رواية حب خاطئ الفصل العاشر

 

 

 

- ‏أيّتها الغامضة كالمعاني في بطون الشعراء، العميقة كمُفردةٍ عربيّة، الصعبة مثل قصيدةٍ جاهلية، الجميلة كتشبيه، الذكيّة ككِناية، عفيفةٌ كغزل عنترة، واثقةٌ كفخر المتنبي، وحزينةٌ حزينةٌ، كرثاء الخنساء. -
ـ دستوُيفسكي.

أحيانا لا ندرك قدر الخطأ المُقبلين عليه من فرط الألم الذي نشعر به..
قذف القميص من يده، تقدم من السرير و زرقاوية تطلق وميضا جهنميا مُخيف، رفع كفها بين يده ببطء، قبل باطنه برقة وهو يغمض عيناه بنشوةٍ شبقة، جثم فوقها ودني يقبل صفحة وجهها بتريث وتأني بدون وعي، تحركت مهمهمة بعدم راحة واختناق بسبب الثقل الجاثم فوقها..

طالع نحرها بعينين زائغتين وچل ما يراه، عشق تبتسم وتشير له بالاقتراب ومجاورتها في الفراش بصورةٍ مهزوزة، ابتسم بثمالة ودني يقبلها بنهمٍ كفاكهةٍ مُحرمة..
تقلصت ملامحها بألم وهي تهز رأسها شعورا بلسعاتٍ حارقة ظنًا أنها عالقة داخل كابوسٍ أسود، لكنها فتحت عينيها بوجل لتجحظ وتصرخ بخوف وتبدأ في التلوي أسفله..
قبض على ساعديها بعُنف وقام بـ تثبيتهما فوق رأسها مقيدًا إياها بقوة كي لا تستطيع الهرب..

توسلته بوهن وجسدها ينتفض من الخوف: جاسم مالك في ايه؟ ابعد عني
لم يذعن ولم ينصاع بل ظل يُقبلها دون تردد أو تراجع فهي زوجته، ، بكَت بحرقة وهي تتوقف عن المقاومة فهذا سيحدث لا محالة، لا تملك تلك القوة كي تردعه..
نهنهة بكائها ايقظته لِحاله فحررها على الفور، لكن لم يبتعد، بل هوي على وجنتها بصفعة قاسية اصمّتها قبل أن تصمتها تلاها صوته الهادر القاسي: بتعيطي ليه؟ لما كان بيقرب منك كُنتِ بتعيطي؟

هزَّت رأسها بنفي وهي تخفي وجهها بيديها بألم شاهقة بتقتير، صفعها الثانية بقوة أكبر سقطت على ظهر يدها وهو يسألها بنبرة مقهورة: كُنتِ بتقُليله ابعد عني؟
ردت بهستيريا تخبرة بصوتٍ يدمي القلب: متعملش فيا كده ابوس ايدك، أنت أحسن منهُ..
داهمه دوار قوي، شعر من خلاله بالعالم ينقلب، وهمساتها المتوسلة في الإقناع مازالت مستمرة تخترق أذنيه بقوة: أنت أحسن منهُ، أنت أحسن منـ، جاسم!.

فقد الوعي وسقط فوقها بلا حراك، ، ازداد نحيبها وهي تحدق في سقف الغرفة ولا تعلم بامتنان لأنهُ فقد الوعي أم بحزن بسبب ما آلت إليه حاله..
رفعت كفيها ودفعته من منكبه بكل ما أوتيت من قوة حتى سقط فوق الأغطية بجوارها، غادرت الفراش ومضت في طريقها إلى دورة المياه كي تغسل وجهها، عادت بعد بعض الوقت وهي تتحسس وجنتها بتروي وبطء بسبب شعورها بالحرقة، متأكده أنها أصبحت ملتهبة..

جلست في الأرض بجانب السرير وهي تضم ركبتيها إلى صدرها وظلت تحدق به، فلا تستحق أن تقترب منه وهي مدنسة، ، راودتها الكثير من الأفكار التي بدأت تعصف برأسها وكان أكثرها دهاءًا أن تمزق ملابسها وتنتظر أن يستيقظ وتوهمه بأنه أغتصبها. رُبما سيهدأ الوضع فقط في هذا الوقت و سيكونا سيان نسبيا وتتغير المعاملة قليلا، لكنها لن تفعل لن تدمر حياته وتثقل كاهله أكثر من هذا..

صدح صوت أذان الفجر في مكبرات الصوت بصوتٍ مُرتفع قوي، كان ذا رنين داخل أذنيها، لا تعرف أهو عالٍ على غير العادة أم أن أذنها أصابها خطبٌ ما.
بكَت بصوتٍ مكتوم وهي تنظر إلى سجادة الصلاة المتكومة فوق الأريكة مع اسدال الصلاة الخاص بها، فأحيانا كانت تصلي وتنقطع، و أحيانا كانت تتكاسل عن أداء فروضها، و أحيانا لم تكن تتذكرها بتاتا..

لكن الآن لا تسمع سوى الأذان، كأنه يذكرها بكونها مازالت مسلمة مهما حدث ولديها فروض يُجب أن تؤديها، من المؤسف أنها في السابق كانت تتهرب من أداء الصلاة، والآن عِندما تريد لا تستطيع من فرط الخجل والعار الذي يطوقها، حتى مناجاة لله خائفة من الإقبال عليها فبأي حق تفعل؟!

محت عبراتها وهي تتنهنه، ، تمالكت نفسها ووقفت بعدم اتزان، ، دلفت إلى دورة المياه بخطواتٍ مترنحة كي تتوضأ، ، ارتدت إسدال الصلاة وهي تكتم شهقاتها المُلتاعة لكن جسدها أبى أن يتوقف عن الانتفاضة، أمسكت سجادة الصلاة وقامت بِفردها فوق البساط ووقفت تُصلي بين يدي الله..

سعُلت باختناق من كثرة البُكاء وهي تتلو الآيات القرآنية بفاه يرتجف وعينين تفيض منها الدمع، فلو كان جاسم مستيقظا وسمع نحيبها و شهقاتها المتقطعة التي تخرج من نياط قلبها ندماً لسامحها، وإن رآها قُصيّ لم يكن ليسامِح نفسه قط..

سجدت تناجي ربها وتضرع إليه طالبة العفو والغفران بروحٍ مُعذبة و بقلبٍ انشطر نصفين، تناشده بقلة حيلة وضعف، فالإنسان أضعف شخص على وجه الأرض إنه يمثل اللا شيء. الجميع يضحكون، يمرحون، يفرحون، يتزوجون، ينفصلون، يعودون، يتجولون، يعصون، يضلوا الطريق، يعودون مجددا ثم يضلوا من جديد، يمارسون حياتهم بطبيعية و سعادة بِطُرقٍ شتى، يفعلون كل شيء، كل ما تشتهي الأنفس وتميله عليهم رغبتهم، لكن في النهاية الجميع يعلم، عاصي كان أو مؤمن أن لا ملجأ لهم سوى الله، لا عودة سوى إلى الله، لا طريق يوصل للسعادة البرزخية سوى طريقة، كان هو البداية كما سيكون النهاية فمن الظلم لنفسك يا بنى آدم ألا تتعلق بأي فرصة تأتيك كي تتقرب منهُ وتطلب الغفران عما سلف..

وهذا ما كانت تفعله عشق، هل كان من المفترض أن تخسر كل شيء كي تتذكره؟!، نعم هُناك بعض البشر لا يخضعون سوى عِندما ينهزمون ويفقدون الأمل بكل شيء حولهم، ، أنهت صلاتها ثم قامت بثني قدميها أسفلها وظلت جالسة محلها تُسّبح على أصابعها بشرود و فراغُ أسود يبتلع روحها..

خلعت الإسدال وحملت سجادة الصلاه، قامت بثنيها نصفين ثم وضعتها فوق الأريكة كما كانت كي لا يلاحظ جاسم هذا أو يلاحظ غيرة وتبدأ السخرية، بالتأكيد سيتعجب بسبب صلاة الطاهرة الشريفة فجأة..
فمن المؤسف أن تمتنع عن أداء فروضك وواجباتك بسبب بعض السخريات التي ستطرب مسامعك، والمحزن أنك لو فعلتها قد تفعلها في الخفاء كي لا يراك أحد، لكن الله يرى ويعلم..

عادت مكانها بخطواتٍ ثقيلة كأنها مكبلةٍ بأغلالٍ حديدية ثقيلة لتستقر جالسة أرضا بجانب السرير. وظلت هكذا حتى أشرقت شمس الصباح..
تقلب جاسم بعدم راحة وهو يتأوه بخفة بسبب الألم الذي يفتك برأسهُ، فتح عيناه بالتدريج وهو يطلق صيحة متألمة ليبصر عشق تجلس توليه ظهرها بجوار الفراش!.
هتف بإسمها بصوت مُعذب: عشق!

وحدث ما لم يتوقعه واستدارت تنظرت له بجزع مما قد قد يفعل، لكنه إبتسم ظنًا أن هذا من ضرب الخيال وهو ليس بمكانٍ سوى غرفته..
انتصب جالسا نصف جلسة وهو يتثاءب لينتبه على جسده العلوي العاري والغرفة ذات الطلاء الوردي! حرك رأسهُ وثَّبت نظرة على عشق رُبما تكون اختفت لكنها ألقت على مسامعة تحية الصباح بصوتٍ خافت متردد بالكاد سمعه: صباح الخير..

نظر حوله بتخبط وهو يحاول أن يتذكر ماحدث أمس جعل الحال ينتهي به هُنا في غرفتها؟ سامي! خمر! غرفة عشق! عاري الجذع؟!
اتسعت عيناه وقفز مغادرًا السرير، جثي أمامها والأفكار السيئة تعصف برأسهُ، والحيرة تمكنت منهُ وهو يحدق بها بتفحص فهو ليس ذئبا بشريًا كي يقدم على فعل هذا!، لن يصل إلى تلك المرحلة مهما بلغ من السوء..

هزت رأسها بنفي وهي ترى حيرته والخذلان الذي تنطق به عيناه وقلقة من أن يكون أفسد صورته وخذلها. حتى بعد كُل ما حدث هو من يخاف أن يخذلها!.
كادت تتحدث لكنهُ من عاجلها بقوله بقلق وهو يتفحصها بتدقيق وقلبه يخفق في عُنف شديد: أنا أذيتك؟ قربت منك عملتلك حاجة؟
هزت رأسها بنفي قاطع وهي تطمئنة بنبرة غلب عليها الحزن بسبب خوفه عليها حتي من نفسه: لأ محصلش حاجة انا كويسة صدقني كويسة..

هزَّ رأسهُ بإيماءة بسيطة ظافرا بالراحة ثم أبعد نظره عن وجهها الجميل الذي لا يُطالبه سوى بمزيدٍ من التحديق وظل يحدق في قميصه الملقي أرضا منتظرًا الفرصة السانحة كي يأخذه ويترك الغرفة فلا يوجد مايقوله، وليس من اللطف أن يظل جالسا أمامها عاري هكذا..

قرأت أفكاره وفهمت من نظراته ما يُريد وقبل أن يتحرك هرولت هي إلى القميص وأتت به من أجلهُ، أخذه من يدها بهدوء وهو يتطلع إلى نظراتها المترجية التي يعرفها جيّدا، نظره الرجاء التي تعتلي وجهها كُلما طلبت منهُ أن تذهب إلى القاهرة أي إلى قُصيّ، والآن يراها مجددًا كي تبرر له وتخبره المزيد عن قُصيّ، كل شيء من أجل قُصيّ، لكنه آسف ليس تلك المرة لن يستمع..

ارتداه على عجل ووقف لكنها امسكت ساعده بقوة و توسلته بنبرة منكسرة وأعين دامعة نادمة: جاسم اسمعني، لازم نتكلم، نتكلم بس..
سيرفض بالطبع سيرفض يُجب أن يرفض لقد كسرت قلبه، ومرَّغت شرفة في الوحل..
ـ موافق، قالها بثقلٍ يجثم فوق صدره وجلس مكانه يحدق في نقطة معينة أمامه..

جلست أمامه باستقامة، قامت بثي قدميها أسفلها وبدأت تتحدث بنبرة طغى عليها الانكسار: أنا لما ماما وبابا ماتو أتكسرت ومحدش حس بيا يا جاسم، أنت رجعت شُغلك تاني و أنا فضلت هنا، طول الوقت كُنت مع خالتو في البيت عارف كانت بتقولي ايه طول الوقت؟! كانت بتكلمني عنك، جاسم راح، جاسم جه، جاسم عمل وبيعمل، جاسم طيب، جاسم حنين، جاسم وجاسم وجاسم وكان عندها حق هي مقلتش كلمة عليك وطلعت غلط حقيقي، بس أنا كُنت صغيرة عشان أفهم كُنت بهز راسي وبسمع وبس، لحد ما جت في يوم واحنا بنفطر قالتلي عشق ياحبيبتي الناس بدأت تتكلم، وجودك معانا هنا ووجود جاسم في مكان واحد غلط..

انسلت عبرة من بين جفنيها وهي تبتسم بمرارة تستأنف حديثها وهي تطرق برأسها: أنا لما سمعت الكلام ده كُنت فاكرة إنها هتاخدني و هتعيش معايا في بيت بابا او هتروح انت تعيش هناك أو حتى هتسيبوني وهتيجي شغالة وتفضل قاعده معايا وتبقوا تطمنوا عليا من الوقت للتاني. بس صدمتني لما قالتلي جاسم عايز يخطبك، انا سعتها معرفتش أقولها ايه أو ارفضك ازاي بس رغم كده قُلتلها اني لسه صغيرة على الجواز دلوقتي، قالتلي دي خطوبة بس عشان الناس والجواز بعدين لما تخلصي دراسة وتشتغلي كمان، بس برده قولتلها لأ انا لسه صغيرة بصتلي بصة عمري ما هنساها يا جاسم بصة عرفتني أني لو فضلت أقولها لأ هتقولي بتحبي حد ياعشق؟ متفقة مع حد هيخطبك لما تخلصي؟ وطبعا هقولها لأ بس مش هتصدقني عشان أنت مثالي لأي واحدة تروحلها محدش يرفضك غير لو مرتبط، وطبعا كانت هتراقبنى في الرايحة والجاية وكُل شويه تسألني كُنتِ فين و بتعملي ايه و، و، و ومن الآخر حياتي كانت هتتحول وتبوظ أكتر ماهي بايظة عشان كده وافقت..

توقفت تبلع غصتها كي لا تبكِ، لكن عبراتها خانتها وانهمرت أنهارًا من بين جفنيها وهي تستأنف بحسرة: بس عارف اللي كان قهرنى منها ايه؟ انها قالتلي كده وماما وبابا كانو ميتين من شهر بس، هي حبتني يا جاسم عشان انا مرات ابنها مش عشان بنت أُختها، قالتلى بعتبرك بنتي بس لو هي كان عندها بنت مكنتش هتستغل كسرِتها و تجوزها وهي مش موافقة، ورفقت كلامها بشهقاتها المبحوحة المُمزقة لنياط قلبه المسكين وهي تغمر وجهها بين راحتيّ يديها تبكِ بقلبٍ مُثقل بالهموم..

رق قلبه لها، رق قلبه لها للمرة الألف وهو يخفق بعنفٍ شديد مشفقا عليها، فهي سابقا كانت تظل تردد لهُ معظم الوقت أنهُ يستغل أن والديها متوفيين، لكنه لم يعرف أن والدته تركت هذا الأثر السيء في نفسها ولم تشفق عليها! تركت لها جروح غائرة خلفت ندوب لن تشفي مع الأيام ولا السنوات، هو لم يعرف أيا مما حدث، هو أخبر والدته أنه يرغب بها مُنذُ زمن أخبرها وليس عندما توفيان لكن هي من استغلت هذا وطلبتها بتلك الطريقة وفي هذا الوقت ليس ذنبه هذا؟.

اقترب منها بمهلٍ شديد شاعرا بالذنب يمزقه، رفع يديها عن وجهها وهو ينظر إليها بملامح مواسية حانية كما اعتادت أن تراه دوما دافئ مُراعي..
سألها بحزنٍ من أجلها: وليه كده يا عشق ليه مقولتيش ليه مقولتليش انا ليه؟ ليه توصلي نفسك للمرحلة دي؟

أمسكت يده تضغط عليها بقوة وهي تستأنف بانتحاب بنبرة سريعة متلهفة راغبة في الإقناع: كُنت هفسخ الخطوبة في أقرب فرصة تجيلي لكن هي جت وقالتلي عشق ياحبيبتي شكلي كُنت غلطانة الناس بقِت تتكلم اكتر بسبب الخطوبة من غير جواز وانتوا في بيت واحد وده ميصحش علي الاقل تكتبو الكتاب عشان الكل يسكت، وانا سعتها مقدرتش اتكلم ولا اعترض عشان خُفت تِدّخل ومتخلنيش أروح الجامعة وأنا حسيت إنها عملت كده مخصوص عشان الجامعة قبل ما أمشي! خافت لما أخرج وأروح وأجي افسخ الخطوبة او اسيبكم حتى، عشان كده ربطتني بيك خوف من أي حاجة ممكن أعملها وفي الآخر بتزعل لما مناديهاش بـ ماما! ماما عُمرها ما كانت هتعمل فيا كده يا جاسم..

خرج صوته مُتحسرًا وهو يقول بابتسامة ساخرة: اهو حصل اكتر من اي حاجة تخيلتها، شعرت به يرخي يده عن يديها شاعرًا بألمٍ لا يوصف، بشظايا زجاج تتطاير وترشق داخل صدره بلا هوادة، هذا يفسر فعلتها لهذا خانته كي تنتقم منهما؟!

قرأت أفكاره، بل كانت مُتأكده بما يفكر أثناء تحديقه بها بلومٍ كان أقرب إلى القسوة، اقتربت منهُ سيرًا على ركبتيها، احتضنت وجهه بين يديها تحثه على النظر لها قائلة بنبرة صادقة وهي تقسم لهُ: بس والله العظيم والله العظيم عمري مافكرت اني اخونك ولا كان في نيتي أي حاجة من دي تحصل ولا عمري فكرت، أنا مش واحدة شمال ولا عديمة التربية بس بس مش عارفة والله مش عارفة حصل كل ده ازاي!، قُصيّ ظهر في حياتي فجأة صُدفة وبعدين كِترت الصُدف، انا حبيته بجد وهو معرِفش عني كتير بس وجوده في حياتي في الوقت ده فرق معايا كتير، كلامه كان بيداوى جروحي، كان بيواسينى، وبيطبطب على قلبي، انا لقيت فيه كُل حاجة يا جاسم..

هل يشعر أحدًا بخيبته الآن؟ هل أحدا يشعر بذلك الخنجر الحاد المسموم وهو ينغرز داخل قلبه ويتوغل
عميقًا ببرودٍ تام مُعذب يعذبه ببطءٍ قاتل؟!

امتلأ نهر عينيه وهو يرمش بسرعة وبشكلٍ جلي، يبلع غصته بمرارة وصعوبة، ابعد وجهه عن وقع يديها وتحرك كي يذهب بل يهرب قبل أن يبكِ أمامها يكفي شفقةٍ على نفسه، لكنها لم تتركه بل أسندت جبينها على جبينه وهي تعتذر ببكاء وجسدها ينتفض بقوة: أنا آسفة والله آسفة عارفة إن اللي بقوله صعب عليك بس انا هتجنن لو متكلمتش مع حد، مفيش حد غيرك أتكلم معاه، انا مليش حد غيرك في الدُنيا دي كُلها..

سقطت عبراته المحتجزة وأعلن استسلامه، ضم جسدها إليه بقوة حتى التحم بصدره كي تتوقف عن النحيب لأنها تؤذيه، كل شيء يصدر منها أصبح يؤذي قلبه المرهق..

رفعت رأسها قليلا لتتسع عيناها باستنكار وتبدأ بمسح عبراته بسرعة بأنامل مرتجفة وهي تقول بهستيريا و عبراتها تنهمر أنهارًا: أنت بتعيط ليه؟ انا مستاهلش مستاهلش، انا والله بحبك وهفضل أحبك أنت كُنت الراجل التاني في حياتي بعد بابا أنت اللي شجعتني وأنت اللي كُنت بتساعدني و بتذاكرلى! من غيرك كُنت هبقي ولا حاجة والله، أنت مكانك في قلبي أكبر من أي حد في الدنيا يا جاسم أكتر من قُصيّ أنت أب بالنسبالي لا حبيبي ولا أبن خالتي..

توقفت تلتقط أنفاسها بلهاث، استنشقت ما بأنفها بقوة هي تتأمله وبخفوتٍ قالت و عبراتها تتساقط على وجنته أثناء تخليل أناملها داخل شعره الناعم: أنا مش قولتلك قُصيّ داوى جرحي بكلامه؟ بس أتسبب في جرح أبشع منه بكلامه برده، كان بيطبطب علي قلبي اللي دمره بنفسه، كان بيضربني وبعدين يواسيني عشان يجرحني ويعذبني أكتر، لقيت فيه كُل حاجة لفترة من الوقت وبعدين حياتي بقِت جحيم على الأرض، كُل حاجة اتبدلت وبقيت أنت اللي شاغل تفكيري، مكنتش بنام يا جاسم ولو نمت أصحي على كابوس وأنت بتخنقني، كل ما أشوفك، وكل مرة تقُلي بحبك، وكل مرة أحس بحنيتك أكره نفسي اكتر ما انا بكرهها، سامحني يا جاسم سامحني، هعمل المستحيل عشان تسامحني..

أنحنت تقبل يده وهي تترجاه بصوتٍ مذبوح: ابوس أيدك سامحني، انا مستعدة اعيش خدامة تحت رجليك طول العمر ومش هتكلم بس سامحني قولى مسامحك ياعشق قولي مسامحك..

ابعد يده التي امتلأت بعِبراتها ثم ضمها إلى صدره بقوة وهو يتأوه بحزنٍ عميق يثقله، أن قلبه ينزف من أجلها، تجعله يتألم لدرجة لا يستطيع تحملها، إنها طفلته، لقد ضلّت طريقها ولم يكن أحدًا بجانبها ينصحها كي تعود إلى رُشدها، ليس من العدل أن تطلب العون منهُ ولا يمد يدِ العون لها و يتخلي عنها! سيظل والدها كما تُريد ففي كلا الحالتين عودتهما معًا شبه مُستحيلة..

أخذ يمسح على شعرها بحنان وهو يهدئها: هششش إهدي، إهدي..

