقتضاب عندما أخرجها بسلام، وضعها فوق الصينية ثم التقط المحارم الناعمة وأخذ ينظف جرحة وحول صدره من الدماء كي يقوم بتقطيب الجرح بهدوء..

بدأ بإغلاق الجرح عن طريق تقريب حواف الجرح من بعضهما البعض باستخدام خيوط جراحية خاصة والوحيدة التي آتي بها مُعقمة..
إرتفع جسده قليلًاعندما شعر بذلك الوخز الذي مزقة وجعل آلامه تتضاعف أكثر مع علو صوت أنينه المكتوم، إنه شعور بشِع مؤلم كاوٍ يمزقه تمزيقًا ولا يستطيع حتى الصُراخ و التألم كـ شخصٍ عادى إنه في أوج الجحيم يشعر بأن أحدهم يضغط على صدره بـ جمرًا مُشتعلًا بقوة حتى تآكل جلده..

كور آدم قبضته بقوة ثم لكم الرجل الذي من المفترض أن نطلق عليه اسم طبيب بغضب أسقطة أرضًا وقفز خلفه وأخذ يُسدد له اللكمات دون توقف وهو يصرخ به بغضب: إنت فاكره حمار ولا ايه يا والله هوديك في داهيه لو مجبتش دكتور دلوقتي يا.
هز عمًار رأسه وهو يتألم فقط لو يستطيع أن يتحرك لكان الآن يلقنهم درسًا قاسٍ الغبيان! هو سيموت وهما يتشاجران، آدم الغبيّ سيقتله..

حرك شفتيه الشاحبة المشققة ثم قال بتقطع وهو يلتقط أنفاسه بصعوبه بالغة والألم يرتسم على تقاسيم وجهه اكثر: تـ، تاليـ، ن، كـ، كملي، انتِ..
كتمت تالين أنفاسها ونظرت له بتردد وعلامات الرفض مرتسمة على وجهها لكنها أشفقت عليه وحركت ساقيها وأخذت تتقدم منهُ ببطء..
أمسكت طرف الخيط الطبي بيدٍ مُرتجفة وهي تزدرد ريقها بشكلٍ مُتكرر من التوتر..

أدخلت طرف الخيط واناملها ترتجف، تأوه بصوت مرتفع جعلها تبتعد بخوف وتركته يتألم وحده..
دفع الرجل آدم بغضب من فوقه وأردف بحدة وهو يمحو الدماء من جانب شفيته: سبني أشوف شغلي ولو مش مستحمل تشوفه أخرج برا بلاش عطلة حالته مش مستحملة، وتركه وتقدم من عمّار وتابع تقطيب الجرح، تحت أنظار آدم القاتلة..

وتحت أنظار حُسنه التي كانت تجلس أرضًا خلف الباب وتسند جبهتها على راحة يدها بـ غمٍ وهي تحدق في عمّار بقلب مُنفطر وعِبراتها الثمينة تتساقط بغزارة شاقة طريقها على وجهها المُجعد..
فقط متى ستبتعد عنهم رائحة الموت؟ متى سيرتاح قلبها و تنطفئ نيران صدرها المشتعل بالفقدان متى؟ ألا يكفي كل مافقدت؟ ماذا يريدون بـ عمّار! فليتركوه يحيا في سلام إنه طفلها وهي ولن تتحمل أن تفقده مثل أبناؤها لن تتحمل..

انتهي وقام بوضع الضِمادة فوق صدره ثم طلب غطاء نظيف ووضعه فوقة و أوصاهم بـ صُنع كمادات باردة من أجله عِندما وجد حرارة جسده مُرتفعة وبدأ يهذي وهو يتصبب عرقًا..
مضي بعض الوقت..
اتت حُسنة بـ إناء مُلِئَ بالمياه الباردة ومنشفة صغيرة، أخذهم منها آدم سريعًا و طمئنها برفق: أنا هفضل معاه متخافيش عليه..
أما في الغرفة المجاورة..

فتح قصيّ عيناه بنعاس وهو يستقيم جالسًا، ينظر حوله باستفهام، فرك عيناه كطفل ثم استند بجذعة إلى الخلف وهو يرمش مستعيدًا أحداث الساعات السابقة باقتضاب..
قطب حاجبيه عندما سمع صوت بُكاء في الخارج، نهض واتجه إلى الخارج وهو يتثاءب بنعاس، توقف وقطب حاجبيه عندما وجد نادين تجلس على بداية الدرج تبكِ بحرقة! حدق بظهرها قليلًا بتعجب ثم تقدم وجلس بجانبها بهدوء..
سألها باستفهام وهو يقطب حاجبيه: بتعيطي ليه؟

انتفضت بخضة ثم استدارت سريعًا وقالت بحرقة وهي تنتحب: مامي اتخطفت في حد خطفها وانا مش عارفة اعمل ايه وعمّار، عمّار بيموت..
هب واقفًا وسألها بانفعال: بيموت ازاي يعني هو فين؟
أشرت على الغرفة وهي تبكِ وقبل أن تتحدث ركض إلى الداخل مع خروج حُسنه ليصطدم بها..
إعتذر سريعًا وهرول إلى الداخل بقلق ليتجمد مكانه شاعرًا بالبرودة تزحف إلى أوصاله عندما رأي عمّار مُسطحًا وآدم يجلس بجانبه يخفض حرارته بقلق..

ركض له وجلس فوق الفراش على الجانب الآخر وأخذ يتحسس جبهة عمّار بقلق وهو يسأل آدم: حصل ايه؟ ماله؟
قصّ له آدم ماحدث وهو يعتصر المنشفة بين يديه بعد إن وضعها داخل المياه الباردة ثم وضعها فوق جبهة عمّار باقتضاب وغضب ثم صرخ بـ قُصيّ فجأة: انت كُنت فين انت؟

غمغم قُصيّ بغضب ثم وقف، اتجه إلى الخزانة وأخذ منشفة وعاد محله بجانب عمّار وأخذ يجفف العرق من فوق رقبته وكتفيه وهو يقبض فوق المنشفة بقوة وجسده متصلب من الغضب مُحملقًا في آدم بلوم ثم سأله باقتضاب: وحضرتك كُنت فين انت التاني؟
لعن آدم من تحت أنفاسه بضيق وهو يبعد نظره عنه فماذا سيخبره، كان يختبئ عاجزًا عن استخدام البُندقية وهو يسخر؟!

رفع قُصيّ طرف الغطاء من فوق صدر عمّار يشاهد الجرح المضمد المخفي عن أنظارة ثم سأل آدم من جديد: هيبقي كويس؟
أومأ لهُ آدم بخفة وهو ينظر لهُ لـ يميل فجأة على صدر عمّارعندما سمع صوته و رأي تحرك شفتيه يتحدث كي يعرف ما يقول..
ابتسم ثم رفع رأسه وقال إلى قَصيّ الذي كان يراقبه باهتمام: بيقول ندى!
هز قُصيّ رأسه وقال بشرود: اهي اتخطفت..

أومأ آدم بهدوء ثم توسعت عيناه فجأة وهتف بتفاجئ: ايه؟ اتخطفت ازاي ده هيتجنن لو صِحي ولقاها مختفية! انت عرفت منين؟
قال قُصيّ بسخرية وهو يقلدها: بنتها قاعدة برا بتعيط وعمالة تقول مامي اتخطفت مامي اتخطفت، اتسعت عينا تالين ثم تركت الغرفة وركضت إلى الخارج كي تطمئن عليها..
فاسترسل آدم وتابع باستفهام وهو يهز قدمه بتوتر: ازاي يعني اتخطفت دي كانت هنا من شويه معانا خرجت امتى اصلًا؟

هز قُصيّ رأسه بنفي وهو يفكر ثم صاح فجأه: مش هي هنا غصب عنها؟ ممكن تكون هربت لما كان الكُل مشغول صح! دي فُرصتها الوحيدة..
هز آدم رأسه وقال بتشوش: متهيألي لأ، دي كانت خايفة على عمّار شكلها ميقولش خالص انها ممكن تفكر تهرب!
قلب قُصيّ عيناه وقال بسخرية: اي حد ميبنش عليه توقع انه يعمل كُل حاجة واكيد كانت بتهرب يا إما عاملة تمسلية هي وبنتها!
نفي آدم قوله بضيق: خلي عندك حُسن نِية إفرض اتخطفت بجد هنعمل ايه؟

قال قُصيّ بتحذير وهو ينظر له نظرة ذات مغزى: اكيد مش هنقوله لما يفوق! ده مجنون ومش هيعرف يعمل حاجة اصلًا! لما يخف نقوله.
نظر لهُ آدم بسخط ثم قال بتهكم: مش هيبقي كويس قبل إسبوع هنسيبها مخطوفة اسبوع ومنعرفش حتى هيا فـ..؟ قاطعه تلك النبرة الخشنة التي يعرفان صاحبها جيّدًا بعد أن وثب إلي الغرفة =: مكان ما المفروض تكون في دُوارها وفرشِتها عند ابوها..

قطب قُصيّ حاجبيه ثم وقف وسأله بعدم فهم: يعني ايه عند ابوها؟ عند هريدي اللى كان بيتخانق تحـ..؟
أوقفه قول متولى بإزدراء وهو يقبض على عصاه: بترطرِط كَتير ليه عاد ملكش صالح من أساسُه؟
صرّ قُصيّ على أسنانه بغضب ثم قال باقتضاب: رطرطه ايه؟ انا بسأل عشان بنتها اللي قلقانه عليها وبتعيط برا دي؟ ولا المفروض نسكُت ونضرب تعظيم سلام عشان حضرتك بتتكلم؟

نظف آدم حلقة بحده وصوت مرتفع كي يلفت انتباه قُصيّ ويصمت ولا يتخطى حدودة لكنهُ تجاهله وتابع بعصبية وهو يرى نظرات متولي الساخرة اتجاهه: وعلى فكرة بقى هناخد عمّار معانا واحنا ماشيين ومش هيرجع هنا تاني و هيتجوز وهيعيش زي ما يختار هو مش زي ما انت ما تختار فهمتني يا كبير؟!

ضحك متولي بخشونة وهو يجحده بنظرة متدنية ثم قال باستخفاف: بيِنك جنِيت وعاتخرِف متنساش نفسك يا واد انتِه اهنِه ضيف لو مكُنتش ضيف كُنت عرفتك مجامك يا شِلِحف انتِه، ودلوك هملوني مع ولدي وحدينا..
سأله قُصيّ بتهكم: خايف عليه اوي؟ ماتسبيه يرجع لـ حياته وشغلهُ و، اكفهر وجه متولى من الغضب ثم ضرب عصاه أرضًا بقوة وقال بحدة شديدة وتهجم: ملكش صالح بحاجة واصل ويلا اجلبوا من جِدامي..

ضم قُصيّ قبضته بغضب وكاد يرد لكن آدم سحبه معه من ذراعه وأخذه إلى الخارج عنوة..
نزع ذراعه منهُ بحده وهو يوبخه: مسبتنيش ليه أكمل يمكن يحِس! اكتر انسان شوفته مش عايز الخير لإبنه حسبي الله..
تنهد آدم بإحباط وهو يسير معه لـ يسأله قُصيّ فجأة وهو يفكر: يعني ايه شِلِحف؟ حاجة وِحشة صح؟

هز آدم كتفه وقال بجهل: إسأل عمّار لما يفوق، هز قُصّ رأسه بـ إماءه خافته وكاد يقول شيءً ما لكنهُ توقف عندما توقفا أمام الدرج مقابل نادين التي تنتحب داخل أحضان تالين، وحُسنه تقف تراقبها بقلب مُنفطر فهذا اليوم سيء تتمنى أن يأتي الصباح سريعًا وتعود ليلى ويستفيق عمّار..
مرّت ساعة ساعتين ثلاثة، حتى أصبحت الثانية بعد مُنتصف الليل..
في منزل خليل..

تحديدًا في الطابق الثاني في غُرفة ليلى المُطِلة على الحديقة الكئيبة المظلمة الفاقدة للحياة..
كانت ملقية بإهمال، تفترش الأرض بجسدها فاقدةً للوعي وسط الأتربة التي تغطي الأرضية، في حال أن شُرفتها مفتوحة على مصراعيها جعلت التُراب الراكد يتحرك في الغُرفة من فوق التخت والخزانة وكأن عاصفة شديدة هبّت عليها كي تخنقها محلها...

أيقظتها تلك البرودة التى زحفت إلى أوصالها إثر الرياح شديدة البرودة، جعلتها ترتجف قبل أن تفرج عن عينيها ببطء وهي تئن بألم، رمشت ببطء وهي تُحرك رأسها بثقل تُناظر الغُرفة برؤية مُشوشة وهي تسعُل بحدة بفعل الأتربة..
انقبض قلبها وجحظت عيناها وتوقفت عن السُعال وهي تشعر بالهواء ينسحب من رئتيها عِندما رأت الغُرفة بوضوح دون غِشاوة لتدرك أنها عادت إلى سِجنها وجحيمها الذي ظنت أنها تخلصت منهُ إلى الأبد..

عانقت نفسها بذراعيها وهي تطلق أنينًا خافتًا يائسًا خائف، ابتعدت إلى الخلف والصقت جسدها بالحائط بإحدى الزوايا بجانب الخزانة وقلبها ينتفض داخلها ذعرًا وخوفًا مع جسدها وهي تدفن رأسها بين ساقيها..

فإن لم تخف من هذا مِن ماذا سوف تخاف! هذا أسوأ كوابيسها، أسوأ ماقد يحدث لها قبل أن تعرف حتى ما سيحدث؟ لكنها تعرف نهاية المطاف ماذا سيفعل لِمَ أتي بها إلى هُنا؟ يُريد أن يُذكرها بما كانت عليه، بما كان يفعل بها، لكن لا داعي لهذا لا داعي هي لم تنسي يومًا كي يعيد لها تلك الذكريات الأليمة، فهي الأسوأ على الإطلاق..

تلك الغُرقة ذات الأربع جدران تُخيفها أكثر من أي منزلٍ مهجور لم يدخله أحدًا قط، توافق أن تذهب إلى منزلٍ مهجور ولا تدخل إلى تلك الغرفة مجددًا، لكن لا أحد يفهم! من سيسمع منها هذا سوف يسخر لأن لا أحد يشعر بما تشعر؟!

لا أحد يدرك قدر آلامك، لن يشعر أحدًا بذلك الثقل الذي يطبق فوق صدرك يجعلك تختنق بلا رحمة سِواك، مهما فعلت وتحدثت لن يُواسيك أحدهم بذلك القدر الذي تظن أن جرحك به سيتعافى، لم يعد هُناك وجود إلى ذلك الشخص في الحياة..

هؤلاء لن يتم جلد أحدهم كـ عبدًا يومًا!، لم يتم إهانتهم وجعلهم خادمين في منزلهم من قبل والدهم، هم وللأسف لم يتم حلاقة شعرهم واقتلاعه كي لا يفارقون المنزل، هم لم يتم حرمانهم من التعليم والذهاب إلى المدرسة كشخصٍ طبيعي، هم لم يتم حرمانهم من أبسط حقوقهم فقط لأنهم مكروهين لسببٍ غير مُقنع البتّه لأيّ شخص..

تساقطت عبراتها بقلب مُنفطر وهي تحتضن نفسها بقوة كي تشعر بالدفء عائدة بذكرياتها إلى ذلك اليوم الأسوأ من سنواتٍ عديدة..

عودة إلى وقتٍ سابق..

دلفت إلى غرفتها وهي تضحك بنعومة وإشراق وعسليتيها تتوهج ببريق سعادة أثناء نظرها إلى الدفتر الذي تحمله بين يديها برقة، ترتدي جلبابا هفهافا على جسدها النحيل ذات ألوان مشرقة رقيق يليق بها، ترفع شعرها المجعد ذيل حصان عِوضًا عن تركه ينسدل، مع تورد وجنتيها البيضاء الناعمة الهشّة وابتسامتها الناعمة النابعة من قلبها لـ تظهر بـ أبهي صورة فوق شفتيها المُكتنزة الحمراء كـ الكرز وهي تطرف بأعين الغزال خاصتها المرسومة كـ أجمل من لوحة فنّية تابعة لأكثر الفنانين شُهرة وهي ترمش بأهدابها بنعومة لـ يرفرف قلب عمّار معها وهو يُراقبها من الشُرفة الخاصة بها بابتسامة حالمة مدخلًا نصف رأسه من جانب الحائط يُراقبها بخضراوية المتوهجة بثقب كـ نجمة بعيدة في السماء لا يستطيع الوصول إليها..

أغلقت الباب خلفها بابتسامة حالمة سعيدة لأنهُ وأخيرًا وافقت جارتها المُعلمة أن تُدرسها كل يوم ساعة وعلى مضض خوفًا من إكتشاف والدها لأنهُ يمنعها من الذهاب إلى المدرسة وإن علم أنها تُساعدها لن يُمر هذا مرور الكرام..
استدارت والابتسامة تعتلي ثغرها لتموت فوق شفتيها وتتجمد محلها عِندما وجدت والدها يقف بجانب تختِها يعقد يديه أمام صدره ينظر لها باقتضاب وكما يبدو أنهُ كان ينتظرها..

أخفت الدفتر خلف ظهرها سريعًا بارتباك وهي ترتجف بخوف مُتحاشية النظر إلى عيناه بأعين زائغة خائفة وهي تقضم شفتيها لأنها لا تجد داخل تلك المُقلتين القاسية سوى الكُره والغضب دون سبب، فكل نظرة تخرج منهُ ترد في قلبها تحطمها وتكسرها..
سألها بنبرة خشنة وهو يتفحصها بنظراته: كُنتِ فين؟
ازدردت ريقها وقالت بتلعثم: كُنت، كُنت، في المطبخ..
رفع حاجبيه وأخذ يتقدم منها وهو يسألها بشك: وطابخين ايه النهاردِة؟

زاغت عيناها وقالت بكذب وخوفها يتضاعف أكثر وهي تُفكر: طابخين، طابخين، ارانب وو، صرخت عِندما هوي على وجنتها بصفعة قاسية وهو يتابع بوجوم عِوضًا عنها: لاه مش ارانب، بتكدبي يا بت الـ، ثم صفعها على وجنتها الأخرى بقسوة لـ يدوي صوت صرختها وهي تترنح إلى الخلف كاتمة شهقاتها وهي تطرق برأسها كي لا تنظر إليه..

انتزع ذلك الدفتر المقوى ذات المُجلد الصلب من خلف ظهرها بقوة وفتحه بحدة كاد يمزق صفحاته الرقيقة إثرها وهو يرى ما نقش داخل الأوراق ثم أغلقه وهو ينظر لها بوجه مكفهر من الغضب عقبة زمجرته بقوة ومن دون سبق إنذار ضربها به فوق رأسها بقسوة أسقطها أرضًا لـ تستلم إلى نوبتها وتجهش في بكاء مرير بحرقة وهي تغمر وجهها بين يديها تنتحب بألم ليصرخ بها بقوة أفزعها جعلها تنتفض بخوف وهي تقف بطاعة وجسدها يرتجف: فِزي جومي وِوجفي بدل ما اكسرلك رجليك اللي بتمرحى بيها ديّ..

أعاد رفع يده وضرب جبهتها بذلك الدفتر الثقيل عدة ضربات لتهتز بعدم اتزان وهي تعود إلى الخلف أثناء قوله بتهكم: مش جولت مفيش علام جولت ولا مجولتش؟ الصرمة الجديمة اللي في راسك ديّ تخلعيها يا بت صبا، رفعت رأسها على حين غرة ونظرت له بتحدي عِندما سمعت أسم والدتها ومازالت عبراتها تنساب على وجنتيها ببطء وهي تزم شفتيها المرتجفة، فهو لا يحق لهُ أن يأتي بسيرتها ذلك الظالم، لا يحق لهُ..

ضم قبضته فوق الدفتر بنفاذ صبر وهو يرى تلك النظرة وذلك البريق الذي يتوهج داخل عينيها فهو يخشاه! هي ليست ضعيفة ولا تملك شخصية ضعيفة كوالدتها التي لم تكن تكف عن تحديه طوال الوقت..

لكن وجب عليه كسرها كي تظل خاضعةً لهُ، تلك النظرة الخاصة بوالدتها وذلك الكبرياء والتمرد والتطلع إلى المستقبل وتقدير الذات والتحدي الذي توارثته والنابع من داخلها يُدرك تمام الإدراك المغزى منهُ ويعلم ما توابعه، ولن يتركها تُحقق ذاتها وتصبح شيءً ما في المستقبل لن يسمح لها..

صفعها بقوة أدمت شفتيها ثم شدّ شعرها بعنف وهو يهز رأسها بين يديه قائلًا بتهكم: اتجرأتي و بترفعي عينك في عنيِّه؟ اتجنيتيّ ولِّية بينك اتجنيتيّ يا جليلة الربايِة يا مجصوفة الرجبة انتيّ..
صرخت به بصوت مرتفع وهي تبكِ بحرقة: لا متجنيتِش يا بوي اني عايزِة اتعلَم كيف الخلج أمي جالتك جبل ماتموت هملني وسبني أتعلَـ..

قاطعها زمجرته بقوة مع قوله بنبرة صخرية وهو يهز رأسها بقوة وقبضته تشتد فوق شعرها اكثر كاد يقتلعة بين يديه: أُمك ماتت ومبجاش في حد يخلصك من يدي يا حبيبة أبوكِ مبجاش في واصل ولو مسمعتيش الحديت عاتـ..
صرخت به بشجاعة وهي تنظر داخل عيناه بتحدى سافر ثم أقسمت وعبرات قهرها تنساب على وجنتيها: وربي ما هسمع حاجِة وهكمل علام وهبجي دكتورة كَد الدِنيِه كُلها وسعتها مش هجول انك ابويِه..

توقفت تلهث بانفعال وصدرها يعلو ويهبط بعنف لتتحول تلك النظرات المُتحديه إلى نظرات ملؤها الخوف والجزع ليتركها ويبدأ بالضحك بتقطع وهو يعود بخطواته إلى الخلف حتى توقف أمام قطعة الأثاث الخشبية الخاصة بتعليق الملابس ليلتقط من فوقها ذلك السياط من وسط أشقائه وعاد أمامها لتتسع عيناها بذعر وتجِّف الدماء داخل عروقها وهي تنظر لهُ بوجه شاحب مُصفر، هل تتحداه وهي من ستنكر وجوده ومعرفتها به أيضًا!

ابتعدت إلى الخلف بترنح وركضت بخوف تجاه الباب لكنها صرخت متأوهه قبل أن تُدير المقبض عندما شعرت بالسياط يهوي فوق ظهرها جعلها تتلوى خلف الباب وهي تشعر بذلك اللهيب والحرقة تسير في أنحاء جسدها الضعيف أمام هذا الكم من العُنف..
أمسكها من ذيل حصانها الطويل ودفعها إلى الخلف لتسقط أرضًا ويهوى على جسدها بالسياط لـ تتلوى من الألم وهي تصرخ أثناء سؤاله لها: لِساكِ رايده العلام يا حبيبتي أُنطُجي؟

صرخت وهي تلتقط أنفاسها وقد إحمر وجهها بشدة وهي تقول باختناق: ايوِه، أعاد ضربها بقوة أكبر لتقبض على البساط بيدها وهي تسند جبهتها فوقه وتكاد تتدخل رأسها داخله من كثرة دفعها لنفسها كي تتحمل وتصمد أمام هجومة عليها وهي تعيد بإصرار وقلب مُدمي: لو، هتموَتني من هبطِل، أحاول وأتعلَم مش هبِطل عاد..

صرخت بصوت مبحوح وقد ذهب صوتها من كثرة الصُراخ وتخدر جسدها من كثرة الألم والضرب، لتصرخ بقوة أكبر عِندما ضربها فوق قدمها تلك المرة وليس ظهرها وهو يأمرها بقسوة: وجِفي بدل ما اكسحك وجِفي..

رفعت يدها المرتجفة وهي تتحامل على نفسها كي تصمد بقوى خائرة وهي تلهث شاعرة بنفسها تختنق من كثرة البُكاء لكن يدها سقطت بضعف قبل أن تتحرك ليضربها فوق قدمها مجددًا لتنتفض وهي تصرخ أثناء أمره لها من جديد بنفاذ صبر وهو يلقي السوط من يده: وجِفي بجولك..

تحاملت على نفسها وهي تحرك يدها التي أصبحت كالهلام هي وقدميها ثم تشبثت بالخزانة التي خلفها، وقفت وأسندت جسدها كُله فوقها وهي توليه ظهرها وجسدها ينتفض ومازالت تبكِ وهي تطبق جفنيها بقوة وعبراتها تتساقط بغزارة على وجنتيها الناعمتين اللتان أصبحا ملتهبتين بفضل يديه القاسية التي تُماثل الحذاء في ثقلة..

نظر إلى ملابسها التي تمزقت من فوق ظهرها وقد تلون جلبابها الزاهي بألوان مشرقة ببعض الدماء التي كانت تخرج من جروحها شاعرة بالحرقة والحرارة فوق جلدها، كأنها كانت مُسطحة فوق جمرًا مُشتعل، أو تم دعس ظهرها بواسطة سيارة مُدبّبة الإطارات، فظهرها تشعر به كأنهُ محروق وجلدها أصبح ذائب من الحرارة..
قبض على شعرها بقوة وهو يهسهس بجانب أذنها بفحيح كأفعى: تِعرفي مجدِرش اكسحك ليه؟

هزت رأسها سريعا بهستيريا وهي تسعل ليتابع وهو يبتسم: عشان مِحتاج خدامِة تفضل جنبي ليل نهار ومفيش غيرك ينفع للشغلانِة ديّ، ثم ضحك بسخرية وتابع بتهكم وهو يبتسم و عيناه تتوهج ببريق شيطاني: ايه الجَديد ما انتيّ خدامِة وخرجتي من غير ماتجولي واني هخليكِ تبطلي خروج عاد..

فتحت عيناها الدامية والمرهقة من كثرة البُكاء ونظرت داخل عيناه ليركل قلبها قفصها الصدري بقوة خوفًا وذعرًا تضاعف أكثرعِندما تابع وهو يبتسم بتشفى: شايفِة شعرك اللي سبسبتيه عشان تخرجي دِيه! هجطعة تجطيع دلوك وتبجي وريني هتخرجي كيف يا بت صباح..

اتسعت عيناها واستفاقت من خمولها وقربها من فقدان الوعي وهي تهز رأسها بهستيريا وبدأت تتلوى بين يديه قائلة بترجي وهي تشهق: لاه أحِب على يدّك يا أبوي لاه مش هخرج تاني مش هخرج والله مش هكررها تاني عاد اني آسفِة والله آسفِة، لكنهُ ضحك بسخرية خشِنة وجرها خلفه خارج الغرفة بوحشية دون أن يعبأ بتوسلاتها الضعيفة التي قد تلمس قلوب أقسي رجال العالم لكنهُ تعدي تلك المرحلة، هو لا يملك قلبًا حتى!.

أدمعت عينا عمّار وارتجفت شفتيه وهو يراقبها من الشُرفة بقلب مُنفطر حزين على محبوبته، هذا عِندما كان طِفلًا رقيقًا يسعى خلف أجمل شيء في حياته على الإطلاق وقد كانت هي في ذلك الوقت..
دلف بتسلل كـ اللص وهو يرفع طرف عباءته الطويلة ثم انحني وحمل ذلك الدفتر الخاص بها وعاد أدراجه مهرولًا تجاه الشرفة ليدعس فوق ذيل عباءته الأمامي لـ يتعثر ويكتفأ على وجهه..

تأوه بخفوت ثم وقف بوجه أحمر غاضب وضرب الأرض بقدميه بضجر مدبدبًا فوقها بقوة ثم رفع طرف عباءته ودلف إلى الشُرفة، وقف فوق السور ثم رفع عباءته قليلًا ووضع طرفها من المُنتصف بين شفتيه وأمسك الدفتر بقوه وقفز فوق الشجرة الملاصقة لـ سور الشُرفة كـ القردة..
عانقها بيديه الأثنين وباللتي يحمل بها الدفتر بقوة كي لا يسقط الدفتر وأخذ ينزل بهدوء حتى ملّ وبقيّ القليل فقط فترك نفسه ليسقط على مؤخرته فوق العُشب..

تأوه وهو يقف لـ يشهق بخوف عِندما سمع صوت الغفير وهو يهرول تجاهه: وجِف عِندك يا واد وجِف، رفع عباءته ووضعها بين شفتيه وركض سريعًا دون أن ينظر خلفه كي لا يراه أحد ويحدث مالا يحمد عقباة، وقد قرر أنهُ لن يأتي في وضح النهار مُجددًا سيأتي قُبيل الفجر هذا أفضل لهُ..
في غرفة خليل في الأعلى...

سقطت على ركبتيها وهي تنحني فوق حذائه تترجاه بصوت مبحوح: أحِب على رجلك بلاش يا بوي أحِب رجلك بلاش مش هتعلَم خلاص بس بلاش والنبي يا بوي والنبي بلاش، لكن قد فات الأوان لقد تحرك المقص الحديدي داخل شعرها الفحميّ الغزير وبدأ بـ قصِّ شعرها بيدٍ طائشة دون أن يرى مايفعل فقط يُريد أن يلقنها درسًا قاسٍ كي تتعظ ولا تُكررها من جديد..

بينما هي سكنت بين يديهِ وهي تتحسر داخلها فلا مفر مما يحدث فهو لا يُحبها كي يستمع إلى رجائِها، هي لا تعرف لهُ عزيزًا كي تُذكره أمامه ويتركها من أجله لا عزيز لديه ولا غالِ؟
هي فقط ظلت تحدق في خصلات شعرها التي تتساقط فوقها بين الفِنية والأخرى بحسرة حقيقية وهي تنتحب وقلبها يصرخ من القهر الذي تشعر به..
تركها ثم ألقي المقص من بين يديه وترك غرفتة وذهب إلى الأسفل كي يُدخن..

لملمت شعرها من الأرض بيدٍ مُرتجفة وهي تبكِ بعويل أثناء نظرها لهُ ثم جمعته معًا و ألقت جسدها بجانبه وظلت تبكِ دون توقف وهي تنادي على والدتها المُتوفاة بقلب مُنشطر: هملتيني ليه يا امي هملتيني ليه عاد..

كانت الخادمة التي قابلتها في السوق تلك العجوز الشابة في هذا الوقت، تمر من أمام الغُرفة بالصدفة لـ يستوقفها سماع صوت بُكاء قادم من الداخل! وثبت إلى الداخل لتجحظ عينيها وتضرب قلبها بيدها وهي تشهق قائلة بخوف: يا حزنيّ، يا حزنيّ..
ركضت لها سريعًا ورفعتها من ذراعها لتشهق مع اتساع عينيها من جديد عندما رأتها بوضوح..

لقد جعلها كـ الفتية وجردها من خصلاتها عدى بعض الخُصلات القصيرة لأن المقص العزيز لا يستطيع الوصول إليها..
سألتها ندى بحرقة وهي تغمر وجهها بين يديها: بجيت عِفشة صوح بجيت عِفشة..

أدمعت عين الخادمة وخلعت الوشاح الذي تضعه حول كتفها وجلست مقابلها وقامت بلفه فوق رأسها كـ حجاب وهي تبتسم بينما عبراتها خانتها وهي تقول بنبرة مرتجفة كي تُطيب خاطرها وهي تربت على وجنتها بخفة: لاه لساكِ جمر وزينة كيف ما كُنتِ والله متزعليش عاد، ثم حركت يدها وأمسكت خصلاتها المُبعثرة بين يديها وجمعتهم من فوق الأرض وهي تبلع غصتها مع قولها بحزن: جوزي مسافر مصر بكرة هديلة شعرِك عشان يطوِحه في النيل، احنِه بنعمل اكدِه لَجل ما يكبر بسرعة ويبجي ناعم وحرير زي ما كان نفسك يكون متزعليش نفسك عاد هيطول وهيبجي جميل متخافيش عاد، وعانقتها بقوة في نهاية حديثها وهي تقبل رأسها لـ تتأوة بألم بسبب تلك الكدمة فوق جبهتها من الدفتر ثم ابتعدت واستدارت كي تريها ظهرها وهي تنتحب..

هزت الخادمة رأسها بأسى وهي تنظر إلى تلك الطفلة التي أمامها تتعذب وتتحمل أشياء لا يمكن تحملها بسبب ذلك الظالم والدها..
وقفت وساعدتها بالوقوف وهي تربت على صدرها كي تهدأ ويتوقف جسدها عن الإنتفاض والبُكاء: بزيداكِ عاد يا حبيبتي بزيداكِ والله هيطول وهيبجي أحسن من دلوك كومان، تعالي معايا دلوك المطبخ عشان اداوي جروحك الواعرة ديّ وخليكِ جنبي متقعديش لحالك..

أومأت بطاعة وهي تمسك بيدها وسارت معها بترنح وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة وقلبها يخفق بعنف..
اختبأت خلفها وهي تمسك طرف عباءتها بخوف كي لا تظهر عِندما مرت من غُرفة الجلوس أمام والدها الذي كان يستنشق من لِفافة التبغ خاصته بشرود وهو يتوسط الأريكة..
مرّت من أمامه وهي تتسارع مع خطواتها المُترنحة والمُرتجفة كي تقطع تلك المسافة سريعًا وتبتعد عنهُ وعن بطشهُ قبل أن يتذكر شيءً آخر ويمسك بها..
في المطبخ..