دفنت رأسها بصدره بقوة تُريد إدخالها بين طيات قلبه وهي تلف يدها حول خصره قائلةً بنحيب وجسدها ينتفض بأكمله: أنا عارفة أني مليش عُذر ولا سبب يخليك تغفرلي اللي أنا عملته، زي ما أنا عارفة انك مش مُجبر تقبلني في حياتك تاني، انا مستاهلش غير العقاب، عاقبني اضربني اعمل فيا اللى أنت عايزه بس متسكتش وتكتم في نفسك، أنت غالي عليا اوي ومستحملش أنك تتكسر بسببي، انا والله كُنت هقولك كتير وأكتر من مرة بس مقدرتش عشانك، مقدرتش أشوف النظرة اللى انا شايفاها في عينيك دلوقتي، أنا آسفة..

لا تعرف أن آسف لم تعد تجدي نفعا في تلك الظروف وفي حالتها خاصة لكنها لا تملك غيرها كي تُقدمها لهُ..
ـ هشش إهدي كفاية عياط كفاية، قالها بدفء وهو يخفض رأسهُ قليلا يُلثم جبهتها بحنان كي تهدأ فهو لن يؤذيها لن يقبل على فعل هذا أبدًا..

فصل العناق واغتصب ابتسامه من أجلها وهو ينظر لها نظرة حانية أطمئن لها قلبها بينما يقول بأكثر نبرة دافئة مواسيه سمعتها منهُ رغم قلبه المنفطر الذي يحتاج لمن يربت عليه: انا مش محتاج خدامة تحت رجلي! انا محتاج عشق ترجع عشق تاني..

انسلت عبراتها وهي تطرق برأسها بانكسار لكنه لم يترك المجال لها لتفعل بل رفع ذقنها ببنانه ثم قلد مافعلت معهُ منذُ قليل وهو يمسح عبراتها بسرعة ونحدث بهستيريا: أنتِ بتعيطي ليه؟ انا مستاهلش مستاهلش، انا والله بحبك وهفضل أحبك أنتِ كُنتِ السِت التانية في حياتي بعد ماما أنتِ اللي شجعتني وأنتِ اللي كُنتِ بتساعدني في الرسم! من غيرك كانت لوحاتي هتبقي ولا حاجة..

ضحكت بنعومة وهي تنظر لهُ بامتنان ثم وعدته بصدق: هرجع عشق و أحسن من الأول بس لـ..
ـ ندمانة يا عشق؟!، بتر قولها سؤاله بصوته الهادئ كأنه لم يستمع إلى رجائها وبكائها مُنذُ قليل، كأن كُل شيء تبخر وهذا سؤال مُختلف كُليا لكن رغم هذا ردت عليه بندمٍ طغى على نبرتها: وهفضل ندمانه طول عمري.
هزّ رأسهُ بتفهم واختصر ما يُريد أن يقوله بتلك الكلمات: وده كفاية بالنسبالي، و دلوقتي عقابا ليكِ..

خفق قلبها في عُنف وهي تنظر لهُ بشحوب مُنتظره أن يلقي عقابه عليها وسوف تُنفذ دون أن تنبس ببنت شفة لن تعترض بتاتا..
ـ اعمليلى قهوة عشان دماغى مصدعه بقي، قالها بتسلية من خلف قلبه الثائر المحطم وهو يُراقبها بابتسامة خاصة كانت لأجلها فقط، أشرق وجهها و تبسمت بسرور ثم وقفت بحماس قائلة بطاعة: من عنيا الاثنين، وتركت الغرفة وهرولت إلى الأسفل تحضر له القهوة..

تلاشت ابتسامته كـ تلاشي الدخان في الرياح وهو يكتم آهه مكبوتة بين جنبات صدره غير قادرعلى البوح بها بعد ذهابها كالملكوم، فهو اتخذ قراره، سينسي، سيتلاشي الألم كـ تلاشي ابتسامته بالتأكيد، هو المخطئ لأنهُ ترك زمام الأمور لوالدته من البداية، هذا الجانب من شخصيتها لم يعهده قبلًا ولا يعرف عنهُ شيء، وعشق آه من عشق هي جاهلة بقدر الحُب الذي يكنه لها، يقسم أنها لن تجد من يُحبها بنفس القدر..

في منزل عمّار..
ضم قبضته ثم طرق ثلاث طرقات فوق الباب وهو يمسك معطفه الأسود بيده الأخرى لكن لم يأته ردّ، أدار المقبض ودلف ليجد ما توقعه، مازال نائمًا، سار ناحية النافذة، أبعد الستائر وهو يتمتم بتسلية لتضيء الغرفة: قوم يا حبيبي حضرتلك الفطار.

ابتسم آدم وهو يضع الوسادة فوق وجهه لثوانٍ قليلة حتى وصل عمًار ونزعها من فوق وجهه وقذفها عليه وهو يحثه على الاستيقاظ: انا بقيت شغال دلوقتي وعندي مسؤوليات قوم كُل معايا وبعدين تعالي كمِل نوم يلا! عملتلك فطار ملوكي مراتك متعرفش تعمله قوم..
ابتسم آدم ابتسامة سرعان ما اختفت وحل محلها الحسرة، فأي زوجة ستكون هذه، مُحير ومتعب هو التفكير في هذا..

تنهد تنهيدة ثقيلة وهو يغادر الفراش، دلف إلي دورة المياه بينما عمّار جلس على طرف الفراش يعبث بهاتفه قليلًا ليجد رسالة نصية وصلت لهُ من لمار فتحها وهو يحدق في أسمها الذي سجله على مضض، يقرأ محتوى الرسالة بعينيه وملامحه تتقلص بمقتٍ شديد، أغلقها ولم يهتم، رفع رأسهُ عِندما سمع صوت باب دورة المياه يفتح و يخرج آدم، ابتسم وهو يُخيل لهُ أن ليلي هي من تطُل عليه من خلف ذلك الباب يا إلهي كيف سيكون شعوره في هذا الوقت؟! دغدغ هذا الشعور حواسه وجعله يبتسم ببلاهة وهو يحملق في باب دورة المياه وعقله في مكانٍ آخر.

وكزه آدم بخفة في وجنته وهو يضحك كي يستفيق قائلا باستفهام: ايه سرحان في ايه؟
هزّ عمّار رأسهُ وهو ينفي قائلا بسخرية: مفيش بفكر في المرحومة..
ضحك آدم وهو يتجه ناحية حقيبة الملابس، مال عليها
يخرج ملابس وهو يقول: خلص نفسك وانجز واتجوز بقى متخِبش خبيتنا..

تنهد عمّار بـ همٍ وهو يتذكر الحديث الذي دار بينهما أمس، سعيد اللعين يُجب أن يتخلص منهُ، هل جرحها بطريقته الفظة يا تُري؟ لا يُهم تستحق كي تتوقف عن الحديث بالتُرّهات ومقارنته بذلك القُنفذ..
سأله بعدم فهم: أنت هتلبس ليه؟
ردّ عليه وهو ينتقي الملابس باهتمام: عندي معاد مع زميل بابا لأني عايز أسأله عن كام حاجة كده..
هزّ عمّار رأسهُ بتفهم وهو يتفحصه بنظراتٍ مدققه ثم سأله ببعض القلق: أنت كويس؟

هزّ رأسهُ وقال بثقل وهو يجلس جواره: مصطفي متجوز سالي..
قطب عمّار كلا حاجبيه وهزّ رأسهُ بخفة ومقلتيه تدور في أرجاء الغُرفة ثم قال ببطء كان كسؤال: مراته عُرفي؟ أكيد عُرفي مش السكرتيرة؟!
تشوش آدم وعصفت الأفكار برأسه لكنهُ نفي هذا و استنكره بشدّة: لأ لأ ده بيحبها يا عمّار قالي بحبها وبعدين كانت معاه من زمان من بداية شُغلة تقريبا أكيد بيحبها و متجوزها رسمي.

باغته عمّار بقوله وهو يبتسم جعل حيرته تتزايد: قُصيّ بيحب عشق!
تنهد آدم بضيق ثم قال بانزعاجٍ شديد: ليه بتقول كده مش عايزة يِطلع بيغفلني أخويا كويس مش هيعمل فيا كده؟

رفع عمًار حاجبه الأيسر محتجا وهو يحدق به ثم أردف بتهكم: طب ما هو ممكن يطلع كويس عادي يعني الاحتياط واجب، وبعدين ملكش حق تضايق! أنت واحد بتبص لمراته وبتحبها واللي حصل قمة العدل على الأقل عِرفت من البداية وهتعرف تتصرف أما هو لسه ما يعرفش حاجة عنك..

حرك آدم شفتيه كي يُدافع عن نفسه أمام هجوم عمّار الذي كان طبيعيا وحقيقي لكن نبرته تبدلت لأخرى باردة وهو يخبره: غيّر و يلا عشان تفطر هستناك تحت، وتركه وترك الغرفة وغادر.

ألقي آدم جسده فوق السرير بإحباط وهو يتأفف ثم التقط الهاتف من فوق الكومود وراسل سالي، توقفت أنامله عن النقر بعد أن بعث الرسالة وجلس يفكر في آخر مرة حادثها؟ كان بعد خطبتهم بيومين، تبادلا الرسائل النصية و بعض المزحات ثم التهي بما يفعل ولم يعد يراسلها وهي لم تسأل عنهُ بل كانت تبعث لهُ رسالة في نهاية اليوم ويرد عليها صباحا وهكذا، كانت لحظاتٍ مملة لم يتذكرها بسبب كونها لحظات باردة لا تعني لهُ شيء.

في منزل آدم..

كان مصطفى ينام بجوار تالين فوق السرير يقظا، يسند مرفقة فوق الوسادة وراحة يده أسفل رأسه يتأمل ملامحها الناعمة وخصلاتها التي تفترش الوسادة بنظراتٍ هادئة باسمة عميقة، فهو يراها جميلة، ناعمة، هشة، زوجة رقيقة قليلة الحيلة أمام والدته المتكبرة. كان يُجب عليه أن يُطيب خاطرها أمس بعد ذلك الشجار، وأثناء فعل هذا ووقوفة أمامها وهي ترتدي منامتها التي لم تخفي الكثير عن عينيه الجائعة وبكائها الخافت الرقيق، وتورد وجهها الذي رآه مُغريا. ومن دون مقدمات وجد نفسه يُقبلها و انجرف معها بمشاعره، فهو يعرف أنه مُقصر معها ومنذُ أشهر لم يقترب ويلمسها ويتحجج كـ إمرأةٍ حائض، لا يعرف لما يكِن كُل ذلك الولاء إلى سالي رغم أن تالين زوجته و مايفعله لا يندرج تحت مسمى الخيانة هذا ضمن حقوقه وواجباته ناحيتها..

مال يقبل كتفها العاري الظاهر بنعومة أمامهُ، فتحت عينيها بثقل ونعاس وهي تتقلب بتكاسل، اعتلى ثغره ابتسامة جذابة كانت تراها في شهر عسلها فقط وهو يقول: صباح الخير..
ابتسمت ابتسامة متذبذبة وهي تنظر لهُ قائلةً بخفوت عقبة سؤال: صباح النور، مش رايح الشُغل؟
سألها بعبثٍ وهو يمرر أنامله فوق كتفيها بحركاتٍ خبيثة أصابتها بالقشعريرة: زهقتي مني ولا ايه؟

هزّت رأسها بنفي وقلبها يخفق في عُنف وهي تراه يدنو منها! هل سيفعل هذا مجددًا؟! لا تعرف ماهية شعورها تماما لكنها لا تُريد، كانت تتوق لاقترابه منها فيما مضي وتطالبه لكنها أصبحت لا تُريد الآن، ظنَّت أمس أنها ستقضي ليلة رائعة، خيالية، مثل الليالي السالفة لكن هذا لم يحدث، هُناك شيء أحدث في قلبها غيّر دواخلها وهي تعرف من المسؤول عن هذا..

استفاقت من شرودها على تلك الأنفاس الحارة التي كانت تلفح صفعة عنقها تلاها تلك القبلات الحارة التي تعرف نهايتها جيّداً، حركت رأسها بانزعاج وهي ترفع يديها تدفعه من منكبه بقوة متحججة بالعمل بصوتٍ مُختنق متقطع: هـ، هتتـ، أخر على الشغل يا مصطفي؟
هزّ رأسه وقال بلا مُبالاه قبل أن يقتنص من رحيق شفتيها: مش مهم وحشتيني، ولم يعد هُناك مجال لحديثٍ آخر بعد هذا..

بعد ساعتين كانت قد أنهت حمامها وصففت شعرها وجلست أمام مكتبها كي تدرس، بينما مصطفي كان يرتدي ملابس الرسمية كي يذهب إلى العمل كما كانت تظن لكنه كان يملك رأيا آخر..

مال يحوط خصرها بيديه مداعبا إياه بجرأة لم تعهدها منهُ نهائيًا، شعرت بالقشعريرة تدب في أوصالها أربكتها، ابتسمت مُلاطفة وهي تضع يدها فوق يده ليقبل وجنتها بخفة وهو يزيد من ضم خصرها أكثر حتى التصق ظهرها في ظهر المقعد مشاكسًا وهو يسألها: بتعملي ايه؟
يا إلهي كُل هذا الالتصاق من أجل هذا السؤال؟ إن ألقاه من بعيد كانت سترد عليه ماله اليوم يُفرط في الرومانسية معها دون سبب..

ردت بنبرة مهتزة وهي ترفع رأسها ليداعب شعرها ذقنه: بذاكر امتحاني بعد يومين..
رفع يده و أمسك ذقنها بنعومة بينما يقول بابتسامة: سيبك النهاردة من المذاكرة ويلا البسي عشان نفطر بره ونكمل باقي اليوم في أي مكان تختاريه مفيش شُغل، وبعدين أنتِ بتذاكري بقالك فترة اعتبري النهاردة أجازة..
أومأت وهي تبتسم ببلاهة أثناء رمشها بسرعة ومازالت تنظر له بتعجب جلي، فمنذ متي يفعل هذا؟
هل لاحظها وتذكرها أخيرا؟!

لم تستفيق من أفكارها سوى عِندما وجدت نفسها تحمل بين يديه برقة شديدة كـ ريشة متجها بها ناحيه خزانة الملابس!، لم تستطيع أن تكبح ضحكتها بل ضحكت بصوتٍ مبهج رنان وهي تطوق رقبته، متعجبة، بل ذاهلة مما يحدث معها الآن من هذا!
ابتسم بسرور وهو ينزلها أمام الخزانة، لثم جبينها بحنان ثم قرص وجنتها بخفة قائلا بابتسامة جذابة: غيري عقبال ما أعمل مكالمة..

أومأت بابتسامة سعيدة وهي تفتح الخزانة بينما هو دلف إلى الشرفة كي يُحادث سالي..
أنهت ارتداء ملابسها وقلبها يرقص فرحًا بسبب التغير العجيب الذي طرأ عليه! يبدو أنه كان مشغول ومضغوط كما كانت تظن..

نثرت عطرها وهي تهز رأسها باستمتاع لـ تتناثر خصلات شعرها وترفرف حول وجهها بنعومة، تقدمت من الشرفة بخطواتٍ حثيثة كي تفاجئه وياليتها لم تفعل، تيبست قدميها وشعرت بِـ سطلا من الماء البارد يسقط فوق رأسها، تلاشت ابتسامتها المبهجة وحل محلها الخذلان وهي تسمع حديثة بانكسار..

ـ أنا آسف والله يا حبيبتي مش هقدر اجي الشغل النهاردة، ماما تعبانة جدًا وآدم مش في البيت لازم أفضل جنبها هعوضك يوم تاني ها مع السلامة يا روحي باي..

خانتها عبراتها التي انسلت من بين جفنيها بمهانة، وضعت يدها على فمها تكتم شهقتها قبل أن يسمعها ومن ثم ركضت إلى دورة المياه تبكِ وحدها بحرقة، فآخر ما توقعته أن يخونها لمَ فعل؟ بماذا قصرت معهُ؟! ولمَ يكذب بشأن والدته هي لم تجبره كي يبقَ معها فليركض لها كي ترضي عنهُ هذا الخائن، فلن تنسي هذا الشعور البشِع الذي تركه في نفسها بعد سعادةٍ عميقة غمرتها بسببه..

في منزل ليلى..
تنهدت وهي تكتب ملحوظة على الورقة الملونة أمامها ثم وضعتها فوق باب الثلاجة وهي تبتسم ثم غادرت، فتحت باب المنزل وقبل أن تخطو خطوة واحدة شهقت بخضة وانتفض قلبها وعادت إلى الخلف بقلبٍ يخفق بقوة، حركت الباب كي تغلقه لكن قبضة الحرس الشخصي الضخمة التي دفعت الباب للخلف أوقفتها مع قوله باحترام: أحنا تبع عمّار باشا..

ـ باشا؟، لفظتها باستهجانٍ واستنكارٍ لأبعد حدود كأنها لفظًا نابي أُلحق بإسم عمّار.

رمشت قليلا ثم أعادت فتح الباب على مصرعيه، حدقت في الرجل ذات البِنية الضخمة والمنكب العريض والصدر الصلب والملابس السوداء الرسمية و النظارات الشمسية و السماعات كأنها شخصية مهمة في الدولة! تفحصت ملامحه الجامدة التي غلب عليها القسوة بتدقيق وريبة وهو يقف أمامها بجوار صديقة جنبًا إلى جنب كحائط سد غير قابل للانهدام بينما هي بالكاد كانت تطابق حجم سلاكة الأُذن بجانبها..

أخرج أحدهما الهاتف وبدأ في الحديث بجدية أكثر وكما فهمت من حديثه أنه عمّار، مدّ يده لها بالهاتف وباحترامٍ قال: عمّار باشـ..
ـ خلاص خلاص انا تمام مش هتكلـ، هاته، قاطعته ببعض الحزم أولًا لكنها تذكرت نادين طلب نادين وهذا ما جعلها تتناول الهاتف منهُ وتتحدث على عجلة من أمرها: عمّار لما توصل الشركة تبقي أطلع عشان عايزاك، وأغلقت الهاتف في وجهه قبل أن يرد ثم ناولت إلى أحدهما وسارت إلى سيارتها..

لكن كما توقعت اعترض طريقها أحدهما وتحدث بخشونة: هنيجي معاكِ ممكن المفتاح؟
زفرت وهي تخرجه من حقيبتها ثم ناولته له بهدوء، فلا ذنب له كي تتشاجر معهُ على عملٍ مُكلف بهِ، الثور الذي يجلس في مكتبها الآن هو المسؤول وهو من يُحاسب، لأنهُ من يُضخم الأمور ويبالغ بها!
وصلت بعد وقتٍ قياسي إلى العمل بسبب القيادة السريعة بخلاف قيادتها البطيئة كأن البنزين نفذ منها..

دلفت من مدخل الشركة، تسير بشموخها المُعتاد و كعب حذائها المرتفع قليلا يطرق خلفها وهي توزع ابتسامتها الرقيقة على من تُقابلهم من العاملين لديها في طريقها إلى المصعد المُكتظ بالعاملين..

صعدت بعد دقائق، أوصت رنا على قهوتها الصباحية لتخبرها بوصول عمّار و انتظارة لها في الداخل، دلفت إلى غرفة المكتب، جالت بنظراتها داخل الغرفة تبحث عنهُ لكنها لم تجده يجلس على المقعد مثل كُل مرة، بل وجدته يتمدد فوق الأريكة بكُل راحة ويضع ذراعه فوق وجهه خافيًا الضوء عنهُ..

ضغطت على حقيبتها بقوة وهي تصر على أسنانها بغضبٍ جامح و ملامحها تتبدل تلقائيا لأخرى باغضة وهي ترفع حقيبتها بقوة كي تصفع بها وجهه، توقفت وتنهدت بصوتٍ مرتفع جعلته يرفع يده وينتصب جالسًا وهو يتثاءب لـ تتخطاة وهي تفرك فتحتي أنفها بانزعاج بسبب رائحته المتفشية في الغرفة، لمَ يُسرف في وضع العطر لمَ؟ هي لا تُريد أن تختنق..

قذفت حقيبتها فوق سطح المكتب وترأست مكتبها، اضجعت على مقعدها الوثير وراقبت تقدمه وجلوسه أمامها..
بادرت بتحيته بابتسامة كان وقعها على قلبهُ مدمرًا: صباح الخير يا عمّار
ابتسم وهو يمد قدميه على الطاولة أمامه بينما يسألها: عمًار ده انا؟
ردت عليه وابتسامتها قائمة دون أن تتغير: طبعا أنت في حد غيرك معايا هنا؟
هزّ رأسهُ بنفي وهو يبتسم لها بالمثل وردّ تحيتها: صباح نور على أجمل عيون..

تخضبت وجنتيها بحمرة بسيطة ثم حمحمت بخفة كأنها لم تسمع، تحدثت في صُلب الموضوع بكل هدوء وكياسة: بُص يا عمّار أنت دخلت حياتنا وتوغلت فيها بما فيه الكفاية بس متوصلش أنك تجيبلي لوحين يمشوا جنبي في كل حتة و يلفتوا النظر ليهم!
سألها بعبثٍ وهو يبتسم: يمشي لوح واحد؟.
طرحت سؤالها بابتسامة وهي تسند وجنتها فوق راحة يدها: واللوح ده عمّار؟
اتسعت ابتسامته وحثها على إعادة قولها بنبرة راغبة: قوليها تاني.

قالت بتردد: عمّار؟!
ـ لأ لوح..
ضحكت برقه جعلت قلبه يرفرف ويجزم أنها جُنّت، منذُ متى وهي تضحك لشيءً تسمعه منهُ؟ ما خطبها؟، يفضل الثائرة في هذه المواقف لأنهُ يفهما أكثر وهذا غير مطمئن، أخرجه من شروده متابعتها للحديث بتعقل ورزانة: عارفة ان ده ضروري عشان تحميني بس أنا مش عايزة..

هزّ رأسه بتفهم و مازال التعجب يأخذ طريقه إلى تقاسيم وجهه فهذا الهدوء وعدم العصبية في الحديث لا يريحة، هل وجدت سلامها النفسي أخيراً ولن تصرخ عليه؟!
تنهد وقال بنفس الهدوء: عندك حق بس هُمه مش بيدخلوا معاكِ في حتة دول بيودوكِ ويجيبوكِ بس وده مش هيخليهم مُلفتين زي ما أنتِ شايفة؟

نظرت في ساعة معصمها قليلا ثم قالت لهُ بأسف: معلش نتكلم في الموضوع ده بعدين عشان وقتي ضيق، انا طلبتك مخصوص لأني عايزة اطلب منك طلب هتعمله؟!، ها قد بدأت يعلم أن هُناك خطبا ما..
أومأ وشرع في الحديث بصدق: لو هقدر اعمله اكيد هعمله!
نظرت لهُ بثبات ثم قالت بغصة لا تعرف مصدرها: أخطب نادين يا عمّار..

صمت كئيب سيطر على المكان لم يخلو من صوت أنفاسه الثائرة، للحظاتٍ حاول استيعاب ما سمع منها قبل أن يقول باستنكار بسبب طلبها الغبي: أنا امبارح أقولك اتجوزيني والنهاردة تقوليلي أخطب بنتي؟ أنتِ بتستهبلي بقي!
وعقب قوله وقوفه من مكانه وتركها وغادر دون إضافة شيءً آخر، لكن استوقفه قولها بنبرة مهزوزة كانت هادئة رغم هذا: متمشيش وتسيبني وانا بكلمك!

استدار لها وهدر بغضب الشرار يتطاير من عينيه: كلامك مش عاجبني عشان أفضل واسمعه..
أخذت شهيقا طويلا وهي تبذل مابوسعها من مجهود كي تظل هادئة دون انفعال ثم قالت متظاهرة بالحياد العقلاني: ماهو لو موفقتش يا عمّار يبقي تخرج من حياتنا عشان هي تقبل فكرة انك مش موجود، لكن لو هتفضل قُدامها وقُريب منها يبقى تخطبها يا عمّار، أنت المسؤول وأنت اللي دخلت حياتها و خطبتها و علقتها بيك دي مشكلتك لوحدك ولازم تحلها!

رفع زاوية شفتيه بتهكم ثم سألها بسخرية: وده الحل بقي توافقي بنتك ترتبط بواحد مبيحبهاش وبيحبك أنتِ؟
خللت أناملها داخل خصلات شعرها وهي تتنفس بانفعال ثم قالت بيأس: يا عمّار أفهم أنت بالنسبالي ولا حاجة وانا مش بحبك بنتي هي اللي بتحبك وأنت كُنت مرتبط بيها يبقي ارجعلها ايه المشكلة؟
زفر بينما يقول برفضٍ قاطع: المشكلة إني مقدرش اتجوزها هي دي المشكلة..

أغلقت الهاتف الذي بدأ بالرنين ثم قالت بثقة: ومين قالك انك هتتجوزها؟ أفرض عِرفتك على حقيقتك وصدقت انك متستاهلش واحده زيها فـ تسبيك هيبقي في جواز؟
ابتسم بوحشية وهو يكور قبضته بغضبٍ جلي حتى ابيضت ثم طرق على المكتب بقوة وهدر بخشونة: ده على أساس أن أنا كورة تحدفيها أنتِ وبنتك لبعض؟
ومن العجيب أنها لم تجفل لم تفزع بل كانت تستمع إليه بأذان مصغية و ببرودٍ تام قالت: أنت اللي حطيت نفسك في الموقف ده..

كشر عن أنيابه ووقف بطوله الفارع أمام المكتب ثم مال بجذعة أمامها وسألها بسخريةٍ لأبعد الحدود: والنبي قولي لي بس أنتِ فاكره نفسك ايه؟.

حركت شفتيها وكادت ترد دون أن تهابه لكنهُ لم يعطها فرصة للكلام وتابع وهو يقرع زجاج سطح المكتب بقوة هادرًا بسخط دون أن يُنمق كلماته: طظ في الشغل وفي حياتك اللي دخلتها وفيكِ أنتِ شخصيًا ماشي، و أنا سيبهالك مخدرة تبقي اتصلي بالبوليس بقي وقوللهم في واحد مضايقني ومش رادي يخرج من قلب بنتي يا أم تفكير مريض..

ورفع جذعة وانتصب واقفًا، رشقها بنظرةٍ باردة وترك المكتب وغادر بعد أن صفع الباب خلفه بقوة، بينما هي كانت في مكانٍ آخر شاردة وهي تضع يدها على قلبها الذي يخفق بانتظام طبيعي دون ثوران وخوف! ماذا ألم تعد تخافه؟
تمتمت بذهول وهي تمسد فوق محل قلبها: أنا قلبي مات ولا ايه؟

بينما هو دلف إلى غرفة المكتب في الأسفل بتجهم و الشرار يتطاير من عينيه مستعدًا للفتك بأي شخص يتحدث معهُ، ليجد لمار تندفع وتقف أمامه وبدأت في الثرثرة: اتأخرت ليه؟ و بتتجاهل رسايلي كمان انا جبت قهوة هات فلـ، توقفت الكلمات بحنجرتها ولم تكمل عِندما رأت نظرتهُ الخطيرة تجاهها، ازدردت ريقها بحلق جاف، ودارت مقلتيها في أرجاء الغرفة بارتباك ثم استأنفت قائلة بتوتر وهي تلتقط كوب القهوة البلاستيكية من فوق المكتب ووضعته بين يده: جبتلك قهوة اشرب وروّق اعصابك اشرب.

جلس على الكرسي وهو يتأفف ثم وضع كوب القهوة من يده بقوة وبدأ يهز قدميه بتوتر وهو يفكر تحت نظرات لمار التي كانت تتفحصه باهتمام منتظرة أن تتحين لها الفرصة كي تحادثة، سحبت كرسي فارغ وجلست جواره تراقبة بطرف عينها حتى توترت وبدأت بهز قدميها مثله، وضعت القهوة من يدها ثم وضعت يدها فوق ركبتيه كي يتوقف وهي تتوسله: كفاية توتر كفاية.

توقف وأبعد يدها عنهُ بانزعاج شديد، كان تحت نظرات رنا المُسلطة عليهما، فهي أتت كي تأخذ بعض الأوراق من هُنا. ابتسمت ابتسامة جانبية ذات مغزى لمحها عمًار عِندما حانت منها التفاته ثم تجاهلها بعدم اهتمام وصبَّ تركيزه على تلك التي تجلس أمامه.
سألها بيأسٍ تمكن منهُ: أنتِ متأكدة من الكلام اللي قولتيه امبارح صح؟

هزّت رأسها مؤكده وشرعت في الحديث بثقة: طبعا متأكده الكلام ده من زمان بس مشكلة ليلي إنها بتثق فيهم همه الاثنين ثقة عمياء و مش بتصدق اي حاجة تتقال ولا بتهتم أصلا!
تمتم باعتراض لا يُريد التصديق: ما هو صعب إني أصدق برده وهو بقاله سنين بيساعدها وواقف جنبها!.

ضحكت بسخرية وقالت بتهكم لكن بصوتٍ مُنخفض: بيساعدها وبيستفاد من وراها أد كده أنت متعرفش حاجة، ده الأسبوعين اللي كانت مسافرة فيهم من فترة في واحد من اللي شغالين في الأرشيف كشف كُل حاجة وعمل خناقة كبيرة وفضحهم في الشركة عشان مكنش عارف يوصلها راح سعيد جه وبهدله وطرده من الشركة ومشي ولا كأن حاجة حصلت ومحدش قدر يتكلم ولا يفتح بؤه لما رجعت عشان عارفين ان اخرتهم الطرد ومش هتصدق!

مسح وجهه بعصبية والأفكار تعصف برأسهُ مُتحير في كيفية التصرف. تلك الغبية تظن نفسها ذكية وهي لا تعرف ما يحدث خلف ظهرها ولا الشرور التي يضمرها لها ذلك المدبر للمكائد اللعين..
قالت لهُ بنبرة هادئة وهي تري حيرته: لو عندك مشكلة قُلي ممكن اساعدك، عارفة أن الثقة مش حاجة سهلة، بس صدقني انا كويسة ثِق فيا انا مش عايزة غير كُل خير ليها حقيقي..

نظر لها مطولا وهو يُفكر بعمق، فهو بحاجة لمساعدةٍ هُنا بأي شكلٍ من الأشكال، لكن هل يثق بها ويخبرها كُل شيء؟
بينما في الأعلى كانت رنا تتحدث في الهاتف خلسة وبصوتٍ مُنخفض وهي تقف في الغرفة المُخصصة لصنع المشروبات تتلفت حولها بقلق: سعيد باشا، تمام ممكن تكلمه وتتفق معاه، ده طلع عادي مش زي ما انت فاكر و شكله كده هيشبُك مع واحده من اللي شغالين معاه تحت، تمام، تمام مع السلامة.

في الأسفل، ضحكت بتسلية وهي تضع يدها على فمها جذبت الأنظار إليهما ليوبخها عمّار بدوره بغيظ: بتضحكِ علي ايه يا سخيفة يا باردة أنتِ؟!
استعادت رباطة جأشها ثم قالت والابتسامة تزين ثغرها: متزعلش مش قصدي والله، بس يا عمّار هي عندها حق الستات بتحب الحنية كُنت هاتفها بالحنية! بس بُص أنا لو مكانك برده هخطب نادين عـ، رفع يده أمام وجهها بحزم كي تصمت وغمغم بسخط: شكرا للنصيحة أُسكتي مش عايز أسمع.

أنزلت يده واقتربت بمقعدها أكثر وتابعت بإصرار وهي تحثه على الانتباه عِندما تجاهلها: لو خطبت نادين هتغير صدقني هتغير.
أعتصر الهاتف بيده بنفاذ صبر وهدر وهو يكاد يلكم هذا الوجه الحسن: هتغير ليه هي بتحبني اصلا؟ وبعدين دي بنتها مش اختها يعني.
تنهدت بإحباط وقالت بحزم: بس لازم واحده تسيبك للثانية!
ـ اهي سبتني لبنتها يختي، قال ممتعضًا وهو يتأفف.

فكرت قليلا بإحباط ثم قالت باستسلام: ماهو لازم تخطبها عشان تفضل جنبها وصدقني صدقني هتنجح وهتغير وخصوصا لما تشوف علاقتك مع نادين مستمرة من غير ماتسيبك زي ماهي فاكره، هتتقهر وهتشوف
هزّ رأسهُ بنفي وقال بنبرة مفعمة بالحزن متأثرة وهو يفكر بها: وأنا مش عايز اقهرها! ولا عايز يحصل شرخ في علاقتها مع بنتها لأنها مالهاش غيرها وهي دنيتها كُلها مينفعش مش هسامح نفسي لو دمرت علاقتهم..

ابتسمت لمار وهي تتأمل ملامحه الرجولية الجدِّية المتأثرة ثم قالت بفخر كأنها تعرفه منذُ زمن: أنت حد كويس يا عمّار ومش هتوصل للمرحلة دي ان شاء الله..
أومأ ومازال يفكر حتى قطع هذا الصمت رنين هاتفه برقمٍ غير مُسجل، كاد يغلقه لكن شيء داخله حثه على الرد..
ـ الو، ايوا أنا مين؟ سعيد؟

اتسعت مقلتي لمار وهبت واقفة، هرولت ووقفت بجانبه، ألصقت أذنها بالهاتف الموضوع فوق أذنه تستمع لمَ يقول باهتمام حتى أنهي المكالمة..
دفعها بسخط وهو يغمغم باستياء: ايه يا ماما مش للدرجادي؟ في مليون سعيد مش واحد بس!
ضحكت وهي تفرك مؤخرة رأسها بارتباك ثم قالت بحماس: بس طلع سعيد ده ويلا روح قابلة وشوف عايز ايه ومتنساش اهم حاجة سجل اي حاجة يقولها..

أومأ وهو يقف يستعد للذهاب لتودعة بقولها بعفوية: بيبي في أمان الله..
ضحك بخفة ثم استدار ودفعها من وجهها لتسقط فوق الكرسي وشرع في الحديث بنبرة آمره: خلصي الشُغل ده لحد ماجي، وتركها وغادر لتبدأ هي بالعمل بابتسامة متمتمة بازدراء: ايدك عاملة زي اللوح كتك نيلة.
ـ ايه اللى يحصل ده؟، سأل أحد الموظفين صديقة.

هز الآخر رأسهُ بجهل وقال بسخرية: تاني يوم ليه بس وروضها خلي بالك بقي من حبيبتك ها شكلة صاحب المهام الصعبة، حدق صديقة في محبوبته الانطوائية التي تجلس فوق مكتبها تعمل دون الألتفات أو التحدث لأحدٍ وهذا جعل قلقه يتفاقم فلن يتركه يخطفها من بين يديه بالتأكيد..

تنهدت لمار بحزن وسط عملها، زمت شفتيها عِندما استمعت إلى صوت معدتها الصارخة بالجوع، وقفت وحملت حقيبتها والهاتف بعجله من أمرها ثم بدأت في التحدث بسرعةٍ لا يستطيع أحدًا مجاراتها فيها حتى لا يوقفها أحدهم باعتراض: أنا جعانة هجيب اكل بسرعة وجاية مش هتأخر، محمود يا خباص مش هتأخر ها، ومضت في طريقها
في أحد المطاعم المجاورة للشركة..

كان آدم يجلس على أحد الطاولات أمام صديق والده العجوز الهرم يراقبه بابتسامة أثناء تناول الطعام بشهية..
سألهُ بابتسامة مبهجة وهو يعد الطعام عليه: ها يا عمي مش هتحكيلي بقي ولا هنستني للعشى؟
ابتسم العجوز وهو يمضغ الطعام ببطء ثم سأل باستفهام و نبرته خرجت مرتجفه قليلا بحكم سِنه: عايز تعرف حاجات تخليك مش مبسوط في حياتك ليه يا آدم؟ احنا عايشين اهو وكويسين مالك بقي؟

ضحك آدم وهو يحدق في شعره الذي غزاه الشيب وسأله باستنكار: مين اللي مبسوطين وكويسين؟ ده أنت مش أنا! أنت متعرفش حاجة والله يا عمي، أنت عارف أن قدرة تحملي عالية جدا وبستحمل لوقت طويل زي ما أنت عارف أن طلبي أني أقابلك النهاردة معناه أني ضايع ومش عارف أعمل ايه ومحدش غيرك هينقذني صح؟
أومأ العجوز وابتسامة حانية ارتسمت على وجهه وهو ينظر إلى آدم إبن أعز صديق إمتلكه في حياته على الإطلاق..

ـ عارف يا آدم عارف بس أنا جاي اديك نصيحة مش نلعب سؤال وجواب؟، قال متهربا من الإجابة التي لا يعرف سؤالها بعد..
تنهد آدم بتعب حقيقي ثم سأله بإرهاق: أمي الحقيقة مين يا عمي مين؟

غصّ اللُقمة داخل حلقةُ عِندما سمِع هذا السؤال وأخذ يسُعل بقوة، فكان قاب قوسين أو أدنى من الاختناق، ربت آدم على ظهره بقلق ثم هرول إلى مطبخ المطعم بقلق عِندما وجد زجاجة المياه البلاستيكية فارغة هي والكوب، عاد بعد ثوانٍ مهرولًا وسط الطاولات ومن دون أن ينتبه اصطدم بفتاةٍ أوقع عليها نصف المياه..
شهقت لمار بتفاجئ وصدرها بدأ يعلو ويهبط من المياه الباردة التى سقطت فوقه مباشرةً مُبللا ملابسها..

حدق آدم بين كوب المياه وبين صدرها المُبلل ثم رفع رأسهُ لوجهها المشرق المذعور وأعتذر بلباقةٍ: أنا آسف بجد آسف، وتابع هرولة إلى الطاولة قبل أن يختنق..

مرَّ من أمامها بسرعة البرق لكنها كانت تراه متباطئ وشعره الناعم يتطاير ببطء كأن أحدهم أبطأ الشريط وكُل خصلة تنفصل عن شقيقتها بسلاسة وتسقط على وجهه، يا إلهي نقطة ضعفها الشعر الطويل، توقف علو صدرها وبدأ قلبها بالخفقان بقوة، راقبته بثقب وهي تضع يدها على قلبها وبدأت في السير ورقبتها تكاد تسقط من على جسدها بسبب التواءها وحملقتها به حتى وصلت إلى طاولة قريبة من طاولته، جلست عليها وظلت تختلس النظرات وتراقب ما يفعله باهتمام شديد وأنفعال كأنها تجلس معهُ..

فكانت لمار ذات وجه ممتلئ دائري وبشرة نقية وشعر أسود طويل كثيف تعتز به وتحبه و تنفق أموالها عليه ببذخ وكان يأتي ثماره ويستطيل جيدًا مع الوقت، عينيها بُنية واسعة وأنفها صغير دقيق وحاجبيها عريضان كثيفان منمقين بطبيعتهم، شفتيها صغيرة وليست بارزة ولا مكتنزة بل صغيرة، لم تكن نحيلة أو سمينة بل كانت متزنة وزنها يتماشى مع طولها، جسدها يأخذ شكل الساعة الرملية وهذا أكثر ما كان يزعجها رغم أنها لا تعلم أنها رائعة المظهر..

تنفس آدم الصعداء براحة ثم سأله بقلق: بقيت أحسن؟
هزَّ رأسهُ بإيماءه بسيطة ثم سأله والهم يرتسم على تقاسيم وجهه: ليه السؤال ده بس يابني ليه غاوي تنكد على نفسك ده أنت المرحوم وصاني عليك جامد متزعلنيش عليك؟ وبعدين هو في حد عنده أُمِّين؟

هزَّ رأسهُ بنفي وهو يخلل أنامله في خصلاته شعرة بقوة، لتطلق لمار قلوب من عينيها وهي تضم يديها إلى قلبها تتأمل تلك الخصلات الحريرية وذلك الوجه الملائكي الهادئ البريء وبينها وبين أن تفقد سيطرتها على نفسها وتذهب وتطلب رقمه شعرة..

أردف بنبرة يائسة راغبة في إقناعه كي يريحه ويخبره الحقيقة: أنا عارف أنها مش أمي متحاولش تقنعني بغير كده؟ لأنها بتكرهنى أكتر ما بتكره الفقر نفسه! تحب أقولك بتعاملني ازاي وبتعمل إيه عشان تقتنع؟ حاضر هقولك، وبدأ بقِص تصرفات والدته التي لا يجد لها تفسير وهو يكاد يبكِ أمامه من قهره..

زمت لمار شفتيها بحزن متفاعلة مع ملامح وجهه الحزينة وهي تسند وجنتها علي راحة يدها بـ همٍ وعينيها مسلطة على يده التي تتحرك مع حديثة بانفعال كما يبدو دون أن تُحيد بها لمكانٍ آخر فهي تجزم أن يديه أنعم من يديها..

تنهد بحزن و ارتشف بقية كوب المياه وهو يتنفس بثقل ثم بدأ في الحديث ببطء وتعب كأن هُناك ما يجثم فوق صدره يخنقه: أخر حاجة كُنت اتمناها أني أقولك يا آدم، صمت يفكر قليلا بمسؤولية بسبب التحدث بعد كل تلك السنوات فهو ظن أن الأمور بخير! لكن حسم أمره وبدأ بالحديث بتأثر وحزن مستعيدا تلك الذكريات الأليمة منها و الجميلة: زمان في الحارة أنت عارفها طبعا أبوك كان شغال عند تاجر كبير طيب كان بيحبه و بيثق فيه ثقة عمياء، طلب منهُ في يوم يتجوز بنته و وريثته الوحيدة نوال، كانت جميلة اوي زيك بالظبط كده يا آدم، كانت كاملة أخلاق وجمال ودلال تتحل من على حبل المشنقة، بس ابوك كان متجوز ساعتها شهيرة و متهيألى كانت حامل في مصطفى فى الوقت ده، أبوك مكنش عايز يزعل جدك برده، فكر كتير وكان هيرفض لكن جدك فِضل مُصر عليه حتى أنه جوزهم في السر لما حس ان ابوك خايف من شهيرة أوي وهي من عيلة لبش و شرشوحة أصلًا، المهم اتجوزها ومن فرحته بيها يا آدم كان بيجيلي كل يوم ويقعد معايا بالساعات ويفضل يحكيلي بتعمل معاه ايه وأد ايه هو محظوظ وربنا بيحبه عشان اتجوزها ورزقه بواحدة زيها تفكره بدينه وبصلاته، كانت حياته معاها جنة يا آدم جنة على الأرض، حبها أوي أكتر من أي حاجة في الدنيا..

ابتسم آدم بل ضحك وعيناه تلمع بالدموع متأثرا وهُناك حملًا ثقيل زال من فوق صدره، فقوله أنهُ أحبها أكثر من شهيرة تُعدل من مزاجه مئة وثمانين درجة..

استأنف حديثه بحزنٍ عميق استعمر قلبه: بس حياته الجميلة تحولت لكابوس لما قلبها تعبها وبعدين حملت فيك، كانت تعبانة طول الوقت والدكاترة قالوا و حذروها أن الحمل خطر عليها و متستحملش لكن هي أصرت انها لازم تخلف منهُ عشان حبِته، بس للأسف ماتت وهى بتولدك ومكنش فيه غير شهيرة في الوقت ده، طبعا أبوك خد الورث بتاعة وبتاعك وكان مبلغ في الوقت ده وبدأ يعمل شُغل وكبره و حياتكم أتغيرت، مصطفى سعتها كان عنده سنة وكان صغير ميفهمش وكبر معاك وعارف أنك أخوه من أمه وأبوه، ابوك طمني عليك وقالي أن شهيرة بتعاملك كويس وده اللى خلاني اطمن عليك لأني كُنت عايز أخدك، واختتم قوله بعبرة ثمينة انسلت من بين جفنيه وهو يحدق في آدم الذي فاضت عينيه من الدمع وهو يحدق به فلو كان أخذه لكان أفضل بالنسبةِ لهُ من هذه الحياة..

مدَّ يده التي ترتجف من وجه آدم ماحيا عبراته وهو يواسيه بلطف: متزعلش ولا تعيط علي اللى فات من حياتك. أنت كان عندك أم جميلة، وكُل الفلوس دي بتاعتك والخير ده خير أمك أنت ومش من حقهم أي حاجة خليك عارف كده كويس وسامح أبوك لو كان قصَّر معاك في حاجة او عاملك ببرود، كُله كان عشان مصلحتك مكنش ينفع يدلعك ولا يحبك قُدامها كان بيحبك معايا أنا بالساعات زي ماكان بيحبها، أنت متعرفش شهيرة لسه متعرفهاش، دي لو كانت حسِت أنه بيحبك اوي او بخطر من ناحيتك انك تكون عرفت الحقيقة وأنت لسه شاب صغير كانت ممكن تقتلك بسهولة!.