تأوهت وهي تنتحب دافنه رأسها بصدر الخادمة التي كانت تجلس أرضًا وتجلسها بين قدميها أثناء وضعها إلى ذلك الكريم الطبيعي المُخصص إلى جروحٍ كتلك فوق ظهرها ببطء وخفة..
قبلت رأسها بعد انتهائها من وضعة وهي تبكِ بصمت عليها وعلى حالتها التي تدمي القلب، فهي مُنذُ وفاة والدتها من خمس سنوات وقد تحولت حياتها إلى جحيم تدعو الله أن يبتليه بمرضٍ لا يقوم منهُ ابدًا أو تنقطع يديه وأرجله كي لا يقترب منها مجددًا..

وقفت وقالت لها برفق وهي تربت على وجنتها بحنان: خليكِ جاعدِة اهنِه واني هعمل الوَكل..
هزت رأسها بنفي وتحاملت على نفسها ووقفت معها كي لا يدخل والدها ويجدها تجلس كي يقتلها تلك المرة لأنها لاتتعاون..
قالت بصوت مُنخفض بقدر ما استطاعت ان تخرجة من حلقها الذي يحرقها وهي تبعد الوشاح عن رأسها: لاه هساعـ، وتوقفت الكلمات بحلقها عِندما نظرت إلى انعكاس صورتها فوق هذا الإناء اللامع..

اتسعت عيناها بصدمة وظلت تُحدق بنفسها بعدم تصديق وأعين زائغة امتلأت بالعبرات دون أن ترمش وهي ترى انعكاسها البشِع فوق الإناء لـ تحني رأسها بانكسار وهي تعود إلى البُكاء بحرقة مُردده بخفوت بنبرة مزّقت نياط قلبها: بجيت عِفشة بجيب عِفشة بجيت عِفشة..
هزت الخادمة رأسها بأسى وهي تراقبها بشفقة وقبل أن تتحدث صرخت ندى قائلة بأعلى صوتها: أنا بكرهه جوي بكرهه جوي يارب يموت بكرهه بكرهه.

هزت الخادمة رأسها وكادت تحذرها كي تصمت قبل أن يستمع لها لكن تجمدت محلها بينما توقف قلب ندى عندما سمِعت صوته وهو يقول بنبرة مُميتة ونظرة داكنة سوداء رأت موتها القادم داخلها وهو يتقدم منها: بتجولي ايه عاد؟

ترنحت إلى الخلف وهي ترتجف محاولة تجميع حرف من شفتيها التي تهتز لكنها عجزت واغلقت عينيها مُستسلمة كي تفقد الوعي لكنهُ جذبها من حاشية ملابسها بعنف وجرها خلفه إلى الخارج كـ جثة بين يديه غير قادرة على التحمل أكثر..

ظلّ ممسكًا بها حتى وصل إلى غُرفة الجلوس والتقطت بقية لِفافة التبغ التي تركها فوق الطاولة ومازال الدُخان يتصاعد منها وقام بحملها وإطفائها خلف أذنها بكل غِل دون أن يعبأ ببكاءها المُنهك ولا صوتها الذي لم يعد يخرج ولا ضعف جسدها الذي كان يصرخ وينبض ألمًا أثناء تلويها من بين يديه وهو يمسك بها كـ اللص ويكمل ما يفعل بها دون رحمة، هو فقط يكرهها، يكرهها بشدّة..

دفعها بعيدًا عنهُ وهو يجأر لتسقط أرضًا بعنف وتهرول لها الخادمة وهي تصرخ بذعرعِندما لاحظتها تختنق..
رفعتها بين يديها وهي تبكِ وتصرخ بها كي تتنفس لكنها لم تستطع، كان قلبها يؤلمها بشكلٍ لا يوصف في هذا الوقت، كان يخفق بشدّة وألم جعلها تشعر بأن قفصها الصدري مُهشم تم سحقه بكل عُنف تحت أحدي السيارات، لم تستطيع أن تتحمل قدر هذا الألم، كانت أضعف من أن تتحمله..

كان شعورًا مُشابه للموت مُشابه كثيرًا إلى الروح وهي تخرج من الجسد لكنها تعذبت دون أن تموت، لقد استنزف جميع طاقتها بسبب ما كان يفعله بها، لقد حطمها وكسرها ودمر كُل شيءً جميلًا داخلها، لقد أصبحت قدرتها على التحمل ضعيفة بسببه..

كانت تحيي معهُ دون أن تشعر بالأمان كانت حياة مليئة بالفزع والخوف والرعب وتجنب الأماكن التي يتواجد بها و الإختباء! كان دفنها حيّة في ذلك الوقت بالنسبةِ لها أرحم من تلك الحياة! إن شقيقتها محظوظة..

ومنذُ ذلك الوقت وهي هكذا، فقط إن فاجئها أحدهم وأفزعها بمزاح يمكنها أن تفقد الوعي، وأن خافت كثيرًا وشعرت بالرعب كما أشعرها عمّار عندما ركض خلفها داخل السوق تفقد الوعي كما فعلت، هي ضعيفة وهشّة بطريقة تجعلها تكره نفسها بسبب جلوسها وانزاوائها وحدها داخل غُرفتها وبكاءها كُل يوم في منتصف الليل حتى تتعب وتغفى، ثم تستيقظ صباحا قوية من أجل ابنتها وكأن لا شيء قد حدث..
عودة إلى الوقت الحالي..

محت عبراتها بعنف وهي تسند جسدها على الحائط ونظرها مُعلق على قطعة الأثاث المغطاة بالقماشة البيضاء المُتسخة التي تخفي أسفلها أكثر من سياط وليس واحدًا فقط، وكما ترى مازال كل شيءً بالغرفة كما هو! الخزانة، التخت، الستائر، المقاعد القديمة والإضاءات الصفراء الخافته، كُل شيء كما هو لم يتغيّر شيء، كأنهُ يخبرها أن غرفتك كانت تنتظرك، لا بل جحيمك ولن يتغير شيء سوى انكِ فقط كبرتي ليس إلا، لكنها كبرت وأصبحت أكثر ضعفًا..

انتفض جسدها عِندما سمِعت صوت صفع الباب بقوة عقبة صوت خُطوات والدها التي توصم الأرضية بسبب الأتربة المُتراكمة فوقها..
لقد انتهى كُل شيءٍ الآن وسيقتلها ويشفي غليل كل تلك السنوات التي كانت مُبتعدة عنهُ بها اليوم في هذه الغُرفة المُخيفة..
سعُل بخشونة وهو يضع يده على صدره بسبب تعبه في الآونة الأخيرة بسبب كُبر سِنهُ والتدخين الكثير الذي دمّر صدره وصحته على مرّ تلك الأعوام الكثيرة..

سار مُباشرةً اتجاه الشُرفة دون أن يلقي عليها نظرة واحدة لـ يتفاقم قلقها أكثر لأن صمتهُ هذا لا ينم على أي خيّرٍ البته..
وقف داخل الشُرفة قليلًا يتنفس هواء نقى وهو يحدق في الحديقة الكئيبة تاركها في الداخل اعصابها تحترق وهي تفكر بما سوف يفعله، فصمته ليس جيدًا وتلك الهواجس التي بداخلها تؤكد لها أنهُ لن يكون خيّرًا أبدًا ما يفكر به..

دلف من الشرفة بعد بعض الوقت بعد أن أثلج قلبها وجمده من الخوف، أبعد قطعة القُماش من فوق الأثاث الخشبي بحركة سريعة عصبية وهو يبعد رأسهُ إلى الخلف بسبب الأتربة ثم ألقاها أرضًا وأخذ سوط من المعلقين أمامه وبدأ يتقدم منها..

تابعته بنظراتها الخائفة بجزع وهي تراقب تقدم حذائه الذي كان يتقدم منها أكثر فأكثر، فهي لا تستطيع رفع وجهها والنظر لهُ لا تستطيع رفع عيناها الممتلئة بالخوف داخل عيناه المُشبعة بالقسوة والكُره هي تخسر أمامه..
جلس أمامها وسألها بكل هدوء ومازالت قبضته تحتضن السوط وهو ينظر لها بدون تعبير: اسمك ايه؟.
ماهذا السؤال الآن؟ لكن هي تعلم المغزى منهُ تعلم..

فركت يديها المتعانقين بخوف وقالت بنبرة مرتجفة وهي تتحاشى النظر لهُ وقلبها ينقبض وينبسط بخوف: لـ، ليـ، ليلي المِنشاوي..
ابتسم ابتسامة قاسية ثم قبض على فكها بعنف جعلها تئن وهو يرفع وجهها كي تنظر لهُ، ليعيد بنبرة تحذيرية وهو يصر على أسنانه بغضب: بجولك اسمك ايه عاد؟

نظرت لهُ قليلًا وهي تتطلع إلى جلد وجهه الذي انطوى إثر الشيخوخة مُخلف تلك التجاعيد التي احتضنت ملامحه والشيب الذي غزي شعره الفحمى المجعد كـ شعرها تمامًا لهذا تكرهه، تابعت بنظراتها تقاسيم وجهه الذي كبُر سريعًا مع مرور الزمن لكن رغم هذا مازالت نظرته الكارهة كما هي كما اعتادت منهُ دومًا، مع تضاعف الكُره الذي أصبح لا حصر لهُ الآن داخل مقتليه الداكنة..

أعادت بنبرة مهزوزة وهي تنظر داخل عينيه: ليلى المِنشاوي، صفعها بظهر يده بقسوة جعلها تصرخ ليمتزج صوتها مع صوت زمجرته الغاضبة وهو يعيد على مسامعها بتهكم كما فعل ذلك اليوم: لساكِ ليلي المِنشاوي؟
هزت رأسها بنفي وهي تشهق مُنكمشة على نفسها بجانب الخزانة وهي تنتحب ليعيد سؤاله بحدّة شديدة جعلها تنتفض ويبدو أنهُ أصبح ضيق الأفق و سرعان ما ينفذ صبره: اسمك ايه؟

قالت بنبرة مرتجفة وهي تلتقط أنفاسها أثناء هزِّ رأسها كأنها تقوم بتسميع درسها أمام معلمها القاسِ رهبةً وخوفًا منهُ دون أن ترفع نظرها لهُ: اسمي، اسمي، ندى، ندى، خليل الطحـ، بتر قولها عندما قبض على شعرها بعنف و قسوة جعلها تصرخ ورأسها تميل مع يديه وهي ترفع يدها في محاولة يائسة كي تخلص خصلات شعرها من قبضته لكن هذا كان من المستحيل..

هزّ رأسها بقوة وهو يسألها صرًا على أسنانه بـ غِل: وطالما انتيّ ندى خليل الطحاوي ايه اللي ودّاكِ دُوار متولي الزِفت يا بت الـ..
شهقت وهي تلتقط أنفاسها ثم بدأت تتحدث بتقطع وعينا زائغة: عمّار، عمّار، كان خطيب بنتي عشان كده عشان كده بس..
ألقي السِياط بجانبه وصفعها بيده الأخرى بقسوة وتابع حديثه بتهكم وهو يراقب بكاءها بفتور: ومن ميتِه و اهل العروسِة بيجعدوا عند أهل العريس؟ من ميتِه؟

محت عبراتها وهي تنتحب ثم قالت له بصوت مبحوح وهي تهز رأسها بألم: والله مكنتش جاية مكنتش جاية عمّار هو اللي أجبرني أجي هو اللي أجبرني والله..

اكفهر وجهه بغضب ثم صفعها بقسوة مضاعفة وقرص وجنتها بقوة ثم خدشها بأظافره ودفع رأسها على الخزانة بعنف، كتمت صرختها وعضت على أناملها هي تقبض على البساط المتسخ بيدها الأخرى وجسدها ينتفض من البُكاء وهي تستمع لِمَ يقول بجنون: كيف يعني جبرك كيف يعني؟، فليقتلها فقط كي ترتاح من كل هذا..

وقف وأخذ يدور في الغرفة ذهابًا وإيابًا كـ طائر جريح وهو يضم قبضته بغضب وجسده يشتعل من النيران التي تتأجج في صدره وكل تفكيره محصورًا حول عمّار اللعين الذي يتمنى موته اليوم قبل غدًا..

عاد وجثى أمامها وسألها وهو يقبض على فكها بعنف بعد أن كانت تسند رأسها فوق الخزانة على نفس وضعيتها عِندما دفعها، قضمت شفتيها بألم وهي تنظر لهُ بينما هو كان ينظر لها بأعين تقدح غضبًا وقسوة وهو يسألها: ايه اللي ودّاكِ بيت الملاعين دولم؟

مجتيش بيت ابوكِ ليه عـ، توقف ذاهلًا عِندما صرخت قائلة بحرقة وهي تنظر داخل عيناه بـ كُره: انت بِعتني وانا معنديش أب فاهمني ابويا مات والملاعين اللي بتتكلم عنهم دول احسن منك ميت مـ، توقفت الكلمات بحلقها عاجزة عن تكملة الحديث وازدردت ريقها بصعوبة بالغة وبهت وجهها عِندما رأت ملامحه الجحيمية وعيناه الدامية، ستموت..

فقط إن لم تختفي من أمامه الآن سيقتلها، لِمَ تحدث لسانها اللعين لِمَ، وقفت سريعًا وهي تترنح كي تنجو بحياتها وركضت إلى الباب منفذها الوحيد لكنهُ هبّ واقفًا ثم سحبها من منابت شعرها بقسوة ودفعها بعنف أسقطها أرضًا محل ما كانت جالسة ثم انحني فوق السِياط والتقطه من الأرض و هوي به على ظهرها بكل قوته..

صرخت بألم وهي تتلوى وجميع ماحدث معها سابقاً يتوافد على عقلها أثناء جلدها من قِبله بدون رحمة، كُل شيء يتكرر من جديد بصورةٍ أكثر بشاعة، هذا العالم صغير حقًا، وتلك الحياة خادعة بطريقة ساخرة، لكن هل سيسير كل شيء كما حدث سابقًا قبل سنوات؟
طلبت منهُ بترجي وانهيار وهي تقول بنبرة مختنقة من كثرة البُكاء: كفاية ابوس ايدك كفاية، كفاية..

توقف لاهثاً وهو يبتسم بتشفي ثم سألها بسخرية: وااه! ايه جعدتك مع اهل البندر خلِتك خِرعة ولِّيه؟ كُنتي بتتحمَلي يا حبيبة أبوكِ اكتر من اكدِه جرالك ايه عاد؟
هزت رأسها بعذاب لتحتك بطرف البُساط المُتسخ وتقوست كـ الجنين وهي تُعانق جسدها وظلت تبكِ بحرقة دون أن ترد عليه..
سألها بنفاذ صبر وهو يمسد جبهته: فين جوزك اللي عاتجولي بِعتك ليه يا محروجة انتيّ! اني سترتك يا غبيِة سترتك!

لم يخرج من بين شفتيها سوى صوت نحيبها المتقطع ليضرب السياط أرضًا أفزعها وهو يصرخ بها بجهور: أُنطُجي يا حزينة انتيّ فين المحروج جوزك؟
لم ترد عليه ليرد هو بالسياط الذي هوى على ظهرها جعلها تتلوى وهي تصرخ متمنية أن تموت كي ينتهي هذا الألم..

انتفض عمّار من نومه وهو ينتصب شاهقًا كـ غريق نجى من الموت الآن، شاعرًا بالاختناق وهو يلتقط أنفاسه المسلوبة بصعوبة وخضراويه تجول على أنحاء الغُرفة بسرعة، جسده مُتعرقًا بغزارة، وجهه مُرهق شاحب مُصفر، وقلبه يؤلمه بشدّة شاعرًا بـ زُجاج ينغرز داخله بعنف مع كُل نبضة تصدرعنهُ وخصوصًا ذلك الوخز الذي أرقه وقطع نومه!، إن قلبهُ مُنقبض وتلك الغمامة السوداء تطبق فوق صدره ولا يستطيع التنفس..

تأوه من حركة يده السريعة وهو يبعد الغطاء عنهُ لاهثًا بوهن وهو يقف بجذعة العاري ليداهمه ذلك الدوار جعله يترنح ويجلس على طرف الفراش قليلًا وهو يتأوه بقوة بسبب جرحة، احنى رأسه قليلًا ونظر إلى صدره من فوق تلك اللاصقة البيضاء وهو يتنفس بصعوبة وتعرقه في تزايد على وشك ان يختنق من انسحاب الهواء من رئتيه..

رفع رأسهُ ونظر إلى باب الشُرفة المُغلق بعصبية وهو يضم قبضته بانفعال لـ يتأوه أكثر فـ شدّ شعره من الألم وهو يتنفس بتمهل وبطء بسبب هذا يُجب أن يتحكم بانفعاله، فقط لِمَ الشُرفة مُغلقة! إنهُ يختنق..

تحامل على نفسه ووقف ببطء وأخذ يتقدم بحذر وخطوات ثقيلة وهو يكتم تأوهه ولأول مرة يشعر بِبُعد الشُرفة عن الفراش بسبب تلك الخطوات، وصل أخيرًا فوجدها مفتوحة قليلًا ويبدو أن أحدهم بداخلها ويغلفها من الداخل من أجله هو كي لا يصل لهُ الهواء البارد..

كان آدم وقُصيّ في هذا الوقت في الداخل يتبادلانِ أطراف الحديث بهدوء في الطقس البارد وهما يستمعانِ إلى صوت تلاطم أوراق الشجر والنخيل معًا إثر الرياح الشتوية الشديدة. وصوت صرصور الحقل المُزعج الذي لا يتوقف ممتزجًا مع نقيق الضفادع مع القليل من نُباح الكلابِ الضالة ومشاجرتهم معًا في الطُرق الفارغة الآن، وأخيرًا وأجمل صوت كان صوت صهيل ندى في الأسفل بشكلٍ مُتكرر لحوح ثائر كأنها تعلم خطب عمًار وما اصابة وتُريد الاطمئنان عليه..

تثاءب قُصيّ وهو يمط ذراعية بنعاس وعيناه معلقة على ذلك الكوخ وسط الظلام ليتوقف ويفرغ فاه مشدوهًا عِندما التفت ووجد باب الشُرفة يدفع ويطل عليهما عمّار!

هو فقط شيءً من الاثنين إما أن يكون عمّار يمزح أو هو من يشعر بالنعاس لدرجة الهِذيان؟! لكن هذان الخيارين ذهبوا حد الجحيم عِندما وجده يدلف ببطء وهو يتأوه ثم توقف بجانبه وهو يلهث بتعب، أسند راحة يديه فوق سور الشُرفة وبدأ يلتقط أنفاسه بوهن وصدره يعلو في عنف وهو يستنشق هواء نقي ينظف به رئتيه..
هزّ قُصيّ رأسه ومازال مشدوهًا غير قادرا على الحديث! فقط كيف يستطيع فعل هذا؟

أخرجة من شرودة دفع آدم لهُ بغضب وهو يوبخه أثناء وضع الغطاء الثقيل فوق ظهر عمّار بعد أن هرول وأتي به من الداخل سريعًا: بتتفرج على ايه انت؟ وانت كمان قُمت ليه حالتك مش كويسة؟
هز رأسه بتعب وقال بوهن وهو يطبق جفنيه بقوة متمسكًا بـ سور الشرفة بقبضتيه: مخنـ، نوق..
هزّ آدم رأسه متفهمًا ثم عدل الغطاء فوقه بتركيز وهو يزفر ثم سانده هو وقُصيّ وأجلسوه أرضًا وهم يُدثروه ويدخلون يديه داخل الغطاء كـ شطيرة..

جلس قُصيّ بجانبه وتحسس حرارته بهدوء وهو يقطب حاجبيه ثم قال بقلق: لسه سُخن بردُه..
تنهد آدم وهو يتحسس جبينه هو الآخر وقال بضيق: خمس دقايق يشِم شوية هوا وهيدخل مش هيطول لازم يرتاح عشان الجرح..

ابتسم عمّار بامتنان وهو يحدق بهما غير قادرًا على وصف ما يشعر به بالكلمات قط وهو يُراقب تلك اللهفة والقلق والخوف من أجله، هو حقًا محظوظ بسبب وجودهما في حياته. هُما رائعين وكُل يومٍ يثبتان لهُ أنهُ لن يندم على صداقتهم يومًا فهم أخوه، يتمنى حقًا لو تمنحه ندى مثل هذا الحب..
تبادل قُصيّ وآدم النظرات بارتياب لـ يسأل آدم قُصيّ بخفوت: هو ماله بيبصِلنا كده ليه وهو مُبتسم؟

هز قُصيّ كتفية وهو ينظر لهُ بتفكير ثم قال فجأة وهو يتلفت حوله: ممكن يكون هيموت وبيودعنا؟ ملك الموت معانا في المكان؟
ضحك عمّار بخفة لتتحول ضحكته إلى تأوه وتتبدل ملامحه لأخرى متعبة وهو يتألم، فقط لو يستطيع التحدث لأخبرهما أنهُ يُحبهم بشدّة..
ربت أدم على مُقدمة رأسه وهو يحثه على الصمت والهدوء: متتكلمش عشان متتعبش..

هز رأسهُ بخفة ثم ألقي بها إلى الخلف واسندها على سور الشُرفة الحديدي بين تلك الفراغات وظلّ يُحدق في السماء تاركًا العنان لنسمات الهواء الهادئه تداعب وجهه وهو يتأمل تلك النجوم المتلألئة التي انعكست داخل خضراويه النقية شبيهة حجر الأباتيت المماثل لـ عين القط. وعقله مُنشغلًا بها، إنها لا تملك حيّزًا من تفكيره قط بل سيطرت على كُل تفكيره، غزالة أين هي؟ هل حزِنت عليه بشدّة أم تشفّت به؟!.

ظلّ هادئًا دون التحدث لكن صوت صهيل ندى الملحوظ والمُتكرر جعله يقطب حاجبيه بانزعاج وقلق من أجلها فيجب أن تهدأ..
رفع رأسه ونظر إليهما بانزعاج كأنهما المسئولين عن هذا!.
كاد يتحدث لكن قُصيّ قاطعه عِندما فهم مايُريد قوله من مراقبته له: شوية وهتهدى عادي يعني مش هيحصلها حاجة تلاقيها هرمونات..
تنهد عمّار بـ همٍ فهذا ليس وقت مزحاته حقًا، تلك الآلام تتضاعف ولا تهدأ و النيران مندلعة داخل.

صدره ولا يستطيع تبريدها ولا تخفيف تلك الحرارة ومداوات نفسه سريعًا، فهو يشعر أن صدره مثقوب وفارغ..
قطب حاجبيه فجأة عندما خطر لهُ جاسم، فهو تركة وركض ماذا حدث معهُ بعد هذا؟ و قُصيّ هل تقابلانِ؟
لم يستطع كبح فضوله فسأل آدم وهو يتأوه: هو، هو، الضيف فين؟
قطب آدم حاجبيه بتفكير ثم أطلق آهه دليل على فهمه عِندما تذكر فـ جاراه في الحديث وقال بهدوء: تمام كُله تمام..

نظر لهما قُصيّ بازدراء وسأل آدم بفظاظة وهو يعقد يديه أمام صدره بضيق: ضيف ايه؟ بتخبوا عليا!
راوغ آدم وغيّر مجرى الحديث وهو يقول: الضيف أحمد المُسلسل مشفتهوش؟
رمش قُصيّ بتفكير ثم قال وهو يتذكر: انا مكملتش للأخر كمِلت انت؟
هزّ آدم رأسه بنفي لحقة عمّار عِندما نظر لهُ قُصيّ هو الآخر ليقول بوهن كي يوفر على نفسه الرد على وابلًا من الأسئلة التي ستنفتح عليه: انا مبتفرجش على تلفزيونات..

لوى قُصيّ شدقيه وسأله بوجوم: أبوك بردُه اللي مش بيخليك تتفرج؟
هزّ عمّار رأسه وقال بأسف: لا امي تجول حرام..
ضحكوا ثلاثتهم معًا ليضرب قُصيّ ذراع آدم وهو يقول بسخط: عدِتها بمزاجي الضيف أحمد هاا..
ابتسم آدم ببلاهة وهو ينظر لهُ ليقهقة عمّار بخفة وهو يراقبهما فتأوه وهو يضع يده فوق صدره عائدًا برأسه إلى الخلف، اللعنة لما لا يطيب جرحة سريعًا..

أغمض عيناه وهو يتنفس بثقل ووهن عائدًا بذكرياته إلى ذلك اليوم في السيارة عِندما قامت ليلى بتضميد جرح رأسهُ داخل السيارة ثم رفعت وجهه بطرف أناملها الناعمة وهي تخبره أنها انتهت. لقد هزت كيانه وجعلت قلبه يرفرف في ذلك الوقت لهذا أبعد رأسه عن وقع يديها وابتعد بضيق فهو يكره الخضوع لإمرأة..

وذلك اليوم في الشُرفة عِندما وضعت يدها الناعمة على وجنته وأخبرته أن يسمي طفلته ليلى عِندما يُنجب فتاة من ندى، لقد كانت تسخر لكنها بعثرت مشاعرة وارجفت قلبهُ عِندما شعر بأناملها تُداعب ذقنه..
وعِندما امتطت معهُ فرسه وأسقطتهما معًا من فوقها وسقطت فوقه، لقد تخدر لثوانٍ معدودة عِندما استنشق عِبقها الآخاذ، إنهُ مُسكِر وقد علق بأنفه ويستطيع تمييزه متى ما استنشقه وهي كما يبدو أنها لا تستخدم غيره.

وعِندما تصارعت معهُ واغرقته بالوحل شعر بالتسلية وهو يقذفه عليها كأنهم عائلة سعيدة يحظون ببعض المتعة والتسلية في حديقة منزلهم..
وتلك القُبلة الخاطفة التي طبعها على وجنتها وركض، هو لا يعرف إلى الآن لِمَ أقبل على هذا وقبّلها حتى! فكان من الممكن أن يعتذر بصدق عن الصفعة لكن القُبّلة راقته أكثر..

هذا بالطبع يأتي خلف جلوسها معهُ وتحدثها عن تلك النظرات العابثة التي يرمقها بها من حينٍ لأخر وهو يرى تلك الابتسامة الناعسة تعتلي ثغرها الفاتن فهي تستطيع إذابة جليد قلبه وإخضاعه آلاف المرات، هي أجمل ما رأت عينه. ثم بكاءها بحرقة وهي تقصّ عليه كل ما حدث معها طوال حياتها مُتجنبة الحديث عن كيفية إتمام زواجها، لقد أحرقت قلبه القاسي عليها بالرغم من علمه بهذا مسبقًا لكن سماع هذا منها مُعذب أكثر!.

وكل هذا لا يضاهي شعورة عِندما اجتاحت تلك الذبذبات اللذيذة جسده أثناء رقصته معها يا إلهي هذه الذكرى الأقرب إلى قلبه، لقد فقد السيطرة على نفسه ذلك اليوم بلا مبالغة وكان سيتهور أن لم يكن بين ذلك الجموع..

ليس هذا فقط بل حتى صفعتها لهُ لا يعلم لِمَ تروقه إلى هذا الحد وكُلما تذكر يضحك كالأبله! لكنهُ يعلم هو يعجبهُ كونها لا تترك حقها، يعجبه كونها جعلته يفقد عقله ويجن ويركض خلفها في السوق حافي القدمين وهذا من الأشياء المستحيلة التى من الممكن أن تحدث! هو يُحب أن يجن ويخرج عن طورة بفعل فتاته التي يُحبها وهي مثالية بفعل هذا، وكم يتلذذ أن عذبته فتاته قليلًا لأنهُ يجد في هذا متعة لا توصف..

لكن حقًا أجمل مامرّ عليه هو عِندما حملها وهي فاقدة الوعي في وجود والدها، هذه هي المرة الوحيدة التي شعر حقًا أنهُ هو من يقوم بحمايتها وليس أذيتها كما اعتاد أن يفعل مُنذُ أن رآها..

وبمناسبة ذكر أذيتها هو كُلما تذكر إمساكه لها ومحاوطة خصرها داخل المطبخ وجعلها تقطع له التفاحة يضحك وهو يسأل نفسه متعجبًا بماذا كان يُفكر في هذا الوقت كي يجعلها تفعل هذا! ماكُل هذا العبث؟ إنهُ سيء همجي يعترف! هي معها حق أن تنعته بكل تلك النعوت، كان يستحق وهي ليست وقحة ولا مُخطئة، غزالة لا تخطئ أبدًا..

لكن أتعلمون رؤيتها أول مرة عِندما كان في منزلها هي الأجمل على الإطلاق، لقد كان جالسًا ينتظر عجوز أن تأتيه و عجوز قبيحة ليس إلا! لكن هو فقط شعر أنهُ القبيح عِندما رأها، لم يستطيع وصف شعوره في هذا الوقت عندما ضربت أنفاسها الممزوجة بطعم النعنع وجهه وهي ترمقه باحتقار من أعلاه لأخمص قدميه سوى أنها حركت كل شيء بداخله ظاهرًا وباطن، هذا اللقاء لطالما كان مُميزًا بالنسبةِ لهُ..

لقد تجاهل في هذا اليوم و تحكم في رغبة رجولية بحتة عصفت به كانت تحثه على الاقتراب منها وفعل أشياء جنونية لا يعلم كيف خطرت لهُ بسبب رؤيتها لِـ مرةٍ واحدةٍ فقط! لكنها خطرت وهذا أكثر ما يخيفه! فهو لا يتلفت إلى النساء بتاتًا لِمَ يسمح لنفسه أن يقع تلك الوقعة إذًا؟

هو لا يعلم ما خطبها مُختلفة في كل شيء وتجذبه دون أدني مجهود ولا تصرفٍ كي تلفت نظره إليها والمشكلة العويصة أن هذا ما يلفت نظره! فهي من أعلاها لأخمص قدميها ملفتة..

نبرة صوتها الناعمة مُلفتة، عسليتها خاصته هو والتي سوف يمتلك كل نظره داخلها يومًا ولن يرى بها سِواه قد أُخِذت من أجمل غزال وتجسدت بها مُلفتة، غرورها وتمردها مُلفت، غنجها ودلالها الطبيعي في طريقة سيرها وهي تتهادى مُلفت، جسدها ذلك اللعنة مُلفت ومغوي مهما ارتدت، وخصرها هذا حكاية أُخرى تستحق أن تُخلد..

هي تحصل على اهتمامه دون أن تفتعل أي شيء كي يحصل هذا، فقط نُطق أسمها أمامه كفيل بجعله يتشتت و تتنبه جميع حواسه وتتصارع ضربات قلبه كي يعرف ما الخطب معها، أو لكونها ندى لا تفسير لديه سوى هذا، وسواء كانت ندى أم ليلي في الحالتين ستصبح ملكة، ولا نزاع في هذا..

وبالنظر لجميع ما حدث ومقارنة المواقف بينهم بين هُنا والقاهرة استنتج أنه قطع أشواطًا كثيرة هُنا معها رُبما إن عادت تتغير وتعود كسابق عهدها ولا تتوقف عن نعته بالنكرة والخنزير والثور وماذا أيضًا خرتيت وهو متأكد من هذا لكن لا يهم سيتركها تذهب ويبدأ من جديد قصتهم معًا هذا إن سمحت لهُ بالطبع..

لقد كاد أن يموت وقد تعلم الدرس وأصبح يُقدر الحياة قليلًا بعد إن وجدها، فليس من العدل أن يموت قبل أن يخبرها أنهُ يُحبها وهي صاحبة الفضل عليه والسبب في الكثير من الأشياء الجيّدة التي حدثت في حياته! فقط أين هي الآن؟
تبادل قُصيّ وآدم النظرات بارتياب وهُما يراقبان قهقهاته الخافتة كيف تحولت في النهاية إلى تلك الابتسامة السعيدة الملائكية في لحظات!
أردف آدم بخوف حقيقي: ياعم هو بيبتسم ليه دلوقتي؟

ردّ قُصيّ وهو يحملق به يتفحصه بنظرات ثاقبة: دي سكرات الموت أنا عارف، تعالي ندخله عشان يموت في السرير في الدفي..
ضرب آدم كتفه وهو يبتسم موبخه: بس يا قُصيّ عمّار انت كويس؟
فتح عيناه وسأل بهدوء: فين ليلي؟.
تبادل آدم وقُصيّ النظرات معًا بتفكير وقبل أن يرد أحدهما استرسل عمّار بنبرة خافته مُتمنية وهو يتحامل على نفسه كي لا يقطع حديثة: زِعلت عليا! قالتلي متموتش يا حبيبي أي حركات كده مفيش؟!

ابتسم آدم وربت على رأسه وهو يقول بمكر: حركات ايه بس ده انت ملك الحركات بقي تقولها بحبك وانت بتموت يا قادر!
نظر لهُ عمًار بدون تعبير وهو يرمش في محاولة كي يستوعب ما سمع منهُ الآن؟ ماذا قال؟! يُحبها! هو فعل هذا؟! هذه جريمة في حق نفسه اللعنة عليه إن فعل هذا حقًا! هو بالتأكيد لا يقصد أن يخبرها بالمعني الحرفي! هذه إهانة، إهانة كيف يفعل هذا ويسمح لنفسه بالتفوه بمثل هذا الشيء!