أومأ لهُ بتفهم وهو يكتم أنينه ومازال يبكِ مطرقًا برأسهُ غير قادرا على التوقف، فكم يكرهها و يتمنى موتها فمن المُريح أنها لم تحمله في رحمها..
محت لمار عبراتها وهي تستنشق ما بأنفها وظلت تحدق في أناملها المُبللة بتعجب وشفتيها ترتجف بتأثر وهي تسأل نفسها باستنكار ماذا تفعل؟ لمَ تبكِ وما دخلها هي؟ هي بائسة بما يكفي كي تذرف الدموع لأجل شخصٍ لا تعرفة حتى ولن تجتمع به مجددًا..

أخرجت المنديل القُماشي من جيب معطفها بتكلف، حدقت في الوردة الوردية المُطرزة التى صنعتها بنفسها في زاويته وهي تبتسم، جففت به عبراتها ثم قامت بثنيه ووضعته في جيب معطفها بإهمال أدي إلى تدلي نصفه خارجاً، وقفت كي تذهب لكن استوقفها النادل الذي أتي بالطعام وأردف متعجبا ذهابها: البيتزا يافندم؟
قالت لهُ ببحة ثقيلة أثر البُكاء وهي تنظر لها بحزن: شِبعت حد يشوف القمر و يا كل برده هاخدها معايا.

أومأ وذهب كي يقوم بتجهيزها بينما هي سارت من جانب طاولة آدم ولم تنتبه لقدمة التي أخرجها من جانب الطاولة وهو يُعدِّل من جلسته، تعثرت بقدمة و شهقت بخوف منتظرة أن تحتضنها الأرض لكن ذارعين وثيرة التفت حول ذراعيها أوقفتها باستقامة قبل أن تسقط ونبرة قلقة هادئة دغدغت حواسها وهي تتساءل: أنتِ كويسة؟!

رمشت بسرعه وهي تحملق في وجهه بتية وفاة فاغر دون أن تنبس ببنت شفة وقلبها يخفق بقوة وهناك ألعابا نارية تم إطلاقها داخل رأسها عجزت عن سماع ما يقول بسببها، لمَ هو جميلًا هكذا؟

تخلي عن ذراعيها وهو ينظر لها بارتياب وبتردد وكز وجنتها الممتلئة بسبابته منتظرا رد فعلها باهتمام طفولي، شهقت بخجل ووضعت يدها على وجنتها بإحراج ثم تخطته وذهبت كي تأخذ البيتزا، تنهد وهو يجلس ليبصر المنديل ساقطا أمام قدميه، انحني والتقطه ثم استدار كي يعطيه لها لكن لم يجدها..

تنهد مجددا وجلس وظل شاردا قليلا وهو يقبض علي المنديل، أمسك صديق والده يده وضغط عليها طالبًا منهُ بقلق: اوعدني انك متتهورش يا آدم وتتصرف بعقل..
أومأ آدم ووعده بصدق وهو يقلب المنديل بيده يلهي به نفسه: حاضر بس انا عايز شهادة الميلاد بتاعتي اللى بإسمها هي وعايز صورها، عايز أعرف كل حاجة عنها وعن اهلها..
أومأ موافقا وهو ينظر له بشفقةٍ: حاضر.
في أحد المقاهي المجاورة للشركة..

عدَّل عمّار وضعية هاتفه وقلبه على الجهة الأخرى متصنعا عدم الأهتمام ثم قال بصوتٍ رخيم إلى سعيد الجالس مقابلة: خير؟!
ابتسم سعيد ابتسامة هادئة لا تليق به بتاتا ثم شرع في الحديث بتكبر محافظا على هدوء نبرته: انا مش بحب الكلام الكتير عشان كده هدخل في الموضوع على طول، سمعت أنك عرضت على ليلي تشاركها عشان البورصة الأيام الجاية هتتراجع جامد مش كدة؟

همهم عمّار وهو يعقد يديه أمام صدره ليستأنف سعيد لكن غيَّر مجرى الحديث عارضًا عليه عرضًا مُغري: ليلي كلمتني وسألتني عن الموضوع ده صح ولا لأ بس أنا لسه مردتش عليها، مستعد أقولها ان ده صح و تشاركك بس بشرط.
ابتسم عمّار وشرع في سؤاله باهتمام: شرط ايه؟

قال بنبرة صاغرة مُتعمدة: انا عارف حكايتها كويس اوي، زي ما انا عارف انك مش قريبها، وزي ما أنا عارف برده أن صديق عمري اتجنن على كبر لما راح واتجوز واحده قاصر مقشفه ونضفها وعملها واحده علينا و هتلهف كل حاجة بسهولة بسبب بنتها.
قست ملامح عمَّار وهو يستمع لهُ بوجه مكفهر فكيف يقول عن زوجته المستقبلية هذا؟ اللعين القبيح الذي لم ينظف نفسهُ من أسبوع لم يرها عِندما كانت زهرة زاهية متوردة..

ـ و عشان كده هتدخل شريك وهتكمل اللي احنا بدأناه لحد ما الشركة تُقع، و ليلى تخرج منها وتبقي بتاعتي انا وانت وبالنص موافق؟ موافق؟
رشقة عمّار بنظرة فظيعة دون التحدث، فهذا الخائن صدمه حقًا انها تثق به ثقة عمياء!
سأله باهتمام وهو ينظر لهُ بعمق: أُمال حكايات أنك بتحبها و عايز تتجوزها دي اشاعات؟
ضحك سعيد بصوتٍ رنان سيطر عليه الخِسة أزعج عمّار أيَّما انزعاج.

ـ لا مش اشاعات كُنت فعلا عايز اتجوزها عشان فلوسها اكيد وهي برده حلوه يعني مش هخسر حاجة بالعكس انا اللى هكسب واجهه هايلة للحفلات وسط رجال الأعمال.
تضاعف غضبه وأخذ صدره في الاهتزاز وهو يبتسم ببهوت، ضم قبضته بقوة كابحًا جماح نفسه والانفجار الذي على وشك أن يحدث بأعجوبة كي لا يقوم ويهشم وجهه القبيح، تمالك نفسه ثم سأله من بين أسنانه: ازاي انت صاحبه وهو كان عجوز من عشرين سنة؟ ايه مصاص دماء مبتكبرش؟!

ضحك سعيد نفس ذات الضحكة الخسيسة، فكان غضب عمّار قد وصل لذروته في هذا الوقت حتى أنه حسم أمره وعزم على الذهاب وعدم معرفة الأجابة فليحترق في الجحيم لا يريد أن يعرف، لكن قبل أن يفعل كان سعيد قد بدأ في الحديث بابتسامة بسيطة وهو يتذكر السنوات السابقة: أنا عيلتي كانت شغالة عند أهل عبد الرحمن المنشاوي زمان، لما أنا كُنت طفل كان عبد الرحمن راجل بيشتغل وعنده شركه بيديرها، لما كان بيرجع بليل ويلاقيني قاعد في الجنينة العب لوحدي كان بيقعد جنبي ويتكلم معايا كأني راجل كبير قدامة، و كِترت قعداتنا و خدني معاه في شغله وعلمني كُل حاجة وانا لسه بدرس ولما خلصت شغلني معاه بس هو اللي عملني وهو صاحب الفضل عليا وسبب اللي انا فيه دلوقتي..

ـ و عشان هو عملك وساعدك تنهب فلوسة وتعمل كده في مراته؟!، قال بنبرة ساخرة مستهجنة متقززة من سماع هذا منه بهذا التبجح.

احتج سعيد معترضا ودافع عن نفسه بشراسة كأنه أخطأ بحقه: طبعا اعمل دي مش مننا انا اللي كُنت معاه وكبرنا الشغل مع بعض وليا حق أكتر ما ليها وعلى فكره هيا هتاخد فلوس وميراث بس اللي انا هسمح بيه مش اكتر من كده!، هي فاكرة وقوفي جنبها كُل السنين دي صدقة جارية بعملها؟ لأ انا مبعملش حاجة ببلاش أبدًا..

ضحك عمّار وهو يمسح وجهه بكفه بشكلٍ متكرر أثار في نفس سعيد التعجب، وبغضبٍ وبغضٍ شديد هدر مستنكرا: تعرف اني حزين عشان طلعت انسان حقير؟ أنت تعرف هي بتثق فيك أد ايه؟ تعرف أنا ممكن أعمل ايه عشان تثق فيا نُص ثقتها فيك وأنت إنسان خسيس قذر مش عايز غير فلوس؟! أنت قربت تموت فلوس ايه اللي بتدور عليها يا شيخ! روح اعمل عُمره ولا حِج قبل ما تموت، ومتقلقش سِرك في بير محدش هيعرف غير ليلي بس سلام، وأخذ هاتفه وغادر وهو يسبه داخله سُباب لاذع، هكذا هي الحياة دائما تقع الأشياء الثمينة في الأيدي الخطأ مع الشخص الخطأ ويا ليته يُقدر، فبقدر سعادته لأنهُ سيتخلص من سعيد بقدر حزنه عليها عِندما تعرف الحقيقة وتنصدم به لا يريدها أن تحزن على شخصٍ لا يستحق..

في مكتب ليلى الآن..
وقفت رنا بجانب مقعد ليلى تُراقب توقيع ليلى للأوراق باهتمام ثم قالت بنبرة عادية لا تثير الشك: كُنت بجيب شويه أوراق من تحت وشُفت بالصدفة عمّار ولمار قاعدين بيضحكوا مع بعض لدرجة أنها كانت حطه ايدها على رجله تخيلي!
توقفت يدها عن التحرك فوق الورقة وهي ترمش ثم رفعت رأسها وسألتها بنبرة مستنكرة غلب عليها التعجب: حطه ايدها فين؟

ابتسمت رنا ثم قررت تضخيم الأمور والمبالغة والكذب، انحنت ثم وضعت يدها فوق فخذ ليلي تمثل لها ما حدث بطريقة جعلت جسدها يقشعر بينما تقول بنبرة بطيئة وهي تنظر في وجهها مباشرةً بكل خبث: كانت حطة ايدها هنا..
ابتعد ليلي بجسدها الى الخلف وهي تضحك بارتباك ثم قالت بتعجب: ايه يا رنا مالك؟
هزّت رنا رأسها وهي تبتسم ثم شرعت في القول باستفهام: عمّار هيفضل معانا هنا كتير؟

سألتها ليلى باستفهام غلب عليه الضيق ولا تعرف لمَ قالت هذا: ليه مضايقة من علاقته بيها؟
ضحكت رنا بتسلية وهي تلملم الأوراق ولن تنكر تفاجئها بما قالت وهذا لم يجعلها سوى أن تقول من فرط الغيظ بنبرة مبطنة تحمل معنيين استشفت بها إيحاء مزعج: صدقيني مش أنا اللي مضايقة من علاقتهم، أنا آخر واحد ممكن تضايق من علاقتهم، انا بس حبيت أعرفك اللي بيحصل تحت، عن أذنك..

تبدلت ملامحها لأخرى غاضبة، ضمت قبضتها بعصبية وهي تحدق في ابتعادها وكم رغبت في البصق عليها بسبب ضيقها المفاجئ منها..
بينما في الأسفل وصل عمّار ودلف بحماس إلى المكتب وهو يبتسم لكنهُ لم يجد لمار، تعجب قليلا ثم جلس ينتظرها، لتصل بعد بعض الوقت تسير بتباطؤ وشرود وهي تحمل البيتزا بإحباط، جلست جواره وقبل أن يتحدث سألته بحزنٍ عميق: شُفت القمر قبل كده؟

قطب حاجبيه بتعجب وهو يتفحصها بنظراته ثم أومأ وهمّ بالتحدث بابتسامة: اه فوق في المكتب
ابتسمت لهُ بالمثل ثم قالت بإحساس مُرهف ودموعها تكاد تنهمر: وأنا شُفته بيعيط؟
سأل باستفهام: هو مين؟
قالت بتذمر وهي تسبل جفنيها: القمر..
نظر لها بطرف عينيه وهو يفكر فبالتأكيد هُناك خطبٌ ما بها، تتصرف بغرابة، أخرجها من شرودها وحزنها قوله بابتسامة نحوها: مش عايزه تعرفي عملت ايه؟

ابتسمت بإشراق وكأن شيءً لم يحدث، ناظرته باهتمام عِندما فتح الهاتف كي تسمع المحادثة التي دارت بينهما وابتسامتها تتسع كلما سمعت أكثر، مرحي لو اوقعا به..

بعد أنتهاء التسجيل الصوتي أخذ الهاتف وأرسل رسالة نصية يخبر نادين بها أنه قادم مساء اليوم كي يطلبها للزواج، فهو لديه خطة، وضع الهاتف من يده وبدأ بشرح خطته إلى لمار، وفي هذا الوقت تحديدا لملم محمود الأوراق وهو ينظر لهما بعدم رضي ثم أخذها وذهب كي يحضر الأجتماع مع ليلي في الخارج..

استقلت ليلى السيارة ومعها محمود في الخلف والحارسان في الامام، ظل محمود يحدق عبر النافذة طوال الطريق وهو يفكر ايخبرها أم لا؟ لا يعرف لكن سيخبرها..
حمحم بخفة ثم بدأ حديثه بسؤال: هو عمّارهيفضل معانا كتير؟
أثار في نفسها التعجب لثانِ مرة تسمع هذا؟ كانت تظن أنها وحدها من تنزعج منهُ لكن الجميع هكذا!
سألته بجدية واهتمام: ليه حصل ايه؟

لاذ بالصمت قليلا يراجع نفسه للمرة الأخيرة ثم تنهد باستسلام وقال: انا مش فاهم بيحصل ايه بس من ساعة ما عمّار ده جه لمار اتغفيرت ومبقتش تزعق ولا تتخانق مع حد خالص طول الوقت يا إما بتتكلم مع عمّار يا إما بتشتغل مع عمّار برده وطريقتهم غريبة مش طريقة زمايل شُغل أبدًا! يعني امبارح كان طول الوقت رغي و النهاردة ضحك وكمان عمّار خرج وساب الشغل معرفش راح فين وبعدين هي خرجت تجيب أكل والاثنين رجعوا وري بعض تقريبًا؟! هو الشُغل بيخلصوه تمام بس حاسس بإهمال عشان كده كان لازم أبلغك.

أومأت بتفهم والأفكار تعصف برأسها ثم قالت بهدوء عكس النيران المشتعلة التى تتأجج داخل صدرها والتي تعرف جيدا أنها ليست بسبب تقاعصهما عن العمل: شكرا يا محمود لما تلاقي حاجة غريبة بلغني حتى لو بتليفون.
أومأ بابتسامة ثم تنهد براحة كأنه أزاح همًا ثقيل عن صدره وظلا صامتين طوال الطريق، هو شارد في العمل وهي تفكر فيما يحدث بين عمّار وبين لمار بنوعٍ من الاستهجان فهو لن يُحبها من أمس فقط؟!

في الإسكندرية..
وضعت طبق الطعام الأخير فوق الطاولة ثم أفرغت المياه في الكوب ووقفت تتطلع إليها باهتمام باحثة عن خطأ أو رُبما تناست شيء، نعم لقد نسيت أن تأتي بطبقٍ لها، استدارت ووجهتها المطبخ لكنها توقفت عِندما سمعت صوت خالتها المفعم بالانفعال رغم مرضها: بتعمل ايه دي هنا؟

قالت وهي تتوقف بمنتصف الطريق ضاغطة على يدِ جاسم التى تأخذ بيدها بقوة، حثها جاسم على السير وأردف بهدوء: بيتها يا ماما هتكون بتعمل ايه فيه؟
هزَّت رأسها برفض وهي تقول بمقتٍ شديد: مش هقعد معاها في مكان واحد يا انا يا هيه مش عايزة اشوفها مشيها من هنا يا اما والله هسيب البيت..
كاد يحتج لكن عشق عاجلته بقولها بهدوء وهي تتحرك للذهاب: انا مش جعانة يا جاسم كلوا انتوا..
وصعدت إلى غرفتها بهدوء دون أن تضيف شيء..

ساعد والدته على الجلوس بعدم رضي واستدار كي يصعد ويأتي بها لكن والدته صرخت به بفقدان صواب مزِج بتعبٍ: تعالي هنا أنت رايح فين؟ أنت إزاى بتتعامل مع الأمور ببرود كده؟ أنت معندكش نخوه ولا رجولة ولا ايه؟ دي خانتك!
ردَّ عليها ببرودة أعصاب وهو يجلس: لما حد يعمل حاجة غلط ويندم ويحاول يصلح من نفسه مش المفروض كُل شويه نفكره هو كان ايه زمان؟!

ضحكت بوهن وهي تسند راحة يدها علي جبهتها ثم قالت وهي علي حافة الجنون: زمان؟ الموضوع لحق يبقى من الماضي؟ دي بتخونك من سنين وبتبص في عينك بكل بجاحة وكانت حامل وتقولي زمان؟ ضحكت عليك وكلت بعقلك حلاوه عشان تسامحها بدل ما تقتلها؟!
انفعل وسألها باستنكار: ليه هو انا قاتل؟

صرخت به بحدَّة وهي تضرب سطح الطاولة: دي حلال فيها القتل وتستاهل انا لو مكانك مكنتش هتردد لحظة ابوها لو كان عايش كان قتلها، أنا غلطانة اني اعتبرتها بنتي وقعدها وسطنا...

ردَّ بعصبية شديدة وعلت نبرة صوته عليها لأول مرة: لأ مكنتش هيقتلها بنته الوحيدة ومكنش هيقتلها وأنتِ عارفة كويس عشق كانت بالنسبالة ايه؟ مُستحيل كان يأذيها، دي كلمة كلكم بتقولوها لما تكون المصيبة مش بتاعتكم بس، الضنا غالي اوي وهي مكنتش هتعمل كده لو كان لسه موجود لحد دلوقتي، تلا هذا رفع سبابته أمام وجهها و أستأنف بخذلان قرأته داخل عينيه كأنهُ يلومها: وأنتِ معتبرتيهاش بنتك! كُنتِ هتقتلى بنتك لو غلطت؟!

ردت عليه بنبرة مرتجفة وهي على وشك البكاء بسبب هجومة عليها وصوته الذي لم يرفعه أمامها في حياته سوى الآن بسبب عشق: بنتى مكنتش هتوطى راسي؟
ـ عرفتي منين؟ مِخلِّفه ملاك ماشي على الأرض؟، قالها بتهكم وهو ينظر لها بلوم وصدره يعلو ويهبط بانفعال منتظرًا أن ترد عليه.
انسلت عبرة عتاب من بين جفنيها وهي تناظره بلوم ثم قالت باعتزاز: انا خلفتك ولد و مفيش في أخلاقك!

وقف عن كرسيه وجلس على المجاور لهُ كي يقترب منها أكثر. لثَّم جبهتها بحزن ثم مال وقبل يدها وأعتذر بأسف وهو ينظر لها نظرة مُعبرة: أنا آسف متزعليش مني، انا كان قُدامي كذا فرصة أني أكون حد مش كويس واغلط وأعمل أكتر من كده بس أنا اللي مش عايز أحنا مش معصومين من الخطأ ومش ملايكة، لازم نسامح وننسي عشان نعرف نعيش يا ماما..
أخذت تمسح على شعره بحنان ثم قالت بعدم رضي وحزنٍ عليه: وأنت إيه اللى يجبرك على كده؟

أطلق آهة مقهورة وهو يحدق في سقف الغرفة رامشًا بسرعة تزامنا مع اهتزاز شفتيه وقوله وهو يبتلع غصة لوعته: عشان بحبها وهفضل معاها للآخر، للآخر متنسيش أنها أمانتي..
ـ وأنا عمري ما هقبلها تاني يا جاسم، طلعت زي أمها مبتعملش حاجة غير أنها بتأذى اللي بيحبوها و مستحيل أقبلها، قالت بحسرة وهي تتذكر جرح غائر مازال قابعا في قلبها ولم يلتئم بعد..

نظر لها بعدم فهم بسبب قولها الأخير حرك شفتيه وكاد يسألها ما معنى ما قالت لكن نفسها بدأ يضيق وتسعل بتعب وهذا ما أخرسه وهو يناولها كوب المياه بخوفٍ بينما هي ارتشفتها وهي تجيل بعينيها في الغرفة متهربة من نظراته بارتباك..
في غرفة عشق في الأعلى..

خرجت من دورة المياه وهي تجفف وجهها بالمنشفة الصغيرة، رنين هاتفها صدح للمرة الألف مُنذُ الصباح؟! لا تعلم ماخطب الجميع يفتقدونها في يومٍ واحد! لكن تعلم الحقيقة الجميع يهاتفها من أجل الجامعة و الإمتحانات التي ستفوتها وترسُب..

ردت على الهاتف بهدوء وهي تجلس على طرف الفراش دون أن ترى من هوية المتصل: الو..!، لم يأتها رد، قطبت كلا حاجبيها ثم أعادت القول وقلبها يخفق بعُنف و مقلتيها تهدد بهطول أمطارها المحتجزة وهي ترمش بسرعة وقد علِمت هوية المتصل من صوت أنفاسه: الو..!
أتاها صوته المُفعم بالحب: وحشتيني..
عضت على شفتيها بقوة وكُل خلية في جسدها تصرخ مرددة قوله بعشقٍ تام لكن فمها أبى أن يفعل..

ـ مش هتردي عليا يا عشق؟!، سألها بحزنٍ عميق منتظرًا رداً منها، أغلقت الهاتف في وجهه وقذفته بجانبها و إجهشت في البكاء بحرقة وهي تضع رأسها بين يديها، فماذا يُريد بها بعد يكفي فليختفي و يتركها وشأنها..
دلف جاسم إلى الغرفة حاملا بين يديه صينية الطعام من أجلها، تركها من يده وهرع إليها بقلق عِندما استمع إلى صوت نحيبها، جثي أمامها و أحتضن وجهها بين يديه يسألها بقلق: عشق بتعيطي ليه؟ حصل ايه؟

ظلت تبكِ دون أن ترد عليه، انتفضت بشكلٍ ملحوظ
ورفعت رأسها بسرعة عِندما تناهى إلى سمعها صوت رنين الهاتف، حدقت بينه وبين جاسم بشحوب جذب انتباهه وجعله ينظر لها بشك!
مدَّت كفها كي تأخذ الهاتف لكن سارع هو بأخذه والرد على المتصل لتدعو بداخلها ألا يكون هو مجددًا..
ـ تمام شكرا ليكِ، أردف بامتنان وهو ينظر إلى عشق بتركيز، أغلق الهاتف ثم أردف بنبرة لائمة: ايه اللي سمعته ده؟

ارتعد قلبها وهي تسأله بخوف سيطر على ملامحها: سـ، سمعت إيه؟
أردف باقتضاب وانزعاج جلي: أنتِ مفهمة أصحابك أنك مش هتدخلي الامتحانات السنادي؟!
تنفست الصعداء ثم قالت وهي تمحي عبراتها: ايوا مذاكرتش السنادي و مكنتش مهتمة مش هحصَّل حاجة مش هلحق.