اعتدل ورفع جسده وجلس بانتباه وسأله مشدودًا بانفعال وهو يتوجع: بتقول، عملت، ايه؟
تابع آدم بنفس الأبتسامة وقال بتسلية وهو يقرص وجنته: قولتلها بحبك مرتين مقطعين اللي هو كنت بتشتهجى الكلمة لكن المره التالته خرجت كُلها على بعض الحمد الله وطول الوقت كُنت عمال تقول يا ندى يا ندى..
أشر عمّار على نفسه مشدوهًا وهو يقول بعدم تصديق: أنا؟

أومأ لهُ آدم واسترسل: وهي كانت جنبك بتنشف العرق بـ كُم البلوزة بتاعتها ولما سمعتك قامت ومشيت..
وضع عمّار رأسه بين يديه وهو يتأوه قائلًا بحسرة: هي كمان سمعت؟
هز آدم رأسه واسترسل وهو يقلد نبرتها الناعمة: عمًار متموتش..
رفع رأسه ونظر لهُ بغضب وقال بانفعال ملحوظ: آدم متهزرش!
هدأه قُصيّ بحدة: متنفعلش عشان الجرح، صرخ به بقوة وهو يسبه سُباب لاذع: عليك انت والجرح..

زفر قُصيّ وهو يعقد يديه أمام صدره بضيق ثم سأل آدم: اومال لو عرف هيعمل ايه؟
هب واقفًا وهو يتألم مبتعدًا الغطاء عن جسده بحركة سريعة مؤلمة ليبقي جذعة عارٍ ثم سأل بعصبية وعضلات جسدة تتصلب مضاعفة الألم لهُ: هو في ايه؟
تنهد آدم وقال لهُ بنفاذ صبر بسبب عصبيته المُفرطة: بقولك ايه اهدي بدل ما هسكت خالص..

تركهما بسأمٍ ودلف إلى الداخل بخطي بطيئة وملامحه تتقلص بألم يتضاعف أكثر كُلما تنفس، دلفا خلفه يراقبان فتحه للخزانة واخراج كنزة صوفية لهُ..

قذفها على الفراش ثم تقدم وفتح دُرج الكومود، أخرج منهُ زُجاجة عِطر ثم قام بنثرها فوقها تحت تعجبهما منهُ! هل مازال يملك تلك العادة التي تصاحبه مُنذُ أن عرفاه تقريبًا وليست عادة قد إكتسبها من وقتٍ قريب!، إنهُ يتقزز من الملابس لسببٍ حتى هو لا يعرفهُ؟ فقط إن لم يغرق ملابسة عطرًا ويظل يستنشقها طوال الوقت حوله لا يستطيع أن يرتديها، وهذا هو سِر حملة زجاجة عطر معهُ في كل مكان ورائحته الفاجة التي تسبقه دائمًا..

رفعها من فوق الفراش ورفع يديه كي يرتديها وهو يتأوه بقوة شاعرًا بانفتاح جرحه من الداخل كنصل حاد ينغرز داخل صدره ببطء مُعذب..
أوقفه آدم وهو يترجاه: عمّار حرام عليك نفسك والله لازم ترتاح...
هز رأسه بنفي وهتف بألم وهو يطرق برأسهُ كـ طفل ضائع: انا عايز ندى..

نظر آدم إلى قُصيّ عاجزًا عن الرد وهو يسأله بنظراته ان كان يخبره أم لا؟، وافقه قُصيّ وهو يهز كتفيه بقلة حيلة، فلا حل آخر أمامهما وفي النهاية سوف يعلم..
أخذ آدم شهيقًا طويلًا ثم قال بهدوء وهو يضغط على كتف عمّار جعله ينظر لهُ: عمّار، ندى، ندى اتخطفت..

توهجت عيناه عندما أتي بسيرتها لـ تتهجم ملامحه وهو يسمع بقية الحديث لـ يشحب وجهه أكثر ويتقلص قلبه ويسقط بين قديمة منقبضًا بخوف لاكِمًا قفصه الصدري بعنف فزعًا وهلعًا عليها..
بينما في الأعلى الطابق الثالث، كانت حُسنه تجلس بجانب ابنتها الغافية وهي تضع رأسها بين يديها بـ همٍ دون أن تتحدث حتى مع نفسها وهي تفكر..

أما الطابق الثاني في الخارج وعلى بداية الدرج، كانت نادين مازالت على وضعيتها من ساعات، جالسة تنتحب وتبكِ بحرقة فوق الدرج في احضان تالين تلك المرة بعد أن تركت الغرفة وجاءتها ركضًا..
واستها تالين بحنان وهي تربت على ظهرها بنعومة: متخافيش ياحبيبتي ربنا يرجعها بالسلامة هي اكيد هتكون كويسة ان شاء الله..

رفعت تالين رأسها وقالت بانهيار ووجه محتقن بالحمرة وهي تبعد شعرها إلى الخلف: لأ مش هتبقي كويسة انا عارفة هي مش كويسة دلوقتي، انا عايزه مامي مليش دعوة..
ضمتها تالين بحزن وهي تهدئها: ان شاء الله هترجع كويسة متقلقيش ربنا كبير..
ابتعدت عنها وهبت واقفة وهي تمسح عبراتها بنفاذِ صبر قائلة بقلب مُنفطر: هي مش كويسة مش كويسة، عمّار، هو اللي هيجبهالي ولازم يجبهالي، وركضت إلى غرفته..

بينما داخل الغُرفة كان عمّار كـ الثور الهائج كما لقبته غزالة تمامًا، يطيح بكل من يقف أمامه وهو يجأر بقوة..
دفع آدم عنهُ بعنف بسبب إمساكه وتقيِده من خصرة بقوة كي يمنعهُ من الخروج أسقطه أرضًا بعد أن ارتطم ذراعه بأحد أعمد الفراش الحديدية جعلته يتألم ثم لكم قُصيّ واعتلاه وصرخ به بأعين جاحظة حمراء دامية من فرط انفعاله وهو يمسكه من حاشية ملابسة: هات المفتاح، هات المفتاح..

هز رأسه بنفي وهو يلهث وقال ببرود: مش هجيب ومش هتخرج موتني بقي، صرخ في وجهه بـ غِل وهو يضم قبضته بقوة فوق حاشية ملابسة محاولًا الصمود وعدم تهشيم رأسه، ثم وقف وأخذ يدور في الغرفة كالمجنون وهو يلهث وكُل تفكيره محصور حول ما يحدث لها هُناك الآن، يقسم أنه سيقتل والِدِها أن حدث لها شيء..

ضرب الحائط بكفه بقوة عدة ضربات حتى خدرها وهو يصمت آلامه المُبرحة التي لا يعلم مصدرها حتى فكل جسده يصرخ ألمًا والجرح ينزف بغزارة حتى أنه يشعر بـ بلل كنزته بسبب الدماء، فإن ما يشعر به كاوٍ ساحق وهو على وشك أن ينهار ويفقد الوعي، لكنهُ لن يستسلم ولو كان هذا يعني موتهُ، لن يتركها سوف يستعيدها، فإن حدث لها شيءً لن يُسامح نفسه، لن يسامح نفسه، فهو عجز عن حمايتها عِندما كان صغيرًا ولن يسمح لهذا أن يتكرر ثانيةً...

عاد وجثى على ركبتيه أمام قُصيّ وترجاه بضعف وهو على وشك أن يبكِ بجانبه: قُصيّ هات المفتاح أنا لازم اجيبها لازم اجيبها مش هسيبه يدمرها مرتين هات المُفتاح..
صرخ به بغضب وهو يأشر عليه: انت مش شايف نفسك يا غبي هتروح عشان تموت جنبها؟
هز رأسه بهيستيريا وهو ينفي بانفعال شديد: مش هموت وهي مش هتموت لازم أروحلها هات المفتاح وحياة أغلى حاجة عندك هاته..
هز رأسه بصرامة نافيًا وهو يغمغم برفض،.

اسودت عينا عمّار بغضب ثم لكمه بقوة وهو يصرخ به بحنون: هات المفتاح، أنا بحبها ومش هقدر أشوفها مكسورة بسببي، انا اللي جبتها هنا ولازم أرجعها، هات المفتاح وحياة عشق هات المفتاح..

ابتسم قُصيّ وقال لهُ بهدوء: حياتك عندي مُهمة زي عشق مش هديك، وابعده عنهُ ووقف وهو ينظف جانب شفيته من الدماء وتركه يجلس ارضًا محله يحدق في الفراغ وظهره يعلو ويهبط مع منكبه العريض في عُنف شديد، هل انتهى الأمر الآن ولن ينقذها إذًا؟

اتسعت عينا عمّار عِندما أدرك غباءه! الغُرفة السفلية يستطيع أن يذهب منها، تنشط ووقف متجاهلًا تلك الجبال التي يحملها فوق ظهره، والصبار الذي يحتضن صدره، والبراكين المتفجرة داخل قلبه، فقط لا يكترث إلى شيءٍ سِواها..

تحرك ليذهب لكنه تفاجئ بالباب يصفع بقوة وتندفع منهُ نادين بسرعة البرق وهي تبكِ، الغبيّ الغُرفة لا يوجد بها مُفتاح، قُصيّ اللعين تلاعب به عِندما وجده ثائرًا، أخبره أنهُ أغلق الغُرفة واحتفظ بالمفتاح ولن يخرج ليجن أكثر..

ألقي نظرة على قُصيّ ليجده يبتسم بسخرية ثم قال بتهكم: عشان تعرف انك غبي ومُتسرع ومعندكش مُخ عندك فرده جزمة قديمة منتنة والعقلية دي متنفعش في الحب عشان بعيد عنك بيبقوا تيران زيك كده بالظبط..
يُقسم أنهُ سوف يلقنه درسًا قاسٍ هذا اللعين لكن هذا ليس وقته، استفاق من شروده عِندما اندفعت نادين لأحضانه بنفس قوة ركضها وعانقته بقوة جعلت ألامه تتفاقم و يتوجع بقوة، أن لم تبتعد الآن سيبكِ بجانبها..

رفعت رأسها تستنجد به وهي تشهق: عمّار، مامي اتخطفت اثنين خطفوها كانوا لابسين صعيدي وكانوا هيخطفوني أنا كمان لكن جريت منهم الحقها يا عمًار..
هز رأسه هو يحتضن وجهها بين يديه وهتف بحنان وخفوت كي تطمئن: متخافيش عليها هرجعهالك هتبقي كويسة متخافيش..
أومأت له وهي تطرق رأسها ثم اجهشت في بكاء مرير وهي تعتذر بندم: أنا آسفة ياعمّار مكنش ينفع نهرب ونمشي في الظروف دي بس والله مامي هي اللـ..

قاطعها عندما قال بنبرة متفاجئة: تهربوا؟
أومأت بندم ليرد قُصيّ بدلًا عنها متهكمًا: طبعًا يهربوا اومال هيتخطفوا من جوا البيت؟
تنهد وهو يلعن ذلك الغباء الذي تمتلكه، فهي من توقع نفسها بالمشاكل، لايهم ماحدث حدث..
أخبرها برفق وهو يمسح عبراتها: خدي شنطكم ونزليها على مهلك واستنيني في العربية انا هجبها وهاجي عشان تمشوا ماشي؟

أومأت بطاعة وهي تستنشق ما بأنفها، فابتسم وحثها على الذهاب وهو يدفعها بخفة: يلا بسرعة، ومتقوليش لحد من البيت اني فوقت..
أومأت وذهبت لتختفي ابتسامته وتتقلص ملامحه من الألم، أطبق جفنيه بقوة وهو ينحني بتعب واضعًا يده على صدره والأخرى يستند بها على ركبته شاعرًا بالخدر يسري في أنحاء جسده وهو يلهث بحلق جاف، فقط يدعو ان يصمد نصف ساعة أخرى فقط وليحدث بعدها ما يحدث لا يُهم..

تقدم آدم منهُ بعدم رضى بسبب ما يفعل بنفسه لكن قبل أن يتحدث رفع عمًار جسده بتروي وبطء ثم سألهم بهدوء بعد إن مسح وجهه بكفه زاده حُمره أكثر: هتيجوا معايا ولا لأ؟!، هذا سؤالًا غبيّ..
في منزل خليل في الأعلى..

جثي أمامها وسألها بوجوم وهو يرفعها بين يديه بقسوة جعلتها تشعر بسحق عظام ذراعيها أسفل يديه وهي تثني ساقيها أسفلها ببطء وملامحها تتقلص بالألم كـ طفلة غير قادرة على تحريكها من التخدّر الذي تشعر به: ايه اللي بينك وبين عمّار يا محروجة انتيّ؟
توقف جسدها عن الإهتزاز وتوقفت عِبراتها عن الإنسياب ونظرت لهُ بعين زائغة ثم هزت رأسها بهستيريا وهي تنفي بانفعال: مفيش، مفيش ولا حاجة ده كان خطيب بنتي!

ابتسم بإجرام ثم قبض على عنقها وخنقها بقوة وهو يسألها بغضب جامح: وبترجصي ويّا خطيب بتِك جِدام العالم والخلج ليه عاد؟ هاا!، هزت رأسها بنفي
وجحظت عينيها بشدّة وكادت تخرج من مِحجريها وهي تجاهد كي تتنفس بصعوبة بالغة بوجه أحمر شاحب مزرق وهي تضع يدها فوق يده باختناق كي تتحرر..

ليسترسل حديثة بتهكم وكأنها ليست على وشك الموت بين يديه: وهوِه كان بيفعِص في جسمك ليه وهو ضمك لصدره وانتيّ مُغمن عليكِ كيف الجتيل يا بت صباح يا فاجرِة، بينك وبينه ايه يابت أُنطُجي! مرمغتي شرفي في الوحل معاه ولا لسِه يا جلابة العار؟، وحررها دافعاً رأسها بقسوة مع نهاية حديثة..

شهقت باختناق وهي تسعل بقوة وقلبها يكاد يتوقف من قوة ضرباته أثناء تمسيد رقبتها وهي ترتجف ملتقطة أنفاسها المسلوبة بصعوبة بالغة، فقط متى سينتهي كل هذا وترتاح متى؟ ألن ينقذها أحدهم منهُ؟! إلى متى ستظل ضعيفة وتخشاه إلى متى؟

صرخت به بصوت مقهور وهي تضع يدها على قلبها النابض بألم شاعرة بحرقة جسدها ولهيب وجنتيها المشتعلة وظهرها الدامي المكدوم: أنا أشرف منك غصبن عنك، الدور والباقي عليك يلّي سِبت مراتك في بيت ناس غريبة وسط رجالة على أساس انها انا وعمرها ماهتكون زيـ، وصمتت وبدأت تصرخ وهي تجد وابلًا من الصفعات القاسية تتساقط فوق وجنتيها دون توقف مع قولة بخشونة: وانتيّ مالك ومال اللي جابك؟ انتيّ مالكيش صالح عاد مالكيش صالح مَرَتي وانا حُر فيها لكن انتيّ مش حُره وعُمرك ماهتكوني طول ما أني فيِّه نفس فاهمِه؟ انتيّ جِتيلي برجليك وهجطعهالك ومالكيش راجعة واصل، ولما ياجي جوزك ابو جرون اللي مهملك دايرِه على حل شعرك وسايبك تترمّي وتجعدي في بيت الملاعين دولم مش هيجرِب حداكِ وعايطلجك عشان بتوع البندر دول مفيش فيهم راجل عاد..

لم تستطع كبح ضحكاتها وهي تسمع حديثة عن زوجها! والرجولة! هو يتحدث عن الرجولة! حقًا! هي لم تسمع خطأ صحيح؟! يا إلهي فأي رجل هذا من يضرب إمرأة؟!

ولِمَ زوّجها منهُ إذًا إن كان ليس رجلًا؟ هي تعلم لِمَ الأموال، الأموال في ذلك الوقت هي من جعلت منهُ أعمى عن أي شيءً آخر، فقط تخلص منها كما أراد وابعدها عنهُ واكتسب الكثير من الأموال من وراء تلك الزيجة ما المشكلة! كان هو الفائز الوحيد، لكن لتعترف فقط أن زوجها لو كان حيًا حقًا لأحرقة حيًا هو ومنزلهُ وتلك القرية البغيضة، فهو يظن أنهُ شيء وهو لا شيء..

هل هو يظُن أنهُ مازال حيًا؟ هل يظُن أنهُ زوّجها إلى شاب في ريعان شبابه وربيع عمره! أم أنهُ نسى كم كان يبلغ زوجها من العُمر في ذلك الوقت والفرق الشاسع الذي كان بينهم؟

ضحكت بسخرية وهي تحرك يدها على قلبها تمسده من الألم، حركت شفتيها الدامية ببطء وهي تهز رأسها مع شعرها الذي تشعث بسبب يديه الهمجية، لتقول بثقة بنبرةُ مرتجفة بالكاد خرجت وبصعوبة وهي ترمش بعيناها بضعف على وشك أن تفقد الوعي: هخرج من هنا وهتشوف..

ابتسم بعصبية وهو ينظر داخل عيناها التي تتوهج بتحدي سافر ثم حذرها وهو يقبض على فكها بعنف جعل ملامحها تتقلص بألم: بلاش السِجة ديّ عشان حبيب الجلب ماعيجيشيّ عشانك يا حبيبة ابوكِ ماعيجيشيّ! ولو جَه مش هيلحج يخرج من اهنِه، دِه مرمِيّ في دُوارهم كيف السِطيحة ومدريانش باللي بيحصول حواليه عاد؟

نظرت له بدون تعبير وبرود إجتاح اوصالها وهي تسمع قوله ليربت على وجنتيها بحنان مصطنع ثم حذرها مسترسلًا حديثة بفحيح كأفعى وهو يبتسم بتقزز: اوعي تفكِري انك عاتتجوزيه في يوم من الأيام بسبب الدم اللي بيناتنا عشان هدّبحك جبل ماتفكري حتي..

بادلته إبتسامته بأخرى غلب عليها اليأس ثم قالت ببرود وهي تنظر داخل عيناه: أنا ولا عايزة اتجوزه ولا عايزة اشوف وشك يابو البنات، لقد وضعت على الجرح مِلح ووضعت نفسها بموقف لا تُحسد عليه الآن ولن يتحمل أحدًا عواقب تلك الكلِمة سوى جسدها..

تهجمت ملامحه وجنّ جنونة وتفجرت الحرارة داخل جسده وتوقف عقله عن العمل لـ يُكور قبضته بقوة حتى ابيضت ثم لكم معدتها بعنف لـ يدوى صوت صرختها المُعذبة وهي تتلوى أرضًا كالحيّة لـ يقف ويتابع جلدها بغضب وطيش ومازالت كلمتها تتردد داخل أُذنيه ليزيد من عنفه أكثر فوق جسدها الذي يصرخ آلمًا دون أن يحدد مكان مُعين كى يضربها به، دون يرى أين يسقط سِياطة فقط كُل ماكان يريده هو أن يمزق جسدها كي يُلقنها درسًا..

زمجر بغضب مع قوله بحدة شديدة وغضب جامح أثناء ضربها بوحشية: اني هجطلعك لِسانك دِه عشان تبطلي حديت ماصخ واصل يا بت الـ، ابو البنات بتعايريني يا فاجرِة، وديني لَدّفِن بتك اللي فرحانِه بيها ديّ وبعدين هدّبحك يا جلابة العار، ده انتيّ جرستينيّ وفضحتنينييّ في البلد اللي مورهاش الا الرط والحديت على غيرها يا رجاصة، وزعلانين جوي عشان بكره البنات وخِلفتهم يا عِفشِة يا خدامِة وربي لَكسِر مناخيرك ديّ وهرجعك جربوعة تانيّ..

توقف يلهث بعنف وصدره يعلو ويهبط بقوة وعيناه تمر على جسدها الساكن الذي لا يتحرك عدى صدرها الذي يعلو ويهبط ببطء غير ملحوظ هو فقط ما أكد لهُ أنها مازالت على قيد الحياة هو وعيناها التي تنهمر منها الدموع كـ نهرٍ جاري بصمت دون التحدث ولا اصدار حركة واحدة، لقد استسلمت وهي متأكدة أنها ستموت الليلة لن تستطيع أن تتحمل هذه الآلام المبرحة التي تنخر عِظامها أكثر، لا تستطيع..

ألقي السِياط بغضب بعد أن آلمته يديه لكن رغم هذا غليله لم يشفى بعد هذه الكلمة جعلته يشعر بالقهر بسبب عدم إنجابه فتي إلى الآن..

بينما هي كما توقع تماماً شديدة الجمال كوالدتها، مُتمردة لا تستسلم وتنصاع للأوامر بسهولة وهو لن يستطيع أن يسيطر عليها هكذا فقط ويخضعها لهُ بسهولة، وما كان ينقصه عمّار كي يأتي الآن ويساندها لكي لا يستطيع هو الإقتراب منها بتاتاً وهذا من المُستحيلات لن يسمح بهذا ولن يحدث لقد عادت له وسوف يُروضها وزوجها ذاك المُخنث كما يظن هو لن يدعها تعود لهُ لأنهُ ليس رجلًا ولا يملك عليها كلمة واحدة وتركها تخطب إلى ابنتها دون وجوده! وتلك وقاحة..

هي ان بقيت معهُ هُنا يستطيع أن يستخدمها في الكثير من الأشياء وأفضلها والأكثر رغبة بالنسبةِ له هو تدمير تلك العائلة وقتل عمّار ولن يحدث هذا سوى بـ ندى التي يعشقها، يحتاج فقط إلى رسم خطّة جيّدة وكُل شيء سوف يسير حسب ما يُريد..
نظر لها بوجوم ثم ركلها بمعدتها بقدمه بنفس المكان لينتفض جسدها لكن دون أن تصدر صوت فأحبالها الصوتيه مُتضررة بشدّة وصوتها لم يعد يخرج لقد ذهب وحلقها أصبح كـ صحراءٍ قاحلة..

أحاطت معدتها بيدها المُرتجفة وعيناها تفيض من الدمع وهي تتقوس على نفسها أكثر، فيا إلهي كم هي متعبة وتتألم بقدر لا تستطيع تحمله، هذا شعورٍ بشِع..
صاح غاضبًا وقال بنبرة كريهة وهو ينظر لها: مَرَتي حِبله وعاتجيب الواد..
همست لهُ بصوت مبحوح واهن متقطِع خرج من نياط قلبها الممزقة وصل إلى مسامعه جمده محله وجعل غضبه يتضاعف ويثور عليها من جديد: ر، ربنا، ينتقم منك ومتلحقش تشوفه ولا تسمع صوته..

زمجر بغضب وقال لها بتهكم وهو يركل قدمها بقوة بشكل متكرر مع حديثة وعيناه تتوهج بـ شر: هكون دابحك جبليها يا بنتي الغاليِة، ثم صرخ بنبرة صخرية رجت ارجاء المنزل: انتِ يا بت يا محروسِة..
شهقت نسمة زوجته بخوف وهي تبتعد عن باب الغُرفة لأنها كانت تسترق السمع، ركضت إلى غُرفتها وأغلقت عليها بخوف كي لا يجن ويضربها..
هرولت لهُ الخادمة بخوف ودلفت إلى الغرفة وهي ترتجف ثم سألته بنبرة مهزوزة: تؤمرني ياسيدي؟

قال بحدة وهو يحدق بـ ندى بتشفي: لافيني مجص..
ابتسمت ندى بألم وهي تواسي نفسها المُنكسرة وروحها المُعذبة وقلبها المُحترق وقهرها الذي يكويها مُنذُ صِغرها مشفقةً على نفسها المُهانة..

مُعتذرة عن آلام قلبها الذي أتعبهُ وانهكه مُبكرًا، مُعتذرة عن ذلِها وضعفها، عن آلام جسدها وعن الخوف وعدم الأمان الذي كانت تحيي به طوال عمرها معهُ وعن قِلة حيلتها أمامهُ فلا تستطيع فعل شيء لا تستطيع حقا، هي آسفة، آسفة لنفسها لأنها عجزت عن ايجاد شخصًا يقوم بحمايتها ويكون دومًا بجانبها، هي آسفة لأنها وحيدة، فالنجوم لا يحوطها سوى الفراغ..

لايهم إن قام بـ قصّ كُل شعرها، على الأقل هذا لا يؤلم، سوف ينمو من جديد لا يهم لا تكترث، سوف تأخذه وتلقيه في النهر كي يطول ورُبما ينمو تلك المرة بطريقة أفضل ولا يكون مُجعدًا كي لا يُذكرها بوالدها الذي توارثت منهُ الكثير من الأشياء..
أتت لهُ الخادمة ركضًا من الأسفل بالمقص الحديدى سريعًا وهي تلهث، وضعته بين يديه بخوف وهي ترتجف من نظراته المُخيفة فكاد تسقطه فوق قدمه..

أخذه بحدة وكاد يذهب كي يفعل هذا بكل سعادة وتلذذ لكن قاطعة صوت الخادمة وهي تقول بخوف: في جدع تحت عايز يجابلك جولتله مش فاضي جالي لو مدّلاش دلوك عيطلع هوِه ومش راضي يهملنا بردك وشكله اكدِه حكومِه.
زفر بضيق ثم قذف المقص بغضب وألقى عليها نظرة أخيرة أخبرها من خلالها أن هذا لم ينتهي بعد وألا تفرح كثيرًا، واتجه صوب الأسفل والخادمة خلفه تاركين الباب مفتوحًا على مصراعيه، أن استطاعت أن تتحرك فلتذهب..

رفعت جسدها قليلًا وهي تتنفس بوتيرة مُنخفضة ورؤيتها مشوشة، تتكئ على يديها كي تقف لكنها سقطت بضعف ثم تقيأت ما بجوفها بتعب وهي تشعر بحرقة حلقها المجروح وبمعدتها تتقلص و أمعاؤها تتقطع نابضة بالألم كمن طُعِن بسكينٍ حاد..

حركت جسدها قليلًا زاحفة وهي تئن وجميع أعضائها تصرخ وجعًا فهو لم يترك بها مكاناً سالمًا لم يتذوق الوجع، ابتعدت عن الخزانة قليلًا وهي تشعر بالغرفة تدور والخزانة تسقط فوقها فهزت رأسها معها بشكل دائرى لتبعثر خصلاتها أكثر حتى إسود العالم داخل عينيها نهائيًا ومن ثم فقدت الوعي وسقطت محلها..
في أحد المنازل المجاورة البسيطة..

كان جالسًا على فراش صديقة يبتسم كالأبله وهو يفكر بتلك الحورية التي كانت تركض بسرعة البرق وعلامات الذعر ترتسم على تقاسيم وجهها الناعم بوضوح وانسياب تلك العبرات اللؤلؤية من عيناها حتى دلفت من بوابة المنزل الكبير واختفت عن عيناه التي لرُبما أُغرمت بها..
ضربه صديقه على كتفه بأحد الكتب وهو يوبخه: انت ياعم رامي! انت جاي تذاكر مش تِحب هتصل بـ أبوك وهقوله انت حُر بقي..

تنهد رامي بهيام وهو يتوسد يده مرتكزًا بنظراته على سقف الغُرفة وهو يراجع ذلك المشهد مِرارًا وتكرارًا داخل عقله ثم هتف بتيه: حلوه اوي، ما تيجي نروح نزورها ونطمن عليها!
زفر صديقة وهو يهز رأسه بيأسٍ ثم قال بتهكم: تروح فين؟ انت عارف بيت مين ده اللي دخلِته؟ جرب روح كده وقولهم في واحده دخلت هنا وعجبتني هي فين وقابلني لو خرجت..

عبس رامي وقال بحزن: طيب مفيش أمل! اعمل ايه عشان اشوفها؟ انا اصلا كُنت هرجع القاهرة لكن بعد ماشوفتها لسه هقرفك شويه كمان ممكن؟
كاد يرد عليه لكن طرق الباب ودخول والدته بصينية الطعام أوقفته، وقف ثم تقدم منها وأخذها بابتسامة وهو يشكرها بسبب اهتمامها الشديد به هو وصديقة ثم أغلق الباب خلفه وعادت أدراجة أمام التخت ووضع فوقه الطعام وهو يقول باستياء: كُل كُل وذاكر ربنا يهديك..

اعتدل رامي جالسًا وقال وهو يقهقه: مش باكل بليل ودلوقتي مش اي ليل ده الفجر فاضل عليه ساعة ونص هتهزر كُل انت انت مِحتاج أكل عشان عمال تِتدح وسايبني كده ابويا هيعلقني وهيجوزني بنت من بنات حد شريكة في الشغل لو سقط وانا متأكد ان دى اخرتى..

قهقه صديقة ذلك البسيط الذي يضع كل قُوته وأماله في الدراسة كي يصبح شيءً ما في المستقبل ويخرج من تلك القوقعة التي يعيش داخلها، تناول الطعام بهدوء ثم غمز لقمة داخل الطعام وقف بدسها داخل فم رامي كي يصمت ويتوقف عن الحديث عن تلك الفتاة التي رأوها بمحض الصُدفة تركض وهما يسيران في الطريق قليلًا..
في منزل خليل..
صاح بغضب للمرة الرابعة وهو يرفُض رفض قاطع: أجي معاك فين عاد؟ اني مليش صالح بحاجة واصل!

تنهد الضابط بضيق وهو يضع يديه بخصره ثم قال بحزم: انا مليش دعوه بكل الكلام ده ياحج خليل انا معايا اعتراف ضدك ولازم تيجي معايا دلوقتي عشان نحقق معاك بهدوء بدل مستخدم معاك القوه..
ضرب كفيه معا وهو يُبرر بانفعال: تُعرف لو كان بيت الصعيدي اللي هجموا عليه كُنت اسدِج انهم يجيبوها فِيِّه لكن دول بيت الزناتي مليش صالح بيهم عاد؟

تنهد الضابط بيأسٍ ثم تقدم وأمسكه من ذراعة وأخذه خلفه وهو يقول بضيق: أعذرني ده شغلي وأوامر وانت لازم تيجي معايا دلوقتي..
توقف قُصيّ بالسيارة بعيدًا عن المنزل قليلًا وهو يلتفت حوله ثم أطفأ المُحرك وسأل عمّار الجالس في الخلف: هندخل منين وازاي؟

نظر خلفه عِندما لم يأتيه رد ليجد عمّار يرتكز بنظره على الخارج يحدق في شيءً ما، نظر إلى نفس المكان الذي ينظر لهُ ليبصر خليل وهو يسير مع الضابط حتى استقل السيارة معه ثم تحركت وسارت ليعلو صوت سرينة الشُرطة في أرجاء المكان مصدره صوتًا مدويًا في هذا السكون والظلام الدامس..

هتف بتعجب وهو يحملق به: مش ده هريدي؟ اتقبض عليه ليه كده مفيش حد جوا هنعرف نجيبها صح؟ عمّار، عمّار، عمّار، يامجنون، ترجل من السيارة وركض إلي الداخل خلف آدم عِندما وجد السيارة فارغة منهما وآدم هو الظاهر فقط، أين اختفي صاحب المصائب..

دلف عمّار من بوابة المنزل وهو يلهث من فرط التعب بعد محاولاته إلى الصعود من الحديقة وتسلق الشجرة لكنهُ لم يستطع الصعود قيد أنمله تحركة صعب جدًا ومن المستحيل أن يتحرك دون أن يشعر بتمزق لحمه داخل صدره..
تصلب جسده في بهو المنزل ظنًا أنهُ تم الإمساك به وستقوم حرب إن كان أحدًا يعرفة، لا يُريد تخيل هذا الآن، لكنهُ إطمئن عِندما سمِع صوت مُرتجف تابع إلى عجوز هرِم: مين انتِه؟

لم يلتفت ولم يرد بل هي من تابعت سيرها وهي تتوكأ على عصاها حتى توقفت أمامه لتشهق بتفاجئ وهي تقول بعدم تصديق: عمّار بتسوي ايه اهنِه؟

تنهد وهو يحدق بها إنها أم مريم الثرثارة المشهورة، رفع يده ومررها على وجهه وهو يصر على أسنانه في محاولة لتجاهل الألم الذي وصل لذروته وقبل أن يتحدث تحدثت هي بنبرة مترجية جعلته يتعجب من موقفها بعد إن تقدمت وأمسكت يده: ندى ياولدي إلحجها المُفتري معرِفش عمل فيها ايه إلحجها ان شاء الله تكسب وتستفاد، ولم يحتاج أن تعيد حديثها مرتين، تركها واتجه إلي الأعلى مباشرةً ظنًا أنهُ رُبما يركض لكن قدميه ثَقُلت فجأة بشكلٍ لا يوصف كأنها مُقيدة بكُتله حديدية وأصبح يجُرها خلفه كـ عبدًا مُنهك و ما يفصله عن الإنهيار ثوانٍ قليلة فقط..

تمسك بالدرابزون بقوة عِندما باغته دوار وبدأ يصعد على مهل وهو يتألم أكثر فأكثر و كنزته الصوفية التصقت عليه أكثر وامتصت الدماء التي لا تتوقف عن التدفق بغزارة..

أتت الخادمة من المطبخ وهي تحمل قدحي القهوة من أجل الضيف لكنها توقفت مُتعجبة وهي ترى أم مريم الخادمة القديمة العجوز تتوسط الأريكة وتتكئ على مُقدمة عصاها براحة يدها شاردة والهمِ مُرتسم على ملاح وجهها الحاني البشوش، فهي كانت نائمة في فِراشها كما اعتقدت!.
وضعت الصينية فوق الطاولة وسألتها باستفهام وهي تتلفت حولها بشكل دائري: واه سيدي خليل والجدع فين عاد؟

هزت أم مريم رأسها بجهل وهي تزفر بإحباط ثم طلبت منها بهدوء: تعالي لِجيّ واقعدي جاري، أومأت محروسة وجلست بجانبها وظلت صامتة قليلًا لتقطع أم مريم الصمت قائلة: لافيني الجهوة ديّ بدل ما تبرد اهي جات لصاحب نصيبها..
قهقهت محروسة ثم ناولتها قدح القهوة برفق وهي تبتسم لتشهق بخضة عِندما رأت ذلك الغريب يقف أمامهما..