هزَّ جاسم رأسهُ برفضٍ قاطع وجلس بجانبها وبتردد رفع يده وأخذ يمسح على شعرها بحنان وهو يقول بنبرة متفائلة: لأ هتحصلي، أنتِ متفوقة وبتستوعبي بسرعة ومعاكِ وقت بين كُل مادة والتانية وهتنجحي وأنا واثق فيكِ، حرام تضيعي السنة على الفاضي وتبعدي حلمك عنك أكتر وهو قُريب منك! هتمتحني و هتنجحي والسنة الجاية هشوفك دكتورة أد الدنيا دي كُلها..

ضحكت بنعومة وهي تومئ موافقة ثم اراحت رأسها على صدره تبوح له ما يجيش بصدرها من خوفٍ وقلق بينما هو أسند ذقنه على قمة رأسها: أنا مش عايزة أرجع القاهرة.
قال بنبرة مطمئنة رمَّم ما تبقي بداخلها من أملٍ من خلالها وهو يخلل أنا داخل شعرها الحريري: هاجي معاكِ مش هسيبك، عقب ذلك تربيته على ذراعها يحثها على الاستعداد: يلا جهزي حاجتك وانا هجهز حاجتي عشان نمشي.
تجلي النهار وأسدل الليل ستاره..

هبت رياح شديدة باردة أصابت جسد آدم برجفة أثناء جلوسة أمام قبر والده يلومه بسبب ما آلت إليه حياته..
وضع يديه في جيب سترته كي يدفئ نفسه قليلاً وهو يتهيأ للذهاب، رنين هاتفه الخافت أخرجه من شروده..
أخرجه ورد بهدوء: ألو
ردَّ بتسلية: نادية فينك؟!
ضحك آدم بعدم تصديق وهو يسمع صوته ثم قام بسؤاله بغضب لأنه أشتاق إليه: ياحقير؟ أنت فين؟

أتاه صوته متذمرا بسبب إفساد مفاجئته بعودته: روحتلك البيت ملقتكش ودلوقتي في الطريق رايح لـ عمّار..
وقف آدم وسار ناحية سيارته وهو يقول بعملية: كويس أنا اصلا قاعد عند عمّار وجاي في الطريق
تذمر باستياء غلف بالخبث: أه يا شواذ يا ولاد الـ (، )! بتعمل ايه عنده من غيري؟..
ضحك آدم وبدأ في القيادة وهو يقول بمكر: تعالي و أنت هتعرف هنبسطوك اوي..

دلف عمّار إلى المنزل وهو يهتف باسمه بنبرة دلَّت على التعجل والسرعة: آدم، آدم، أنت جيت ولا لأ..
تأكد أنهُ لم يعود بعد فصعد إلى غُرفته سريعًا ودلف إلى دورة المياه كي يأخذ حمامًا دافئ لأن لديه عروس سيذهب إلى خطبتها..
مرَّت نصف ساعة، خرج وهو يُدثر نفسة في مئزره الأبيض الصوفي برجفة بسيطة ثم بدأ يتجفيف شعرة بالمنشفة بقوة وهو يغمض عينيه بمتعه قطعها رنين جرس المنزل، تأفف ثم اتجه صوب الأسفل..

أدار المقبض بتكاسل وهو يتنهد ليتوقف محله هنيهة يحملق في قُصيّ الذي ابتسم وهتف بعبث وهو يحدق في هيئته: صاحبي الرشاش اللى مبيهداش
صاح بصوتٍ مُرتفع وهو يفتح يديه على مصرعيها لهُ: حبيبي الجدع اللي ملوش مُرتجع، وقفز معانقا قُصيّ إياه بقوة وهو يضحك مشددًا على عناقة، لقد اشتاق لهُ كثيرا..
أتى صوت آدم الذي وصل مُتأخرًا من خلفهما باستياءٍ شديد: انا معاكم على فكرة!

رفع قُصيّ رأسهُ ثم قهقهة وهو ينظر لتقاسيم وجهه المنزعجة كفتاة تغير، سحبه من ذراعه ليدخل بينما، ليبتسم آدم وتستمر وصله عناقهم كدائرة بابتسامة لأجلٍ غير مسمى..
ـ مش هسيبكم تاني يا ولاد، أردف قُصيّ بتأثر ودرامية، ثم رفع رأسهُ وربت على صدر عمّار قائلا بفخر: عاش يا وحش، وانتقل من صدره إلى وجه آدم مربتًا على وجنته بخفة قائلا بلطف: ناعمة زي ماهي..

دفعه آدم بضجر وأردف بسخط: إرجع ماطرح ماكُنت إيه اللي جابك..
قهقهة قُصيّ وكاد يتحدث لكن عمّار صفق كي ينتبها وينظرا لهُ ثم قال بسرعة: انا هكمل لبس عشان رايح أخطب وانتوا هتيجوا معايا، حدقا به بتعجب بينما هو صعد سريعًا لكن توقف في منتصف الدرج واستدار قائلا: دلوقتى في واحدة جاية استقبلها أنت يا آدم وخلي بالك منها وقعدها على جنب ها المكان مش أمان..

قهقهة آدم وهو يومئ عندما فهم المغزى ثم جلس على الأريكة بينما قُصيّ سار إلى الباب، توقف بجانبه ثم أسند ظهره على الحائط هو يعقد يديه أمام صدره باقتضاب طفولس منتظرًا مجيئها..
تأفف بضيق عِندما طال وقوفه، تخلى عن إصراره وسار خطوتين لكن صدح صوت الجرس، عاد وفتحه بسرعه ليلفح الهواء النقي وجهه، أطلق صفيرًا مرتفعًا وابتسامة جانبية اعتلت ثغرة وهو يسند يده على إطار الباب يتفحصها بنظراته بتدقيق..

فكانت ترتدي فستان ضيق من اللون الأحمر، مخملي بأكمام يتخطى ركبتيها وفوقه معطف أسود طويل تركته مفتوحا، تضع قليلا من مساحيق التجميل التي جعلت من وجهها يلمع في الضوء، تاركة العنان لشعرها يرفرف خلفها متخطي خصرها بانسيابية ونعومة..
تحمحمت ثم قالت بصوتٍ رقيق أخرجه من وصله تحديقه بها: عمّار موجود؟
اتسعت ابتسامته الجانبية أكثر وسألها بخبث وهو يضيق عينيه: مش فاضي يمشي قُصيّ!

دفعة آدم من منكبه قبل أن ترد ووقف بجانبه ليتدرج وجه لمار بألوان قوس قُزح وهي تحدق به بأعين متسعة و بتلقائية تمتمت بابتسامة: يوجين!
تبادل مع قُصيّ النظرات بعدم فهم ليطلق قُصيّ آهه تدل على خبرته ومعرفته بالكرتون بفضل غرام ليفسر قولها بسلاسة وثقه: يوجين بتاع ربانزل دلدلي شعرك، الطاسة!

ـ طب وأنا دخلي إيه؟، سألهُ بعدم فهم وهو ينظر لها ثم أردف وهو يضيق عينيه بتفكير يحاول التذكر أين رآها لأن وجهها مألوف: أحنا إتقابلنا قبل كده؟
هزَّت رأسها سريعا وقالت كحملٍ وديع وهي تنظر لهُ نظرة حالمة: أه الصبح في المطعم..
ابتسم وهو يتذكر كُل شيء ثم رحب بها بحفاوة وهو يطلب منها الدخول: اهلا وسهلا اتفضلي عمّار دقايق ونازل..

أومأت وهي تبتسم على استحياء، أشرف على جلوسها على الأريكة وهو يبحث عن المنديل في جيب معطفه لكنهُ لم يجده، قطب كلا حاجبيه بانزعاج ثم تمتم سائلا قُصيّ: مشُفتش منديل مشغول بورده وقع مني هنا او هنا؟
هزَّ قُصيّ رأسهُ بنفي لتتسع ابتسامه لمار وهي تتذكر المنديل هل هو معهُ؟ لمَ تنتبه لسقوطه، تشعر أن القدر يقف بصفها هذه المره؟!

تحرك يبحث عنهُ في مكان وقوفهم منذُ قليل باهتمام بينما قُصي جلس على الأريكة المجاورة لأريكتها طولا وهو ينظر لها باهتمام يفكر مليا وبعمق فيما يحدث! كيف انتهى بها المطاف مع عمّار؟ أنهُ لا يُملك موهبة مصادقة النساء ماخطب هذه؟!، بينما هي كانت تجيل بعينيها في أرجاء الغُرفة باهتمام حتى سقط نظرها على قُصيّ المتربص بها..
ابتسمت بخفة ثم تنحنحت وسألته وهي تبعد خصلاتها خلف أذنها: أنتوا أصحاب عمّار؟

هزَّ رأسهُ وهو ينفي: لأ أخوات، قُصيّ رشدان، عمّار الصعيدي، آدم المنصوري..
قهقهت بخفوت وهي تهز رأسها بينما تقول: ربنا يخليكم لبعض، هتيجوا معانا؟
رفع قُصيّ كلا حاجبيه وهو يسألها بنزقٍ وضيق: أنتِ اللى جاية معانا؟
ضحكت بخفة وهي ترى تعابير وجهه الممتعضة ثم قالت مؤكده قوله: أه جاية..
ـ ليه؟، سألها بازدراء
ابتسمت وهي تحدق في طلاء أظافرها ثم قالت بجمود: أصلي فاضية..

عدَّل جلسته وهو يرخي رأسهُ قليلا أثناء سؤاله: والفاضية تبقي مين؟
أجابت بهدوء: لمار
ـ أموت أنا في اللبن الحليب، قالها وهو يلاعب كلا حاجبيه بعبث جعلها تضحك سرعان ما توقفت ورفعت حاجبها الأيسر قائلة بتحذير: هعتبره إطراء، و متتكررش تاني ماشي؟

رمش قليلًا وهو يحدق بها ثم ضحك باستمتاع تفاقم ضيقها إثره أكثر، تأففت بضيق وعزمت على المغادرة لكن تناهى إلى سمعها ضحكات آدم الخفيضة وهو يدور حول نفسهُ مستمرًا في بحثه عن المنديل، تبسمت برقة وهي تلف خصلة طويلة حول سبابتها شاردة تصغي إلى رنين ضحكاته، هل أعجبته إلى هذا الحد كي يضحك بهذا القدر؟

وقفت فجأة دون سابق إنذار ثم اتجهت صوب الدرج وصعدت إلى الأعلى، ترك قُصيّ مكانه ووقف بجانب آدم ثم سأله بتعجب: طلعت تعمل ايه فوق؟
هزَّ آدم رأسهُ بجهل بينما يقول: اندهلها يمكن يكون لسة بيلبس..
أومأ بخفة ثم صاح بصوتٍ مرتفع: ربانزل دلدلي شعرك، ضرب آدم كتفه بغيظ ووبخه بحدّة: ربانزل إيه بس يا حلوف اندهلها يلا..
كاد يهتف بإسمها لكن وجدها تنزل الدرج مع عمّار ويبدو على ملامحها الانزعاج وهي تتحدث بشيءً ما.

ـ صاحبك بيرخم عليا مش هياكل جاتوه من اللى هتجيبه..
ابتسم عمّار وقام بـ مواساتها برفق: متزعليش هو بس بيحب يهزر، ثم أخرج مفتاح السيارة من جيبه وأعطاه لها: يلا اسبقي على العربية..
أومأت وسبقته إلى الخارج ليزفر بيأس وهو يتجه ناحية قُصيّ كي يوبخه لكن هو من عاجله ووبخه بحدّة: من أمتي وأنت بتصاحب بنات حلوين؟ عايز تبوظ سمعتنا؟
ضيق عمّار عينيه ونظر لهُ نظرة مُعبرة: وِسعت منك أوي المرادي، دي زميلتي في الشُغل!

ـ طب وأنت واخدها معاك ليه؟ عشان تغيظ ليلي؟، سأله باستفهام
هزّ رأسهُ بنفي وهو يرفع كلا حاجبيه قائلا بابتسامة: خالص مجاش فى دماغي الموضوع ده هي بس صاحبة الفكره وبتساعدني مش اكتر من كده، يلا بقى عشان منتأخرش..

فتحت النافذة وهي تبتسم كي يتجدد الهواء داخل السيارة ثم أرخت رأسها على المقعد وتركت نسمات الهواء تداعب وجهها، ابتسم آدم من مكان جلوسه في المقعد الخلفي وهو يتابع شعرها الطويل وهو يتطاير بقوة، إنها وعفوية وليست مملة..
أصغي إلى قُصيّ باهتمام عندما سمعه يسألها: مرتبطة يا لمار؟
أتاه ردها بنبرة هادئة بعد لحظات صمت ظن أنها لن تجيبه: لأ مطلقة..

كان مُستعدا للسخرية لكنهُ صمت ولم يعلق على هذا لكن هي من علقت بنبرة أقرب للسخرية: مضحكتش ليه؟ الموضوع مش مأساوي للدرجادي..
شعر بتقريع الضمير فهتف بضيق وهو يُحدق من النافذة: ومش مضحك برده، آسف لو ضايقتك اصل انا رخم شويه..

ابتسمت وهي تغمض عيناها لثوانٍ قليلة ثم فتحتها وردت عليه بنبرة هادئة: أنت مش رخم!، أنت بتحب تطلع نفسك حقير قُدام الناس، مهما كانت أسبابك خليك عارف ان الحياة مش ماشية كده، وسواء كُنت في نظر الناس كويس أو وِحش ده مش هيغير من جوهرك اللى أنت بتحاول تغيرة لسبب أنت لوحدك اللى تعرفه..

ساد صمت كئيب بعد قولها هذا في السيارة ولن يُعلق قُصيّ بل سقط في دوامة أفكاره التى لا تنتهي بين مدّ وجزر، بينما آدم ابتسم وعاد يُراقب الطريق فمن الجيد أنها تستطيع قراءة الأشخاص سريعاً فماذا رأت به هو يا ترى؟!
في منزل ليلى..

خرجت نادين من غرفتها بمنامتها ذات الرسوم الكرتونية بسرعة البرق مندفعة إلى غرفة والدتها بقوة والصرخة تكاد تنفلت من بين شفتيها من فرط السعادة والحماس بعد قراءة رسالة عمّار النصية التي أخبرها من خلالها بمجيئة، لكنها قرأتها متأخرًا بل متأخرًا جدا بسبب نومها طوال النهار..

فتحت باب الغُرفة بقوة جعلته يصطدم بالحائط مخلفا ضجيجا مفزع أجفل ليلى أثناء استعدادها للنوم، تركت الغطاء من يدها واستدارت بقلب يخفق بعنف من الخضة..
هتف بعصبية عِندما رأتها: ايه يا نادين ادخلي براحة؟
زمت شفتيها وهي تتقدم منها بتباطؤ حتى توقفت أمامها وأعتذرت بندم: آسفة نسيت، أنا بس مبسوطة اوي و متحمسة..

ابتسمت ليلى بعاطفة ثم ضمتها إلى صدرها بحنان وقالت بلا بأس وهي تمسح على شعرها: ولا يهمك يا حبيبتي ايه اللي باسطك أوي كده ابسطيني معاكِ؟
التمعت عيناها ببريق خاص لا تراه ليلى كُل يوم في عين طفلتها لكن سرعان ما اختفى وحل محله القلق وهي تسألها: أنتِ كويسة؟ شكلك تعبان!
ابتسمت ليلى وهتفت بإرهاق: شويه بس يا حبيبتي وكُنت هنام عشان أرتاح، ها إيه اللي باسطك بقي؟

عادت الابتسامة ترتسم على وجهها، حركت شفتيها وكادت تخبرها بشأن الرسالة كي تتجهز لكن رنين الجرس جذب انتباهها، هي حتى لم تتجهز مثلها، قطبت ليلى كلا حاجبيها وهي تضم طرفي المبذل فوق ملابس النوم ثم اتجهت صوب الأسفل، ذهبت نادين خلفها وملامحها تتقلص بخوف وهي على حافة البُكاء بسبب ما سيحدث..

مسدت جبينها بقوة في طريقها وهي تشعر بالصداع يفتك برأسها، أدارت المقبض وفتحت دون خوف فهي تعلم أن هُناك حارسان من أجلها، اتسعت عيناها وتيبست قدميها وعجزت عن التحرك عِندما رأتهم يقفون أمامها يبتسمون، لمار، آدم، قُصيّ، وعمّار يقف يحادث الحارسان؟! ماذا يحدث؟
أطلقت لمار زغرودة سعيدة ثم قبلت وجنتي ليلى المنصدمة وهي تباركها: مبروك ربنا يتمملها بخير..

هزّت ليلى رأسها باستنكار في محاوله مستميته لتُكوين جملة لكنها عجزت، ماذا أتي بها معهم؟!
تدخلت نادين عِندما طال الصمت وطال وقوفهم أمام الباب: مامي أنا كُنت جاية أقولك أن عمّار بعتلي رسالة وقالي أنه جاي يتقدملي..
هتفت متبرمة: دلوقتي؟ ورسالة؟ هو الجواز بقي بالرسايل؟!
احتج قُصيّ بضيق: احنا أهل وواكلين مع بعض محشي في بيت عمّار مفيش بينا الكلام ده؟

أشرت عليه بسبابتها باحتقار وهي تسأله: أنت بتعمل إيه هنا دخلك إيه أنت؟
قال بثقة وهو يغلق زر سترته من المنتصف: والد العريس..

قست ملامحها وضمت قبضتها بقوة وهي على أتم الاستعداد لطردهم جميعا الآن لكن نادين أنقذت الموقف قبل أن تتهور والدتها ورحبت بـ لمار وطلبت منها الدخول ثم لوحت لـ قُصيّ بيديها الاثنتين بابتسامة لطيفة وهي تطلب منهُ الدخول هو وآدم وهي معهما، فدخلوا تباعا بهدوء لكنه لم يتنازل ويصمت بل وجب عليه التحدث ورفع ضغطها: جبنالك جاتوه عشان تروقي..

اكفهر وجهها وهي تحدق في ظهرهم والشرار يتطاير من عينيها، أنهى عمّار حديثه وتقدم بابتسامة تجهمت عِندما رآها تقف بملابس النوم؟! هل رأوها هكذا؟

أغلق الباب بغضب جام ونيران الغيرة تندلع في ثنايا صدره، التفتت على صوت أغلاق الباب بقوة لتجده يتقدم فـ صبت جموح غضبها في الكلمات التي جمعتها كي تلقيهم في وجهه دفعة واحدة لكنه كان يملك رأيًا آخر عِندما أمسك ذقنها وأمرها بنبرة تحذيرية خشنة لا تقبل النقاش وهو ينظر داخل عينيها مباشرةً: اطلعي غيري.

اهتزت مُقلتيها وهي تنظر داخل عينيه ليعيد قوله مجددًا وهو يضغط على كل حرف ينطق به بنبرة استشفت بها هلاكها: اطلعي غيري..

كانت تسمعها منهُ متلذذة لأبعد حد ومازال تواصلها البصري معهُ قائم دون أن تُحيد بنظرها أو تمل، فما أجمل دكون عينيه التي تتحول من اللون الأخضر الزاهي إلى الأسود القاحل كُلما نظر لها وهما معًا وحدهما، هذا مايجعلها تشعر بالفرق بينها وبين بقية النساء، وما هذا الآن؟ ولمَ تُفكر به بتلك الطريقة؟ غبية!

ترك ذقنها دون أن يُضيف شيءً آخر، تأمل ملامحها لمرةٍ أخيرة لم تُرِد لها الأنتهاء أبدًا بل طمعت في المزيد من الحديث والنظرات! فهو يرضي غرورها بشكلٍ لا يتخيله رغم كرهها لشخصه وأفعاله لكنهُ رغم هذا مُتحدث جيّد، تخطاها وذهب إلى الداخل، أخذت شهيقا طويلا أبرز عظم رقبتها البارزة أكثر، هدأت من روعها وهي تتجه صوب الأعلى لكن قبل أن هذا انتزعت نادين من بينهم واخذتها خلفها كي توبخها بسبب هذه المهزلة التي تحدث..

صاحت بعصبية وهي تذرع الغرفة من ركنٍ لآخر تفرك يديها بقوة: أنتوا مستهرتين بالموضوع ليه ده جواز ولعب العيال ده مش هينفع.
تحدثت نادين مدافعة: العيب مني أنا أنا اللي مشفتش الرسالة غير متأخر، عشان خاطري وافقي بقي والبسي عشان خاطري أنا بلييييز.
جلست على طرف الفراش وهي تتنهد بتعب قائلةً بإرهاق: نادين أنتِ بتضغطى عليا عشان عارفة اني مش هزعلك وبتخليني أعمل حاجات أنا مش عايزه اعملها ومش راضيه بيها..

تبدلت ملامحها لأخرى حزينة ثم جلست جوارها وقالت بصوتٍ ضارِع وهي تمسك يدها: عشان خاطري..

هزَّت رأسها بيأس واستلمت للواقع قائلة: قومي البسي يا نادين قومي، شهقت بسعادة ثم قبلتها بقوة وهي تقول بسرور: بحبك أوي أوي، وركضت إلى غُرفتها كي تبدل ثيابها، ابتلعت ليلى غصه مريرة وهي تفتح درج الكومود، أخرجت منهُ شريط حبوب خاص بالصداع، أخذت منهُ واحدة مع رشفة مياة من الكوب الموضوع أمامها ثم تحركت بآليه إلى خزانة الملابس، وعشر دقائق فقط وكانت في الأسفل مع نادين..

ارتدت نادين بنطال خامة الجينز أسود سريعًا يعلوه كنزة صوفية قصيرة، وليلى بنطال قماشي أسود واسع يعلوه كنزة صوفية قصيرة من الأمام وطويلة من الخلف..
جلست على الأريكة مقابل عمّار وقُصيّ وآدم و نادين بجوارها وكانت لمار تجلس على مقعد بمفردها محاذية لنادين، لتبدأ بالتحدث برسمية بعد تبادل النظرات مع عمّار واستمرار الصمتٍ طويلا: اتفضل سمعاك..
تحدث عمّار بهدوء: جاي أطلب إيد نادين..

ـ مؤهلك إيه؟ خطتك للمستقبل! شُغلك إيه وهتطور من نفسك ازاي؟، ألقتهم في وجهه دفعة واحدة..
تحدث بتلقائية محرصًا على إظهار الجدية: انا دبلوم تجارة و، قاطعته مستنكرة وهي تُعدل من جلستها: دبلوم تجارة؟ وجاي تتجوز واحدة مؤهل عالي؟ مفيش تكافؤ بينكم!

هزَّ كتفيه تزامنا مع رفع كلا حاجبيه وهو يقول بثقة: و إيه يعني هي هتعلق الشهادة على هدومها وهي قاعدة في البيت؟! وعشان أبقى صريح معاكِ أنا طلبت الجواز من واحده اكبر مني قبل كده متعلمة و غنية! رفضتني بس عشان مغرورة ومتكبرة فاكرة إنها ملكة الكون..
ـ يعني مش عشان أنت وقح؟، سألته وهي تبتسم بسخرية..

هزَّ رأسهُ ونفي بقوة: لأ طبعًا، واستطرد بعبثٍ عِندما وقفت نادين وذهبت بسبب رنين هاتفها: بس بيني وبينك هي عارفة أني لقطة وأني هتجوزها بس بتكابر، لم تعرف أن نادين وقفت وظنت أن تلك نقطة لصالحها كي ترفضه، فهو يتكلم عن أخرى غيرها أمامها..
التفتت تسألها بهدوء: نادين إيه رأيك في الكلام د، فين نادين؟

ابتسمت لمار بعد أن توقفت عن مراقبتهما باستمتاع ثم ردت عليها بهدوء: جالها تليفون ومتهيألي مهم عشان كده قامت..
مسحت وجهها بيدها بحركة عصبية وهي تشعر بالحرارة تزحف إليها ولا تعلم أحرارةِ غضبٍ أم حمي، لكن وجهها أخذ يصطبغ باللون الأحمر بشكلٍ ملحوظ..

أستأنف عمّار قوله وهو يناظرها بقلق: انا جي أقرأ فاتحة مبدئيا دلوقتي مع عيلتي الثانية قُصيّ وآدم طبعًا اتعرفتي عليهم قبل كده ولمار زميلتي وأنتِ عارفاها برده، هزَّت رأسها بإيماءه بسيطة وهي تبتسم ملاطفة رغما عنها، ليستطرد: واكيد في الخطوبة اهلي هيكونوا هنا والحج متولي طبعا عشان يتفق معاكِ على كل حاجة وقبل ما تسألى مش هنختلف في الماديات خالص أنا مُستعد أخد نادين بشنطة هدومها..

تحججت بوالده قائلة: مش من الواجب اننا نستنى لما الحج يكون هنا ونقرأها كُلنا مع بعض ويكون جدها جِه برده!.
توقف عن الحركة قبل أن يخرج الكلام من حلقة، اعتلي محياة ابتسامة تعجب وهو يحملق بها ثم سألها ربما يكون والد والدها حي وهذا مستبعد: جِدها مين؟
قالت بابتسامة تحكمت في إظهارها بصعوبة مع نطق أسمه بخوفٍ داخلي يستعمر قلبها: خليل الطحاوي، هو مش الإتفاق بيبقى راجل لراجل برده؟!.

أومأ وخضرواية تومض بخطورة رأت الجحيم داخلهما، لكن لم تكترث فلا تملك حِجة قوية غير هذه، كادت تتابع درامتها الخاصة لكن قطع هذا قول نادين المحبط وهي تعود للجلوس: لسه متفقتوش؟
نفي عمّار هذا وهو يرسم ابتسامة ماقته فوق شفتيه: لا اتفقنا، موافق نستني بس تديني كلمة، عارفة أن بنتك قمر والخُطاب كتير..

ابتسمت بلطف ثم وعدته من بين أسنانها: متقلقش نادين مش لحد غيرك بس لحد ما يبقى في رابط رسمي بينكم مفيش تليفونات ولا خروج، لا قراءة الفاتحة تسمح ولا ربط كلام يسمح بكده!، لما تحتاج تبلغها حاجة قُلي انا هقولها أو اتصل بيا وهخليك تكلمها..
اتسعت ابتسامته وقال موافقا بشدّة: طبعا موافق الأصول أصول مفيش كلام..
أومأ قُصيّ متفقا معهُ ثم نصحه بنوعٍ من التواطئ: لما تحتاج حاجة كلم حماتك يا ابني فيها مُشكلة دي؟

هزَّ عمّار رأسه بنفي، ليلوح قُصيّ إلى لمار كي تنتبه قائلا: زغرطي يا انشراح، ابتسمت لمار ثم أطلقت زغروده سعادة طويلة بصوتٍ رنان..
توقفت تلتقط أنفاسها ثم قالت بابتسامة: هجيب اطباق عشان الجاتوه بقي..
أوقفتها ليلى بلطف وهي تقف: لأ خليكِ أنا هجيب، وتركتهم واتجهت إلى المطبخ..

تنهدت نادين بعبوس وهي تنظر إلى عمّار بحزن بسبب موافقته على عدم محادثتها، لكن عمّار عرف سبب عبوسها فقال من مكانه وهو يبتسم: هتصل بيكِ متقلقيش هي بتحب تتشرط بس، ابتسمت بسعادة وجلست بجانبه عِندما انسل قُصيّ من بينهم وذهب خلف ليلى..
بينما لمار أخذت حقيبتها وجلست في الطرف الأخر من الأريكة بجانب آدم، ابتسم ملاطفا عِندما رأي بسمتها لتسارع بسؤاله: ليه قاعد ساكت أنت دايما هادي كده؟

أومأ بخفة وقال بابتسامة أبدت مدى حبهُ لهما: بحب اسمعلهم أكتر ما اتكلم معاهم..
سألته بابتسامة حانية: بتحبهم أوي كده؟
أومأ بانفعال وهو يكاد يضحك بسبب هذا السؤال الذي وجده عجيبًا: أكتر من أي حاجة في الدنيا همه عيلتي الوحيدة، وأنتِ دخلتي العيلة دي النهاردة..
رفعت كلا حاجبيها بتفاجئ سرعان ما ضيقت عينيها وقالت بخبث: ايه ده ايه ده! يعني هتحبني زيهم كده؟

أومأ ضاحكا ثم قال وهو يعدد على أصابعة: طبعا بس ده لو استحملتي سخرية قُصيّ وغرور عمّار وبرودى في بعض الأحيان والجنان بقي لو اتخانقنا..
اتسعت مقلتيها من فرط الحماس ثم قالت بتمني: نفسي اشوفكم بتتخانقوا..
قال ممتعضا وهو يبعد نظره عنها جعلها تقهقه: أعوذ بالله..
أنهت ليلى تجميع الأطباق في الصينية وسارعت بجمع الأكواب لكن قُصيّ توقف أمامها خلف الرخام العازل بينهما..

بادر بالحديث وهو لا يعرف كيف يبدأ: الديكورات حلوة ده ذوقك؟
ابتسمت وهي ترفع رأسها تحدق بالسقف ثم قالت بدون أي انبهار: ده قديم جدا ده، معرفتش تلافي حِجة ثانية غير دي؟!
ضحك بخفة عندما تم الإمساك به ثم قال بكل صراحة: عندك حق انا جاي اتكلم معاكِ ممكن؟!.
أومأت له بابتسامة ثم سارعت بشكره بامتنان جاء متأخراً: شكرًا يا قُصيّ..

إبتسم بتفاجئ ثم نظف حلقة وبدأ يفرد منكبه بغرور جعلها تقلب عينيها قائلة بامتعاض: لأ مش للدرجادي يا قُصيّ!
ضحك بتسلية وهو يلوح بلا بأس وقال بمزيدٍ من الغرور: عفوتُ عنكِ عفوتُ عنكِ..
ضحكت وهي تلتقط الأكواب ثم شكرته بالطريقة الصحيحة كما كان يجب أن تفعل قبلا: شكرا لأنك ساعدتني واستحملت قلة ذوقي معاك في المستشفى وهنا على الباب..
تحدث بلطف وهو يجلس على الكرسي المرتفع: ولا يهمك أنتِ تبع عمّار خُدي راحتك..

تنهدت براحة وصدر شرح، نظرت لهُ قليلا بتفكير ثم سألته باهتمام: عمّار بيخطط لإيه يا قُصيّ؟!
ابتسم عِندما أتت بسيرته فهذا ما يريده..
قال ببساطة: بيخطط عشان يتجوزك في الآخر هيخطط لـ إيه يعني؟
اعتلي ثغرها ابتسامة ساخرة ثم سألته باستخفاف: هو فاكر اني هقبل بيه يعني بعد ما خطب بنتي مرتين؟
صحصح قولها بدقة: هي كانت خطوبه واحدة!
سألته بهدوء: و اللي بيحصل دلوقتي اسمه ايه؟

قال بنبرة عادية: ده كلام وأنا متأكد أنه هيفضل كلام أنا مش عارف المشكلة عندك فين بالظبط بس مش جايز تكون الخطوبه الاولي دي كانت السبب أنكم تتقابلوا؟
هزت رأسها بسخرية ثم سألته بفظاظة: وبنتي لعبة بيستخدمها عشان يوصلي والمفروض اني أقبل واحد يعمل كده؟

سألها مستفسرا: أنتِ مش شايفة إنه كبير عليها؟ يعني في بنات كتير ممكن تتجوز واحد أكبر منها بعشر سنين بس بيقي شبها بيكملها لما تشوفيهم تقولي دول مخلوقين لبعض أنتِ شايفة نادين كده مع عمّار؟

ابتسمت بتبرم ثم قالت بيأس غُلف باستياء وقلة حيلة: قُلت كتير سواء ليها او ليه صوتي اتنبح! انا موافقتش على خطوبتهم بقلب رادي أبدًا وهو عارف كده كويس، هو بيلوي دراعي و بيستفزني بيها و بيستغل نقطة أنها متعلقة بيه ضدي، مكنتش سفرية هي شافته فيها شرم وزفت، هو كان بيعمل ايه هناك؟

ضحك مراقبا معالم وجهها المنزعجة ثم قال والأفكار تعصف برأسهُ: أنتِ محتاجة تعرفي حاجة تغيرلك الفكرة والصورة اللي واخداها عن عمّار بالرغم إني شايف أن نظرتك ليه مختلفة جدا عن الاول بس معلش نغيرها أكتر.
ابتعدت متهربه تجمع الأكواب وهي تتجاهل قوله الأخير، لتزداد ابتسامته خبثًا عِندما لاحظ ارتباكها في طريقه حملها للكوب كادت تسقطه أكثر من مرة..
فقال كي ترتبك بحق تلك المرة: عمّار دكتور!.

اتسعت عيناها وسقط الكوب من يدها فوق الرخام ليلتقطه بسرعةٍ ومهارة قبل أن يسقط ويأتي عمّار يهشمه في جمجمته، ولم يتورع عن كشف الحقيقة قط أمام توسع عيناها قائلا بأسفٍ مصطنع: أنا مش عارف هو متواضع وعمال يبهدل في نفسه ليه كده وهو دكتور تخيلي يا حماتو!.
غمزها بنوعٍ من التواطؤ واستطرد وهو يحمل الصينية من أمامها: ده سِر ها عشان هيشرحنى زي الضفدعة لو عرِف اني قُلت، وتركها مذهولة وعاد إلى غرفة الجلوس..

اخترقت كلماته أذنيها أيما أختراق هذه مزحة بالتأكيد، يكذب بالتأكيد يكذب، رمشت بسرعه وكلماته ترن في أذنها، جالت بنظراتها بينهم في غرفة الجلوس كل واحد على حدى كأنها غريبة وليست منهم، داهمها دوارًا قوي جعلها تترنح بعدم اتزان وكادت تسقط، تمسكت بحافة الرخام بقوة ثم ارتشفت بعض المياه وعادت إليهم وهي تقاوم خمولها وثقل جسدها كي تمر تلك الساعات على خير..

انتقت لمار قطعة كعك مُزينة بصوص الشوكولاته وقدمتها إلى آدم وهي تقول بابتسامة مرحة: مش هيبقي ولا كلام ولا أكل اتفضل..
تناولها منها بابتسامة جذابة سرعان ما اختفت وحل محلها تقطيبه حاجبيه اللطيفة قائلا بعبوس: انا بحب الكريمة!
ابتسمت لهُ بحنان كأنهُ طفلها ثم استدارت وأخذت قطعة الكعك من طبق قُصيّ وهي تنظر لهُ شزرًا ثم وضعتها في طبق آدم بجانب الأخرى بطريقة منسقة وقالت ببسمة: كُل الاثنين..

أومأ وهو يبعد الطبق عن أنظار قُصيّ الذي يرمش بعدم استيعاب بلطافة وبدأ يتناولها بتلذذ، أخيرًا حدث شيءً جميلًا نال رضاه في نهاية يومه السيء..
تجولت لمار على الجميع وقدمت لهم الكعك بابتسامة عدى قُصيّ، ليلي رفضت بالطبع كي لا يزيد وزنها إضافة لشعورها بالمرض..
هدر قُصيّ بتهكم: وانا شفاف صح؟
تجاهلته وجلست مكانها وفتحت حقيبتها كي تري كم من الوقت مضى ليجفل قُصيّ ويقول ممازحا: هتطلع الطاسة إلحق.

توحشت ملامحها مئة وثمانين درجة ثم هددته بشراسة: هزعلك صدقني هتزعل..
ـ الحق يا يوجين ربانزل هتضربيني بالطاسة؟، قالها لاويا شِدقهُ بسخرية..
تأففت بحنق وعقدت يديها أمام صدرها وهي ترشقه بنظراتٍ ساخطة، قام من محله وجلس بجانبها، ضرب كتفه بكتفها بينما يقول مشاكسًا: ايه يا جميل ده انا بدلعك فُكي كده وفرفشي..
نفخت ودجيها وابتعدت قليلا من جانبه بعدم رضي وهي تزم شفتيها وكم كانت لطيفة..

انتهت الأمسية بخير دون شجار لأن ليلي لم تنبس ببنت شفة مع أحد، بل كانت تراقبهم في سكون تام وتبتسم إن استدعى شيء للابتسام، وقُصيّ ظل يتبادل المزحات مع لمار بينما هي كان نص تركيزها مصوبا تجاه آدم الهادئ الشارد معظم الوقت يفكر بـ تالين، وعمار كان يتبادل أطراف الحديث مع نادين لكن نظراته كانت مسلطة ناحية ليلى، فحالتها لم تطمئنه كثيرًا، ومضى الوقت وذهبوا..
تذمر عمّار وهو يقود السيارة: مش كُنت أقعد أتعشى؟

نظر لهُ قُصيّ شزرا وقال مضجرًا: ايه البجاحة دي؟ عشي ايه عملت ايه عشان تتعشى! سوق سوق..
ـ أقف على جنب هنزل هنا، قال آدم وهو يستعد للترجل من السيارة لـ يسأله عمّار متعجبًا وهو يوقف السيارة: مش هتروح معايا؟
قال بهدوء وهو يفكر في تالين: لأ هروح اشوف حاجة في البيت وهرجع عليك، سلام فرصة سعيدة يا لمار، وترجل من السيارة وذهب قبل أن ترد عليه وهذا جعلها تعبس لدقائق معدودة..

تحنحت بعد فترة ثم سألت عمّار باهتمام: هو قاعد معاك؟
أومأ وهو يحدق في المرآة لـ تسأله بمرح: مش محتاجين شغالة تنضف البيت؟
ـ لأ محتاجين رقاصة عندك؟، قال قُصيّ وهو يدخل رأسه بين مقعديهما، صرَّت على أسنانها بغضبٍ جامح، انتهزت فرصة قُربه كي تنتقم فشدت مقدمة شعرة بقوة جعلته يتأوه بقوة، ضرب ذراعها وهو يلعنها مستسلما لها حتى حررتهُ..

ـ أعوذ بالله منك يا شيخة حسبي الله نزلني، قالها بسخط وهو يتحسس مقدمة شعرة بألم..
أطلقت صيحة انتصار تلاها ضحكاتها الرقيقة المتشفية وهي تصغي لقوله الحانق قبل أن يترجل من السيارة: هكلمك بكره سلام، سلام يا بومة..

قهقهة عمّار وهو يلوح مودعاً وانطلق إلى محطته الأخيرة وهي منزل لمار الذي لم تخبره عنوانه قط بل جعلته ينزلها في منتصف الطريق وأكملت هي وحدها، لا يعرف حقا ما شخصيتها الغريبة تلك؟ لكنهُ يراها مميزة ومختلفة، ناهيك عن جرأتها الغريبة وتعاطيها مع الأشخاص فهي تألف الناس سريعا لكن في حدودها الخاصة التي ترسمها لنفسها، إنها إستثنائية، ولطيفة وأحيانا شرسة، لكن ما خطب نظراتها المختلسة تجاة آدم؟!

وصل آدم إلى منزله بعد أن تابع الطريق سيرًا على الأقدام في الهواء الطلق ولا يعلم أنهُ سيتحول إلى مُنقذ بعد ثوانٍ، تسارعت دقات قلبه في عُنف ولأول مرة يشعر بالغُربة في منزله وهو يدخل من الباب، تناهى إلى سمعه صوت صُراخ تالين المرتفع الذي صدح في أرجاء المنزل أرعد قلبه من الخوف، بالتأكيد يهذي هي بخير!، علا صوت صرخاتها بعويلٍ أصم أُذنيه وهو يقف مُتحيرًا يحاول أن يصدق ما يسمع!، توقفت أذنه عن استقبال شيءً آخر عدي صوتها المطالب بالنجدة..

اندفع بسرعة البرق صاعدًا السلالم والقلق يختلج جنبات صدره، سيقتله إن قام بأذيتها، لمَ تصرخ بتلك الحرقة، وفي ثانية وجد نفسه يقف على حافة الدرج في الأعلى يلهث بانفعال ولم يستوعب سوى إمساك شهيرة لـ ذراعه تمنعه من التقدم أكثر والتدخل قائلة بنبرة فظة: أخوك ومراته ملكش دعوه!

انتفض قلبه مع علو صوتها المبحوح الذي ينبعث من غرفتها يرد في قلبه كـ خنجرٍ مسموم يمزقه تمزيقا، لا يحتمل صوتها، نفض يدِ شهيرة عن ذراعه وهو يكاد يبكِ من قهره، سار بغضبٍ وهو يضم قبضته بعجزٍ يكبح نفسه بأعجوبة كي لايفرط في الغضب على شقيقة لكن لا تساعده اللعينة، أمسكته من جديد مقيدةً إياه أفقدته ما بقي لهُ من صواب وهدوء، فدفعها عنهُ بقوة كصديقٍ يمازحه وهو يزمجر بخشونة، فكانت دفعة مبالغًا بها بالنسبة لسنها الكبير، فلم يدري بها سوى وهي تتهاوى وتسقط من على الدرج بأعين جاحظة بعد أن مدت يدها لـ تتمسك به فابتعد خطوتين للخلف وتركها تتهاوى أمام ناظريه دون أن يرمش حتى، فلم يتفاجئ مطلقاً، بل كانت عيناه تومض وميضا غريبا وهو يراقبها، فإن غدي مسخًا سيكون بفضلها هي..

هرول إلى الغرفة، صفق الباب بقوة وهرع يخلصها من يد شقيقه الجاثم فوقها على الأرض يغرق وجنتيها بوابلا من الصفعات بيديه الاثنتين، يعنفها بغضب هستيري: مين الخاين يا (، )! ده احنا جيبينك من الشارع يا لمامة يا (، )!

دفعه آدم من منكبه بقوة لكن بنيته لم تساعده و شقيقة كـ الهجمة فوقها، أعاد الكَرة مستجمعا قوته أكثر لكنهُ فشل، يئس وهو يلهث بثوران وصدره يعلو ويهبط في عُنف فركله بقوة كالكرة وهو يجأر أسقطه أرضًا أمام الشرفة، انتصبت جالسة تضم ركبتيها إلى صدرها بقوة وهي تشهق باختناقٍ وجسدها ينتفض، قميصها مُمزق، شعرها مُشعث، عبراتها لا تتوقف قط، ووجنتيها ملتهبة كمن سكب فوقها مياة تغلي من قوة صفعاته القاسية..

صرخ به بأعين جاحظة دامية من فرط الانفعال وهو يراقب حالتها: أنت بتعمل كده ليه ليه؟
هبَّ واقفا وهو ينظر لها بسوداويه، أقترب منها كي يتابع وصله تعنيفه لكن آدم وقف أمامه عازلًا وهو يصرخ ضاربًا صدره بيديه بقوة: بتضربها ليه حصل إيه؟

صرخ بجنون جحظت عيناه إثره، جنون لا يراه آدم كثيرا بل لم يره في هذه الحالة الجنونية من قبل: أنا خارج أرجع مالاقيش اللمامة دي في البيت رجعها ما طرح ماجبتها، وغادر ضاربا كتفه بكتفه بقوة..

خلع سترته بحركة آليه ثم جثى أمامها ووضعها فوق كتفيها بسرعة خافيا تمزيق القميص الخاص بها بوحشية كما ظهر لهُ، ضمها إلى صدره بقوة وأخذ يمسح على شعرها بحنان وهو يطمئنها بهمسات هادئة، لفت ذراعيها حول رقبته وهي تدفن رأسها في صدره أكثر تنوح وتبكِ باحثة عن الأمان بلا حول ولا قوة..
شدد قبضته حولها وهو يهدئها بصوتٍ متألم: حصل إيه لكل ده عملتي إيه؟

علا صوت نحيبها وهي تقول بنبرة مرتعشة و قبضتها تشتد حول رقبته وهي تنتفض: الـ، الصبح، سمـ، عته، بيكلم واحدة بيقولها يا حبيبتي، و، وبيتحجك بـ ماما و يقولها تعبانة عشان نخرج، قضينا اليوم بره ومتكلمتش ولا فتحت بوئي، لما رجعنا حاول يقربلي بس بَعدته عني وقولته أنت خاين وبتكلم واحدة لقيته سِكت شوية وبعدين نِزِل فيا ضرب وشتيمة..
ـ هشششش خلاص إهدي إهدي، قالها بغضبٍ مكتوم.

همست بذعر حقيقي وهي ترفع رأسها إليه بأعين دامعة: أنا خايفة، هيضربني تاني لما يرجع..
لثَّم جبهتها بحنان وهمس بنبرة مطمئنه وهو يقف ويوقفها معهُ: متخافيش أنتِ هتيجي معايا، تعالى معايا..