صرخت به بعنف وهي تحذره بسبابتها كي لايقترب اكثر: وجف عِنديك! دخلت كيف؟، ثم صرخت وهي تهتف بأسم الغفير بغضب: انت يازفت يابسطويسي روحت فين يجيك خابط ياخد اجلك بدري..
قهقه قُصيّ وهو يضيق عينيه ثم قال بهدوء: مفيش حد برا للأسف و دلوقتي بـ، وصمت عندما شعر برأس البُندقية توضع خلف ظهره مع قول الغفير بتهكم: ارفع يدك فوج، مين انتِه؟

زفر قُصيّ ورفع يديه وهو يتساءل عن ذلك اللعين الذي ظهر الآن من أين أتي وآدم ألا يُراقب الطريق في الخارج! كيف مرّ هذا؟.
أعاد بتهديد وهو يوكزه بظهره بقوة: وريني خِلجتك ديّ هعمل ايه بجفاك عاد؟
ابتسم بعصبية وهو يأخذ شهيقًا طويلًا ثم كور قبضته والتفت سريعًا وأمسك طرف البندقية بيد وبالأخري عاجلة بلكمة جعلته يترنح ثم ضربة بمؤخرة البُندقية فوق رأسه أفقده الوعي..

ابتسم بسخرية ثم قال باستخفاف وهو يحدق في جسده: مش بتاكل ولا ايه يا برميل الطُرشي؟
حملت محروسة قدح القهوة الأخر وابعدته عن الصينية ثم رفعتها كي تضربه بها على رأسه لكن تعلق ذراعها في الهواء عِندما التفت وصوب تجاه قلبها وهو يرفع حاجبيه وعينيه مُعلقة على الصينية! هل ستفقده الوعي بهذه؟ إنها امرأة بعقل جاموسًا!
تحدث مُحذرًا بنبرة متهكمة: نزلي البتاعة دي وروحي اقعدي جنب سِتك خلصي..

أومأت بخوف وهي تعود أدراجها على الأريكة بجانب أم مريم التي كانت تراقبه بهدوء وهي ترتشف من القهوة بين الفنية والأخرى كأنها تشاهد عرض مسرحيّ أمامها..
ابتسم قُصيّ وهو يُراقبها ثم قام بتحيتها باحترام: منورة يا تيته..
ردت عليه بابتسامة هادئة: بنورك يا ضنايا..
وكزتها محروسة بذراعها كادت تسقط منها قدح القهوة وهي تقول بخفوت: واه هيجتلنِه وانتِ عاترحبي فيه ولِّيه شكلك خرفتي!

وبختها بحده وهي تحدق في يدها: كك جطع يدك يا بهيمِه انتيّ مالكيش صالح بدل ما اخليه يجتلك دِلوك يا كلبه خليل انتيّ بَعدي عني بَعدي..
أمرها بحده وهو يصوب على رأسها تلك المرة: قومي من جنبها اقعدي في حِته تانية يا كلبة هريدي قومي..
انصاعت لأوامره وجلست على مقعد بجانب الاريكة وحدها وقلبها ينبض بخوف تفكر فيما سيحدث حتى قطع ذلك الصمت سؤال قُصيّ: هو اتقبض عليه ليه؟

شهقت محروسة وهي تضرب قلبها بيدها بخضة: سيدي انقبض عليه؟
ابتسمت أم مريم وقامت بالدعاء بتمني وهي ترفع يديها عاليًا معًا: الهي مايرجع ابدًا ولو رِجع ينفِجِد في نجره مايعرفوا يطلعوه مِنيها الا وهو جِته..
قهقهة قُصيّ وهو يراقبها ثم صرخ بالفتاة فجأه أفزعها وكاد قلبها يتوقف من الخوف: سرحانة في ايه؟
هزت رأسها سريعًا وقالت بتلعثم جعلته يضحك وهو يراقبها بتسلية: مفـ، مفيـ، مفيش، مفيش..

بينما في الأعلى توقف عمّار أمام الغرفة لاهثًا وهو يتفصد عرقًا بغزارة، أسند جبينه على الحائط قليلًا وهو يغلق عيناه بقوة ثم رفع رأسهُ وولج إلى الغُرفة بهدوء وهو يسير ببطء وما أن لبث حتى انشطر قلبه وتوقف محله وظل مُتحجرًا وهو يحملق في جسدها المسجي أرضًا بتلك الحالة المُزرية والملابس المُتسخة و كنزتها الممزقة تمزق بسيط من على ظهرها بسبب السوط الذي رصدته عيناه بجانب جسدها وهي فاقدة للوعي كـ جثة هامدة لا تتحرك، ماذا فعل بها اللعين؟ حتى وجهها عجز عن رؤيته بسبب شعرها المُتناثر الذي أخفاه وتلك، هل هذه القلادة لقد وجدتها؟!.

استفاق على صوت طلقة نارية لا يعلم مصدرها لكنها حثته على الإسراع رُبما عاد خليل..
هرول وجثى على ركبتيه أمامها بلهفة ثم أمسك ساعدها ووضع سبابته والوسطي فوق رِسغها حتى التقط نبضها بصعوبة بالغة إنه ضعيف جدًا، إنحنى أكثر أمام وجهها وهو يكاد يبكِ من حالتها الرثة المدميه لقلبه ليجد أنفاسِها ثقيلة بالكاد كانت تخرج مُتقطعه..

أبعد خصلاتها المبعثرة التي أخفت وجهها عنهُ بأنامل مُرتجفة وهو يهمس بإسمها بأسف: ندى، لا رد
ابتلع غصته وهو يخرج زفيرًا حارًا مشتعلًا كما هو الحال مع قلبه المتألم لرؤيتها بتلك الحالة من جديد بعد مرور كل تلك السنوات..

نظف وجنتها المتسخة من الأتربة بـ كُم كِنزته وهو يزدرد ريقه بصعوبة غير مُتجاهل ذلك الجرح في منتصف وجنتها الذي صنعه والدها بأظافره ثم صفع وجنتها بخفة كي تستفيق وهو يهتف باسمها: ندى، ندى، ندى، لكن لا وجود لأي ردة فعل..
التقط القلادة الملقيه ووضعها داخل جيب بنطاله ثم ضع يديه أسفل فخذها والأخرى خلف ظهرها وحملها وهو يقف بها أثناء تقليص ملامحه بألم لستقر رأسها فوق قلبهُ مباشرةً..

اخترقت تلك الرائحة المألوفة أنفها وهي تشعر بتلك النبضات الضعيفة أُسفل أذنها وتلك الأنفاس الحارة الواهنة تضرب قمة رأسها والدفء يحوطها! بالتأكيد لن يكون هذا والدها، والدها! والدها!
انتفضت بين يديه وتحركت بهستيريا وهي تشهق ليكتم هو تأوهه إثر حركتها وتابع سيره بتعب لكنها صرخت بصوت مبحوح عِندما أبصرته دون أن تستوعب وجوده بعد وهي تمسك ياقته بضعف ثم سألته بخوف: نادين، نادين بنتي فين؟

هز رأسهُ و طمئنها بهدوء وهو يتصبب عرقًا ناظرًا إلى وجهها الشاحب: كويسة، متخافيش عليها..
بكيت بحرقة وهي تتوجع أكثر بسبب حملها ووضع يديه فوق جروح جسدها وآلام معدتها التي لم تتوقف عن النبض بألم، لِمَ أيقظها لقد كانت مرتاحة إنها تتعذب هكذا! هل أتى كي يتشفى بها لأنهُ يُريد الإنتقام؟ لقد حصل والدها على انتقامه عِوضًا عنهُ على أكمل وجه فما أجمله إنتقام..

سألتهُ بصوت مبحوح لائم وهي تنظر له: انا قولتلك سيبني امشي قولتلك سيبني، مبسوط دلوقتي؟
هز رأسهُ بألم ثم إعتذر بصدق مُزِج بالندم: أنا آسف، بجد آسف..
ألقت رأسها على صدره من فرط التعب وهي تتابع وصله بكائها قائلة من أعماقها وهي تتحرك بين يديه: أنا بكرهك يا عمّار بكرهك، انت ايه اللي جابك؟ ايه اللي جابك؟ مش عايزاك تساعدني مش عايزة منك حاجة، نزلني نزلني..

تأوه بألم وهو يترجاها كي تتوقف: هخرجك من هنا متخافيش واهدي هخرجك والله، لكنها هزت رأسها بهستيريا وهي تتحرك بين يديه جعلته يسقط جاثيًا بها على ركبتيه وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة..

ابتعدت عنهُ وهي تحبو بوهن حتى وصلت إلى تلك الزاوية وتكورت على نفسها بجانب الخزانة تنتظر عودة والدها وظلت تبكِ وهي تدفن رأسها بين قدميها بخوف تحت نظراته الممزوجة بالندم والأسى والخوف وعدم التصديق، هي خائفة بشكلٍ لايوصف، لا بل مُرتعبة وليست خائفة فقط..

إن أبشع شيء قد رآه في حياته على مر تلك السنوات هو رؤيتها بذلك الضعف والخوف وهو عاجز حتى عن تهدئتها، ستظهر فقط مشاعرها الحقيقة في تلك المواقف وكما يرى هي تكرهه وليست تمزح ولا تسخر، هو لم يفعل شيء تلك الفترة سوى إعطائها أسبابا كي تكرهه أكثر..

تقدم منها بوهن وهو يتحامل على نفسه ولا يعلم إلى متى سوف يصمد وهي لا تُساعدة، إنها مُتعَبة ومُتعِبة، و يشعر أنهُ فقد السيطرة على جسده ولم يعد يستطيع أن يتحكم به و بحركته ولا يعلم الخُطوة القادمة أين سيضع قدمه..

ترجاها بوهن وهو يمسك يدها بين يديه المُرتجفة فالألم يفتك به: متخافيش هتخرجي وهترجعي قومي معايا، ضغطت هي على يديه وترجته بخوف غلب عليه اليأس: امشي انت من هنا لو جِه وشافك هيتأكد من شكوكه وهيقتلني والله هيقتلني امشي انا مش عايزة امشي ولا اخرج من هنا كفاية عندي إن نادين تبقي كويسة وبعيدة عنهُ مش عايزة حاجة اكتر من كده امشي بقى امشي..

هز رأسه نفيًا وإقترب منها أكثر ثم وضع يده خلف ظهرها من جديد كي يحملها لكنها تأوهت وضربت صدره بقبضتها بقوة أكثر من مرة وهي تبكِ جعلته يبتعد وهو يتأوه بقوة وصوت مسموع، وضع يده فوق صدره وهو ينحني ضاربًا الأرض براحة يده وهو يضغط على أسنانه من الداخل بقوة استوقف بكائها وجعلها تنظر له لوهلة لتتذكر ماحدث قبل أن تأتي والسبب في كونها هربت كيف تنسى!، حالته بالتأكيد خطر كيف جاء بتلك السهولة؟ لن يصمد أمام والدها إن تشاجرا..

عادت للإنتحاب من جديد وهي تقول بحرقة وخوف: هيقتلنا احنا الاثنين هيقتلنا احنا الاتنين هيموتك يا عمّار هتموت..
رفع وجهه شديد الإحمرار وهو يشعر بالدوار يداهمه من جديد، وضع رأسه بين يديه وضغط عليها بقوة كي يتخلص من الدوار لكنهُ كان يزداد أكثر وعيناه أصبحت زائغة والرؤية بدأت تتلاشى لديه شيءً فشيء..

رفع جذعة واحتضن وجهها بين يديه برفق كي لا تتألم فأثار الضرب ظاهرة على وجهها بوضوح ثم قال مُتحدثًا بألم مُبرح: هتخرجي من هنا متخافيش لازم تمشي مش هسيبك ليه تاني انتِ فاهمة ولا لأ؟ مش هسيبه يعمل فيكِ زي ما عمل زمان وخليكِ عارفة ومتأكده إني مهما أذيتك ومهما قِسيت عليكِ مقدرش استحمل اني أشوف حد غيري بيعمل فيكِ كده مقدرش عشان خاطري قومي معايا..

أمسكت يده بارتجاف وابعدتها عن وجهها هي تبكِ بحرقة وعِبراتها لم تتوقف عن الانسياب بغزارةٍ قط وهي تقول بانهيار: عشان خاطري انت امشي هو مش هيسبني وهيفضل يدور عليا حتي لو كلفه كل ده طول حياته ولله مش هيسبني أنا عارفة لو هربت هيجبني تاني..

عاد وأحتضن وجهها بين يديه بخفة من جديد كي لا تتألم ثم أبعد خصلاتها الثائرة بحركة سريعة إلى الخلف وقال بصدق وهو ينظر داخل عينيها الحمراء المتورمة التي انطفأ بريقها ولم تعد عسليتاه! بل غلب عليها اليأس ولم يعد يري بها سوي الإنكسار: لو هربتي انا هحميكِ منه مش هسمحله يقرب منك تاني..

هزت رأسها بنفي وهي ترتجف بخوف ثم قالت بنبرة أدمت قلبه: انا مش بثق فيك وبكرهك، توقف عن الحركة لوهلة ثم نظر لها نظرة لم تستطع فهمها، فهي معها حق وهو عاجز أمامها الآن فماذا يقول بعد قولها هذا؟ من المفترض أن يجعلها تثق به في هذا الظرف لكن كيف؟
ابتلع غصته ثم سألها بهدوء وهو ينظر لها: طيب ونادين؟

توقفت عن البُكاء لوهلة ونظرت لهُ ثم عادت تنتحب مُحاولة الصمود وعدم الإغماء وهي تقول بذعر حقيقي: انا خايفة، خايفة..
لم يستطيع كبح رغبته في معانقتها وجعلها تطمئن
أكثر من هذا، فسحبها من مؤخرة رأسها وضمها إلى صدره بقوة غير مُكترثًا بألمه فألم جسده لا يُضاهي شيءً في ألم قلبهُ وهو يرى حالتها، لقد تأذت بشدّة، وهي تأذت يعني هو تأذي..

بكت على صدره بألم كما لم تبكِ من قبل وهي تنتفض بقوة، ووجب عليه أن يحوطها في هذا الوقت، حتى إن لم يُجب سوف يُعانقها، أحاطها بذراعيه بخفة كي لا تتألم وعيناه ظلت معلقة على ذلك السوط الملقي بأسى، لقد فعلها البغيض وعذبها بشناعة مُجددًا..
همس بحنان وهو يربت على شعرها مُتجاهلًا ثوران قلبهُ: انا وعدت نادين اني ارجعك وهي مستنياكِ ولازم اوفي بوعدي..
هل أتي من أجل نادين فقط كي يوفِ بوعده وليس من أجلها؟

ابتعدت عنهُ وهزت رأسها بإيماءة بسيطة وهي تراه مُشوشًا أمامها ثم رفعت يدها بتعجب وهي تقطب حاجبيها عِندما شعرت بذلك البلل فوق جبهتها لكن ذراع عمّار الذي امتدّ ومحي أثار تلك الدماء براحة يده أوقفها وهو يقول: مفيش حاجة ده دم مِني..

هزت رأسها بتفهم وهي تحدق في صدره ولم تخفي القلق الذي ظهر جليًا في عينيها لبرهة ثم اختفي سريعًا فـ بالتأكيد يتألم ويقاوم كي لا يفقد الوعي بجانبها، استفاقت من شرودها بتيه على قوله برفق: يلا!
أومأت وهي تهز رأسها بعدم اتزان قائلة بوهن وهي تشعر بغثيان ما قبل القيء: انا هقوم، هعرف امشي..

أومأ واستند على الحائط كي يدعمه في الوقوف وهو يقاوم ويقاوم فكرة الاستسلام ليجدها توقفت عن الحركة وظلت تتقيء وهي تضع يدها على معدتها..
دب الرُعب في قلبه ظنًا أنهُ جعلها ترتشف سُمٌ قاتل عِنوة وترياقها وخلاصها من الموت معهُ هو فقط كي يضمن عدم هروبها! فهو خبيث ويستطيع فعلها يستطيع فعل أكثر من هذا..

جلس القرفصاء بجانبها وسألها بخوف وهو يحملق في وجهها المصفر وعيناها الزائغة التي تغلقها بضعف وهي تجاهد لإلتقاط أنفاسها: شرّبك حاجة؟
هزت رأسها بوهن وهي تضع يدها على معدتها قائلة بنبرة مُرتجفة وهي تتنفس بصعوبة: لأ، ضربـ، ضربنـ، وفقدت الوعي محلها قبل أن تكمل بقية جملتها..
في الأسفل، كان قُصيّ يجلس على الأريكة بجانب أم مريم يسند وجنته فوق راحة يده الموضوعة فوق البندقية يستمع إلى قصة حياتها بتركيز..

قال باستياء وعدم رضى: بس برده مكنش ينفع تفضلي معاه بعد ما خانك يا تيتة فين كرامتك!
تنهدت وقالت بمكر ممزوج ببعض التوبيخ لهُ: اكدِه هخسر كل حاجِة واني مش غبيِة يا واد ده اني فضلت معاه لحد ما نحلت وبره وجِبت خبره ومات وريح واستريح وكوشت على كُل حاجِة والخاينِة نابها ايه؟
رفع رأسه وسألها باهتمام وهو يرتشف من قدح القهوة الآخر: ايه؟
قالت بعصبية: نابها عوزرُج ومهبب الرخيصة اللي مالَجت اللي يلمها..

قهقهة ثم سألها باستفهام: يعني حصلها ايه في الاخر ماتت ولا ايه؟
تنهدت وقالت ببعض الحزن: متحملتش فُراجة وماتت بعديه بـ سُبوع واحد ودِه اللي جاهرني سرجِتُه دُنيِه وأخرِه الجادرة حتى جهنم ياولدي هيدخلوها ويا بعض..
قهقهة بخفة وهز رأسه متفهمًا ثم سألها باستفهام: انتِ مش خايفة مني؟

ضحكت بتقطع وهي تسعل ثم قالت بهدوء: اخاف من ايه عاد مش هموت ناجصة عُمر، وبعدين يا ولدي مش هعيش كَد اللي عشته عشان اكدِه متوكلة على لله ده جدر ومكتوب على الجبين واللي مكتوب على الجبين هتشوفة العين، ثم ابتسمت واسترسلت بخبث: اني عارفِة انك تبع عمّار يا واد..
ابتسم وقال لها بوِد: ونعم بالله يا تيتة انا بجد مبسوط عشان اتكلمت معاكِ ما تيجي معايا مصر..

ضيقت عينيها وهي تنظر لهُ ثم قالت بازدراء: بس ياواد يامزبلح انتِه..
ضحك بتسلية وهو يتذكر قول نسمة لهُ هذا عِندما حملها في منزل عمّار ليقول بتسلية: للدرجادي سمعتى سبقاني؟.
ألقى نظرة خاطفة عليها وهي تجلس على المقعد محل محروسة، فهي خرجت من غُرفتها ركضًا بهلع عِندما سمعت صوت الطلق الناري كي تري ما يحدث في الأسفل رُبما تتحقق أُمنيتها المستحيلة ويُقتل خليل..

لكنها تفاجئت بـ محروسة فاقدة للوعي من فرط الخوف بسبب قُصيّ الذي لم يكف عن العبث وارعابها، ثم تتفاجئ به وهو يهددها قائلًا أن تجلس مكانها بصمت دون التحدث وقد انصاعت لأمره وظلت جالسة تستمع إلى قصة أم مريم التي سمعتها ألاف المرات وهاهي جالسة تستمع لها من جديد بكل تفصلية بسبب حماس ذلك البغيض..
أردف بابتسامة وهو ينظر لها: منورة يا نسمة يا مُزة.

حدجته بنظرات نارية ثم ابعدت نظرها عنه بغضب ليقول بعبث: عارف اني مش عمّار بس اهو نصيبك كده!
تجاهلته غير مكترثة إلى حديثة لكنها شهقت عندما شهقت أم مريم بعد إن فهمت حديثة ثم قالت بتوبيخ: ياوجعتك المربربة يا حزينة، خليل عايدفنك لو عرف حاجة واعره زي ديّ!
ضمت قبضتها بغضب ثم نظرت إلى قُصيّ بكُره ليقول بأسف وهو يهز كتفيه: فضحتك! اني اسف اصلي مش بحب الخيانة يا نسمة معلش بقي..

كادت تتحدث لكنها سمعت صوت خُطوات فوق الدرج نظرت خلفها لتبصر عمّار يهبط الدرج وهو يترنح حاملًا بين يديه ندى..

ألقي قُصيّ البندقية من يده وهرول إليه بقلق، أخذها من بين يديه بحرص وهو يرى نظرات عمّار المتلهفة عليها ويعلم أنهُ لو كان بخير لم يكن ليتركه يحملها عنهُ! لم يكن ليجعله يلمسها حتى، سار بها إلى الخارج كي يضعها في السيارة ليجد آدم يجلس في الخارج يسند ظهره على الحائط يعبث في هاتفه وهو يرتجف من البرودة..
وبخه قُصيّ وهو يضرب قدمه بضيق: إنت يا حلوف قاعد بتلعب كاندي زفت وسايبنا جوا؟

وقف بتفاجئ ثم هرول خلفة وهو يقول بضيق: اتأخرتوا جوا وانا واقف برا هتلج هعمل ايه يعني عشان اشغل نفسي؟ فين عمّار؟ وهي كويسة ولا لأ؟
في الداخل..
أمسكت نسمة ذراعه وقالت بترجي وخوف: متهملنيش اهنِه ابوس يدك عايجتلني لو رِجع وملجهاش..

أبعد يديها عنهُ ثم ضرب جبهته بجبهتها حتى تفقد الوعي لكنها لم تكن بتلك القوة فقط تأوهت وهي تنظر لهُ بتعجب!، لهث وهو على وشك أن يفقد الوعي ثم مدّ يده إلى رقبتها وقال بوهن: انتيّ متعرِفيش ولانضرتي حاجِة حد هجم عليك غريب متِعرفهوش، ثم ضغط على عرق معين في رقبتها أفقدها الوعي وتركها تسقط أرضًا ثم نظر إلى أم مريم ليجدها تقف من نفسها وهي تقول بهدوء: متعتلش هم ياولدي ولا كأني نضرت حاجِة واصل أني رايحة اجعد في فرشتي زي ماكُت ولا مِنشاف ولا مِن دِري..

أومأ لها بامتنان ثم انحني وأخذ الوشاح الخاص بـ نسمة والتقط البُندقية ومحي أثار بصمات قُصيّ من فوقها ثم وضعها بأحضان الغفير وقذف الوشاح على نسمة وغادر..

تنهدت أم مريم وسارت وهي تتوكأ على عصاها لتجد الغفير بدأ يتحرك و يستفيق على مهل، رفعت عصاها الغليظة ثم هوت بها فوق رأسه جعلته يعود إلى النوم مرة أخرى وهي تقول بسخط: نام جاك خابط ياخد خبرك، ثم تابعت سيرها لكن توقفت وظلت تُحملق في قدحي القهوة قليلًا وهي تقطب جبينها المُجعد..

رفعت عصاها وضربتهم بقوة بقدر ماستطاعت ثم دفعتهم من فوق الطاولة مع الأطباق الخاصة بهم جعلتهم يسقطوا وتتناثر شظايا الزُجاج هُنا وهُناك..

استقل السيارة بجانب ندى على المقعد الخلفي ثم رفع رأسها وأراحها على فخذه بخفة وسمح لنفسه أن يحتضن كفها بين يديه وأراح رأسه إلى الخلف وهو يغمض عيناه بتعب مُفرِط مُستسلمًا إلى الإغماء وهو يضغط على كفها بخفة لكن المُزعجان ظلا يتشاجران طوال الطريق بسبب دخول الغفير دون أن يراه آدم!، فأقسم لهُ أن لا احد مرّ وبالتأكيد كان في الداخل لكن قُصيّ لم يُصدقه وظل مُصرًا على كونه مُهمل وهو ينعته باسمة الجديد نادية..

توقف قُصيّ أمام المنزل، ترجل من السيارة هو وآدم بهدوء ليهرول آدم إلى تالين ونادين عِندما سقطت عيناه عليهما أمام البوابة هما والحقائب والخوف يحتل تقاسيم وجه كل واحدة منهما أثناء مراقبتها إلى الطريق بقلق..
حمل آدم الحقائب سريعًا وعاد بها إلى السيارة ثم وضعها داخل الصندوق الخلفي الذي فتحه قُصيّ وأغلقه وهو يزفر براحة..

بينما داخل السيارة قبّل عمّار راحة يدها بنعومة وهو يتفحصها بأسف لأن حالتها سيئة ويصعب عليه تركها في تلك الحالة لكن هذا هو الحل الأمثل والمؤقت المُناسب لهذا الوقت! قبّل جبهتها وخضراوية تتوهج بذلك الإصرار والحزم ويُقسم أنهُ سيجعلها تثق به وتحبهُ في يومٍ ما بالتأكيد..

ترك يدها ثم مسح على شعرها بحنان وهو يتأملها جيّدًا لأن هذا اليوم وتلك الدقائق السيئة لن تنمحي من ذاكرته مهما حيا، فتح باب السيارة وترجل منها لتصطدم نادين بصدره بقوة بسبب اندفاعها عليه من جديد فهو سيموت اليوم بسبب تلك الصدمات..
عانقته بقوة وهي تقول بأعين دامعة ممتنة: بجد شُكرًا يا عمّار، ثم تركته واستقلت السيارة بلهفة..

ابتعد عن السيارة ثم قال إلى قُصيّ وهو ينظر حوله بقلق: روح معاهم يا قُصيّ و تبقي طمني عليها..
حرك قُصيّ رأسه بعدم فهم وهو يرمش ثم سأله مُستنكرًا: أروح معاهم فين؟
تحدث بصعوبة بالغة وهو ينحني بألم واضعًا يده فوق صدره: مش هقدر ابعتهم مع حد من هنا وانا مطمن روح معاهم انت..
حدق في السيارة قليلًا ثم قال معترضًا: بس دي مش عربيتي بتاعتك انت هيتشك فينا؟

رد عليه بصعوبة: مش، مش، مهم، كـ، كأننا بدلنا، هجبهالك انا بس لازم، تتحرك دلوقتي، بسرعة يا قُصيّ..
أومأ موافقًا ثم قال له بقلق: بس انت مش كويس؟
تضاعف ألمه وهو يقول بانفعال من وسط أنفاسه المتلاحقة: هبقي، كويس آدم معايا امشي انت، أومأ سريعًا ثم ركض واستقل السيارة وانطلق بسرعة البرق وذهب من هُنا نهائيًا..

سقط عمّار جاثيًا على ركبتيه وهو يحدق في السيارة وهي تبتعد بعين زائغة ونظرات مُشوشة كان عاجزًا عن الرؤية بوضوح بسبب غشاوة عيناه والدوار الذي داهمة حتى تلاشى كل شيء ولم يعد يرى سوى الظلام الذي ابتلعه..
في القاهرة وتحديدًا في السادسة صباحًا..

ترجلت عشق من سيارة الأجرة وهي تبتسم بسخرية أثناء سيرها في تلك الحارة الشعبية التي سخرت من قُصيّ بسبب كونه تزوج جـنّـة من هُنا! وهاهي هُنا بنفسها قد أتت بقدمها كي تبحث عن شقة كي تستأجرها، شقة ذات نفقات متدنية لأن الأموال التي معها لن تكفي للمكوث بفندق ولا تعلم كم الوقت الذي سوف تقضيه وهي لا تفكر أن تتخلى عن قلادة والدتها مجددًا لهذا لن تبذر وسوف تكون حريصة، فتلك المرة قُصيّ لن يكون هُنا كي يستعيدة من أجلها! ولا تشترط شقة رُبما تأخذ غُرفة أي شيء كي تبتعد عن قُصيّ فهو لن يخطر لهُ أنها قد تأتي إلى هُنا ولو بمحض الصُدفة، لكن هي من تناست الشبه بينها وبين جـنّـة وأتت في منطقتها..

تلفتت حولها بتيه ولا تعلم أين سوف تكون وجهتها القادمة فقط ظلت تسير وهي تراقب النساء التي تسير هُنا وهُناك، منهن من كانت تشترى الفطور من أحد المطاعم الشعبية ومنهن من كانت تتسوق وتشتري الخضروات الطازجة قبل الزحام، وعلى الجانب الآخر كان هُناك من يُنظف متجرة كي يفتحه في هذا الصباح المُبكر وأخر كان يقوم بِرش المياه بعد انتهائه من التنظيف، وهُنا تحديدًا أمام المقهى وأثناء انشغال الصبي بالعمل وهو يخرج المقاعد ويقوم بِرصِها بجانب بعضها البعض كان صاحب المقهى ومالك أحد البنايات أيضًا يقف بجانبه يتفحص تلك الغريبة بنظراتٍ مُستفهمة؟ أليست تلك جـنّـة ابنه مسعود الذي لا يبرح محله ويتحرك من أمام المقهى؟ ماذا حدث لها؟ اين حجابها وملابسها المُحتشمة وعفتها؟

سارت مُبتعدة عن منزل جـنّـة حتى أنها لم تلقي عليه نظرة واحدة وهذا جعل الرجل يتعجب، تقدم منها وهو يقطب ما بين حاجبيه رُبما ليست هي وهو مُخطئ..
استوقفها في منتصف الطريق ثم سألها باستفهام عِندما نظرت له بوجهها الشاحب بارتياب: انتِ بتدوري على حد يا أنسة؟
هزت رأسها بنفي ثم ردت عليه بتعب: أنا بدور على شقة إيجار أو اوضة هلاقى هنا؟

هز رأسهُ موافقًا ثم قال بهدوء: أنا عندي عمارة بسكِنها وفي شقة فاضية الاسبوع بـ خمسميت جنية والشهر ألفين..
اتسعت عيناها من المبلغ ثم نظرت حولها تبحث عن تلك العمارة المُبهرة التي تستحق كل هذا في أسبوعٍ فقط لكنها لم تبصر شيءً من تشوش نظراتها وشعورها بالغثيان فقالت بوهن: بس دي غالية اوي!
ردّ بهدوء وثقة: دي انضف عمّارة ممكن تلاقيها في الحارة المعفنة دي وزي ما انتِ شايفة البيوت عاملة ازاي هنا..

قالت بخفوت وهي تطرق رأسها: مش عايزة أنضف حاجة انا!
سألها بعدم فهم: بتقولي حاجة؟
هزت رأسها بنفي ثم أومأت وهي تفكر بـ همٍ ثم سألته بحزن: هي العمارة دي فين؟
قال بهدوء وهو يستدير على عقبيه مأشرًا على زقاق جانبي: في الحارة الثانية مش هنا..
تنهدت براحة ثم قالت موافقة: كويس ماشي أنا موافقة ممكن توديني هناك دلوقتي..

أومأ وسار أمامها وهي خلفه بهدوء تجر حقيبتها الصغيرة خلفها، فهي كانت ستذهب إلى شقة قُصيّ كي تأخذ بقية ثيابها لكنها أبت أن تذهب، بالرغم من أنها متأكده أن قُصيّ لن يأتي خلفها لكنها امتلكت بصيصًا من الأمل اتجاهه في كونه رُبما قد يأتي سعيًا خلفها لهذا لم تذهب لكي لا تجده و يضعفها بكثرة رجائه كي تبقى معهُ، ورُبما لم يكن ليحدث أيًا من هذا وتتعرض إلى الخُذلان عِندما لم تجده لهذا فضلت تركه نهائيًا حفاظًا على ما بقي من كرامتها و إيقاف ألم قلبها المُنهك..

صعدت خلفه الدرج وهي تتفحص طلاء الحوائط و الدرابزون والدرج كي تعطي نفسها سببًا ومُبرر كي تنفق تلك الأموال بنفسٍ راضية دون أن توبخ نفسها فيما بعد، هو معهُ حق أنها بناية جيّدة وبالتأكيد الشقة رائعة وهذا جعلها تتساءل بنفسها عن نفقات الشقة الراقية الخاصة بقُصيّ والخاصة بـ جاسم هي لم تكن تفكر في الأموال قبلًا لكن لايبدو أنها رُبما تكون بسعرٍ بخسٍ على الإطلاق..

توقف في الطابق الثاني أمام باب الشقة المطليّ باللون البنيّ ثم قام بإعطائها المفتاح بهدوء وقال: نص ساعة وهجيب العقد وجاي..
أومأت لهُ بهدوء ثم قالت ببعض الرجاء استوقفته: معلش ممكن تأجلها لبكرة عشان تعبانة؟

أومأ موافقًا وقال بهدوء: مفيش مشكلة، ثم استدار ليذهب لكنها استوقفته عِندما قالت بارتباك: بالنسبة للعقد أنا هخليها أسبوع بأسبوع عشان احتمال كبير أسافر و الفلوس هدهالك آخر الأسبوع أول الشهر أكون قبضت من شُغلي يعني متهيألي العقد مالهوش لازمة وشكلك راجل محترم، موافق؟
رمش قليلًا وهو يفكر حتى ظنت أنهُ سيرفض لكنهُ قال بهدوء جعلها تتعجب منه: مفيش مشاكل موافق بس يا أنسة انتِ مالكيش قرايب هنا في المنطقة؟

هزت رأسها بنفي ثم نظفت حلقها وقالت بهدوء مُقنع: لا مليش، أنا جوزي شغال في دبي ومستنية لما يبعتلي عشان أسافر له وهو هيبعتلي الأيام دي وبصراحة الفلوس اللي معايا قليلة ومقدرش أقعد في فندق عشان كده جيت مكان زي ده بالصدفة وانا بدور علي شقة للإيجار..
سألها باستفهام وهو يفكر: وجوزك ده مش متجوزك في شقة؟

ابتسمت بارتباك تداركته سريعًا ثم قامت بتأليف تلك القصة: لا اتجوزنا في شقة بس كانت وِرث، فـ بعها عشان يسافر علي اساس انه يشتغل ويدي لكل واحد من اخواته حقه نقدي بس اكتشفوا انه باعها في الوقت اللي كُنت قاعدة فيه مع واحده منهم عشان مبقاش لوحدى بس اول ماعرفوا طردوني وانا مش معايا غير فلوس قليلة علشان كده بدور على حاجة رخيصة في مناطق زي دي لحد ما يبعتلي..

هز رأسه مُتفهما ثم قال بهدوء: تمام متقلقيش كُلنا هنا اخوات خدي راحتك انا المعلم يوسف..
هزت رأسها وهي تبتسم لهُ بخفة ليبادلها ابتسامتها بأخرى هادئة ثم استدار على عقبيه وذهب ومازالت الابتسامة تعتلي ثغرة..

أغلقت عليها من الداخل وهي تزفر بقوة فـ قلبها كاد يتوقف عِندما سألها هذا السؤال هل لاحظ الشبه بينهما؟! هي فقط كذبت كي لا يطمع بها ويظن أنها ثرية ومعها أموالًا طائلة، حتى أنها سوف تعطية أمواله بطريقة متقطعة كي يجزم أنها لاتملك أموالًا، هو يبدو رجل اربعيني لكنهُ جيّد ولا يبدو عليه كونه ماديًا حتي أنهُ لا يرتدي عباءة بل بنطال وقميص ويبدو راقي قليلًا لكن تلك الابتسامة التي بادلها إياها في النهاية لِمَ كانت تبدو كمن وجد حُب حياته فجأة هكذا؟!

تنهدت ثم ساقتها ساقيها إلى أقرب غُرفة وجدتها كي ترتاح لأنها متعبة وتريد النوم بشدّة، عِندما تستيقظ تستطيع أن تتفقد الشقة لأنها الآن لا تملك طاقة كي تسير أكثر من تلك الخطوات التي سوف توصلها إلى غُرفة النوم..
في هذا الوقت تحديدًا في أحد الفنادق الشهيرة..

ترجل جاسم من السيارة وهو يتأوه بعد إن وصل الآن مباشرةً، هو بالتأكيد لن يعود إلى المنزل بتلك الهيئة وهو قبل أن يُضرب كان يُخطط لعدم العودة الآن بسبب تلك الفتاة التي أغرقها بوابلًا من القُبلات المحمومة وهي ليست عشق ياإلهي كيف يواجهها وهي ليست عشق! وكيف سيواجه عشق بعد أن عجز عن التفرقة بينها وبين هذه هل سوف تسامحه على هذا الخطأ الفظيع؟! هو مُثير للسخرية!

هو لن يتوقف قط عن نعت نفسه بالغبي لن يتوقف لأنه يستحق، فقط كيف ستكون ردة فعلها عِندما تتذكر؟ ماذا ستفعل بعد تفكيرها بكل مافعلت معهُ هي الأخرى؟ حسنًا هو لا يعلم لكنهُ سوف يعلم قريبًا جدًا ورُبما المسألة مسألة وقتٍ فقط!
أخذ غرفة في الفندق ثم أخذ المفتاح واتجه إلى الأعلى مباشرةً دون أن يفكر في شيء فـ عقلة فارغ ويُريد النوم..

توقف أمام الغُرفة ووضع المفتاح بها وأدار المقبض ليلج إلى الداخل لكنهُ توقف عِندما صوت خطوات مُتعثرة تأتي من خلفه وغناء مُتقطع مُشوش تابع لشخصٍ ثمل بالتأكيد..
تجاهل هذا وظل واقفًا محله ولم يتحرك هو يراقبه بطرف عينه كي يعرف نهاية هذا وأين سيذهب ليجده توقف بجانبه فجأة وبدأ يطرق باب الغرفة المُجاورة لهُ!

أخرج المفتاح الخاص به من جيب بنطاله وهو يضحك وحاول أكثر من مرة أن يدخله لكنهُ سقط أرضًا من بين يديه، انفجر ضاحكًا ثم انحني والتقطه وحاول ادخاله من جديد وهو يقوس شفتيه لكنهُ عجز عن إدخاله فظل واقفًا محني الرأس يُفكر وهو يقهقه..
أخذه جاسم من يده بضيق دون أن ينتبه لهُ فيبدو أن عدم التعرف على الأشخاص تعد موهبة لديه..
فتح الغُرفة واستدار كي يذهب لكنهُ توقف مشدوهًا وأردف باستنكار: سامي!.

ضحك سامي وهو يترنح ثم عانقه وقال بثمالة: ابن العم حمد الله علي السلامة ياعريس..
تقلصت ملامح جاسم بتقزز وهو يستنشق رائحة فمه الكريهة فأبعده عنهُ وهو يسأله بحدّة: انت كُنت فين لحد دلوقتي وايه اللي مقعدك هنا؟
ضحك وهو يستند عليه بثقل جسده وقال بخفوت: عشان جـنّـة هنا براقبها، وظل يقهقه بتسلية وهو يضع رأسه فوق كتف جاسم جعله يبعده بعصبية وهو يصفع وجنته بغضب: فوق يا زفت عالصبح جـنّـة مين اللي هنا؟

تابع ضحكه وهو يدور حول نفسه ثم قال بصوت مُرتفع أشبه بالصراخ: النهارده فرحك متعرفش ولا ايه؟ حبيبة القلب الكذابة في الأوضة اللي قصادك ادخل شوف..
سأله جاسم بعدم فهم: فرح ازاي يعني؟ وبتعمل ايه هنا هي كمان؟
ضحك سامي بسخرية وظهر الحقد على ملامحه جليًا وهو يقول بغضب: ادخل اسألها اتفضل..

بينما داخل الغُرفة، كانت جـنّـة قد انتهت من حمامها الدافئ داخل المياة المُعطرة بالورود وهاهي الآن تقف أمام المرآة تُجفف شعرها وهي تبتسم بنعومة، فاليوم هو أجمل يوم في حياة كل فتاة، اليوم الذي ستصبح بهُ عروس جميلة، اليوم هو يوم زفافها..

هي لا تعلم كيف لخالتها أن تجعل جاسم يعود اليوم بالرغم من عدم مهاتفته لأحدٍ منهما طوال اليومين السابقين لكنها تثق بها وتُصدقها، لقد انتهت من كل التجهيزات وبقي فقط جاسم كي تكتمل سعادتها لهذا اليوم، فقط بقي بضع ساعات حتى تأتي الفتاة التي ستقوم بتجهيزها لأن الزفاف سيقام هُنا في هذا الفُندق..

تركت المُجفف من يدها وأغلقت مئزرها الثقيل فوق منامتها المكونة من بنطال يعلوه كنزه وردية ثم تقدمت من الخزانة المُعلق فوقها فستان الزفاف الناعم الرقيق المتماشي معها تمامًا وهي تتأمله بابتسامة رقيقة..

تحسستهُ ببطء كـ أثمن شيء إمتكلته في حياتها خائفة عليه من الخدش وهي تنظر له نظرة حالمة وعيناها تلمع كـ طفلة مُتحمسة، لقد بقي فقط بضع ساعات تُعد على أصابع الأيدي وتجتمع معهُ في غُرفة واحدة وتصبح زوجته دائمًا وأبدًا، هي تُحبه ولا تُريد شيء سوى أن تجتمع معهُ وتظل طوال حياتها بجانبه حتى تشيب وتصبح عجوز هرِم، إن حلمها بسيط، بسيط جدًا و يا ليته يتحقق بسلام..

تركه جاسم وتقدم من الغرفة وهو ينظر لهُ بشك ثم طرق باب الغُرفة بقوة وانزعاج لفكرة أنها هُنا وسامي هُنا مخصوص لأنهُ كان يراقبها حقًا!
تنهدت وهي تبتعد عن الخزانة ثم تقدمت من الباب وهي ترد بنبرة رقيقة خافته: نعم!، لم يأتها رد فتعجبت ثم فتحت الباب ببطء وهي تختبئ خلفه رُبما تكون خالتها فهي صوتها يخرج هامس أيضًا وقد تركتها مُبكرًا قائلة أنها ستذهب قليلًا وسوف تعود لها من جديد..

ضيقت عينيها ونظرت داخل الدائرة في مُنتصف الباب كي ترى من عِندما تأخر الرد م مع قولها بنبرة خافتة: مين؟
كاد يتحدث وهو يدخل رأسه من الفراغ القليل الذي تركته لكن الباب فتح فجأة على مصراعيه تزامنًا مع صوت صراخها بسعادة ثم قفزها عليه و معانقته بقوة وهي تحوط خصرة بقدميها: جاسم، حبيبي انت رجعت..

تنهد بـ همٍ وهو يضع يده خلف ظهرها بنعومة ثم دلف وأغلق الغرفة بوجه سامي الذي سوف ينجلط وهو يُراقب الغبي الذي لا يُصدق أنها ليست عشق..
قبلت جبهته بحنان عدة قُبلات ثم نثرت بقية قُبلاتها في أنحاء وجهه بشوق وهي تبتسم بسعادة ثم مالت على شفتيه لكنهُ أبعد رأسهُ إلى الخلف وانزلها بخفة وهو يبتسم لها ببهوت مُتجنبًا النظر إلى عينيها التي أخبرتهُ بحزنها العميق من تصرفاته الغير سوية معها بالمرة..

سألها باستفهام مُزج بتعجب وهو يُحدق بثوب الزفاف المُعلق: انتِ بتعملي ايه هنا؟
ابتلعت غصتها بألم وهي تنظر لهُ بلوم ثم سألته بنبرة مُرتجفة وهي تقاوم رغبتها الملحة في البُكاء: جاسم انت بتعاملني كده ليه؟
مرر أنامله داخل خصلات شعره بعصبية ثم قال وهو يزفر بتقطع: ده مش سؤالي دلوقتي؟.

قضمت شفتيها بقوة وهي تبتلع حسرتها شاعرة بحرقة عيناها عقبها انهمارعبراتها الحارة بحزن فوق وجنتيها الناعمة ولم تتحمل أكثر فانفجرت باكية وهي تغمر وجهها بين يديها وهي تشهق بحرقة..
زفر وهو يدور حول نفسه في الغرفة ولا يعلم أيناديها بـ عشق أم جـنّـة كي تهدأ لا يعلم؟

علا صوت بكائها أكثر وهي تراه يراقبها دون حتى أن يهدئها ويمحي عبراتها كما كان يفعل سابقًا!، هو لم يكن يتحمل رؤيتها تبكِ قط والآن يُراقبها بأعصاب هادئة! من هذا؟ لقد أصبح شخصًا آخر عاجزة عن التعرف عليه؟، هي ماذا فعلت كي يُعاملها بتلك الطريقة الجافة بعد أن جعلها تحبهُ وتتعلق به؟!

كاد يتحدث بعد إن رتب حديث داخل عقله لكنها صرخت به بحرقة وهي تقول بقلب مُنفطر: لو مش عايزني قولي لكن متعاملنيش بالطريقة دي فاهم ولا لأ؟ انا مش هفرض نفسي عليك اكتر من كده!

ولم تعطيه فرصة للرد بل تركته وركضت إلى دورة المياة كي تغسل وجهها لأنهُ لا يستحق تلك العبرات ولا يستحق كل ذلك الحُب الذي تكنهُ لهُ. لكن قدمها كان لها رأيًا آخر عِندما انزلقت داخل دورة المياة المُبللة قبل أن تصل إلى صنبور المياة فسقطت أرضًا لتصطدم رأسها بالأرض الصلبة بقسوة ومن ثم فقدت الوعي..


مرت ساعات عصيبة عليهم في المستشفي وهم يجلسون في الخارج ينتظرون الطبيب أن يخرج من الغرفة و يطمئنهم على حال عمّار..
زفر آدم ووقف عن المقعد وأخذ يقطع الممرر ذهابًا وإيابًا بتوتر وهو يفكر بعمق حتى أخرجه من شروده صوت تالين العذب وهي تقول برقة: آدم جبتلك قهوة..
أخذها من يدها وهو يبتسم بامتنان ثم شكرها: شكرا..

أومأت بخفة وهي تبعد خصلات شعرها خلف أُذنها بتوتر ثم عادت وجلست محلها على المقعد بجانب حُسنة التي لم تتوقف عن ذرف الدموع بلوعةٍ قط..
طلبت منها تالين برفق: روحي انتِ واحنا هنطمنك عليه، انتِ تعبتي..
هزت رأسها برفض وهتفت بقلب منفطر وهي تبكِ بقوة حُزنًا عليه: مجدِرش أهمله مجدِرش..

عانقتها تالين بحنان وهي تزم شفتيها بحزن لتقع عيناها على متولي الذي يجلس على المقعد مقابلها ويسند رأسه فوق يده التي يضعها فوق العصا..
رفع آدم كوب القهوة على شفتيه كي يرتشف أخر ما بقي بها لكنه توقف وظل معلقًا يده في الهواء عِندما سمِع رنين هاتفه، أخرجه من جيب بنطاله وهو يتنهد ليرفع حاجبيه بتعجب عِندما رأي أسم والدته هي من تتصل به و تهاتفه؟ هذا كثير عليه حقاً!
نظف حلقة وتحدث بهدوء: الو!

أتاه صوتها المُنزعج بشدّة أثناء سؤاله بتجهم أكثر من كونه سؤالًا: انت فين وليه مرجعتش لحد دلوقتي؟
ردّ ساخرًا: انا الحمد الله كويس وباكل كويس كمان متقلقيش عليا..

أبعد الهاتف عن أُذنه وهو يقلب عيناه عِندما وصلت له صرختها ممزوجة بقولها بعصبية: آدم! ده مش وقت هزار انت فاكر نفسك واخد مراتك ومسافر ولا حبيبتك؟ دي مرات اخوك وكده كتير اتفضل رجعـ، ألو، ألو، أدددم، أغلق بوجهها بملامح مقتضبة وهو ينظر إلى تالين، مُنزعجة من تأخره وكأنهُ يقضي معها أكثر أوقاته سعادة وفرحة اللعنة على حظه العسِر الذي جعل منها والدته، إنهُ منبوذ، و لن يتوقف عن كرهها يوماً بسبب ما فعلتهُ به لن يسامحها..

كاد يغلق الهاتف نهائيًا لكن صدح صوت رنين الهاتف من جديد بإسم قُصيّ..
ردّ سريعًا بلهفة: قُصيّ عملت ايه انت فين؟
أتاه صوته المتعب من خلف الهاتف: لسه واصل المستشفى دلوقتي حالًا..
زفر بارتياح ثم سأله بصوتٍ مُنخفض وهو يبتعد عنهم قليلًا: ها طمني هي كويسة؟
تنهد بتعب وقال بهدوء: لسه مدّخلها دلوقتي متقلقش هتبقي كويسة كلها ردود وضرب مش حاجة خطيرة..
فسأله آدم مستفهماً عندما لاحظ صوته المتعب: صوتك ماله؟

قال بحسرة وهو يمسد جبينه: نادين طول الطريق كانت بتعيط ومش عارف اسكِتها دماغي وِرمت بجد انا بفكر اجيب اكل ليا واجبلها هي بزازة عشان تسكُت
لوك آدم بلسانه داخل فمه ثم قال بفظاظة: ده عشان انت قاسي مش بتحس، طبيعي جداً انها تفضل تعيط هي صاحبتها ولا واحدة كده عادي يعني! دي مامتها يا حلوف!
زفر وهو يضرب الحائط بروح يده بضيق ثم قال بسخط: طبعاً نادية قلبها قلب خصاية..

قهقه آدم وكاد يكمل لكن صوت خشِن أجش أجفلة: فين بتي يا متولي؟
ابتسم قُصيّ وقال وهو يقطب حاجبيه مع ابتسامة متحمسة: ده هريدي؟ صورهولي والنبي عايز اشوف شكلـ، أغلق آدم بوجهه وهو يبتسم ثم تحمحم وأخفاها ووقف يُراقب ما يحدث..
وقف متولي بتجهم وسأله بغضبٍ جام: بِتك مين ديّ اللي جاي تدوِر عليها اهنِه دِلوك؟
غمغم خليل بغضبٍ وتابع باتهامٍ لهُ: بتي اللي عمّار أخدها من الدُوار وأني مش موجود فيه الراجل!

ضرب متولي عصاه أرضًا بعنف وهتف بتحذير وعيناه تتوهج بغضب، ناذرة بالشر: انت بتنبش علي المشاكل ولِّيه؟ عمًار كيف يجدر يعمل كل دِه وهو مِتصاب بسبب المجاطيع بتوعك كيف يعني؟
ارتفعت زاوية شفتي خليل بسخرية وقال بتهكم: مجاطيع ايه دول؟ مليش صالح بـ علية الزناتي عاد وانت عارف اكدِه كويس، لو فاكر إني مِسدِج ان عمّار بيموت تبجي غلطان انتوا بتعملوا إكدِه عشان تداري على عملتكم السوده المجندلة ديّ..

زجره متولي بحدّة وهو يقول باستصغار: انت مفكِر بتك ديّ ايه عاد عشان نرمح وراها ونفكر فيها من اساسهُ؟ فوج انا ابني زينة الرِجالة مش هيختار غير بتك اللي تجوزت جبل سابق عشان يتجوزها ولِّيه؟

ضحك بسخرية ثم قال بغلظة وهو ينظر لهُ بـ شر متقصدًا عمّار: بُكره نشوف وكل حاجِة تبيِن وبتي هرجعها واللي هيوجف في طريجي هجتله مين ما كان يكون، وتحرك وغادر بوجوم تاركاً متولي خلفه يحملق في ظهره بنظرات نارية حارقة حاقدة بينما حُسنة كانت تحدق به بوحشية، بعينا دامية وهي تضبط نفسها كي لا تتهور وتفعل ما يحمد عقباه..

زفر وجلس محله وهو يقبض على عصاه حتى خرج الطبيب من الداخل وهو يزفر، هرع إليه آدم سريعا بقلق وقبل أن يتحدث بادر الطبيب بقوله بتنهيدة مرهقة: وقفنا النزيف بصعوبة بس الحمد الله هيبقى كويس لما يفوق، ثم صمت قليلًا واسترد قائلًا: كل الإسعافات اللي اتعملت للجرح كانت صح بس المفروض مكنش يتحرك ولا يوصل للمرحلة دي بس الحمد لله وحمد الله على سلامته مرة تانية..

أماء لهُ آدم براحة وهو يتنفس الصعداء وكاد يدخل الغرفة لكن الطبيب سأله باستفهام: مين خيطله الجرح ده قبل مايجي؟
توقف آدم وسأله بجزع: ليه في حاجة غلط؟
هز الطبيب رأسه بنفي وقال بإعجاب: لا خالص بس كان يديله مخدر أفضل عشان الجرح كان هيلتهب كويس انه قدر يتحمل، حمد الله علي سلامته مرة تانية..
هز آدم رأسه بخفة وتحرك ليدخل إليه لكن قول متولي أوقفه: وجف عِنديك..

توقف واستدار على عقبيه ناظرًا لهُ، ليقف متولي وأخذ يتقدم منهُ ثم سأله بشكٍ: فين صاحبك التاني؟
رد آدم بهدوء وهو يهز كتفيه: روح أمبارح!

تفاقمت شكوكه وهو يحدق به ليتابع آدم: قُصيّ زِعل عشان اتخانق معاك و حضرتك طردته بطريقة غير مباشرة وقُصيّ نفسه عزيزة عليه جدًا ومبيقبـ، توقف عن الحديث عِندما تخطاه متولي ببرود ودلف إلى غرفة عمّار وكأنهُ لا يتحدث من الأساس، رمش آدم بتعجب ثم جلس محله وهو يشتمه بغيظ ذلك الرجل حقًا ما هذا؟ إنهُ يشعره بانحطاط قدره!.
في القاهرة..

تنهد قُصيّ وهو يسند رأسه على الحائط وعيناه معلقة على نادين التي تجلس أمامه تبكِ بحرقة حتى إنتفخ جفنيها وأصبح وجهها بحالة مزرية من كثرة البُكاء، خرجت الطبيبة من الغُرفة بملامح متجهمة وهي تقطب حاجبيها بضيق شديد ثم رفعت نظارتها الطبية فوق رأسها بين خصلاتها بعصبية..
تقدم منها قُصيّ ورفع يده كي يتحدث لكنها أوقفته عِندما سألته بنبرة أشبه بالصراخ: انت اللي عملت فيها كده؟

رمش ونظر بجانبه قليلًا ثم أعاد نظراته إليها وسألها بتعجب: بتكلميني انا كده؟
نظرت لهُ نظرة مُتدنية ثم قالت باشمئزار: وهو في غيرك هنا؟ انت ازاي تضربها بالوحشية دي؟ خدامة عندك هي؟ انت اتجننت! انا هبلغ عنك عشان ده اعتداء و انا مش هسكت غير لما تترمى في السجن..

تركته وغادرت بغضب لكنهُ استدار وجذبها من حاشية معطفها الطبي بغضب وأخذ يهزها بين يديه يمينًا ويسارًا كـ ريشة أسقط نظارتها أرضًا مع قوله بسخط: انتِ عبيطة ولا ايه يا يا بت انتِ ده تسجني مين ده انا ادفنك هنا؟

صرخت وهي تلوح بيدها كي تضربه لكنهُ دفعها على الحائط بقوة، وحاصرها بينه وبين الحائط قابضًا على فكِها بعنف جعلها تصرخ بصوتٍ مكتوم وهي تشعر بتحطم عظامها وقلبها يرتعد داخلها من الخوف والمفاجأة في آنٍ واحد..

همس أمام وجهها بوجه ممتقع وهو يحذرها بصوتٍ أجش: انطقي بكلمة ولا قولي حاجة وساعتها هتلاقي رجالتي مستنينك برا عشان يروقوكِ، ثم شملها بنظراته الماكرة من أعلاها لأخمص قدميها وتابع باستفهام وهو يغمزها بوقاحة: عارفة هيعملوا ايه ولا اقولك انا؟

اهتزت مُقلتيها بخوف وعلت وتيرة تنفسها وهي تنظر لهُ بذعر كالفرخ المبلل وهي على وشك البُكاء، فابتسم وتركها ثم قال تابع بكل هدوء: شاطرة شكلك فهمتي اتفضلي علي شغلك وياريت توسعي فساتينك شوية عشان انتِ معصعصة ذنبنا ايه نتفرج على عضم احنا؟
اتسعت عينيها ذهولًا وتخضب وجهها بالحمرة خجلًا وقبل أن يضيف شيءً آخر كانت قد اختفت من أمامه بعد ركضها بخجلٍ شديد..

زفر ونظر بجانبه ليجد نادين تحملق في وجهه بعد توقفها عن البُكاء، بسبب عرضه المسلي، ابتسم وقال بهدوء بعد أن فهم المغزى من نظراتها: لو مقولتش كده كان هيبقى في سين وجيم وجدك يعرف مكانكم بقي وقصة..
أومأت بتفهم وهي تستنشق ما بأنفها ثم سألته ببحة إثر البُكاء: بس انت ليه قولتلها معصعصة؟
قال بصدق من فرط ضجرة وهو يجلس بجانبها: عشان هي معصعصة فعلًا!.

أطرقت رأسها ونظرت إلى جسدها قليلًا ثم سألته باستهجان: لما هي معصعصة انا ايه؟
ابتسم وهو ينظر لها ثم قال بتسلية: انتِ هربانة من مدرسة اعدادى يا نادين مسمعش صوتك..
رمشت ببطء وهي تنظر لهُ ثم قالت بدون تعبير مُزِج بسخط: انت سخيف على فكره ومش لطيف خالص..

ضحك وهو يعقد يديه أمام صدره ثم قال بثقة: حد قالك اني بهزر؟ انا بجاوب عليكِ بالحقيقة في فرق بين انك تبقي حلوة و انك تبقي مُزة ونصيحة مني اعتبريها من أب لبنتـ، ضربت كتفه بغيظ وهي تقول بوجه شديد الإحمرار مكفهر من الغضب: انت رخم اوي وانا مش عايزه رأيك قال أب قال!
ابتسم وقال بمرح وهو يقف: انا رايح اجيب اكل ادخلي اطمني عليها، وتركها وذهب..

تنهد جاسم وهو يخلل أنامله داخل خصلات شعره ونظرة معلق على تلك المُسطحة فوق الفراش بقلق..
ربتت والدته التي جاءت من منذُ قليل على كتفه برفق وهي تطمئنه برفق: متقلقش يا حبيبي هتبقي كويسة، ثم عانقته بقوة واسترسلت بحنان بالغ: حمدا لله على سلامتك ليه مكلمتنيش طول الأيام اللي فاتت دي؟ قلقتني عليك؟

ربت على ظهرها بحنان هو يشدّ على عناقها بقوة زافرًا بتعب لتسترسل بقلق بسبب تلك الزفرة الحزينة: مالك يا حبيبي في ايه؟
فصل العناق وسألها بحيرة وعلامات الهم مُرتسمة على تقاسيم وجهه الجميل: عشق عندها اخوات يا ماما؟
نظرت له بعدم فهم ثم قالت وهي تضحك بتعجب: اخوات ايه يا جاسم دي مولودة علي ايدك! اخوات ايه بقي؟

ابتلع شفتيه بين أسنانه وشدّ شعره بعصبية وقال بحيرة وهو يدور حول نفسه: ده اللي مجنني مجنني ومش عارف اعمل ايه؟
سألته باستفهام بنبرة غلب عليها الحزن: مالك يا حبيبي في ايه؟
باغتها بسؤالٍ جعلها تشحب: مين حبيب تعرفيه؟
ارتبكت واهتزت مُقلتيها باضطراب ثم قالت بتلعثم: انت، انت، عرفت الاسم ده منين؟

ابتسم بعصبية ورفع سبابته وأشار على وجهها الشاحب كأنهُ تم الإمساك بها وهتف باستفهام: مش معقول اسم حبيب لوحده يقدر يربكك بالطريقة دي! مين حبيب ده؟ انا عارف ان في قصة وحاجة انا مش عارفها بس لازم اعرفها!
أبعدت نظرها عنهُ وهي تغمض عيناها بحزن فتلك الذِكريات السيئة التي تطاردها لا تُريد أن تتذكرها مجددًا، ولا أن تذكرها حتى!

أردفت بنبرة ثابتة وهي تتحاشى النظر لهُ: ده شخص عابر في حياتنا مالهوش دور فيها اصلا مفيش داعي نتكلم في الموضوع ده!.
ردّ بغضبٍ مكتوم وهو يضم قبضته: انا كل الايام دي كُنت عند تغريدة في الصعيد واتكلمنا عن حبيب وقالت لي دور عليه..

نظرت لهُ والدته بإرهاق ثم قالت متوسلة بنبرة مهتزة: جاسم يا حبيبي الموضوع ده مش هيفيد دلوقتي و مالهوش لازمة خالص ياريت متتعبنيش وتضغط عليا عشان مش هقول حاجة، ثم توقفت واسترسلت بعينين دامعتين: متفكرش في الموضوع ده عشان خاطري وبعدين ايه اللي جاب سيرة الموضوع ده هناك؟
وهُنا توقف هو مرتبكًا فماذا سيخبرها؟ سيحدث لها شيء ان علمت ان عشق مُختفية ولا يجدها، وهو لا يستطيع أن يُجازف فهي مريضة..

أنقذه من هذا المأزق صوت تأوه جـنّـة بخفوت، هرع إليها بقلق ووقف أمام الفراش وظل يحدق بها منتظرًا أن تستعيد وعيها كاملًا..
تقدمت روحية بعد أن قامت بمحو عبراتها بيدٍ مرتجفة، جلست بجانبها وأخذت تُربت على شعرها بحنان وهي توقظها برفق: عشق يا حبيبتي انتِ كويسة؟

فتحت عينيها كاملةً، ثم إعتدلت جالسة وهي تتأوه بخفة تحولت إلى صرخات متألمة وهي تضع رأسها بين يديها وتلك الأصوات المزعجة وذلك الضجيج بدأ في التعالى داخل رأسها كأنها في حفلٍ صاخب تقف بجانب المُكبرات الصوتية..
حاولت روحية إبعاد يديها وهي تسألها بقلق: مالك يا حبيبتي في ايه؟
شهقت وهي توصد عينيها بقوة وبدأت تبكِ بألم وهي تقول بتقطع: راسي بتوجعني اوي، وفي اصوات في دماغي عالية اوي بس مش واضحة..

ابتعد جاسم إلى الخلف، وأخرج هاتفه سريعًا وهاتف الطبيب وهو يراقبها بثقب، فيبدو أن ذاكرتها سوف تعود..

بينما في ذلك الحي الشعبي الآن..
كان مسعود يجلس في ذلك المقهى يُلاعب صديقه تلك اللعبة المُسماة بالطاولة بتركيز وهو يقهقه بصوتٍ أجش قاسي كُل برهه وأخرى عِندما يتقدم على صديقه الذي يلاعبه..
وفي هذا الوقت تحديدا كان المعلم يوسف يجلس على مكتبه الجانبي داخل المقهى يحدق بـ مسعود بتفكير..

ترك مقعده واتجه إلى الخارج، وقف قليلًا يراقب الطريق بترقب، فالنهار يكاد يندثر وتغرب الشمس ومازالت لم تحادثة أو تبعث في طلبه هل يذهب إليها هو؟
كاد يتحرك ويذهب إليها لكن استوقفه سماع همس امرأتين من مكانٍ قريب يبعد عنه ببعض السنتيمترات فقط وكالعادة جميع النساء يظنون أن صوتهم مُنخفض وخاصتًا عِندما يخص الشيء الغيبة والنميمة..

=: و هنقوله ازاي ان بنته قاعدة في شقة مفروشة بعد ما جات وش الصبح وكمان خالعه الحجاب!
تنهدت المرأة الأخرى وقالت وهي تلاعب حاجبيها: زي الناس لازم يعرف بنته الشريفة بتعمل ايه؟ ده حتي الراجل الـ إداها شقة وهو عارف هي مين وبنت مين!

تفجرت الدماء داخل عروقه و أكفهر وجهه من الغضب ثم تقدم من كلتيهما، أفزعهم عِندما قال بعصبية مفرطة: انتِ بتشتمي مين انتِ؟ ليكِ جوزك هرد عليه ماشي، وعلي فكره بقي دي مش جـنّـة وأنا سألتها وقالت لأ اكيد مش هتيجي تستخبي في مكان كل الناس عارفاها فيه؟ وياريت كل واحده تخليها في حالها اخرتكم هتبقى وحشة اتقوا الله بقي!

وتركهم ودلف إلى المقهى من جديد وهو يفكر بضيق وفي ثوانٍ قليلة كان الخارج فارغًا من وجود تلك المرأتين نهائيًا..
مرت نصف ساعة هادئه، كان غارقًا بأفكاره بين تردده في إخبار مسعود كي يراها، وبين التكتم عن الأمر، مُتحير لا يعرف ماذا يفعل!، ليسمع بعدها صوت رجلًا غاضب يدلف إليه وهو يركل المقاعد في طريقة بعنفٍ شديد: انت فاكر ان مفيش كبير للحارة الزفت دي ولا ايه؟ ازاي تزعق لـ مراتي في الشارع؟

وقف المعلم يوسف وهتف بعصبية: وطي صوتك وانت بتتكلم وابقي افهم قبل ما تيجي تتخانق!.
ركل الرجل المقعد بغضبٍ جام ونفرت عروقه بقوة: افهم ايه وانت موقفهم في الشارع و بتزعقلهم هي دي الرجولة؟
ابتسم المعلم يوسف بسخرية وهتف بتهكم: اه اصل انا اللي كنت واقف اتكلم على خلق الله!

ضرب الرجل المكتب بقبضته بغضب ثم قال بأعلى صوته جعل الجميع ينتبه لهُ ومسعود كان من بينهم: بتقول ايه يعني ما بنت مسعود فعلًا عندك مِداريها في الشقة ولا انا بكذب وجـنّـة مش عندك؟
وقف مسعود وقلب الطاولة بغضبٍ ثم تقدم منهما وهو يضخم صدره وهتف متهكمًا: بتتكلموا عن بنتي قدامي؟

استدار الرجل له وقال بقوة وصوت مرتفع كأنهُ يحادث أصم: بنتك قاعدة في شقة في عمارة المعلم ده ومراتي كانت جاية تعمل خير و تقولك علي اللي بيحصل بدل ماتبقي قُرني! لكن ده وقفها و زعقلها وقال ايه دي مش بنتك وواحدة جاية تأجر شقة عادي؟

صرخ به المعلم يوسف وهو يلتقط مفاتيحة بعصبية بسبب تلك الإتهامات الباطلة: تعالوا معايا وشوفوا عشان تبطل تقول اني مقعدها عندي ومداريها وهي جـنّـة، ثم استرسل وهو يحدق بـ مُسعد ذات الوجه الممتقع من الغضب وهو يستمع لهما: هي بس شبه بنتك شوية لكن مش هي ومش محجبة بنتك إزاي هتعمل كده يخلق من الشبه اربعين يا جدع؟، ثم سار وتقدم عنهما في السير وهُما خلفه هُما وبعض الجيران الذين كانوا يشاهدون ما يحدث باهتمام..