أطرقت برأسها تفكر بتردد قابضة على طرف سترته الموضوعة فوق جسدها، فزوجها طردها ولا يُريد رؤيتها عِند عودته، أفزعها وحوّل فرحتها العارمة به لكابوسٍ أسود تحقق في نفس اليوم، لم تفرح لوقتٍ طويل، هذا الجانب السوداوي منهُ لم تراه قبلاً، للمرة الأولى تشعر أنها لم تعرفه يوما؟! حتى أن لم يطردها ما كانت لتظل، هل ستتخلى عن كرامتها أيضًا؟ هي الشيء الوحيد المتبقي لها هُنا! لكن أين ستذهب في هذا الوقت، صحيح آدم، آدم، الذي وثِقت به وخانها وتعرضت للضرب بسببه..

ضغط على كتفها بخفة عندما طال شرودها، نظرت لهُ بضياع وشفتيها ترتجف رامشة بقوة تمنع عبراتها من الانهمار أمامه لكنها تحررت رغما عنها وأظهرت ضعفها أكثر أمامه، لف ذراعيه حولها مطوقا خصرها بقوة، يطفئ النيران المتأججة بين جنبات صدره المشتعل باستنشاق رائحة شعرها بقوة ويديه تدفع بجسدها الضعيف لجسده أكثر، لتطوق رقبته بيديها الناعمة بقوة مُصغيةً له بقلبٍ يخفق باضطراب وهو يعدها بنبرة مفعمة بالصدق، يهدئ من انتفاضة جسدها بيديه: هحميكِ منهُ متخافيش..

فصل العناق وحثها على الذهاب معهُ بحنان وهو يمسح عبراتها: يلا بينا..
توقفت متمنعه عن السير ثم قالت بتردد وهي تحدق في أشيائها بعينين حمراوتين: الكُتب والامتحانات؟
شابك اصابعه معها وقال بابتسامة مطمئنة وهو يضغط عليها بخفة: هرجع اجيبهملك تاني محدش هيكون في البيت النهاردة، مصطفى هيبات في المستشفى مع أُمه، اختتم قوله بابتسامة سوداوية ولا يعرف لمَ يشعر براحة الضمير إلى هذا الحد..

تركت يده لـ ترتدي السترة جيدًا ولم تفهم قوله الأخير عن المستشفى مع ابتسامته الغامضة بالنسبةِ لها، ولا تكترث فهما من اذوها، حتى آدم لكنها واثقة أنهُ يملك مبرراً لـ تصرفه، ستذهب معهُ وهل لها مكانًا آخر غير شقة عائلتها الضيقة؟!

توقف جاسم بالسيارة في القاهرة فوق أحد الجسور المُطلة على النهر، رُبما هو نفسهُ الذي قفزت من فوقه جـنّـة قبل أن تغلق مكالمتها مع قُصيّ التي أخبرته من خلالها أنها خائفة من القفز لـ يشجعها هو بدوره بحنان يطمئنها لأنهُ كان في قاربٍ في الأسفل ينتظرها، فلم يكن الحديث في هذا اليوم عن مرافقته لها أثناء إنتقاء فستان زفافها قط، و دموعها لم تذرفها سوى خوفًا من الموت غرقًا غفلة، لقد كانت كذبة، كذبة مثل بقية الكذِبات..

أطفئ مُحرك السيارة بهدوء وهو يبتسم نحوها، وبحركة من حاجبه مع التواء رقبته حثها على الترجل من السيارة، ترجلا معًا، سارت معهُ بهدوء و شعرها يتطاير مع الرياح بقوة، جلست على كُرسي بلاستيكي لونه أحمر موضوع حول طاولة دائرية خضراء بلاستيكية مع كرسيين آخرين..

جلس جاسم مقابلها وهو يبتسم ابتسامته الخاصة العاشقةً لها لتبادله بأخرى ناعمة ممتنة له أيما إمتنان، يعرف أن ما يحدث غير طبيعي! وقد ينعته الكثيرون بالغباء ويتهموه بالسذاجة وقد يبصق عليه أحدهم و يهرطق بالكلمات ويجزم بعدم رجولتهُ، فبدلا من ضربها، ورُبما حبسها، ورُبما قتلها يجلس معها في شاعرية وهدوء يبتسم..

أخذته تموجات المياه إلى عالمٍ آخر ونسمات الهواء تداعب شعرة، رغم علمه أن المياه ليست بتلك الروعة، ولا نسمات الهواء نقية كُليا والشاطئ الخاص به في الأسكندرية يضاهي روعة كل ما هو موجودًا هُنا لكنهُ سعيد بانكسار، سعيدا لأنهُ جلس مع عشق آلاف المرات في خياله و التقطا الصور وهما يتعانقان بحميمية هُنا، مُنكسرا لأن هذا تحقق في ظِل هذه الظروف، حتى إنه لن يلتقط صور ولا حتى وهو يصافحها برسمية، مُثير الشفقة يعلم هذا لكن يكفيه أنهُ راضٍ عن نفسه هكذا، فإن المعاقبه والجزاء والحساب يُفضل أن يتركها لـ ربهُ عوضا عن البشر فهم ممتلئون بالحقد! لا يملكون رحمته ولا عدله ولا حكمته فهو أحيانا بل في الكثير من الأحيان ودائمًا يغفر الذنوب ويقبل التوبة لكن البشر لا يفعلون، فقط يحقدون و يكذبون وهؤلاء ليسوا أهلا للحكم على أحد..

فهو يتمنى من ثنايا قلبه أن يغفر الله لها و يتغمدها برحمته الواسعة، فلا يستطيع أن يتمنى لها ما هو أجمل من هذا، فالقلب الذي يُحب لا يؤذي، لا يكره، لا يحقد مهما بلغ قدر تلف قلبه، حتى لو تعرض إلى كمٍ كبير من الخذلان من قِبل من يُحب!، يمكنك أن تبتعد كي توقف الأذي لكنك لن ترد الأذية بأذيه أخرى، فمن يُعرِّف الحُب بغير هذا فلا يكون حُبًا..
ـ جاسم، جاسم، هتفت بإسمه بهدوء عِندما طال شرودة.

هزَّ رأسهُ مُبعدًا كُل الأفكار المزعجة السلبية التي تلاحقة، ابتسم نحوها بخفة ثم قال وهو يقف: هجيبلك حُمص شام أنتِ بتحبيه..

أومأت بابتسامة وهي تراقب ابتعاده وعقلها لا يكف عن ضخ الأفكار السيئة المسمومة داخل رأسها كي تفعلها، لكنها لم تستسلم وتخضع بالتأكيد، كان أقل ما خطر لها في هذه اللحظات الهروب لكنها نفضت تلك الأفكار عن رأسها وقامت بإلهاء نفسها، لكن الهمسات ذات الرنين المرتفع في أذنيها كان لها رأيًا آخر..

جاسم يتحلى بالتسامح، يمتلك قلبًا طيبًا وأنتِ لا تستحقينه، أنتِ تدمرينه، ألم تلاحظي عينيه المنطفئة وأنحناء ظهره أثناء السير أكثر من اللازم!، ضحكته الحزينة ألا تلاحظينها أيتها المتبجحة؟ ماذا تنتظرين موته من القهر؟ أنتِ لا تستحقين من يعاملك بلطف، تفضلين الذُل والسبْ من شخصٍ وجدتي بهِ كل ما تتمنين يوما لمَ لا تذهبي إليه؟ ما المثير بجاسم كي تبقِ معهُ؟ هل أحببتهِ فجأة يا بغيضة؟ يوماً ما ستموتين ويرتاح العالم منكِ ومن روحك المُدنسة.

أمسكت رأسها بقوة ضاغطة عليها بأناملها من الجانبين كي يتوقف هذا الصوت وهي تعض على شفتيها بعنفٍ كادت تدميها، وقفت باختناق وهي تلتقط أنفاسها بلهاث والأفكار مازالت تتدفق إليها وجاسم تأخر ووضعها لا يساعدها بالبقاء ومتابعة حياتها بتقريع الضمير هذا، أنزلت يدها وحدقت في ظهره البعيد وهو يقف ينتظر الحُمص بنظرة مُعبرة وقد حسمت قرارها، هي آسفة وستظل آسفة..

أغلق قُصيّ باب المنزل وهو يزفر بقوة، أسند ظهره عليه بإحباط ولا يعرف أهو محظوظ لأنهُ سيظل يرى وجه عشق أمامهُ طول الوقت، أم أن تقريع الضمير لن يتركه يحيى بسلام، هو لا يُريد أن يتقدم خُطوة داخل المنزل لا يطيقها، استدرا وفتح الباب بقوة كي يذهب ليتصلب مكانهُ وتضخ الدماء وتجري في عروقه عِندما وجدها تقف أمامهُ..

الجمت الصدمة لسانهِ ووقف يتأملها بمقلتين تقدحان حُبًا مُزِج بندمٍ شديد لتدمع عينيها وترتجف شفتيها بتأثر وهي تطالعه بشوقٍ وثانية اثنتين ثلاثة ثم انفجرت ضاحكة بقوة وهي تضع يدها على فمها جعلته يقطب كلا حاجبيه بتعجب إزداد عِندما تشدقت قائلة: قُصيّ صدقتني؟ وحشتني يا حبيبي حمد الله على السلامة..

تلا قولها اندفاعها وعناقها له بقوةٍ، لفت ذراعيها حول خصره بتملك دافنه رأسها في رقبته تقبلها بشوقٍ وحرارةٍ شبقة تغزو جسدها من وقتٍ طويل..
طريقة التقبيل القريبة من طريقته هذه تعود لـ إمرأةٍ واحدةٍ فقط هو من علمها هذا، تمتم بذهولٍ وهو يرفع يديه إلى ظهرها: جـنَّـة!

- أنتِ أشبهُ بِـ كحلةٍ بغدادية، وأجمل من شَارع المُتنبي لِأنكِ إمرأةٌ ذات عيون أدبية وفي عُمقها رواياتٌ عاطفية وعلى شفتيكِ حِبرٌ من المَملكة العثمانية ولكنّه بِاللّون الوردي، أحبّكِ -
ـ دوستويفسكي.

بعد مرور شهر..
توقفت أمام معرض اللوحات الخاص بجاسم، تطلعت إليه بتمعن قبل أن تثب إلى الداخل، فغرت فمها بانبهار وهي تُوزِع نظراتها على السقف متأملة
الإضاءه الموزعة بطريقة فنِّية لتوضيح الألوان والرسومات جيدًا، حيثُ كان هُناك العديد من اللوحات الفنية الرائعة التي نالت إعجابها..

توقفت أمام لوحة فتاة ريفية، حزينة الوجه دامعة، الأعين نظرتها يملأها الإنكسار، ولا تعرف لما شعرت بهذا الحنين و الإنتماء تجاهها بسبب نظرتها الحزينة، تذكرها بنفسها بقدرٍ كبير..
تبسمت واستدارت صائحة للرجل الذي مره من جانبها: لو سمحت انا عايزة اللوحة دي.
ألقي نظرة سريعة على اللوحة ثم لها وأعتذر باحترام: للأسف مش للبيع..

عبست ملامحها وأحبطت وهي تعود للتحديق بها بحزن، ليبتسم الرجل ويضيف كي لا تحزن: بس ممكن أحكيلك حكايتها..
لاحت ابتسامة على شفتيها وهي تبعد خصلات شعرها القصير النحاسية خلف أذنها تناظره باهتمام ليتابع: البنت دي إسمها ريمة وكـ..
ـ ريمة؟، قالتها مستعجبة وهي تحدق بها ثم عاجلته بسؤالها: ممكن أقابل جاسم؟
اعتذر ثانيةً وهو يبتسم بأسف: للأسف مسافر القاهرة لو تحبي أساعدك في أي حاجة اتفضلي!

ضغطت على جانب شفتيها بأسنانها بقوة ثم طلبت: ممكن اعرف ازاى اتواصل معاه أو اخد رقمه؟
أعتذر ثالثا أصابها بالحنق: للأسف مانع إن حد يا خد رقمه، اللي بيحتاجه بيجي المعرض يشوفه فيه لما يكون موجود..
أومأت بتفهم ثم قالت بنبرة هادئة: لما يرجع تبقي قوله إن ريمة محتاجة تتكلم معاه وانا هتصرف وهوصله..
حرك شفتيه وكاد يتحدث لكن قاطعه صوت غرام الطفولي المتذمر: مش هنمشي بقى يا عمتو؟

ربتت على شعرها بحنان وهي تطمئنها: لأ هنمشي يا حبيبتي خلاص، شكرا ليك..
ومضت في طريقها إلى الخارج مع غرام وهي تفكر بعمق لأن قُصيّ سيعنفها لو علم أنها عادت دون أن تخبره، لكنها أخبرته قبلا وأكدت أنها ستأتي بعد شهر! هو من إلتهي ولم ينتبه لمرور الوقت..
تذمرت وهي تضرب الأرض بقدميها ووجها يعلوه الحمرة من الحرارة: انا حرانه اوي الجو هنا حَر قلعيني..

قهقهت ريمة وهي تراقبها ثم جلست القرفصاء وخلعت عنها المعطف المبطن الثقيل ووافقها الرأي قائلة: عندك حق الجو هنا دلع بالنسبة للي كُنا عايشين فيه..
ـ ودلوقتي هنروح فين؟، سألتها بحزن طفولي وهي تقوس شفتيها..
قرصت وجنتها بخفة وهي تستقيم واقفه قائلة بحماس: هنروح القاهرة عشان نشوف مامي..
قفزت وهي تضحك بفرح ثم سألتها بلطافة وهي تحرك أهدابها: عيد ميلادي بكره هتبقى معايا بجد؟

أومأت ريمة وهي تداعب وجنتها بحنان ثم أمسكت كفها بين يديها ومضت في طريقها إلى القاهرة..

القاهرة في وسط المدينة..
في أحد العمارات الممتلئة بمعامل التحاليل الطبية وعيادات الأطباء المشهورين..

دخل وليد عيادته الخاصة بابتسامته الخلابه المعتادة التي تسرق لُب الفتيات، طريقة سيرة الواثقة، ارتفاع حاجبه الدائم بغرور، وسامته المُجفلة لمن يراها، نظراته العميقة التي تخترق دواخل من يحادثه، صفيره باستمتاع عِندما يكون عقله رائق خالٍ من زخم من الأفكار، ثلاثيني ولم يغزو الشيب شعره، بل لا يملك شعرًا باختياره، تهور العشرينات، أصلع ويملك ذقنا طويلة وشارب كث، تبسم بعبث عِندما تناهى إلى مسامعه صوت مساعدته وهي تتحدث في الهاتف بتكاسل..

ـ ألو، أه هيوصل النهاردة، معادك الساعة 5 مع السلامه..
ـ الله الله بتتكلمي من غير نفس كمان بتبوظى شُغلي؟!، وبخها بمزاح متصنعًا الجدية..
هبَّت واقفة بتفاجئ قائلة بابتسامة مُرحبة: دكتور وليد حمد لله على السلامة..

ابتسم ملاطفًا وجلس مقابلها براحة، يوزع أنظاره المتلهفة على عيادته بشوق كمن ترك حبيبته لفترةٍ طويلة، فهو مُحبًا لعمله، والجزء المفضل لهُ هو جلوسه والإستماع إلى المشكلات المستعصية التي تواجه بني البشر..
صاح فجأة عِندما تذكر شيءً أفزعها: صح عملتي فرحك ولا لسه؟

تبدلت معالم وجهها لأخرى حزينه وهي تقول: لسه فرحى آخر الأسبوع الجاي و بحاول أخلص الرفايع بسرعة عشان هي اللي معطلاني، و النهاردة كُنت نازلة أجيب بس حضرتك كلمتني وقُلت إنك راجع..
ارتفع حاجبه أكثر وسألها باقتضاب: أصدق أني أنا معطلك؟
اتسعت عيناها ونفَّت سريعًا بخجل: لا طبعًا يا دكتور مش قصدي انا بس باحكيلك أحزاني..

أمرها بحزم لا يليق مع ابتسامته وهو يخرج حافظة أمواله: خدي دول وأنزلي كملي حاجتك ولما تلاقي بنت تشتغل مكانك ابعتيها..
رفضت تلك الأموال وهي تزيحها من أمامها: أنا مشتغلتش لما كُنت مسافر حضرتك مقدرش اقبلهم..
تجاهل قولها وضرب فخذيه بكفيه وهو يقف ثم طردها برفق: يلا براا والمرة الجاية اشوفك جاية بـ أبنك معاكِ
تبسمت بعذوبة ثم شكرته بامتنان: بجد مش عارفة أشكرك ازاي..

قال بابتسامة لطيفة: هاتيلي واحدة بدالك وهتكوني خدمتيني خدمه العُمر
احتجت تلك المره بسبب شعورها بالمسؤولية: بس مين هيشتغل معاك الاسابيع اللي جاية؟
ـ انا همَّشي نفسي متقلقيش ومبروك مقدماً، باركها بابتسامةٍ مبهجة وقبل أن ترد كان يتابع بتضرع: بس قبل ما تمشي اعمليلي قهوة الحاجة اللي هفتقدها حقيقي..

أنحنت له برأسها بلباقةٍ وهي تبسط يدها كأنها تحادث أميرًا بينما تقول بطاعة: من عنيا الاتنين، وذهبت لتحضرها بينما هو دلف إلى غرفة مكتبه..

ـ أنا زهجت، صاحت لمار بضجر وهي تدور بالمقعد وبيدها بعض الأوراق تلوح بهم أمام وجهها، لكن لم تجد ردًا، منهُ يتجاهلها كالمعتاد بسبب ثرثرتها و حنقها الذي لا يعرف متى ينتهي، هتفت متبرمة وهي تقذف الأوراق من يدها: أنت مش بتشتغل معايا ليه ورامي كُل الشغل عليا؟

رمقها بطرف عينيه من خلف نظارته بينما يهتف بتكبُر مُتقن: بس يا موظفة بدل ما اطردك من النُص بتاعي، نعم لقد زاح سعيد عن طريقة، لا بل ألقي به بعيدا وأصبح من الماضي الآن..
رفعت كلا حاجبيها بتفاجئ ثم ضحكت بتقطع وهي تسأله باستنكار: ايه ده؟ بتقولي انا الكلام ده؟ بتتكبر عليا وانا اللى قولتلك سجِلُّه! انا صاحبة الفضل عليك يا ناكر الجميل؟!

كان يقلب عينيه وهو يهز رأسهُ منتظرا انتهاء تلك الدراما التي كانت تطرب بها مسامعه لشهرٍ كامل كُل يوم دون رحمة لأذنيه..
ـ خلصتي خلاص يلا كملي شُغل وأنتِ ساكته، قال بلا مبالاة وهو يعود للعبث في الهاتف وثوانٍ فقط و تأفف بضيق هادرًا: أنا عايز أرجع البلد..
وبثانية وجد مقعدها يلتصق بمقعده سريعًا تلاه قولها بنبرة متمنيه وعيناها تلمع كـ طفلة بريئة: خُدني معاك بليييز..

دفع كرسيها بعيدًا عنهُ بضجر مغمغمًا بحنق: تيجي فين اتنيلي..
صرَّت على أسنانها بغيظ وهي تراقبه ثم قالت بأمر كأنها تنتقم منهُ: كده! طب أنت اللي هتدفع حق القهوة ماشي بقالي شهر بدفع أنا اومال لو مكنتش اتفقت معاك أنك تدفع كُنت هتعمل ايه؟
هتف وهو يضيق عينيه ويكاد يضربها بلوحة مفاتيح الحاسوب الذي أمامه: يا باندا يا باندا ده أنتِ عاملة زي البلاعة أبص جنبي ارجع ملاقيش القهوة وكمان ادفع!

برمت شفتيها باعتراض وهي تطرف بعينيها ثم قالت ببراءة: ما أنت هتسيبها تبرد الله!، رشقها بنظرة ساخطة لتكشر بوجهه وثانيةً أخرى كانت ستخرج لسانها لهُ لكنها امتنعت وتذكرت شيء مهم فأخبرته: وعلى فكرة بقى الراجل اللي بيراقب رنا قالي إنها بتروح كُل خميس night club في وسط البلد بتقابل حد هناك..

همهم باهتمام وهو يمسح على ذقنه بكفه بنظرة غامضة ثم وقف ولملم حاجياته بينما يقول: كل حاجة هتبان، أنا طالع دلوقتي لأن عندنا إجتماع ولما تخلصي شُغل تبقى روحي لنادين تساعديها ممكن؟، قال الأخيرة وهو يعلم أنها لن ترفض فقد توطدت علاقتهم كثيرا في تلك الفترة..
سألت باهتمام وهي تنتقل من مكانها وجلست على كرسيه: أساعدها في ايه؟

ـ النهاردة عيد ميلاد ليلى، قالها بابتسامة جذابة لتضيق عينيها بخبث وهي تغمزه بعبث: حلو حلو بس مالك فرحان كده ليه؟ هتتقدملها ولا حاجة؟
زفر بإحباط وهو يرمقها بنظراتٍ ساخطة لأنها ذكرته بما يحدث حوله، لأنها الآن حماته ليس أكثر من هذا، فلا يحلم..
التفت دون الحديث وتابع سيره لكن استوقفه قولها: تبقى اطمن على العربية قبل ماتركب لا يكون سعيد حاطط قُنبلة هنا أو شايل الفرامل من هنا كده يعني..

سحق شفتيه بِغل بسبب تلك المستفزة لقد جعلته يتشائم لكنه هز كتفيه وقال بلا مبالاة فهذا آخر ما يكترث لها: ولا يهزني..
تبسمت وهي تدلك عنقها قائلةً بجزعٍ منهُ جعلته يرغب بالفتك بها: ماهو يا عمّار أنت مش هتلحق تتهز أنت هتتفجر على طول!
ـ إلهي تتفجري من كُتر الاكل يا بعيدة روحي، قالها بضجر وتركها تضحك عليه غادر لكن توسعت عيناها فجأة ولحقت به تسأله متلهفة: آدم هيجي عيد الميلاد؟ ما تجيب رقمه اعزمه أنا..

دفعها من وجهها بحنق وهتف بضجر قبل أن يغادر: اقعدي يا بومة..
ـ هيك بنكون اتفقنا وان شاء الله يصير كِل شي مثل ما خطتنا ليلى..
ابتسمت ليلى وقالت بلطف: ان شاء الله..
ـ انا سمعت حكي هيك انه صارت مشاكل بينك وبين سعيد و شاركتي حدى تانى صحيح هالكلام؟، سألتها باهتمام
خللت ليلي أناملها داخل شعرها وهي تومئ بخفة ثم قالت ووجهها يمتقع أثناء تذكر ما حدث ذلك اليوم: اه حصلت مُشكلة كده لغيت معاه كل حاجة بسببها..