بينما في البناية وخاصتًا شقة عشق، في غُرفتها..
كانت قد بدأت تستفيق بالتدريج وهي تتقلب في الفراش بنعومة حتى أستقرت نائمة على معدتها وظلت تحدق في ستائر الغرفة وهي ترمش بأهدابها الطويلة ببطء، فهي جبت عنها الضوء عدى ذلك الذي تسلل من خلف الستائر الرقيقة فأضاء إضاءة خافتة هادئه تُفضلها..

أغمضت عينيها قليلًا وهي تبتسم بخفة عائدة بذكرياتها إلى تلك الذكرى من أربع سنواتٍ سابقة، تلك الذكرى التي أوقعتها في شباك قُصيّ..
عودة إلى وقتٍ سابق..
ذات يوم في عامِها الدراسي الأول عِندما كانت تمكث في القاهرة لأنها وجب عليها حضور جميع محاضراتها كل يوم بسبب جهلها بكل ما يخص الدراسة..

تحديدا في ذلك اليوم الخاص بتلك الرحلة التي أقامتها الجامعة، باهظة الثمن إلى إحدى المناطق الساحلية، وفي الطريق أثناء جلوس عشق في الحافلة المليئه بالطلاب منهن من كانت تعرفهم ومنهن لا..

كانت جالسة بجانب النافذة تضع سماعات الأذن خاصتها شاردة الذهن وهي تُراقب الطريق بهدوء من خلف نظارتها الشمسية حتى وكزتها الفتاة التي بجانبها بسبابتها بقوة جعلها تزفر وهي تنزع السماعات من أُذنها بضجر ثم نظرت لها باستفهام..
فقالت وهي تبتسم أثناء تحديقها بالرجل الذي يقف بجانب المُشرف يبتسم للجميع بهدوء: المشرف هيقول حاجة مهمة انتبهي..

رفعت عشق نظارتها الشمسية فوق شعرها الفحمي الناعم، ثم نظرت أمامها وبحثت عن هذا المُشرف بأنظارها في المقاعد الأمامية وهي تقطب حاجبيها بملامح فارغة، لتجده وأخيرًا يقف بجانب باب الحافلة..
هرب شهقة متفاجئة من بين شفتيها واتسعت عيناها عِندما وجدت قُصيّ يقف بجانبه، يبتسم بجاذبية، ذلك الساذج ماذا يفعل هُنا؟!

سقطت فيروزتيها داخل بُنيّته الماكرة ليغمزها بعبث وهو يبتسم فـ أبعدت نظرها عنهُ بارتباك وعادت تنظر من النافذة وهي تقبض على حقيبتها بقوة فماذا يفعل هذا هُنا؟

أخرجها من شرودها صوت المُشرف وهو يقول بابتسامة: يا جماعة أحب أقدملكم قُصيّ رشدان، انتوا عارفين ان الرحلة للطلبة بس وقُصيّ للأسف مش طالب معانا، بس هو جه مخصوص عشان البنت اللي بيحبها هنا وانا مقدرتش امنعه عشان بحترم الاشخاص الصريحة اللي زيه و دلوقتي هو عايز يقولها حاجة..

انتبه لهُ الجميع ونظروا لهُ في ترقب، ليتنهد قُصيّ بثقل ثم قال بجديه وهو يبتسم: بصوا يا جماعة انا مش هقول هي مين، انا عايزها هي تخرج وتيجي هنا..
تبادلت جميع الفتيات النظرات معًا بشك عدى عشق التي ظلت تحدق من النافذة باقتضاب وكأنها لا تسمع شيء بالتأكيد ليست هي هو لم يقابلها سوى مرة واحدة! لعينة على رأسه..

حملقت الفتاة التي تجلس بجانب عشق في قُصيّ بإعجاب وهي تقيمة بنظرات ماكرة حتى عاد وتحدث بنبرة مُحذرة أكثر: فتاة الإندومي هتخرج ولا أخرجها انا؟
توردت وجنتيها بخجل وأخفت جسدها وهي تنزلق من فوق المقعد حتى لا تظهر لتجد الفتاة التي بجانبها تصرخ بحماس وهي تقف ثم ركضت إلى قُصيّ وهي تقول بسعادة: حبيبتي، مكنتش عايزه اعرف حد دلوقتي بس مش مهم..

رفعت عشق جسدها وهي تهز رأسها باستنكار مع رفع زاوية شفتيها بسخرية وهي تنظر لها بسخط..
لتفرغ فاهها عِندما وضعت الفتاة مرفقها فوق كتف قُصيّ بكل راحة وهي تلتصق به! تلك الكاذبة المتبجحة؟!
ابتسم قُصي ورفع حاجبيه وهو يحدق بتلك الفتاة التي لا يعلم من تكون وظل صامتاً ليحثه المُشرف على التحدث وهو يقول بابتسامة: ايوه لقيتها بعدين؟
نظر لهُ قُصيّ وقال باستفهام: ولا قبلين اعمل ايه؟

نظر لهُ بتعجب ثم قال: مش هتعترف بحبك وتطلب منها الجواز؟
ضحك قُصيّ وأشر على نفسه وهو يسأله بعدم فهم: انا؟ لا لا انت فهمت غلط اقف علي جنب ياسطي، ايوه هنا شكرا، وترجل من الحافلة وترك الجميع يضحك على الغبية التي خرجت لهُ وفضحت نفسها الآن وهي كاذبة..
ضحكت عشق بتشفي وهي تحدق بها كيف تعود مطرقة رأسها بخجل ثم نظرت من النافذة وهي تبتسم لتجد ورقة قُذِفت عليها من الخارج آلمت أناملها التي سقطت فوقها..

نظرت لها بتعجب ثم وقفت وأخرجت رأسها من النافذة وهي تنزع نظارتها الشمسية ليتطاير شعرها الفحمى بنعومة وهي تبحث عن صاحبها لتجد قُصىّ يسير بثقة وهو يضع يديه داخل بنطاله كـ فتى سيء يوليها ظهره، الوغد..
بدأت الحافلة بالتحرك من جديد، جلست بهدوء ثم فتحتها في الخفاء لتجد الورقة ملفوفة حول احدى الحصوات الصغيرة نُقش عليها بخط جميل راقي هستناكِ في الفندق ..

كورتها داخل قبضتها بغضب ثم همست لنفسها بازدراء: حقير وحيوان، هيوصل ازاي اصلا؟ مجنون!
وصلوا بعد بعض الوقت، أخذ كل اثنين مُفتاح الغرفة الخاصة المشتركة بينهما وصعدوا..
بينما عشق ظلت جالسة فوق أحد المقاعد فى الأستقبال تنتظر انتهاء جميع زملائها وصعودهم بسبب الزحام والتكتل أمام المصاعد..

تحركت تجاه المصعد عِندما انتهي الزحام، وثبت إليه بهدوء ونظرت أمامها متابعة إغلاق الباب لتجد يد وضعت في المُنتصف أوقفته وجعلته يفتح من جديد ليطل عليها قُصيّ وهو يبتسم بانتصار، دلف وأغلقه ثم استدار وتقدم منها وهو يضيق عينيه بخطورة..
عادت إلى الخلف بترنح وجزع شاعرة بالخوف وأشياء أخرى لم تستطيع تفسيرها لكن لم تنكر خوفها وتفاجئها منهُ في أنٍ واحد..

قهقه قُصيّ ببحة رجولية دغدغت حواسها وظل يتقدم منها حتى التصقت بالحائط لـ يحاصرها بـ بنيته القوية وطوله الفارع أمام قصر قامتها بجانبة..
مال بجذعة عليها وهمس أمام وجهها وهو يبتسم متأملًا ملامحها النقية الناعمة وذلك التورد البسيط لتضرب أنفاسه الدافئة صفحة وجهها: هستناكِ النهاردة بليل!

شهقت واتسعت عيناها بقوة، امتقع وجهها بغضب ثم رفعت يدها باندفاع وهي تقول بانفعال: انت حيوان وحقير و، وصمتت عنِدما قاطعتها بعبث وهو يثبت يدها خلف ظهرها لكن ليس بقوة: ايه يا قمر الأفكار دي بس انتِ اللي نيتك مش صافية خالص، واسترسل ببحة رجولية وهو يقرب وجهه منها أكثر صانعًا تواصلا بصريًا مع تلك الفيروزتين البراقة الآية في الجمال لتكتم أنفاسها بدورها وهي تخفض وجهها بخجل: في حفلة هنا في الفندق بليل هستناكِ، وهتيجي، تركها مع انفتاح المصعد الدال على وصولها الطابق المطلوب..

ابتسم ونظر إلى رقم الطابق ثم غادر وهو يطلق صفيراً، لتتنفس الصعداء بثوران وهي تهدأ نفسها واضعة يدها على قلبها، اندفعت إلى الخارج تبحث عن رقم الغرفة بارتباك وهي بالكاد تصمد وتقف علي قدميها التي أصبحت هلامية من فرط التوتر، حتى وجدتها ودلفت وأغلقت خلفها، ليبتسم من مكان وقوفه في أحد الزوايا بعد أن علم رقم الغرفة الخاصة بها ثم غادر نهائيًا..

أخذت حمامًا دافئ وخرجت من دورة المياة وهي تجفف شعرها لتجد الغرفة مازالت فارغة! أين شريكتها في الغرفة؟.
أخرجها من شرودها صوت طرقات هادئه فوق الباب، ارتدت منامتها النبيذية المكونة من بنطال يعلوه كنزة حريرية ناعمة بأكمام، اتجهت إليه وفتحته سريعا ظنًا أنها صديقتها لكنها وجدت أحد العاملين في الفندق يقف أمامها..

نظرت له باستفهام وتساؤل، ليبدأ بالتحدث باحترام وهو يمدّ يده لها بصندوقٍ عريض مخمليّ أنيق: الحاجة دي جاتلك..
قطبت حاجبيها بتعجب ثم هزت رأسها وهي تبتسم قائلة بهدوء: أكيد في حاجة غلط انت غلطان في رقم الأوضة!
ابتسم وهز رأسه نافيًا بهدوء: لأ مش غلط ولا حاجة مش انتِ فتاة الإندومي؟

فغرت فاهها بعدم تصديق وهي تنظر لهُ بصدمة بأعين متسعة بقوة وقد احمرت خجلًا رغمًا عنها، الغبي فضحها في الفندق، ثم نظرت إلى ذلك الصندوق وسألته بتلعثم وهي ترمش: د، ده، من، مين، ده؟
رد باحترام: صاحب الفُندق..
رفعت حاجبيها وكتفت يديها أمام صدرها وهي ترفع أناملها تبعد شعرها الرطب إلى الخلف، وأعادت سؤاله: ده اسمه ايه؟
ردّ بهدوء: قُصيّ رشدان..

هزت رأسها بتفهم وقبل أن تتحدث مدّ يده بالصندوق تجاهها لتبسط يدها ببطء، ويضع الصندوق فوقها وهو يقول بابتسامة: الحفلة هتبدأ الساعة 9
استدار ليذهب لكن أوقفته بسؤالها سريعًا باستفهام: المفروض يكون في واحدة معايا في الأوضه راحت فين؟

ابتسم وردّ بهدوء: في تعليمات انك تكوني لوحدك عشان محدش يضايقك، ولم يمهلها فرصة للرد وغادر سريعاً، تنهدت وهي تغلق الباب خلفه، واسندت ظهرها عليه قليلًا، ثم تحركت تجاه الفراش، وضعت الصندوق فوقه وجلست بجانبه تحدق به باقتضاب حتى رن هاتفها..
التقطته وهي تزفر لتجده رقم غير مُسجل!
ردت بخمول: ألو!
ابتسم بمكر وهو يسألها بعبث: صحيتك من النوم ولا ايه؟

شهقت بخفة واتسعت عينيها وتفاجئت في بادئ الأمر ثم تداركت هذا وتنهدت بضيق وهي تسأله: انت عايز ايه؟
تنهد وهو يجلس على سور الشرفة بسرواله القصير خامة الجينز الثقيلة، لونه أبيض تاركًا جذعة عاري وهو يقول: عايزك تيجي الحفلة مش ممكن؟

ردت بعصبية مُفرطة وهي تقول بفظاظة: لا مش ممكن اجي، وانت فاكر نفسك ايه اصلا عشان تجيبلي هدية؟ انت لو قُدامي دلوقتي كُنت رميتها في وشك يا حقيـ، الو، الو!، أغلقت الهاتف وقذفته على الفراش وهي تصرخ بفقدان صواب، وصدرها يعلو ويهبط بعنف من الغيظ وفرط انفعالها، لتسمع صوت طرقات فوق الباب..
اتجهت لهُ بعصبية وأدارت المقبض وفتحته بغضب ليتطاير شعرها من اندفاع الهواء القوي..

توقف مشدوهة وهي تجد قُصيّ يقف أمامها يعقد يديه أمام صدره العاري يحدق بها بتسلية..
تخضبت وجنتيها بحمرة خجولة وهي تنظر لهُ ذاهلة بوضوح ظهر جليًا على تقاسيم وجهها..
ليقول بعدم اهتمام وهو يرفع حاجبيه: يلا ارميها في وشي انا قدامك اهو يلا؟!
قضمت شفتها بـ غٍل ثم صفقت الباب بوجهه واستدارت على عقبيها سريعًا وحملت الصندوق وعادت أمام الباب..

فتحته ثم قذفت الصندوق عليه ليبسط يديه و يلتقطه وهو يضحك، ثم قال بعدم اهتمام مزدري: خلاص ارتحتي كده شكرا، كادت تغلق الباب لكنهُ دلف ودفعها من كتفها بمنكبه كان يوقعها، وضع الصُندوق فوق الفراش، قام بفتحه وهو يتحدث بهدوء أثناء إخراج الفستان الرقيق وتعليقة فوق الخزانة: الحفلة الساعة 9 و الفستان اهو متعلق قُدامك عشان متنسيش والجزمة في البوكس هستناكِ..

ضمت قبضتها بغضب وصل لذروته وهي تغمض عينيها بقوة قائلة بنفاذِ صبر أثناء تأشيرها على الباب: اخرج بره وخُد القرف ده معاك بدل ما ارميه من الشباب دلوقتي!
توقف واستدار لها ببطء ناظرًا لها باستهزاء لتبعد نظرها عنهُ بارتباك..
اعتلي ثغره ابتسامة جانبية عابثة وهو يقول: اعملي كده و هطردك من الفُندق بتاعي وتبقي سلميلي علي المشرف بتاعك بقي يا؟ اسمك ايه؟

صرخت به بحدّة وهي تشعر بالدماء تغلي داخل عروقها من تلك الوقاحة: انت مال اهلك؟
ضحك وهو يثني عليها: عاشِت الأسامي..
حذرته للمرة الأخيرة بتهديد وهي ترفع رأسها بشموخ: لو مخرجتش برا هلِم عليك الفُندق كُله يامدير يا مُهزق..
لوك بلسانه داخل فمه وهو يضيق عينيه ثم سار تجاه الخارج دون التحدث، يضع يديه داخل جيب سرواله القصير لتستوقفه عِندما سألت باقتضاب: جبت رقمي منين؟

ابتسم وقال هامسًا بتسلية وهو يميل بجذعه عليها: هقولك في الحفلة، ثم ضرب كتفها بكتفه بخفة واسترد قائلًا بمكر: وانتِ هتيجي عشان تعرفي يا احمر يا خجول انت..
شهقت بخجل ونظرت لهُ بغضب لكنهُ كان قد اختفى من أمامها، صفعت الباب خلفه وهي تقطب حاجبيها بانزعاج ثم رفعت يدها وتحسست وجنتيها الحارة بطرف أناملها وهي تزفر بضيق، ثم ضحكت بخفة وهي تهز رأسها بيأس بسبب ذلك المجنون..

صدح صوت رنين هاتفها من جديد، تقدمت منهُ بتكاسل ظنًا انه ذلك المجنون لكنها وجدت جاسم..
حملته سريعا وردت بابتسامة: الو..
ابتسم جاسم وسألها بحنان: حبيبتي عاملة ايه؟
ابتسمت بنعومة وقالت باشراق وهي تجلس فوق الفراش: الحمد لله لسه واصلة من شوية..
تذمر بحزن استشعرته: خيانة ليه مقولتيش إن معادها النهاردة؟
سألته بحماس وعيناها تتوهج بسعادة: ليه كُنت هتعملّي مفاجأة وتيجي ونتجنن سوى؟

ضحك بهدوء وقال متأسفًا وهو يبتسم: انتِ عارفة اني مشغول جدا الأيام دي وبعدين انتِ عارفة ماليش في الجنان انا..
اختفت ابتسامتها المُشرقة وتبسمت بحزن وهي تهز رأسها كأنهُ يراها، مُستمرة في الإستماع إلى بقية حديثة بهدوء حتى انتهت المكالمة وأغلقت الهاتف بإحباط، فهو هادئ ويتصرف مع كل شيء بعقلانية وهي بحاجة لشخصٍ مثل ذلك المجنون، هو تسلل إليها من نقاط ضعفها..

وضعت الهاتف فوق الفراش وحدقت في ذلك الثوب المُعلق أمامها وهي تفكر بحيرة! هل تذهب؟ حتى إن ذهبت سوف تذهب كي تعرف كيف أتي برقم هاتفها! صحيح!
رن الهاتف من جديد فأخذته بضجر لتجد رقم غير مُسجل مُختلف عن السابق..
فتحت الهاتف بإرهاق لـ يأتيها صوته المتسلي وهو يقول أثناء تحديقة في السقف: متتأخريش هستناكِ، ثم استرسل وهو يسألها باستفهام: ابعتلك ميك آب أرتست عشان تظبتلك الآيلاينر؟

كتمت ضحكتها وهي تضع يدها على فمها ثم قالت بتعب: انت سخيف اوي علي فكره، وأغلقت الهاتف بوجهه..
حل المساء عليها وهي ما زالت جالسة محلها تفكر ولم تتوقف عن الضحك قط بسبب الرسائل التي يبعثها لها مُنذُ الصباح، ابتسمت وتركت الفراش ثم أخذت ثوبها المعلق ودلفت إلى دورة الميـ..
أخرجها من دوامة ذكرياتها صوت طرقات الباب العنيفة، انتفضت من فوق الفراش بخوف وقلبها يخفق بعنف فماذا يحدث؟!

وقفت عن الفراش وتحركت سريعًا إلي الخارج لكنها غيرت وجهتها عِندما شعرت بالإعياء وعادت إلى دورة المياة راكضة، وظلت تتقيأ بإعياء وهي تجثو على ركبتيها في الداخل..
وقفت بوهن بعد انتهائها، سارت بترنح إلى الخارج وهي تلتقط أنفاسها بتعب، توقفت خلف الباب بخوف تنظر لهُ متوجسة من ما ينتظرها خلفه، لكنها تقدمت وأدارت المقبض وفتحته عِندما سمعت صوت المُفتاح يدور داخل المقبض..

دوت صوت صرختِها المُتألمة وهي تشعر بنفسها تسقط أرضًا عِندما هوت صفعة قاسية فوق وجنتها من يدِ مسعود الخشنة، وهو ينظر لها بشراسة..
نزع المِفتاح من المقبض وهو يُزمجر بغضب ثم دلف ودفع البقية خارجًا وأغلق عليه من الداخل ليبقي هو وهي فقط..

رفعت نفسها وهي تستند على راحة يدها وعبراتها تنهمر، كاتمه شهقاتها من فرط الخوف، عادت إلى الخلف وهي تنظر إلى عينيه التي تحدجها بنظراتٍ متوحشة بفزع حقيقي، إنها تتذكرة، انهُ والد جـنّـة ولن يرحمها..

حركت شفتيها المرتجفة محاولة تجميع كلمة صحيحة: انـ، انـ، انـ، أنا، مش، مش، مشـ، صرخت عندما قبض على شعرها بقوة كاد يقتلعه بين يديه وهو يسألها بجفاء: فين قُصيّ يا بنت آلـ فين ها بتعملي ايه هنا لوحدك؟ فين حجابك؟ ايه اللبس ده يا فاجرة يا فاقدة؟.

شهقت بحرقة باكية وهي تتوسل إليه بنبرة مرتجفة: اسمعني، اسمعني، أنا والله مشـ، ارتطمت رأسها أرضًا بعنف عندما سدد لها لكمة خدرت وجنتها ثم ركل معدتها بقوة ضارية دوت إثرها صرختها القوية المُتألمة شاعرة بانسحاب روحها منها وهي تتلوى، ومع هذا لم يتوقف بل كان يزداد تعنيفًا وعُنفا كُلما سمع صوت الطرقات العالية التي تأتي من الخارج كأنهم يذكروه بما فعلت وأن الجميع رآها وتم فضحه بسببها..

ركض صبيًا تجاه منزل جـنّـة سريعًا كي يخبر والدتها رُبما تستطيع التصرف وانقاذها من براثن هذا الرجل..
في المستشفي في هذا الوقت..
تنهد قُصيّ وهو يلح عليها كي تتناول الطعام: انتِ مكالتيش من امبارح كُلي!
جلست بجانبه على الأريكة داخل غُرفة والدتها وظلت تحدق في جسدها الراقد فوق الفراش دون حراك بحزن وهي علي وشك أن تبكِ من جديد..

مسد قُصيّ جبهته وقال بإرهاق: هتبقي كويسة وهتفوق شوية كده متخافيش خلاص بقِت بخير..
غمرت وجهها بين يديها وأجهشت في بُكاء مرير وهي تقول بأسى: مش ده اللي بيخليني اعيط!
قضم شفتيه وهو يطرقع أصابعه بقوة ثم سألها من بين أسنانه: اومال؟
رفعت رأسها وجففت عبراتها بظهر يدها وهي تقول بخفوت: فُصيّ أنا خايفة..
سألها بشفقةٍ حقيقية: من جدِك؟

هزت رأسها بنفي وهي تنظر إلى ليلى تتأكد انها نائمة ولم تستيقظ بعد ثم عادت بنظراتها لهُ وقالت بخوف: قُصيّ أنـ، لم تكمل بسبب رنين هاتفه داخل جيب سترته، زفر وأخرجة بضيق ثم ردّ دون النظر لهوية المُتصل لينتفض قلبه قبل جسده من محله ويركض إلى الخارج متسابقًا مع الوقت حتى يصل سريعًا بعد ما سمع هذا القول..
في الفندق لدي جاسم..

تحدث الطبيب بعد فحصه لـ جـنّـة وقال بنبرة مطمئنة: متقلقوش هتبقي كويسة الظاهر كده إنها اتخبطت جامد ودي اشارة كويسة إنها بدأت تفتكر و هتفتكر واحدة واحدة مفيش اي قلق، لو فضل الوجع موجود تقدر تيجى سعِتها المستشفى..
أومأ لهُ جاسم بهدوء وسار معهُ حتي أوصله خارج الغرفة ثم عاد إلى الداخل، توقف أمام التخت ثم قال بهدوء دون أن يراعي مشاعرها: الفرح هيتأجل عشان حالتها متسمحش لأي أفراح..

ارتجفت جـنّـة وهي ترفع رأسها تُناظره بانكسار لكنهُ لم يُكلف نفسهُ عناء النظر لها..
لتبتر والدته جملته التي كادت تخرج من بين شفتيه متحدثة باعتراض: والحجز! احنا كده هنخسر فلوسنا؟

نظر لها نظرة خاوية فارغة ثم قال بلا مبالاة وهو يهز كتفيه: نخسر! محدش قالك اعملي الفرح واحجزي من غير ما اعرف؟، ثم ترك الغرفة وغادر لكنهُ توقف أمام الباب واستدار قائلًا: انا مروح دلوقتي وهتلاقوا عربية تحت مستنياكم عشان تروحكم سلام..
شهقت جـنّـة بحرقة و قلب مُنفطر، مراقبة ذهابه و اغلاق الباب خلفه وهي تنتحب وعيناها مُعلقة على ثوب الزفاف قائلة بحسرة: خلاص جاسم بقي بيكرهني ومش عايزني بقي بيكرهني..

عانقتها روحية بقوة وهي تمسد على ظهرها بحنان وظلت تتلو عليها بعض الآيات من القرآن الكريم حتى تهدأ، حقًا لا تعرف ما الخطب مع ابنها لا تعرف..
في الحارة، لدي عشق..
توقف بالسيارة بجانب الطريق بتجهم، ثم ترجل منها سريعًا وركض داخل الحارة بقلب يخفق بعنف، متلفتًا حوله بجنون وملامحه ترتعش دون أن يعلم أن يذهب، لكن الضوضاء والتجمع لفت نظره وجعله يركض إلى تلك البناية بقلق..

صعد الدرج بخطواتٍ مُتلاحقة الدرجة بدرجتين وهو يلهث دافعًا كُل من يُقابله أثناء صعوده بقوة، ولأول مرة يشعر بانقباض قلبه عليها بهذا القدر من الخوف..
توقف أمام باب الشقة ليتركوا لهُ المجال ويبتعدوا إلى الخلف عِندما تعرفوا عليه، طرق الباب بقوة! لا بل ركلة وهو يصيح بصوتٍ خشن مُرتفع: إفتح ياعمي!

ركله من جديد بثوران وهو يتنفس بانفعال عندما سمع صوت صُراخها المتقطع حتى توقف نهائيًا ليصرخ بقوة: افتح يا عمي بدل ما أكسره..
ابتعد إلى الخلف وهو يزجرهم بعنف مُستنكراً موقفهم قائلًا بعصبية: بتتفرجوا!.
ركل الباب بقوة وهو يزمجر بغضب ثم بدل الوضعية وأخذ يدفعه بكتفه بغضب جام وهو يلعن عمهُ شاتمة من بين أنفاسه ويقسم أنهُ سوف يبرحه ضربًا..

انخلع الباب وفُتِح على مصراعية وأخيرا ليهرع إلى الداخل وقبل أن يفكر بالبحث عنها أبصرتها عيناه راقدة وذلك البغل يجثم فوقها، يضربها بوحشية..
توهجت عيناه بلهيبًا مُشعل وركض تجاهه بجسد متصلب، رفعه من ياقة ملابسه بقوة مُبعدًا إياه عنها ثم سدد لهُ لكمتين عنيفتين ودفعه بعيدًا عنهُ، فقط لو لم يكن عمه لجعل وجهه يشرِب دمًا..

سقط مسعود أرضًا بعنف، رفع رأسهُ ونظر لهُ بأعين جاحظة وهو يضع يده مكان اللكمة مصدومًا من فعلتهُ المتهورة التي سوف تكلفه الكثير، وهو يعرف هذا..
جثي قُصيّ على ركبتيه أمامها بخوف وهو يتطلع إلى وجهها الشاحب المجروح، فاقدة للوعي، ليرفع قدمة فجأة عِندما شعر بذلك السائل يخترق قماش بنطاله بللة جعله يلتصق على ركبتيه..

جحظت عيناه وشعر كأن أحدًا طعنه بسكينٍ حاد عِندما ابتعد وأبصر بقعة الدماء القانية أسفلها والتي لوثت بنطالها ذا اللون الفاتح!.
رفع أنامله وتحسس وجنتها المكدومه بخفة كأنهُ يلمس زجاج، هامساً باسمها بصوتٍ مُتألم: عشق!، ثم حملها بين يديه كـ جثة هامدة لا تتحرك وأخذها وذهب..
في الصعيد في المستشفى..
صاح آدم بضجر وهو يفتح ستائر الغرفة: كفاية نوم بقي احنا خلِلنا جنبك اصحي!

تقلب عمّار على الفراش وهو يتأوه بخفوت متابعًا غفوته التي لم يبرحها الألم والتعب قط..
أردف بتعب وهو يغمض عيناه: بس يا آدم عايز أنام..
تقدم آدم وجلس بجانبه فوق الفراش ثم سأله بمكر: مش عايز تطمن على حبيبة القلب؟
قال أثناء تقلص ملامحه بألم، وهو ينزع المحلول المحقون داخل يده: عارف انها بقِت كويسة..
رفع آدم حاجبيه وسأله باستفهام: عرِفت منين؟
قال بتعب وهو يتذكر: حلِمت بيها!

رفع آدم زاوية شفتيه بسخرية واستفسر منه بعدم فهم وهو يلوح بيده مع حديثة: قصدك يعني ان احلامك بتتحقك وهي كويسة دلوقتي؟
هز عمّار رأسه بخفة مؤكدا قوله، ليسخر منهُ آدم وهو يأشر عليه من اعلاه لأسفله: احلام مين دي اللي تتحقق يا أوسخ خلق الله انت!
ضحك عمّار وهو يتألم ثم ضرب كتفه بخفة وهو يحذره: بس هتتسخط..
ضحك آدم من جديد وأردف وهو يقرص وجنته: مصاحب الشيخ عمّار المغربي يا ناس..

قهقهة عمّار ثم قال باستياء وتقزز وهو ينظر حوله: ايه المستشفى المعفنة اللي جايبني فيها دي؟ كُنت سيب السِر الإلهي يطلع أحسن!

نظر آدم حوله يقيم المكان ثم قال وهو يزم شفتيه: كانت اقرب حاجة وبعدين مش احسن من العرة اللي بتجيبوا يخيطلك الجرح ويخليه يلتهب يا حمّار! ايه ده صرصار!، رفع جسده فوق الفراش وسار على ركبتيه ثم دني قليلًا من عمّار وهو ينظر خلفه بتركيز ليجفل عِندما فتح باب الغرفة ودلفت منهُ حُسنة بلهفة..
شهقت وهي تنظر لهما بتعجب ثم سألته بحدّة مُزِجت بغضب: بتهبب ايه عندك يا محروج!

ابتسم آدم بتوتر ثم اعتدل ونزل عن الفراش ووقف بجانبه واضعًا يديه بجانب جسده باحترام وهو ينظر إلى عمّار الذي كان يقهقه حتى قال باستياء: جيبلنا الكلام يا بياضة قولتلك ربّي دقنك دي!
مسد آدم محل ذقنه الحليقة وقال بإزدراء: بتهرشني يا عم..
ضحك عمّار وهو ينتصب جالساً ببطء وهو يتألم بخفة، ثم قال مؤكدًا على قول قُصيّ: بعد اهرشني دي طلعت نادية فعلا قُصيّ مبيغلطش في حاجة يقولها أبدًا..

تنهد آدم وهو يحك ذقنه باستياء شديد ثم قال بانزعاج: هفكر وهربيها إيكش أوْحش بقي، انا خارج قبل الحاجة ما تضربني، تحرك وترك الغرفة وغادر تحت أنظار حُسنة الحارقة..
لانت ملامحها لتلين عِندما وقع نظرها على عمّار وهو يبتسم لها، تنهدت وهي تهز رأسها بيأس بسبب تلك الرأس اليابسة التي يمتلكها، إنهُ رأس تجلس وليس بشر، ناظرته بحنان أمومي ممتزجا بلهفة سيطرت على تقاسيم وجهها وهي تتقدم منهُ..

عانقته بحنان وعادت تبكِ بحزن وهي تقبل رأسهُ بلهفة سائلة عن حاله: كيفك يا ولدي؟.
قبل يديها بحب متأثرًا وهو يبتسم لها بحنان ثم قال مطمئنًا: زين، زين متجلجيش، ابنك زين، هزت رأسها بإيماءة بسيطة وهي تربت على وجنتهُ بحنان ثم سألته من جديد: حاسس بحاجة يا ضنايا؟
هز رأسهُ بنفي، ثم أراح رأسهُ على صدرها بتعب كما كان يفعل في طفولته قائلًا بوهن: مش مجافيني النوم واصل..

قالت بتنهيده وهي تربت على شعره بحنان: ماينام الا خالِ البال يا ولدي..
تنهد مطولًا وهو يغمض عيناه، ليفتحها سريعاً عِندما سمع قولها المُشجع: شِد حيلك يا ولدي عشان نفرحوا بيك..
رفع رأسهُ وتهجمت ملامحه رغمًا عنهُ وهو يسألها: تفرحوا! اني؟

أومأت لهُ وهي تبتسم ثم قالت بحنان: اني عارفِة انك انتِه اللي خلصت ندى من المفتري ابوها، وأني هستناك تاجي تفرحني وتجولي انكم هتتجوزوا، عشان أني مش هوافج انك تتجوز غير الغاليِة عاد!.
توهجت خضراوية وهو ينظر لها بابتسامة مُشرقة عجز عن إخفائها، فـ حقًا حديثها أسعده وشجعه علي الخوض فيما هو قادم دون تفكير، أو تراجع..

ضربت كتفه بخفة وهي تبتسم قائلة بمشاكسة بسبب حالته: واه واه شوف وِشك نوِر كيف لما جات سريتها؟
ضحك بخفة ومازالت عيناه تبوح بالكثير من الأشياء التي قرأتها داخل مُقلتيه، احتضنت وجهه بين يديها وقالت بتمني وهي ترى تلك الرغبة والإرادة في تملُّك ندى حُبًا تشع داخل عيناه: ان شاء الله تكون مكتوبالك وربنا يجعلها من نصيبك يا ولدي، هي ما هتليجِش مع غيرك يا جلب أمك..

عانقها بحنان وهو يبتسم بامتنان لوجودها في حياته، يعلم أن القرد بعين أمه غزال، ولا يُمانع أن تراه جيّدًا إلى هذا الحد، فهذا رأيها وحدها أنها لن تليق سوى به! فماذا سيكون رأي صاحبة الشأن نفسها؟!
أما، في الخارج، كان آدم جالسًا بجانب تالين على المقاعد المصفوفة الملتصقة ببعضها لبعض يُراقب متولي الذي يظهر كل بُرهة وأخرى من مكانٍ مُختلف!
سأل تالين مستفهمًا وهو ينظر لهُ: هو في ايه؟

هزت كتفيها بجهل ثم قالت بعد تفكير ومراقبته من وقتٍ: متهيألي بيكلم حد عشان البوليس ميدخلش ويلموا الموضوع! ومتهيألي برضه انك لما جبته المستشفي دي كان تصرف كويس منك عشان ده مِهدي الموضوع شوية لأنها مستفشي زي ما انت شايف..
نظر حوله وهو يهز رأسهُ بتفهم ثم أردف بنبرة باردة: ماما اتصلت بيا النهاردة، نظرت لهُ باهتمام تحثه على التكملة ليسترسل: قالت لي ارجعوا..

هزت رأسها بخفة وهي ترمش ثم قامت بسؤاله ببعض التردد: وانت هترجع؟
أومأ دون النظر لها وتابع بنبرة مستاءة: هطمن علي عمّار وهنزل لما ترجعي وضبي حاجتك..
هزت رأسها بإيماءة خافتة لا تُرى لـ يفاجأها سؤاله الذي خرج من بين شفتيه من دون حياة: مصطفى وحشك؟
ازدردت ريقها بارتباك وهي تبعد خصلاتها خلف أُذنها ثم قالت بهدوء بنبرة مهتزة أقرب إلى الإرتجاف: طـ، طبعًا وحشني مش جوزي؟

ابتسم ابتسامة ساخرة رأت بها الألم ولم يتحدث ولا التفت إليها حتى! فقط ابتعد عن مقعده وجلس على المقعد الذي يليه ليترك مقعدًا بينهما فارغ، هذا طفولي!، هو فقط من يبحث عن الحزن بنفسه ويسأل ويثرثر كثيرًا..
حملقت تالين به بتعجب عاجزة عن الرد فقط مشاهدته تذهلها بسبب مفاجآته وردات فعله العجيبة التي لا تستطيع توقعها، وعِندما تتوقعها تتوقعها بشكلٍ غير صحيح..
عودة إلى القاهرة، في المستشفى..

كان قُصيّ جالسًا في الخارج يضع رأسهُ بين يديه مًنتظرًا خروج الطبيب من الداخل كي يطمئن عليها، متنفسًا باختناق بسبب تلك الغمامة السوداء التي تطبق فوق صدره أثقلته..
يتمني لو ظنونة تكون خاطئة وألا تكون حامل، فلا سبب آخر قد يجعلها تنزف بتلك الطريقة سوى الحمل في هذا الوقت، فهي لا تعاني من شيءً! ولا يوجد لديها مشاكل تؤدي إلى نزيفها؟
فقط ماللعنة التي حلت على عقلها و جعلتها تذهب إلى هناك؟ ألا تملُك عقلًا؟.

خرج من شروده مع خروج الطبيب من الغرفة..
هب واقفًا يسأله عن حالها بقلق ليتحدث الطبيب بأسفٍ وهو يهز رأسهُ: للأسف مقدرناش ننقذ البيبي ربنا يعوضكم..
هز قُصيّ رأسهُ بثقل ثم سأله وهو يبتلع غصة لا يعلم مصدرها: هي هتبقي كويسة؟

هز الطبيب رأسهُ بجهل وقال مُفسرًا: ده علي حسب حالتها وتقبلها للخبر وانا للأسف لازم أبلغ عشان ده اعتـ، قاطعته تلك الطبيبة قائلة بقوة أثناء رمقها لـ قُصيّ بنظرات كارهه بعد إن خرجت من الغرفة: لازم تبلغ طبعا دي تاني حاله يجيبها كده مش واحدة بس الله اعلم بيعمل فيهم ايه؟

زفر قُصيّ بانفعال وهو يمرر يده على وجهه باختناق قائلًا بتهكم: لا دي وسعت منك اوي! من كل عقلك شايفاني فاضي عشان اضرب دي شوية ودي شوية وبعدين اجيبهم المستشفى!
ردت بغلظة وهي تخفي جسدها خلف الطبيب تحتمى به: مش يمكن تكون سادي إش عرفنا؟

ابتسم قُصيّ بنفاذِ صبر وهو يتنفس بانفعال ثم سألها بسخرية: صوتك طلع يعني و بتزعقي نسيتي نفسـ، قاطعة الطبيب بجدية وحزم: لو سمحت كفاية كده دي أمانة ومش المفروض نتساهل في حاجة زي دي!

تنهد قُصيّ وهو يأخذ شهيقًا طويلًا في محاولة لضبط أعصابه ثم برر لهُ موقفه من عدم التبليغ من بين أسنانه: مينفعش تبلغ عشان اللي عمل فيها كده أبوها والتانية كذلك و أكيد مفيش واحدة منهم هتبلغ عنهُ استني لما يفوقوا وممكن تسألهم بنفسك ولو وافقوا بلغوا!

بعد مرور يومين..
في منزل عمّار..
إبتسم آدم وهو يعانقه بحنان مودعة: خلي بالك من نفسك يا مهمل و متتأخرش أنا مقدرش اقعد من غيرك..
ضيق عمّار عينيه بشك ثم ضرب صدر آدم بخفة وهو يردف بمكر: ليه انا تالين ولا ايه؟
قهقهة آدم وهو يخلل أنامله داخل خصلات شعره الناعمة ليتابع عمّار ممازحًا: ارجع الاقيك مربي دقنك..

أبتسم آدم ابتسامة صفراء ثم ضغط على صدره مكان الجرح بغيظ جعله يتأوه، ثم ركض إلى سيارته الجالسة بها تالين تنتظر بعد أن ودعت حُسنة ودهب ثم انطلق وذهب في طريقه..

إبتسم عمّار وهو يراقب ابتعاد السيارة حتى اختفت عن وقع أنظاره نهائيًا، دلف إلى الداخل لتزداد ابتسامته إشراقًا عِندما وجد ندى تتجول خلف المنزل برشاقة تحت ضوء الشمس الذي يضاهي لونها اللامع المُشع، إنها رشيقة، وشامخة، ومتألقه مثلها تمامًا، فهو لم يقُم بتسميتها ندى عبثًا، كان يعلم أنها ستكون جميلة بشكلٍ لا يوصف عِندما تكبر، وقد كانت، وكم إشتاق لها..

في منزل جاسم في القاهرة..
وقفت أمام باب غرفة الرسم الخاصة به وهي تقضم شفتيها بتوتر حتى سمعت صوتهُ العميق يأذن لها بالدخول..
دلفت بهدوء وهي تشد قبضتها على الوشاح الذي تضعه فوق كتفيها، وقفت خلفه تراقب رسمه باهتمام وصمت، بشعره المبعثر كـ حالته تماما فمنذُ يومين لم يبرح مكانه ويتخد من غُرفة الرسم معيشةٍ لهُ..

ظلت تراقبه بصمت دون التحدث وهو لم يتحدث بسبب انغماسه وشغفه بما يفعل، لكنه لم يغفل عن وجودها أيضًا بل كان مترقبًا لها ومنتظرًا أن تتحدث..
تنهدت وهي تحدق في اللوحة فكما يبدو من تلك اللوحة أنها هي لكنها مُختلفة قليلًا، فكانت ترتدي بها معطف ثقيل وتنظر لهُ بصدمة وتفاجئ بوجة شاحب أبرزه في اللوحة مع لمعة عينيها الحزينة النادمة وتبعثر شعرها الفحميّ بإهمال حول وجهها! متى حدث هذا؟ هذا ليس لون شعرها الحالي؟

سعلت بصوت منخفض كي تجذب أنظاره وقد نجحت عِندما نظر لها باستفهام، لترتبك وتفرك يديها المتعرقة معًا بتوتر وهي تقضم شفتيها، مطرقة الرأس ثم سألته بخجل: جاسم ماما قالتلي انك كان نفسك نتجوز من وقت قريب جدًا، تقدر تفهمني ايه المُشكلة دلوقتي؟
ردّ بنبرةٍ هادئة متريثة ومازال يوليها ظهره مُنغمسًا في رسمته التي أراد رسمِها في منزل عمّار: كُنت مستعجل عشان اتجوز عشق..

قطبت حاجبيها بعدم فهم وانزعاج بسبب أقواله التي تشعرها بالغباء، ضمت قبضتها بغضب وهي تشعر بـ تخضب وجهها بالحمرة من فرط الإنفعال بسببه، ثم أخذت شهيقًا طويلًا كي تهدأ ولا تتحدث بالترّهات أمامهُ..

تنحنحت بخفة ثم هتفت باسمه بنبرة خافتة رقيقة: جاسم، توقفت يداه عن الحركة ثم استدار وترك الفُرشاة من يده ونظر لها بابتسامة هادئة تحثها على التكملة، تابعت، وغيرت مجرى الحديث سائله باستفسار وهي تأشر على اللوحة بكفها: امتى انا كُنت كده؟
زم شفتيه وهو ينظر بينها وبين اللوحة بتفكير ثم قال بكل صراحة جعلت قلبها يخفق بعنف: دي عشق مراتي شوفتها لما كُنت مسافر الأيام اللي فاتت..

هزت رأسها بعدم فهم وهي تقطب حاجبيها ثم قالت بحيرة مُزِجت بيأسٍ: جاسم مش فهماك!

ابتسم بخفة ابتسامة لم تصل إلى وجهه وهو يسألها باستفهام: عشق أنا، أغمض عينيه ثم صحح قوله بأسف وهو يفتح عينيه: عفوا قصدي جـنّـة، انا لو اختفيت أسبوع و رجعـ، أوقفه قولها بتلكي وعدم فهم شاعرة بالغباء من طريقة حديثه معها وهي ترمش سريعًا: جاسم انت بتتكلم كده ليه؟ انا مش فاهمة ومين جـ، آآه ه ه، تأوهت بقوة وهي تخفض رأسها بألم وعادت تلك الأصوات و الهمهمات تصدح داخل أُذنها بقوة مع تلك الصور المُشوشة التي بدأت تتوافد أمام عينيها كـ شريط، تراها بتشوش..

تحمس وهو يراقبها وچل ماجال في خاطره في هذا الوقت أن يستمر حتى تعود تلك الذاكرة اللعينة وينتهي كل شيء لأنهُ ملّ هذا الوضع..
وقف وتقدم منها وهو يتطلع إليها من أعلاها لأخمص قدميها بتفحص ثم سألها باستفهام: لو اختفيت ورجعت بعد اسبوع شعري اصفر ومش فاكرك هتتصرفي ازاي؟
رفعت رأسها بوجه شديد الإحمرار وهي تتنفس بعنف ثم ردت عليه بتعب وهي تلهث: عادي، جايز تكون غيرت لون شعرك وعامل فيا مقلب!

ابتسم بملامح هادئة حد البرود وهو ينظر لها، هل يبدو كمن يستطيع صُنع مقالب؟.
سحبها من معصمها فجأة ليسقط وشاحها أرضًا وتبقي عارية الكتفين، توقف بها أمام المرآة وهو يحوط كتفيها بقوة ثم مال بالقرب من أُذنها وتحدث وهو ينظر داخل المرآة: شايفة نفسك كويس؟ انتِ مش عشق! اللي في اللوحة عشق لكن انتِ مش عشق انتِ صورة منها فهمتي؟ انتِ جـنّـة مش عشق!

اغرورقت عيناها بالعبرات الصامتة وهي تنظر لهُ عبر المرآة ثم استدار ورفعت عيناها ناظرة داخل عينيه بلوم ثم سألته باستنكار وصل لذروته من تصرفاته الجارحة: انت ليه بتعمل فيا كده؟ اومال انا مين؟
نظر لها بشفقةٍ سرعان ما أخفاها وهو يذكرها قائلًا: فاكرة لما كُنت بساعدك في المذاكرة؟ ومضيتي في زاوية الورقة من فوق بإسم جـنّـة سعِتها معرفتيش السبب ولا انا بس دلوقتي عرفته انتِ جـنّـة!

هزت رأسها بنفي وهي تتألم بشكلٍ لا يوصف، عيناها غائرة وهي تقول بنبرة مرتجفة مُنكسرة حزينة: لأ انا عشق وانت بتحبني!
هز رأسهُ بأسف وهو يعيد باصرارٍ حطم دواخلها أكثر: عشق مش مُحجبة! شعرها مش بُني، عندها وحمة، انا هجيبلك صورها كلها عشان تصدقي انك مش هي!، وترك الغُرفة وهرول إلى الخارج تاركًا جـنّـة تتأوه بقوة أكبر وهي تسقط على ركبتيها..

أخذ ألبوم الصور الخاص بعشق من الخزانة وهرول به إلى الخارج ليتوقف بمنتصف الطريق عِندما قابل والدته أمام غُرفتها كانت في طريقها إلي الأسفل..
توقف أمامها هو يتنحنح فتجاهلته بإهمال مُزِج بغضبٍ وذهبت في طريقها كحالها مُنذُ يومين، تتجاهله، مُنذُ أن عاد وتركهما في الفُندق وأُلغيَ الفرح و أحزن عشق من وجه نظرها..

تنهد بحزن ودلف إلى الغُرفة ليتوقف محلهُ خلف الباب عِندما وجدها تبكِ بانهيار وهي تخفي جسدها تحت الغطاء بهستيريا والعبرات تهبط من عينيها كـ أمطار ديسمبر..
حدق بها وهو يقطب حاجبيه بانزعاج شديد مُتعجبًا تلك الثروة والهستيريا لقد كانت بخير! ماذا حدث؟ هل يا تُرى عادت الذاكرة وتختبأ خوفًا منهُ؟!

ازدرد ريقه بتوتر وتقدم منها ببطء متوجسًا، يقدم خطوة ويؤخر الأخرى، صرخت به بخوف وهي تنتفض محلها مُحذرة كي لا يتقدم منها وهي تنتحب بأسى غلب عليه رجاءها: أُقف عندك متقربش مني متقربش مني، أرجوك..
توقف على بُعد خطواتٍ منها مشوشًا لا يعرف كيفية التصرف لكنهُ حقًا أشفق على حالتها من كُل قلبهُ..
حرك شفتيه كي يتحدث لكن توقف عِندما لطمت وجهها بقوة وهي تنهر نفسها بحدّة، صارخةً بعنف.

مُتذكرة تصرفاتها معهُ: انا عملت ايه؟ عملت ايه؟
سار خطوتين وقلبهُ يخفق باضطراب مراقبًا انكماشها على نفسها وهي تحاول تغطية شعرها بالغطاء مع جسدها كي لا يراه بيديها المُرتجفة بأسف، لكنها فشلت، وكم هذا أحزنهُ عليها، فهو لم يقصد أيًا مما حدث حقًا، لم يقصد..

جثي أمام التخت لتبتعد لأقصاه وهي تشهق باختناق من كثرة البُكاء، تهز رأسها بنفي وخُذلان كأنهُ كان يعرف كل شيء ويتجاهل، جعلت ذنبهُ يتفاقم أكثر وهو يُراقبها بحزن..

تحدث بهدوء بنبرة خرجت مُرتجفة متأثرة وهو يتوسلها كي لا يصل صوتها إلى والدتهُ ويحصل ما لا يحمد عقباه: إهدي واسمعيني متخافيش مش هعملك حاجة ولا هأذيكِ بس اهدي بالله عليكِ، انتِ عارفة ان امي تعبانة ولو عرفت حاجة زي دي هتروح فيها ارجوكِ اهدي و بطلي عياط!.

هزت رأسها بنفي وهي تبكِ دون توقف، عاجزة عن إخفاء شعرها عن نظراته وهي تهتز بعنف فوق الفراش، متذكره كل ماحدث معها منذُ أن أتت وخاصتًا تلك اللحظات الحميمية بينهما..
تنفس بتعب ثم تابع قوله برجاء وهو يخبرها حلًا خطر لهُ الآن: احنا هنعمل الفرح، توقفت عن البُكاء ونظرت لهُ بعين فارغة غائرة مُستنكرة قوله، هذا المُستغل؟

تابع و زرقاويه الداكنة تتوسلها قبل قوله بلهفة: المفروض اننا كاتبين الكتاب تمام، هنعمل الزفة وهاخدك علي اساس اننا رايحين شهر عسل بس هرجعك لأهلك وهدور انا علي عشق وهرجع لما الاقيها، لإن انا مش هقدر اقول لأمي اي حاجة من اللي بتحصل حالتها مش هتتحمل!، توقف و استرد قائلًا بحزن عميق وهو ينظر لها: انا عارف ان اللي بطلبه منك صعب بس لازم تساعديني انا مأذتكيش في حاجة ولما عرفت انك مش عشق بِعِدت عنك! انا مش وِحش ارجوكِ ساعديني عشان كل حاجة ترجع لطبيعتها..

لم ترد عليه بل ظلت مُلتزمة بالصمت، ثانية، اثنان، ثلاثة، أربعة، نصف ساعة، حتي هدأت وتوقفت عن البُكاء، لكن جسدها لم يتوقف عن الانتفاضة قط وهي تحدق في الفراغ بنظرات خاوية..
قالت ببطء، بعد تفكير طويل، بنبرة ضعيفة: انا مرات قُصيّ رشدان..
في المستشفى..
وضعت قدمها داخل حذائها الأرضي وهي تنحني عليه ببطء كي تربطه، فها هي أصبحت بحالٍ أفضل قليلًا ويمكنها الذهاب إلى المنزل..

كتمت أنينها المتألم في منتصف المسافة، لتجد نادين تهرول وتجثوعلى ركبتيها أمام قدميها ثم مدّت يدها وقامت بربط حذائها بهدوء وهي تبتسم بعذوبة، قبلت ليلى رأسها بحنان وهي تبتسم بنعومة ثم جلست على طرف الفراش وظلت تربت على شعرها الناعم بخفة، حتى انتهت..
وقفت وهي تبتسم ثم جلست بجانبها، فعانقتها ليلى بحنان وقبلت رأسها بدفء قائلة بامتنان: تسلم ايدك يا حبيبتي..

أراحت نادين رأسها على صدرها وبيدها حاوطت خصرها بخفة وهي تقول بحزنٍ عميق: أنا كُنت هتجنن عليكِ، ربنا يخليكِ ليا وميحرمنيش منك أبدًا، ثم رفعت رأسها ونظرت لها بخوف وأعين دامعة حزينة وهي تسألها: هو ليه عمل فيكِ كده؟

ارتجفت ليلى لوهلة وانقبض قلبها بخوف وهي تذكر تلك الليلة التي تطاردها، لكنها أصبحت بخيرٍ وبعيدةٍ الآن، لاداعي للخوف، أغمضت عينيها التي اصبحت تحرقها من احتجاز عبراتها داخلها كي لا تبكِ ثم قالت برجاء: نادين يا حبيبتي ممكن متجبيش سيرة أي حاجة تخص هناك، مش عايزة افتكر حد ممكن؟

تقلصت ملامحها بحزن وقالت كي تستعطفها: طيب وعمّار مش هنطمن عليه ده هو اللي جـ، قاطعتها ليلى متوسلة بتعب وقد تساقطت عبراتها بضعف وهي ترتجف لتبلل اللاصقة الطبية الدائرية الموضوعة في منتصف وجنتها فوق الجرح الذي خلفته أظافر والدها: نادين عشان خاطري متتكلميش عنهم انا تعبانة ومش عايزة اسمع عنهم أي حاجة..
أومأت وهي تمسح عبراتها بحزن مُعتذرة بندم: حاضر، انا اسفة مش هتكلم عنهم تاني متزعليش نفسك..

ربتت ليلى على ظهرها بحنان وهي تهدئ من روعها ثم حثتها على الوقوف: يلا عشان نطمن على عشق قبل ما نمشي؟
أومأت وهي تقف ثم حملت حقيبة الظهر و ارتدتها فوق كتفيها، ووضعت يدها حول خصر والدتها وساعدتها في السير..
أما في الغرفة الأخرى الخاصة بعشق..

كانت تستلقي على جانبها أسفل الغطاء، تحدق تجاه النافذة المخفِية بسبب انسدال الستار فوقها مما جعل الغرفة مظلمة وهذا ما تفضله فماذا ستفعل بالضوء؟ فالظلام اصبح يبتلعها وأصبحت تكره نفسها أكثر من ذي قبل، مُنذُ أن علِمت أنها فقدت طفلها..

هي تعرف، بل مُتأكده أن هذا عِقابًا لها وتلك البداية فقط وهذا لا شيء، لكن فقط لما الحزن؟ لقد اتفقت هي وقُصيّ وكان سيموت في الحالتين!، على الأقل ليست هي من قتلتهُ بيدها كما كان من المُفترض أن يحدث، ومن الجيّد أنها لم تعرف سابقًا كي لا تؤثر عليها غريزتها الأمومية وتحبهُ ثم تحزن عليه، جيّد، لن تبكِ..

هي عِندما استفاقت كانت تتألم بشكلٍ لا يوصف، ولم تجد بجانبها سوى الطبيب والطبيبة يقفان فوق رأسها، ثم بدأ وابل الأسئلة يلقي عليها والتي لم تفهم منها سوى مدافعة قُصيّ عن عمهُ وقوله أنهُ والدها وقد فعلت لهُ ما يُريد وقالت أنهُ والدها، ورفضت رؤيته بعدها..

وانشغلت بحزنها على نفسها وطفلها، وعِندما كان يدخل عنوة لم تكن تلقي عليه نظرة ولم تحادثه لمرةٍ واحدة قط، وطلبت من الطبيب أن يبعده عنها لأن رؤيته تؤثرعليها سلبًا ولن تتعافى، وهي غاضبة منهُ من البداية بسبب عِلم أصدقائه بعلاقتهم، ستبعده عنها..
فقط ليلى هي من كانت تأتي لها وتجلس معها..

لكن حقيقة الأمر وفي داخلها تعلم أنها لا تحتاج سوى عناقًا، عناقًا منهُ فقط، عناقًا يهوِّن عليها ويخبرها أنها بخيّر وكل شيء سيمُر، لكنها تُعاقب نفسها وتبعدها عنهُ لأنها تستحق..
أغلقت عينيها بقوة عِندما أزاح قُصيّ الستار جانبًا لتضيء الغرفة وهو يقول بنبرة نافذة استشعرت بها وصول غضبه منها لذروته وتعلم أنهُ سيتحول بعدها: مش كفاية نوم بقي، وكفاية قاعدة في المستشفي؟.

لم ترد عليه وتقلبت إلى الإتجاه الآخر وتجاهلت وجوده تمامًا، زفر وتقدم منها بضيق ثم جلس أمامها وهو يقطب حاجبيه بانزعاج، لترفع الغطاء على وجهها لكنهُ سحبهُ من فوقها بقوة جعلتها تخاف وتضع يدها على وجهها ظنًا أنهِ رُبما يتهور ويضربها..

تنهد بحزن وهو ينظر لها بأسف، ثم رفع يده وأبعد يدها من فوق وجهها برفق، ربت على وجنتها المكدومه الداكنة من اللكمة بحزن وهو يسألها بخفوت بنبرة أقرب للتودد: لسه مش عايزة تكلميني ولا تشوفيني؟
ارتجفت شفتيها و أدمعت فيروزتيها بضعف جعلتها ترمش كثيرًا كي لا تبكِ ثم حركت رأسها من فوق الوسادة وابعدتها عن وقع يديه وتقلبت إلى الجهة الأخرى بصمت..

تنهد بـ همٍ وظل يُحدق في ظهرها بحزن حقيقي، وحيرة!، بسبب ذلك الرفض، يشعر أنها تخلت عنهُ! ولن يكذب ويقول أنهُ قوي لا يعبأ! لا بل كان قويًا بسبب ثقتهُ بحبها لهُ بجنون وعودتها لهُ مهما حدث ومهما فعل! وكان ينجح لأنهُ تأكد من جعلها تحبهُ حتى النُخاع، وجميع أقوالها وتهديداتها بتركه لطالما سمعهم منها بسخرية لأنهُ متأكد أن لا شيء سيحدث مما تقول، لكن الآن وبعد تخليها عنهُ اليومين السابقين أصبح، لا يثق بشيء..

رفع قدميه وكاد يتمدد بجانبها ويعانقها لكن دخول نادين مع ليلى أوقفه، نظر لهما بسخط وهو يقف بضيق، رن هاتفه داخل جيب بنطاله بصوتٍ مُرتفع، أخرجه وهو يزفر لتتسع ابتسامته عِندما رأي هوية المُتصل..
وضعه على أُذنه وردّ بابتسامة: أهلا بالغالي، جيت في وقتك استني، سار خطوتين إلى الأمام، توقف أمام ليلى ومدّ لها الهاتف بكفه قائلًا بهدوء: مكالمة عشانك..
نظرت له بعدم فهم ثم سألته بتعجرف: مين؟

ابتسم ابتسامة صفراء وقال بسخرية: واحد من الفانز عايز يطمن عليكِ..
نظرت بينه وبين الهاتف بنظرة خاوية باردة وتجاهلته وتابعت سيرها إلى تخت عشق..
لوك بلسانه داخل فمه بانزعاج ثم قال بسخط: عنك هو غلطان اصلا عشان عبرك عاملة زي القُطط تاكل وتنكر، انا غلطان اني شيلتك اصلا..

انتفخت أنفها الصغير بغضب ثم أستدارت وقالت لهُ بحدّة وانفعال مُفرط: بقولك ايه الزم حدودك واتكلم باحترام انت هتصاحبني!، و محدش قالك انت وصاحبك تغلطوا وتيجوا؟ ولو فاكر اني هشلهالكم جميلة تبقي غلطان! محدش ضربكم علي ايديكم؟.
ابتسم بسخرية ثم قال بجفاء: انتِ بجحة اوى على فكرة!
بادلته إبتسامته بأخرى ساخرة قائلة بغلظة وبرود: مش أكتر منك..

ضم قبضته على الهاتف بغضب جام وكاد يرد بكل لذاعة لكن صوت عمّار المُحذر الذي وصله عبر الهاتف أوقفه وجعله يترك الغرفة ويخرج، تحت نظرات نادين التي تبعته..
زفرت بحدّة وهي تلهث بغضب، ذلك الوقح هو وصديقة! من يظن نفسه؟، ظلت تلعنه وتبغضه حتى وصلت إلى الفراش أخيرًا، جلست بجانب عشق، ثم مدت يدها وربتت على شعرها بحنان وهي تسألها بحزن: عاملة ايه النهاردة؟

انتصبت جالسة بحركة بطيئة ثم عانقتها بقوة وأجهشت في بُكاء مرير وهي تشدد على عناقها بضعف، بُكاء احتجزته ليومين داخلها كان يكويها ببطء مُعذب..
مسدت ليلى ظهرها بحنان وهي تواسيها بحزنٍ عميق و شفقة: اهدي يا حبيبتي اهدي، كل حاجة هتبقى كويسة ان شاء الله، ربنا كبير يا عشق..

إزداد نحيبها أكثر وتشنج جسدها وهي تقول بانهيار: ربنا غضبان عليا يا ليلى، غضبان عليا ومفيش حاجة في حياتي هتبقي حلوه بعد كده انا عارفة، حتي لو في مش هحس بيها عشان ربنا مش راضي عني..
وماذا يمكنها أن تقول بعد هذا؟، شددت على عناقها بقوة أكبر وهي تُربت على ظهرها بحنان بالغ، حتى هدأت قليلًا..

فصلت ليلى العناق ورفعت وجهها بطرف أناملها قائلةً برفق وهي تمسح عبراتها بنعومة: ان الله غفورٌ رحيم يا عشق، قُدامك فرصه انك ترجعي عن كل اللي بتعمليه وتفتحي صفحة جديدة مع ربنا وتبدأي من جديد، صدقينى سعِتها هتحسى بالتغيير، المهم من كُل ده انك تعرفي غلطتك ومترجعيش للطريق ده تاني، عشق انتِ تستاهلي حياة أحسن من دي بكتير والله..

هزت عشق رأسها وهي تومئ بخفة مرتجفة ارتجاف طفيف ثم قالت بامتنان وهي تعانقها من جديد: شكرًا ليكِ، بجد شكرًا..
بينما في الخارج، كان قُصيّ يدور في الخارج حول نفسهُ كالمجنون وهو يتحدث معهُ بعصبية من الغيظ: انت بتضحك علي ايه يا حلوف انت! دي حتي مقلتش شكرًا الباردة!
تنهد عمّار بهيام وهو يقول بسعادة: هي كده بقِت كويسة ورجعت لطبيعتها..

زفر قُصيّ بسخرية قائلًا بفظاظة: بكره تِسففك التراب وتدوس عليك وهتشوف، اقفل بقي عشان عصبتني..
زفر وهو يشتم بخفوت ثم فتح باب الغُرفة ليجد نادين تندفع منهُ بقوة وهي تبتسم بحماس، نظر لها بريبة ثم سألها بشك وهو يضيق عينيه: ايه؟
ردت بابتسامة وهي تحتضن يديها إلى صدرها: عايزه أكلم عمّار اتصلّي بيه لو سمحت..
عقد يديه أمام صدره ثم سألها بسخط: انتِ مش رخمة زي أمك ليه؟

زمت شفتيها بحزن ثم ردت عليه بحدّة لطيفة: بقولك ايه إلا مامي متجبش سيرتها على لسانك ده دي قمرايتي..
قلب عينيه بسخرية ثم أخرج هاتفه كي يهاتف عمّار وهو يسألها بشك: انتِ كُنتي هتقوليلي حاجة من يومين بس انا سيبتك ومشيت كُنتي هتقولي ايه؟
ابتسمت بارتباك وهي تمسد رقبتها بتوتر سرعان ما أخفته قائلة بابتسامة: مفيش خلاص بقيت كويسة شكرا.

ابتسم وهو ينظر لها قائلًا باستياءٍ شديد: ماهي شكرا سهلة أهي أومال في ايه؟ مغرورة، أعطاها الهاتف وتابع قوله وهو يبتعد: أنا هروح أكمل إجراءات الخروج بتاعة أمك وجاي..
داخل الغرفة..
ربتت عشق على ذراع ليلى وهي تعتذر منها عِوضًا عن قُصيّ: متزعليش من قُصيّ هو كده دبش ساعات بس طيب والله..

ابتسمت ليلى بنعومة وهي تقول بصوتٍ مُنخفض: مين قالك اني زعلانه؟ بالعكس انا مش عارفة من غيرهم كُنت هعمل ايه، حقيقي انا ممنونة جدا ليهم بس مش لازم اقول يعني، وخصوصا للأشكال دي، ثم صمتت قليلًأ رامشة تراجع قولها، لتتابع مُعتذرة إلى عشق: متزعليش مني انـ، قاطعتها عشق وهي تضغط على يديها قائلة بابتسامة تخبرها من خلالها أنهُ لا بأس: لا عادي انا عارفة ان قُصيّ أشكال، ضحكت ليلى وعانقتها بحنان وهي تقول بحب: هتوحشيني أوي ما تيجي تقعدي معايا؟

ابتسمت عشق بنعومة وهي تنظر لها ثم شكرتها بامتنان: شكرًا، ربنا يخليكِ، أنا معايا رقمك لو احتجت لك في اى وقت هتصل بيكِ..
دلف قُصيّ وهو يكاد ينفجر من الضيق ليتضاعف أكثر عِندما وجدها تضحك مع ليلى وهو تعذبه ليومين!
أغمض عيناه بنفاذِ صبر، ضاغطًا على أسنانه بقوة من الغضب ثم قال بصوتٍ مُرتفع ساخط قطع الحديث بينهما: ايه هتباتي هنا ولا ايه؟ انا خلصتلك إجراءات الخروج تقدري تتفضلي..

نظرت لهُ باستخفاف ثم عانقت عشق وهي تهمس لها بشيءً ما جعلتها تضحك بنعومة ليزداد سخطه عليها أكثر..
تركتها وسارت بهدوء وهي تبتسم، ثم توقفت أمامه قائلة بدون تعبير وهي ترمقه بأحد نظراتها المُتدنية من أعلاه لأخمص قدميه: انا همشي عشان عايزة امشي مش عشان جلالة الملك أمر، وتركته يشعر بالغليان وخرجت..
اللعنة عليها هو يرغب في دكّ رأسها، تستحق الصفع من عمّار حقًا تلك المُستفزة، لهُ الله..

اصطدمت بجسد نادين وهي تخرج أثناء دخولها باندفاع كما تفعل دائمًا، دلفت نادين سريعا إلى الغُرفة بعد انتهاء مكالمتها مع عمّار، ناولت قُصيّ الهاتف وهي تهمس شاكرة ثم ركضت وعانقت عشق بقوة وذهبت مع والدتها..
ابتسمت عشق وهي تحدق في ظهرها حتي ذهبت، لتختفى ابتسامتها بالتدريج عِندما وقعت عينيها داخل عيناه التي تُقدح شرًا تجاهها..

أبعدت نظرها عنهُ بارتباك وكادت تستلقي لكنهُ قال ببلادة: قديمة دي! بقي بتضحكِ مع الغريب وسيباني كده يا قرع؟!
قطبت حاجبيها بانزعاج ولم ترد عليه، ليتقدم منها وهو يطرق فوق الأرضية الناعمة بحذائه الأنيق، لتزداد خفقات قلبها عُنفًا مع كل خطوة يخطيها تجاهها تقربه منها أكثر..

جلس أمامها وهو يكتف يديه أمام صدره، يتفحص وجهها الباكِ بنظراته بانزعاج، حتي أنها بكت معها وتركته!، لقد أصبح بكائها ونكدها الدائم في الآونة الأخيرة روتينًا يوميًا في حياته، أصبح يفتقده، لكن لِمَ العجلة يعلم أنها ستنفجر به بعد قليل..
تنهد ثم سألها مُستفسرًا عن الغباء الذي تمتلكه بعد تفكير دام لدقائق وهو يضغط على كل كلمة يقولها: نفسي اعرف حاجة واحدة بس، انتِ، ايه، اللي، وداكِ هناك؟ ها؟!

ازدردت ريقها مُبتلعة غصتها بمرارة ثم ردت بجفاء دون النظر لهُ: عشان عايزة ابعد عنك، مش عايزاك تاني في حياتي..
فك عقدة يديه وهو يتنفس بعصبية مفرطة ثم أعاد سؤالها من بين أسنانة: يعني عشان مش عايزاني تروحي تموتي نفسك! يا غبية!
صرخت به وهي تطلق العنان لعبراتها الحارقة كي تتحرر وتنهمر بحرية فوق وجنتيها: متقولش غبية انا مش غبية..

زمجر صارخًا بها بالمقابل وهو يكور قبضته ضاربًا الكومود بجانبها بعنف جعله يهتز بقوة أخافها، جعلها تنكمش على نفسها بذعر: لأ ستين غبية، انتِ كُنتي هتموتي وسقطتي؟!
نظرت لعيناه الدامية و ملامحة الغاضبة قليلًا ثم انفجرت ضاحكة وهي تبكِ بهستيريا غير قادرة على التوقف، ها قد بدأت..

ضرب الكومود عدة ضربات من فرط غضبة حتى تخدرت يده وهو يستمع لها، ثم وقف وأخذ يمسد جبهته بخشونة متنفسًا بثوران، زافرًا بحدّة، وهو يدور حول نفسه كالمجنون، لا يرى أمامه من فرط عصبيته الشديدة، فهي ستجعله يجن!.
أوقفه سؤالها بحسرة بنبرة مرتجفة: زعلان ولا ايه؟ علي أساس إني لو كُنت حامل وعرِفت مكُنتش هتخليني أروح أخلص منهُ؟

هزّ رأسهُ بعصبية وردّ صارخًا بحدة وهو ينظر لها بقسوة ظهرت جليًا على ملامحة لم تراها قبلًا: عرفتي منين اني كُنت هعمل كده؟ عرفتي منين؟
أطرقت برأسها وظلت تبكِ بألم دون الردّ عليه وهي تقبض على أناملها بقوة، فهو جعل ذنبها يتفاقم الآن بتفكيرها أنهُ رُبما كان سيتركه يأتي إلى هذه الحياة..

تابع قولة وهو يضرب كفيه معًا مُستنكرًا: ومن غير الحمل ايه اللي يخليكِ تروحي هناك؟ فاكرة انك كده مستخبية؟ عندك الفنادق ماتروحي أي فندق!
صرخت قائلة بانسكار شاعرة بالذُلِ والمهانة: مش معايا فلوس كفاية عشان أقعد في فندق!
اشتعلت عيناه بلهيبٍ مُستعر وهو يحدق بها وفي ثانية كان يقبض على فكها بعنف آلمها وهو يسألها بجفاء: كام مرة قولتلك خدي فلوس خليها معاكِ كام مرة! و بسبب غبائك وافكارك المتخلفة مش راضية؟!

أكدت على قوله باصرار وهي تنظر لهُ بتحدٍ سافر قائلة بنبرة مرتجفة: ولو آخر واحد في الدنيا يا قُصيّ برضه مش هقبل منك أي حاجة..
ابتسم بقسوة وسألها وهو يضغط على فكها بقوة أكبر: وياتري بقي مين هيدفعلك حساب المستشفى الجميلة دي دلوقتي؟
تقلصت ملامحها بألم من قبضته القاسية ثم قالت بهدوء جعلته يجن أكثر: عمك اللي عمل فيا كده وانت مُلزم انك تِلم وراه يا إما هعترف عليه وهتدفع كفالة عشان يخرج هي هي؟!

قهقهة بخفوت وهو يرفع حاجبيه، لوكانت يديه فارغة لصفق لها حقًا، تلك الغبية..
قرب وجهها منهُ أكثر وقبضته تزداد قسوة فوق فكها قائلًا بخشونة وهو يحدق بها بغضب: مستوى حقارتك بيتقدم كل يوم عن التاني يا عشق؟!
رفعت يدها ووضعها على وجنتهُ بنعومة تزامنًا مع تحرك شفتيها و قولها بابتسامة باردة: تربيتك يا قُصيّ..

دفع وجهها وقضم شفتيه بـ غِل ووقف وأخذ يدور في الغرفة باهتياج وهو يفكر بفقدان صواب وبينه وبين الجنون شعرة واحدة، هي تُريد أن تُصفع، لا تبرير لتصرفاتها سوى هذا!
عاد وجلس أمامها سريعًا وتوسلها بحزن وهو يحتضن يدها بين يديه: عشق انتِ عايزة ايه؟ قولي لي عايزة ايه؟ انا تعبت من لعبة توم وجيري! ريحيني و قولي لي عايزة ايه؟!
قالت بهدوء دون النظر لهُ: عايزة أرجع لجاسم..

خرج ردة تلقائيًا: نعم يا عنيا؟ مين ده اللي ترجعيله؟

أعادت قولها وهي تداعب ظهر يده بـ إبهامها بخفة: جاسم هرجعله، ثم رفعت وجهه بأناملها برقة وتابعت بنبرة مُرتجفة وهي تبلع غصتها ناظرة لملامحه المستهجنة: انا بأجل حاجة كده كده هتحصل يا قُصيّ، ومتهيألي كفاية كده، انت مخسرتش حاجة! الراجل مبيخسرش حاجة في الحالات دي! السِت بس اللى بتخسر وكفاية كده أنا خسرت كتير، تساقطت عبراتها بغزارة وهي تتابع بألم: قُصيّ انا لو رجع بيا الزمن وقابلتك تاني هحبك عشان انت حقيقي تتحب، بس مش هعمل كده تاني، مش هبقى غبية وهعمل كده تاني سامعني!

تركت يده بهدوء ومحت عبراتها ونزلت عن الفراش بوهن، ثم أخذت تلك الحقيبة الموضوعة على الأريكة من يومين، كان قُصيّ قد أتي بها من أجلها مليئة بالملابس ودلفت إلى دورة المياه..
لِمَ يبدو من حديثها أنها تودعة! هل هي تظن أنهُ سيتركها بتلك البساطة؟
مرّ بعض الوقت، حتى خرجت، تسير ببطء وهي تحدق بذلك الثوب الطويل المحتشم ذا اللون البُنيّ! لِمَ هذا اللون؟ وهل ظن أنها جـنّـة كي يأتي بهذا؟!

شهقت بخوف وهي ترتد إلى الخلف عِندما اصطدمت بصدره الصلب عن طريق الخطأ دون أن تنتبه، فالثوب شتتها قليلًا..
سحبها من خصرها بقوة لتصطدم بصدره، قطبت حاجبيها بانزعاج وتحركت بين يده بغضب لكنهُ أحاط خصرها بيده الأخرى وظل مُقيدًا إياها بقوة مستشعرًا تلك الرجفة التي سارت في أنحاء جسدها، عِندما أسند ذقنه على قمة رأسها وتغللت رائحته الطيبة حواسها، قائلًا برفضٍ قاطع: مش هتروحي في حته فاهمة ولا لأ؟

وضعت يدها فوق صدره ليخفق قلبه بقوة أسفل يدها، وهي تتنهد بتعب قائلة بحزن وقد بدأت تمسد صدره بحنان وأنفاسها الدافئة تضرب تفاحة آدم خاصته: قُصيّ، لازم أمشي..
هزّ رأسه برفض وهو يقطب حاجبيه بغضب، رافضًا تلك الفكرة، خفف قبضته على خصرها، ثم نظر لها وسألها باستفهام: انتِ قولتي انك شوفتي جاسم في الصعيد! هتروحيله دلوقتي فين؟
نظرت لهُ قليلًا وهي تفكر ثم أطرقت برأسها قائلة بخفوت: هستني في فندق لحد ما يرجع..

هزّ رأسهُ ورفع ذقنها بأنامله كي تنظر لهُ وهو يهتز بجسدها بخفة كأنهما يتبادلان إحدى الرقصات الرومانسية على أنغامِ موسيقى هادئة..
أردف وهو يبعد غُرتها خلف أُذنها برقة بدلًا منها: معكيش فلوس كفاية عشان تقعدي في فندق!
أسندت رأسها فوق صدره وهي تغمض عينيها بمشاعر مبعثرة سائلة باستفهام: اومال اروح فين؟

خلل أنامله داخل خصلات شعرها الناعم مداعبًا بنعومة وهو يقول: هتيجي معايا، اقعدي في الشقة ومش هضايقك ولا هجيلك، الشقة دي بتاعتك يا عشق..
أدمعت عيناها، ورفعت رأسها ونظرت لهُ سائلة بحزن: وانت هتقعد فين؟
ربت على وجنتها بنعومة وهو يقول بعدم اهتمام: في البيت في الشارع في اي داهية المهم انتِ..

وكزت صدره بغضب وهي تقول بنبرة مُرتجفة أشبه للبُكاء: متقولش داهية!، ثم عانقته بقوة وهي تكتم شقتها، ليرفعها من خصرها ويوقفها على قدمه وهو يشدد على عناقها بقوة أكبر، وقلبه يخفق باضطراب، مُستنشقًا عبيرها بانتشاء، معتصرًا خصرها بين يديه بقوة، فقط لما لا يدخلها بـ أضلعه وتختفي وينتهي كُل هذا! لقد أصبحت خطرًا على قلبه..

فصل العناق على مضض، ثم احتضن وجهها بين يديه وسألها الذهاب: نمشي!، اماءت بخفة ثم أراحت رأسها على كتفه ليحتضن خصرها بدوره وأخذها وذهب، هي فقط كما أخبرها، غبية، سيجعلها تندم ببطء..
بعد مرور يومين، مساءًا..
كانت عشق في دورة المياه تأخذ حمامًا دافئ وهي تفكر بهدوء، قُصيّ لم يتصل بها اليومين السابقين ولم يأتي ولم يزعجها، وهذا ترك لها مساحة كي تفكر دون ضغوط، دون أن يتحكم بها قلبها ويؤثر على قرارها..

أنهت حمامها، حاوطت جسدها بالمنشفة وخرجت من دورة المياه، تسير بشرود، صرخت بذعر شاعرة بانخلاع قلبها من محله بسبب الخضة عِندما وجدت قُصيّ يقف في مُنتصف الغُرفة يوليها ظهره..
استدار على عقبيه عِندما سمعها، قال لها بنبرة جافة وهو يتفحصها بنظراته: هستناكِ برا البسي وتعالي عايزك، لِبس خروج..

هزت رأسها بخفة وهي تغمض عينيها، واضعه يدها على قلبها الذي مازال يقفز داخل قفصها الصدري بعنف، تحرك قُصيّ إلى الخارج وتركها تستعيد رباطة جأشها بهدوء وعلى مهل..
جففت شعرها الفحميّ بشرود وهي تحدق في المرآة، إن قلبها مُنقبض، وتشعر بشعورٍ سيء وكأن شيءً ما سوف يحدث! ماذا يُريد قُصيّ؟!.

صففت شعرها و جعدته قليلًا، ثم ارتدت بنطال خامة الجينز لونه أسود يعلوه كنزة صوفية سوداء وفوقها معطف أسود، وحذاء أسود، كما هو الحال مع حياتها، انها ذاهبة لسرقة بنك بتلك الهيئة، كانت ترغب في وضع مساحيق تجميل كي تخفي تلك الكدمة التي لم تشفى بعد لكنها امتنعت وتركتها، خرجت عليه بعد بعض الوقت، كادت تجلس على الأريكة لكنهُ وقف ومنعها من الجلوس عِندما قال بهدوء: ممكن تيجي معايا؟

نظرت لهُ بقلق تفاقم أكثر وهي ترى ملابسه السوداء ووجهه المغموم البيّن عليه علامات الإرهاق، وعيناه الحمراء المتعبة التي بالكاد كان يفتحها! ماذا حدث؟ هل مات عمه و سيأخذها كي تواسي والدة جـنّـة؟ لكن هو لن يحزن على عمه بهذا القدر! إن ملامحه تخبرها أن النوم لم يجافيه قط اليومين السابقين، ماخطبه؟!
استفاقت من شرودها على يده الباردة التي احتضنت كفها الصغير الدافئ وهو يجذبها معهُ إلى الخارج..

فتح باب السيارة لها باقتضاب دون التحدث، استقلت السيارة وهي تضع قدمها بداخلها وخوفها يزداد أكثر، قلبها مُنقبض بشدّة، هي مرتعبة، ماذا سيفعل بها؟، هل سيقتلها ويبيع أعضائها؟.
نظفت حلقها وهي تمسد رقبتها بقلق ثم سألته بتوتر عِندما بدأ يقود وهو يقبض على المقود بقوة حتى ابيضت يديه وهو يقطب حاجبيه بتجهم شديد غارقًا بأفكارة التي تمنت لو تتسلل إليها: قُصيّ إحنا رايحين فين؟

نظر لها لبعض الوقت بدون تعبير، بنظرة خاوية أثارت في نفسها الخوف، جعلت العبرات تتجمع داخل مقلتيها الفيروزية التي بدأت تلمع وهي تنظر لهُ بخوف لم يخفي عليه، أعادت سؤاله بنبرة مُرتجفة وهي تبلع غصة مريرة في حلقها: قُـ، قُصيّ، في ايه؟

مدّ كفه وقربه إلى وجنتها، أبعد خصلاتها خلف أُذنها بنعومة وهو يبتسم رغمًا عنهُ، ابتسامة زائفة مُنافية لشعوره وتصرفاته، وهذا ما كان يرعبها، هذا الجالس أمامها ليس قُصيّ الذي عرفته نهايئًا، هي لم تعرف سوى ما تريد معرفته فقط، هي لا تستطيع التحدث عنهُ بطلاقة إن تم سؤالها عنهُ، سوى أنهُ قُصيّ رشدان فقط!، لا شيء إضافي..
في الفُندق الشهير الذي كان جاسم به منذُ أربعة أيام..

كان جاسم يقف أمام المرآة يغلق أكمام قميص حلته السوداء الأنيقة الخاصة بالزفاف بملامح جامدة، نعم، إن اليوم زفافه، لكن ملامحه كانت كمن يرتدي ملابسه من أجل عزاء أقرب الناس إلى قلبه وليس زفافه..
أخرجه من شرودة دخول والدته وهي تبتسم بإشراق وسعادة لا توصف بهذا اليوم..
تحدثت باعتراض عِندما وجدته غير مستعد ولم يكمل ارتداء بقية ملابسه بشكلٍ كامل بعد: اتأخرت يا جاسم كده شهِل شوية..

أومأ لها وهو يبتسم ابتسامة باهتة، لتتقدم منهُ وتعانقة بحنان وهي تهنئة بسعادة وفرحة عارمة: ألف ألف مبروك يا حبيبي، ربنا يتمملك بخير ويرزقك بالذرية الصالحة يارب..
ربت على ظهرها بحنان، ثم قبل رأسها بحب وقال بوِد: ربنا يخليكِ ليا، رفعت كفها وربتت على وجنته بحنان قائلة بحماس: انا رايحة أشوف عشق بقي..
وتركته وهرولت إلى الغرفة المُجاورة بسرعة، ليلقي جسده فوق الفراش بإحباط وهو يفكر بعد مغادرتها..

اليومين السابقين حقا كانا سيئين جدًا، لقد كان يتجنب وجوده في المنزل بسبب جـنّـة كي لا تتراجع عن موافقتها عن خطته، وخشي أنها رُبما قد تتهمه بالتحرش إن اقترب منها في وجود والدته كي لا يثير شكها، وغريزتها الأمومية ستكشف كل شيء، حتى إن موعد الزفاف أخبر به والدته في غرفتها مساءًا في وقت متأخر من الليل كي لا تراه في المنزل..

فقط كل ما يشغله الآن؟ من أين يبدأ؟!، و ما يجعله يفقد صوابة أنها زوجة قُصيّ! يا إلهي، كيف لم يُلاحظها يوم افتتاح المعرض؟! لقد تحدث معها، لكن لم يحملق في وجهها إلى هذا الحد الكافي كي يراها بوضوح ويعرف التشابة بينهما! هو حتى لا يعرف كيف سيذهب إلى قُصيّ بها؟ ولا كيفية المواجهة في شيءٍ كهذا؟! كيف سيفعل؟!
أما في الغرفة المجاورة..

كانت الفتاة تثبت التاج فوق طرحتها البيضاء وهي تبتسم بفخر لعمل يدها، لتزفر فجأة ثم تأففت بنفاذِ صبر وهي تنظر لها بغضب قائلة بضيق شديد: دي تالت مرة أعدلك الميك آب! كفاية عياط أرجوكِ مش هينفع كده الوقت بتاعنا انتهي و دلوقتي العريس جاي؟

وقفت جـنّـة عن المقعد أمام المرآة وهي تحمل فُستانها المُنتفخ الضخم ذات الأكمام المُحتشم كي لا يعرقلها، حدقت في نفسها داخل المرآة قليلًا لتجهش في بُكاء مرير وهي تُراقب نفسها، إنها ملاك، رقيقة، جميلة بشكلٍ لا يوصف، لا تُصدق أنها بهذا الجمال في هذا الوضع..
هي لا تحتاج سوى الصبر والقوة كي تكمل هذا، لأنها حزينة و مغمومة وتعيسة بشكلٍ لا يوصف، تدعو الله أن يساعدها بتلك المحنة وتمر تلك الساعات على خير..

جففت وجنتيها بخفة وهي تطبطب عليها كي لا يفسد تبرجها الرقيق الملائم لوجهها، مع دخول روحية الغُرفة وهي تطلق زغرودة سعيدة صدحت بقوة..
ابتسمت جـنّـة برقة وهي تستدير كي تُقابلها بصدر رحِب، عانقتها روحية بأعين دامعة سعيدة وهي تشدد على عناقها بقوة قائلة بحنو: زي القمر يا حبيبتي، ربنا يحفظك ويتمملك بخير..

ازداد اتساع ابتسامتها الرقيقة وقالت بنبرة مرتجفة ممتنة لتلك الطيبة والحب منها تجاهها: ربنا يخليكِ، انا حلوة بوجودك جنبي..
تساقطت عبرات روحية بحزن وهي تربت على وجنتها بحنان قائلة بتأثر: نوال لو كانت موجوده دلوقتي كانت حسدت نفسها عليكِ، محدش كان هيبقي في سعادتها دلوقتي، ربنا يحميكِ يا حبيبتي..

أومأت جـنّـة وهي تكتم شهقتها بعدم فهم لكنها أومأت، وعانقتها بقوة وهي تبكِ بقلب مفتور، لتقع عينيها داخل أعين جاسم الذي كان يقف داخل الغرفة خلف الباب ويراقبها بشفقةٍ بيّنة وهو يتحسر على نفسه، ها هو الزفاف الذي كان يطوق لهُ منذُ سنوات يحدث بأكثر الطرق سخرية!، ما المشكلة إن كانت عشق ماذا كان سيحدث؟

لِمَ يجب على تلك الملاك أن تكون زوجةً لرجلاً لا يستحقها وهي بتلك الأخلاق الحميدة لِمَ؟ لكن يؤسفه حقا كونه لا يستطيع تقبلها لأنها ليست عشق، ليست من أحبها، إنها صورةً منها ليس إلا..
تنهد وأخرج يديه من جيب بنطاله وهو يتقدم منهما، راسمًا ابتسامة سعيدة زائفة على وجهه..
قائلًا بمرح: مش كفاية عياط بقى؟ يلا عشان اخد عروستي؟

ابتسمت والدته وهي تستدير على عقبيها لتشهق بتفاجئ ثم سألته بغلظة: فين بوكية الورد يا جاسم؟
ابتسم وحك مؤخرة رأسه بأسف مُعتذرًا بتوتر: نسيت مش مهم هجبلها محل ورد بحالة في شهر العسل يلا بقي، ثم تقدم وأمسك يدها بين يديه ليلاحظ ارتجافها لكنهُ تجاهل هذا واتجه للأسفل..

فوالدته مُصرة على صُنع زفافًا ضخم من أجله، وقد هاتفت جميع اقربائهم واصدقائهم وأصدقاء العائلة ومن حُسن حظهم، قد أتي الجميع من الأسكندرية إلى هُنا، إنه حفل زفافٍ ضخم بحجم الفضيحة التي ستحل عليهم..

توقف قُصيّ بالسيارة أمام الفُندق وهو يتنهد ثم ترجل منها بهدوء، فتح باب السيارة لعشق وأمسك يدها يساعدها على النزول وقبل أن تسأل مُستفسرة سبب وجودهما هُنا سحبها معه إلى الداخل بسرعة وكأنهُ يخبرها أن لا مجال للنقاش الآن..

كان يسير بسرعة في اتجاه واحد كي يصل إلى وجهته، يجرها خلفة كطفلة تائهة لا تعرف السير بانتظامٍ بعد دون السقوط، توقف أمام القاعة من الخارج لتتوقف عشق بجانبه تلهث بقوة وهي تنظر حولها باستفهام وريبة..

سألته بتعب وهي تضغط على يديه برجاء أن يُجيبها: قُصيّ في ايه جايبني هنا ليه؟، احتضن وجهها فجأة بين يديه بقوة وهو يقول بلهفة وصدق رأتهما داخل عينيه، ضاغطًا بقوة جعلتها تشعر بأنه سيغرز أنامله داخل وجهها: خليكِ عارفة ومتأكده اني بحبك، واي حاجة هقولها أو هعملها متصدقيهاش، أنا هرجع وهاخدك وهنتجوز سمعاني؟ هتجوزك عشان بحبك خليكِ فاكرة، انا بحبك ياعشق..

هزت رأسها بعدم فهم وهي تبكِ بفتور من حالته التي لا تجد لها تفسيرًا، ليتابع هو سائلا باستفهام: في المستشفى انتِ قولتيلي انك عايزة ترجعي لجاسم صح؟

هزت رأسها بإيماءة خافتة وهي تنظر لهُ بعينا غائرة وتلقائيًا وقعت عينيها على باب تلك القاعة المُغلقة، لينقبض قلبها وينبسط فجأة خوفًا، ليتابع قُصيّ قوله جعل البرودة تسري داخل جسدها وهي تستمع لهُ بقلب إنشطر نصفين: وانا جيبتك ليه! النهاردة فرح جاسم هو وجـنّـة مراتي، فاكرها انتِ بس لازم يفهم، وانتِ لازم ترجعي، هزت رأسها بهستيريا كمن تلقي خبر موت حبيبه الآن، وعيناها تتسع بقوة وعدم تصديق وهي تنظر لهُ بخذلانٍ، وألم، هذا ليس صحيح؟ قُصيّ لن يفعل بها هذا!

سألته بانكسار وهي تنظر داخل عينيه ولم تتوقف عبراتها الحارقة عن التساقط قط: ليه؟ ليه؟ انا قولت هرجع بس مش بالطريقة دي؟ ليه كده يا قُصيّ ليه؟
هز رأسهُ بأسفٍ وقال لها بنبرة جافة لا تقبل النقاش: مفيش حل غير ده!
هزت رأسها بنفي وهي تمسك يده بيدها المرتجفة قائلة بتوسل: قُصيّ متعملش فيا كده، انا لما ارجع واحكيله كُل حاجة غير لما انت ترجعني ليه، لو بمثلك اي حاجة متعملش فيا كده يا قُصيّ انا بثق فيك!

هز رأسهُ بنفي، فهو قد أخذ قرارة قبلًا وانتهي، ليقول بابتسامة ميتة لا حياةَ بها: انتِ ترجعي انا ارجعك النتيجة واحدة، خاينة!

توقفت عن التنفس لوهلة، تحملق في وجهه بعينين زائغتين ونظراتٍ خاوية رغم هذا امتلأت بانكسارها و آلامها والكثير من الخذلان، هو من يخذلها دومًا، هو من أحبتهُ، هو من يتحدث! وهو السبب في كونها على ماهي عليه الآن، خائنة، تعرف أن باستطاعته جرحها بسهولة دون أن يهتز لكن ليس إلى تلك الدرجة! إنهُ يدمرها هكذا ولا يصلح أي شيء! تشعر أن هُناك خنجرًا مسمومًا اخترق قلبها قسمه نصفين ثم بدأ السمُ بالتوغل والانتشار داخل جسدها ببطء، على مهل حتى ارتدّت قتيلة..

استفاقت من صدمتها على يده التي أمسكت بيدها كي يدخل، لكنها هزت رأسها بهستيريا وأمسكت ذراعه وهي تقاومه متوسلة، تبكِ بانهيار: قُصيّ، بالله عليك بلاش، انت هتفضحة كده حرام عليك، هو ميستحقش مني كُل ده، قُصيّ!.

أمسك ذراعها بقوة وقال لها بقسوة كي تتوقف عن المقاومة وهو ينظر لها باقتضاب، واستخدم قولها ضدها: انتِ بتأجلى حاجة هتحصل، توقفت عن المقاومة ونظرت إلى عينيه التي أصبحت تتحاشى النظر لها!، وهي تشعر بألمٍ لا يوصف، لِمَ يؤلمها قلبها؟ لِمَ فهذا قُصيّ. وهذا متوقع، هي الوحيدة الغبية كما أخبرها، كان من المفترض أن تفكر قبل أن تذهب معهُ كالبلهاء..

رفعت كفها المُرتجف وأدارت وجهه كي ينظر لها وقامت بسؤاله وهي تبتسم بألم: طب وانا؟، التزم الصمت ولم يرِح قلبها ويتفوه بحرف، لتتابع عوضًا عنهُ وهي تقول بأكثر نبرة متألمة منكسرة حملتها يومًا: انا ولا حاجة مش كدة؟، ظل على صمته وهو يحدق في الفراغ بجمود دون أن يشفق على حالها، فلا يحتاج توصية كي يشفق عليها لأنهُ يعرف جيّدًا قدر الألم والخُذلان الذي تسبب بهما والخيانة التي باغتها بها..

أمسك يدها بقوة، ثم دفع باب القاعة وجذبها خلفه ودلف، لتطرق برأسها كي لا يرى أحدًا وجهها وهي تسير معه، كاتمة أنينها المذبوح..

تعالت ضربات قلبها مع علو تلك الموسيقى والأغاني الشعبية التي تصدح في مكبرات الصوت، وتراقص الإضاءة الحديثة المشوشة للنظر، وحماس الضيوف، ورقص الشباب، وأخيرًا بعد سيرها لمدة طويلة هاهما يجلسان بجانب بعضهما لبعض، وكما يبدو أن كل واحدًا منهما في عالمٍ آخر، ومن الحظ الجيًد أن روحية تقف بالقرب منهما..
لا مجال للتراجع وهي أعطته سببًا أقوى عِندما ظلت تدافع عن جاسم لأنها خائفة عليه، يال سعادته، بهذا الخوف..

تنهد جاسم وهو يهز قدميه بتوتر، مراقبًا والدته بطرف عينيه التي تقف بجانبه تتربص به، نظر إلي جـنّـة الشاردة، يُريد أن يطلب منها الرقص كي لا يلفت النظر لحالهما التعيس لكن يأبي، نظر أمامه وهو يزفر بضيق لتتسع عيناه ويخفق قلبه بعنف لاكمًا قفصه الصدري بقسوة عِندما أبصر قُصيّ يتقدم منهُ بملامح باردة ونظرة مُعلق على جـنّـة التي تجلس على آخر المقعد في الزاوية، ويجر خلفه فتاة قصيرة قليلًا، اقترب منهُ أكثر، ليقف جاسم من محله كي يراها بوضوح، فرغ فاهه بعدم تصديق، شاعرًا بدلوًا من المياه المثلج يسقط فوق رأسهُ، عشق!، عشق معهُ! مع قُصيّ زير النساء؟!

توقف أمامهم أخيرًا لتشهق جـنّـة بتفاجئ وهي تُعدل من جلستها ناظرة لهُ بصدمة لتنتقل بنظراتها إلى عشق التي تطرق برأسها بجانبه وجسدها يهتز بسبب البُكاء..
بينما روحية كانت تحدق به باستفهام مُتعجبة ارتدائه اللون الأسود الداكن في مناسبة كهذه هو وشريكته، تفحصت تلك مُطرقة الرأس التي تبكِ بصوتٍ مكتوم ولا تتبين ملامحها بسبب شعرها الطويل الذي أخفي وجهها من الجانبين..

بينما جاسم، كان في عالمٍ آخر وهو يحملق بها بأعين جاحظة، صحيح أنهُ يتمنى أن يجدها من كل قلبه، لكنهُ الآن حقًا يتمنى ألا تكون هي، وليس بتلك الطريقة، والدته تقف!
أخذ قُصيّ شهيقًا طويلًا ثم مدّ كفهُ أسفل وجه عشق ورفعه بقوة كي يتبين وجهها الباكِ شديد الأحمرار وهي تشهق من خلف خصلاتها ليقول بنبرة باردة: دي عشق مراتك، واللي جنبك دي جـنّـة مراتي، شكلك اتلغبط..

تعالت شهقة روحية المشدوهة وهي تراقبهُ بذهول وعينها تتجول بين عشق وجـنّـة، كأنها ترى معجزة..
ترك قُصيّ وجهها ثم وضع يده خلف ظهرها ودفعها على جاسم بقوة، اصطدمت بجسده وكادت تسقط لكنهُ أحاطها بقوة وهو ينظر لها عاجزًا عن التفوه بحرف، ألم يجد أن المواجهة صعبة؟ لقد وفر قُصيّ لهُ الكثير وقصّر عليه الطريق..
رفعت عشق رأسها تناظرة بحزن قائلة بندم وهي تنتحب: أنا آسفة، آسفة، علام تعتذر؟

أبعد قُصيّ نظره عن يد جاسم التي تطوقها ببرود ثم نظر إلى جـنّـة التي كانت تحدق به بدورها بجزع..
أشار لها كي تقف بهدوء وهو يقول: يلا عشان نمشي..

حركت شفتيها وقالت لهُ شيءً ما لم يستطع سماعة من الضجة، ليقول بضيق وهو يتقدم منها بعصبية: بتقولي ايه؟ مش سامعك من الدي جي!، أمسك يدها ثم أوقفها دون أن يستمع لها وهو يلملم ذلك الفستان ذات الذيل الطويل بضجر ليصرخ بها فجأة بحدّة جذبت الأنظار لهم وخصوصًا لهُ بسبب اقترابه من العروس وتجمدها هي ووقوفها محلها: انزلي من على الزفتة دي وامشي عشان الخرا ده!

اغرورقت عينيها بالدموع ثم سارت إلى الأمام وتقدمت عليه ليسير خلفها بعد إن قذف ذيل الفستان خلفها بسخط، لكن توقف قليلًا ثم استدار وقصّ علي جاسم قصتهما هو وعشق: على فكرة انا وعشق بنحب بعض من خمس سنين، وكان هيجيلنا بيبي بس محصلش نصيب، ازداد نحيب عشق وهي تستمع لهُ شاعرة بابتعاد قبضه جاسم وتخليه عن خصرها، لتسقط أرضًا أمام قدميه، وهي تستمع لبقية حديثة بكل تحدِ ووقاحة: وكل مرة كانت بتيجي القاهرة كانت بتيجي عشاني، عشان نتقابل سواء في امتحانات او غير امتحانات، كُل الوقت ده كُنا بنقضية مع بعض في شقتي، انا رجعتهالك دلوقتي! بس هاخدها تاني، انا خدتها كتير من غير ما تعرف بس المرة الجاية هتبقى عارف، وتركه وغادر وآخر ما رآه كان عشق وهي تجلس أرضًا أمام قدميه..

أحاط خصر جـنّـة وسار معها إلى الخارج بكل هدوء وهو يبتسم مستمعًا إلى تلك الهمهمات التي لا يعبأ بها، ليلاحظ بكاء جـنّـة؟
سألها باستفهام ولا مُبالاة قائلًا ببلادة وهو يُشدد قبضته على خصرها بقسوة: بتعيطي ليه حصل حاجة؟
هزت رأسها بنفي ليتابع سيره بهدوء حتى وصل إلى السيارة، جعلها تجلس في المقعد الخلفي بسبب الفستان ثم استقل السيارة وغادر ذاهبًا من هُنا نهائيا..

تااااابع ◄ 

أحدث أقدم

نموذج الاتصال