ـ وكيف لقيتي شريك بـ هاي السرعة ليلى فيديني من خِبرتك؟
ابتسمت ليلى وحركت شفتيها كي تتحدث لكن عمّار اقتحم غرفة المكتب بدون طرق كما أعتاد أن يفعل لكن رنا لم تلحق به بعد أن أصبح رئيسًا عليها ولأنها سئمت الحديث معهُ بسبب سخريته والتحدث معها بتدني..
تقدم من المكتب بخطواتٍ ثابتة دون أن ينتبه لتلك الجالسة تتفحصه بتدقيق متسائلا بنبرة هادئة أصبحت تصاحبه من شهرٍ تقريبا: الإجتماع مش يلا بينا؟!.

ـ هاد هوي موهيك؟!، سألت بابتسامة أنثوية مدللة..
رفع عمّار نظارته ومال بجذعة مصافحًا لها بابتسامة خلابة: ولو مش هو هبقي هو عمّار الصعيدي..
ابتسمت بدلال وهي ترحب به: أهلين عمّار سُمعتك سابئتك اتشرفت فيك كتير..
جلس على الكرسي مقابلها وهو يبتسم مجاملًا: الشرف ليا يا؟
ـ أروى مدام أروى، تناهى إلى مسامعه الصوت الذي يتوق سماعة، نافذ، حانق، غاضب، ليتها تغير الباردة..

اعتلي ثغره ابتسامة جانبية واستأنف رافعًا التكليف بينهما: مش باين عليكِ خالص يا أروي..
ـ هاد من ذوقك عمّار، الصراحة كان بدي استثمر هون بـ مصر ومو بعرف من وين إبدأ فيك تساعدني؟
ـ تكرم عيونك حبيبتي أكيد فيني، قالها بعبثٍ خالص ممازحًا وهو يبتسم بوجهها رغم أنهُ لا يفهم شيء بهذا العمل لكن آدم معهُ..
ضحكت بصوتٍ رقيق مُدلل وهي تثني عليه: كتير مهضوم عمّار ما أحلي عيونك..

ومادخل عيناه بهذا تلك الـ ستصفعها؟ كان هذا سؤال ليلى المسكينة التي تكز على أسنانها، سحقت شفتيها بقوة أسفل أسنانها وهي تهز قدميها بتوتر والشرار يتطاير من عينيها تجاهه تخترقه بغضبٍ جامح، لا يحق لها أن تشعر به..

ألقي عليها نظرة سريعة مستمتعه وهو يرفع حاجبه الأيسر وكأنه يخبرها ماذا ومادخلك أنتِ؟ أخفضي بصرك قبل أن أفقأ عيناكِ الساحرة هذه ، نظر لأروي وقال معتذرًا: دلوقتي عندنا اجتماع لكن ممكن تاخدي رقمي و تتصلي في أي وقت تحتاجي فيه حاجة..

ـ أكيد رح اتصل، أومأ لها وأملاها رقمه بابتسامة مريحة، فرؤيتها غاضبة تغسله من الداخل، يشعر أنهُ لا يهدر هذا الوقت هباءًا لأنه سيحزن لو كان مازال لا يعني لها شيء إلى الآن، فصبره بدأ ينفذ ولا يُريد أن يصدر منها تصرفًا يجعله ينبذها لأن كرامته لن تسمح لهُ أن يظل أكثر من هذا مع مزيدًا من الاهانات..
حملت أروى حقيبتها ووقفت تصافح ليلي بابتسامة: اتشرفت فيكِ كتير ليلي..

بادلتها ابتسامتها بأخرى جاهدت كي تظهر طبيعية: أنا أكتر مدام أروى..
انتقلت إلى عمّار تصافحة بابتسامة أكثر أنثويه: تشرفت عمّار..
ـ أنا أكتر، غادرت تحت أنظار عمّار الذي قرر متابعة هذا الابتذال وتصنع الاهتمام فهي من تطرة للتطبع بطباعٍ أخرى..
عاد بنظراته إليها لتلتقط عينيه ذلك العصير الذي أمامها بفضول، أخذ الكوب وارتشف منهُ رشفة بتردد ثم قال بابتسامة بلهاء بعد تذوقه: تُفاح! كُنت فاكرها خمرة..

رفعت طرف شفتيها بسخط تجاه هذا التافه ليزداد أكثر عِندما طلب منها: اشربي الباقي عشان تجري ورايا، يا إلهي ذلك الفلاح يُصدق تخاريف الأمهات القديمة، فكانت تسمع تلك الأقاويل كثيرا في طفولتها من أم مريم مُربيتها..
وبغضبٍ مكتوم وسألته: مخدتش عنوانها ليه؟
قال ببساطة استفزها أيَّما استفزاز: هتتخض مني كده مش بالسرعة دي بس لما تكلمني هسألها حاضر تابعي معايا؟

ـ عمّاار، كانت نبرتها مُحذرة أكثر من كونها غاضبة ليرد بابتسامة وهو يذكرها بمكانتها جيدا: نعم يا حماتي؟ في حاجة؟
سكتت ثوانٍ تذكر نفسها بهذا قبل أن تتمادى معهُ كأنهُ أحد ممتلكاتها، أومأت ومعالم وجهها تتبدل لأخرى باردة: لأ مفيش يلا بينا هنتأخر، وحملت حقيبتها و تقدمته في السير دون أن تبس بحرفٍ أخر..

فتح لها باب السيارة بلباقة وهو يتنحى جانبًا، صفقة خلفها بعنف رغمًا عنهُ بسرعة عِندما ضرب وميضًا قويا عينيه، استقل السيارة سريعًا، أخرج منديلا ورقيا من الداخل ونظف به عيناه التي أدمعت وهو يشتم بهمس غاضب فهذا ما كان ينقصه عينيه لا تتحمل..
انتابها القلق وهي تراقبه بتحفظ ثم سألته بهدوء: عمّار في حاجة؟

هزَّ رأسهُ بنفي ثم ترجل من السيارة وبحث حولها عن ذلك الذي إلتقط لهُ صور فهو متأكد أنهُ خرج من آله تصوير قوية، زفر عِندما لم يجد شيء ثم استقل السيارة وذهب..
أسندت رأسها فوق النافذة وظلت تتأمل الطريق وهي تفكر في أحداث الشهر الماضي بنوعٍ من الخيبة..

ففي صباح اليوم التالي من خطبة نادين كما اتفقوا، صعد إلى مكتبها كما يفعل، فكانت حالتها مزرية منهكة ومريضة لكنها أبت أن تستسلم أو تعترف أنها مريضة لكن شحوبها بشكلٍ ظاهر فضحها، أدرك أنها لن تتركه يُمرضها ولن يصنع لها كماداتٍ باردة لهذا فضل مصارحتها بالحقيقة بدلا من تضييع الوقت، ولأنه يعلم أيضًا أنها لن تصدق هذا بعث لها التسجيل في رسالة وتركها تسمعها وحدها، لأنهُ لا يُريد رؤيتها تبكِ..

وقد كان هذا بمثابة جميلًا لها لأنها من فرط شعورها بالخيبة بكَت بقهر وهي تسمع حديثه عنها وعن الأموال وهي تستعيد ذكرياتها القديمة معهُ، لقد كان حقيقيًا بطريقة لا تجعلها تصدق أن خلف كلماته هذا الشخص البغيض، حسبت أنهُ ظهرها وحاميها وسيظل بجانبها دائمًا في هذه الحياة القاسية، لكنها استفاقت على صفعة الحياة مجددًا وهي تذكرها بكونها وحدها وستظل وحدها ضائعة منبوذة لا تعرف سوى الوحدة..

هاتفته وطلبت منهُ المجئ بكل هدوء، فأتي سعيا مرتديا وجه القلق والخوف الذي يخصها لتسمعه التسجيل وهي تنظر لهُ بحيرةٍ كانت تنهش داخلها و تمنت أن ينكر، أن يتحجج بأي شيء قد يشعرها ولو بقدر قليل من الإهتمام من ناحيته، لكنه صارحها بكل شيء بتبجح وأزال هذا الوجه سريعا وكانت تلك الصفعة الحقيقة التي تلقتها، مؤلمة أكثر من صفعات عمّار لها، حديثها معهُ لم يتخطي الخمس دقائق بعد أن أخبرته بانتهاء كُل شيء بينهما في العمل وأعطته أمواله بكل هدوء وبقيت رنا وحدها هي عينيه في الشركة حتى يتصرف، لأنه سيؤذيه بشدّة ذلك الذي حسب نفسه ذكيًا وتسرع في فضحه..

طلبت عمّار بعدها ولأنهُ لاحظ حالتها لم يتناقش أو يسألها في أي شيء فقد أطاعها ووافقها على كُل ما تُريد وهو لم يكن يستمع لها بقدر تأمل وجهها الحزين بقلب منقبض بسبب شعورها بالخذلان، ومنذُ ذلك اليوم وهي هادئة معهُ، يتبادلان أطراف الحديث معًا باحترام وخصوصًا عنِدما بدأت تطلب منهُ الإتيان معها للاجتماعات المهمة لكونه شريك مهم وهذا ما غيَّر نظرتها لهُ بسبب تعقله ورزانته وسط رجال الأعمال المهمين و لباقته في الحديث وثقته اللامتناهية، فأين كان كُل هذا؟ اكتشفت به كثيرًا من الأشياء الجيدة التي كانت غافلةً عنها أو رفضت رؤيتها من البداية لكنها بدأت في الظهور شيءً فشيء، وما جعلها تقتنع به أكثر مقابلتها لـ قُصيّ في منتصف الشهر في أحد المقاهي، فالتفكير في كون عمّار طبيب كان يفتك برأسها، ووجب أن تقابله كي تفهم..

رفعت رأسها من فوق النافذة، نظرت لهُ مرة أخيرة متفحصة وهي تعود للشرود في تلك المحادثة التي خاضتها مع قُصيّ..
تأففت بغيظ وهي تحدق في قُصيّ الذي يبتسم باستمتاع وهو يُراقب ذلك الفضول المُشع في عينيها لتقول بغلظة: هتفضل تضحك كتير ومش هتتكلم؟!
أسند وجنته على راحة يديه و سألها بنبرة هادئة وهو يبتسم: اتكلم في ايه؟
قالت بتردد وهي تحدق في قدح قهوتها: كلمني عن عمّار..

ارتشف من قهوته وهو يبتسم وكم رغبت في لكمه بسبب ذلك التشفي الذي تراه في عينيه أنهُ سعيد بحيرتها، سعيد..
ـ عمّار ياستي مش وحيد عنده أخ أسمه آسر عايش في أمريكا مع أمه اللى هي أم عمّار مش زوجة ثانية ولا حاجة، ومن قبل ما تسألي هي زمان سابت عمّار وهو صغير مع أبوه وخدت آسر ومشيت وتحديدًا في الأيام اللي بدأت فيها مشاكل مع عيلتك وعليتهم..
قالت بتردد وهي تضيق عينيها: أصدق هربت!.

هزَّ رأسهُ بخفة وهو يمط شفتيه وتابع: متهيألي كده، عمّار بعدها كمل حياته مع أبوه وطبعًا مرات عمهُ حُسنه هي اللي ربته، وبعدين جه القاهرة ودخل ثانوي هنا وكان قاعد عند حد من قرايب أمه..
سألته بحيرة: يعني أمه مش من الصعيد؟، أومأ واستأنف بتهكم: أكيد لو من هناك مكنتش تتجرأ وتعمل كده وخصوصا أنها مش متجوزة أي حد دي جوازة الهنا بس معرفش السبب اللي خلاها تاخد واحد وتسيب التانى ولا عمّار نفسه يعرف..

مسدت جبهتها وهي تفكر ثم سألته: بقيتوا صحاب إزاى؟
ابتسم بحنين وهو يتذكر تلك الأيام، أيام البراءة وبدأ بالحديث: عمّار كان دحيح أوي يعني مكنش في دماغه حاجة غير المذاكرة ومكنش بيدي لحد فُرصة كان أشطر واحد في الفصل وده كان بيضايقني أنا، فقررت اتنمر عليه قام ضربني، بس ومن ساعتها بقينا أصحاب..

ـ وآدم، ضحك باستمتاع وتابع: آدم كان هادي جدا و نظراته كانت باردة كُنت ابصله أحس إنه بيقولي أنت ولا حاجة يالا أنت تافه يا فاشل، كان يجي الصبح ويفضل لأخر اليوم ساكت ميفتحش بؤه بكلمة ولا كان مصاحب حد كان في حالة وده ضايقنى عشان مبحبش التجاهل فـ خدت نفسي وروحت اتنمر عليه لقيت عمّار ضربني ودافع عنهُ بس ومن ساعتها بقينا صحاب و توبت عن التنمر، عمّار جاب مجموع كبير ودخل طِب وانا وآدم اترمينا فى تجارة بس كده..

ضحكت بخفة على قصتهم ثم سألته باهتمام: طب هو مشتغلش دكتور قبل كده؟

نفي وبدأ يقص عليها وامارات الأسف ترتسم على وجهه كلما تعمق أكثر في الحديث: لأ طبعًا اتخرج واشتغل فترة في مستشفى كبيرة وكان مبسوط جدًا بشغله، كان شاطر جدًا ده لو كان فضل شغال لحد دلوقتي فيها كان زمانه ماسك المستشفى نفسها، لو تشوفيه زمان وتشوفيه دلوقتي مش هتعرفيه! لكن أقول ايه أبوه السبب هو اللي بوظ كُل حاجة، مهنش عليه يسيبه يعمل حاجة بيحبها، كل شويه كان يتصل بيه تعالي شوف مش عارفة ايه، تابع ايه كُل شويه، حاول عمّار يوفق بين الشغل ومطالب ابوه بس لقى نفسه مقصر في الشُغل جامد ومعرفش يكمل بالنظام ده قام ساب الشُغل وبقي عايش بين هنا وهناك ولما حس بالفراغ فتح معرض عربيات هنا وسابني اشغله أنا لأن أبوه بردو كان بيطلبه كتير أكتر من الأول، وبدأ بعدها الزن أتجوز أتجوز هتفضل أعزب لحد أمتي عايزين نشوف ولادك وكلام من ده، سافر شرم مش عارف السبب هو قال في حاجة مهمة رايح يعملها وجاي ولما جه لقيته بيقول أنه لقي عروسة وهيتقدملها وبعدين جه يقول دي أمها حلوه اوي هاتجوز أمها..

تخضب وجهها بحمرة خفيفة إثر قوله الأخير ثم سألته بارتباك حاولت إخفاءه: طيب وهو مفكرش يرجع الشُغل؟

أبتسم بعبثٍ ظهر جليا على معالم وجهه وهو يقول بمكر: هو رافض بس لو حد مهم مثلا زيك كلمه ممكن يرجع ده طبعا بعد ما يقولك هو ويحكيلك كل حاجة لأني حاسس إني خاين عشان حكتلك ولو عرِف بجد احتمال كبير نخسر بعض لسانك ياريت تربطيه لحد ما علاقتك تتحسن بيه اكتر من كده، وصمت يُراقب تعابير وجهها الهادئة واستطرد: وبصي مش عشان عمّار صاحبي بس بجد مش هتلاقي زيه تاني هو ولا وِحش ولا قاسي ولا كل اللي في دماغك بس الظروف هي اللي عملت فيه كده، أصل ايه اللي يجبره ويخليه يستحمل أسلوبك معاه وميردش عليكِ؟

احتجت مدافعة عن نفسها لأنها ولأول مرة تشعر أنها مخطئة: هو اللي أتعامل من غير احترام الأول..
رفع كلا حاجبيه وقال مستفهما: عشان خدتيه في الرجلين أنا واحد بكره عيلتك هكرهك من غير ماعرفك ليه؟ أنتِ عملتي معاه كده!.

ـ طيب خلاص، قالت بحنق وهي تقطب كلا حاجبيها بضيق عاقدة يديها أمام صدرها بعدم رضى ليقول بانتصار وهو يبتسم: انا عندي حق ومش عارفه تقولى ايه؟ متشوفيش عمّار بعينك شوفيه بقلبك هو غلط في ليلي بس مغلطش في ندى!، ازدردت ريقها وهي تضغط على قدح القهوة، فما الفرق هي واحدة..

أخذ شهيقا طويلا من الأعماق، ثم لملم أغراضه وهو يقف كي يغادر لكن استوقفته لهفتها في السؤال بشفقةٍ استشفها: طيب وهي مامته مرجعتش تاني ولا شافها؟!
هزّ رأسه بنفي واجاب: آسر ساعات بينزل لكن هي لأ، أومأت بتفهم والأفكار تتلاعب داخل رأسها ليقف كي يغادر لكن أوقفته جعلته يجلس ليقول وهو يبتسم: قولي أنك عايزه تعرفي قصة حياته بقي بس للأسف مش معايا الحاجة حُسنه لو قابلتيها اسأليها..

ـ هو أخر سؤال بس وبسيط، عمّار نظرة ضعيف من زمان ولا دى نظارة ستايل كده عادي؟.
تنهد وقال وهو يتذكر بتشوش فذاكرته لا تسعفه كثيرا: أنا مش عارف حصل ايه بالظبط بس هو عمل فيها عملية قبل كده، لازم امشى بقى، متنسيش، شوفيه بقلبك..

وغادر وتركها غارقة في دوامة أفكارها، فماذا حدث كي تتركه؟ ولمَ لم يقابلها ويفهم يحق لهُ أن يعرف لمَ تخلت عنهُ! وهروبها هل لهُ دخل بمقتل أبناء عمه؟ لمَ هربت في هذا الوقت تحديدا؟ ولمَ الغبي ترك العمل؟ ولمَ لايتحدث بصراحة ويظل يكذب هل يُحب أن يُقلل الجميع من شأنه؟! والكثير الكثير من الأفكار كانت تعصف برأسها..

خرجت من شرودها على صوت هتافة بإسمها، ناظرته بتشوش كأنهُ انتزعها من عالمٍ آخر سائلةً باستفهام: في حاجة؟

ـ وصلنا، أومأت وهي تستعد للنزول ليترجل هو سريعًا بدوره ويفتح لها الباب بلباقة قبل أن تفعل، وضعت قدمها خارج السيارة وهي تترجل باستقامة لتهب رياح قوية داعبت خصلات شعرها المصففة بقوة، تخدرت حواسهُ إثرها لثوانٍ وهو يستنشق عبيرها الأخاذ الذي لفحة مع نسمات الهواء أذهبت بعقله، استفاق على صفق الباب بقوة لكن ليس بيده بل كانت هي من صفقته وتركته ودلفت داخل المطعم، زفر وهو يستدير وذهب خلفها محادثًا نفسه بالصبر فقط الصبر..

بينما في هذا الوقت تحديدًا في غرفة نادين..

كانت تذرع الغرفة من ركنٍ لأخر وهي تشد شعرها بقوة كـ طائر جريح، تبكِ بانهيار وهي تفكر، وتفكر، عقلها سينفجر، يُجب أن تجد حلاً لمشكلتها يُجب أن تنهي هذا لأنها لم تعد قادرة على التمثيل وتصنُع اللامبالاة أكثر من هذا، داخلها يحترق ولا أحد منتبها لها، هل لتلك الدرجة اتقنت دورها ولم تلاحظها حتى والدتها التي تستطيع معرفة ما يضايقها قبل أن تتحدث! لم تلاحظ حتى أنكسارها، ممتنه لأنها لا تلاحظها لأنها لو فعلت لن تتركها قبل أن تعرف القصة كاملةً و لا تستطيع فعل هذا، لا تستطيع خذلانها بعد كل ما عاشته من أجلها، وهذا ما يقهرها هي حتى لم تنجح في صون نفسها من أجلها..

توقفت عن الحركة عندما تناهى إلى سمعها صوت رنين هاتفها، ركضت والتقطه من فوق السرير بسرعة وردت بلهفة مستنجدة بها كمن وجدت مخدرها بعد عناء: سهى حصل ايه؟ وصلتي لحاجة ولا لسه؟
أتاها صوت صديقتها الأسف: مفيش يا نادين أسفة..
تزايد نحيبها وهي تلطم وجهها صارخةً بها بجنون: يعني ايه هعمل ايه انا؟ مش هيصدق لو قلت لهُ مش هيصدق..

هدئتها صديقتها بشفقةٍ وهي تشعر بالذنب لأجلها: لازم يصدقك يا نادين أنتِ مالكيش ذنب والله انا من ساعتها وانا بدور ومش سايبه حد بسأل كُله، لم تقابل قولها سوى بالنواح والبُكاء وهي تجلس أرضًا بجانب السرير منهزمة خاسرة تفكر في مصيبتها، أغلقت الهاتف وظلت محلها تبكِ دون التحرك حتى رن مجددًا..

التقطته وتحدث بصوتٍ مبحوح: الو، لمار! حاضر هلبس وجاية، لأ محضرتش حاجة لسه هشتري ابعتيله رساله قوليله يأخرها شويه، مع السلامة، أغلقت الهاتف ودلفت إلى دورة المياه تغسل وجهها، خرجت بعد دقائق، توقفت أمام الخزانة تنتفي ملابس كي تذهب وتشتري الكعك والزينة من أجل عيد مولد والدتها، فهذه المرة الأولي التي ستحتفل بها لأنها ترفض الاحتفال دوماً وأخبرت عمّار بهذا لكنهُ أصر على الاحتفال بها..

في المطعم الآن..
انتهى الاجتماع بسلام وحان موعد الغداء..
الجميع ذهب عداها هي وهو فقط، انشغل بالهاتف قليلا يقرأ الرسالة التى أتته من لمار جعلته يبتسم فهذا يعني المزيد من الوقت معها، سيأخذها معهُ إلى مكانٍ ما سيجعلها تجرب شيءً لم تفعله قط..

استفاق من شروده بسبب شعوره بشيءً حارق يسقط فوق فخذه، الحساء، هبَّ واقفًا بسرعة وهو يلعن من تحت أنفاسه لتشهق النادلة وتسارع بأخذ منديلا من فوق الطاولة وهي تعتذر بخوفٍ من أن تطرد وبدأت بتنظيف بنطالة بسرعة لكن يد ناعمة أوقفتها، أخذته ليلى من يدها ببعض الحدَّة قائلةً من بين أسنانها بابتسامة انحسرت غير قادرة على الظهور: حصل خير شوفي شغلك أنتِ..
أومأت قائلة بامتنان: شكرًا..

ابتسم عمّار ابتسامه عابثة منتظرًا أن تنظف هي لكنها فاجأته واخرجته من حلمه الوردي بقذفه بوجهه وهي تقول بجمود: نضف نفسك أنت صغير؟، يبدو أن الهدوء لن يطول بينهما..

أمسكه قبل أن يسقط ثم ضمه بقوة راغبًا في خنقها به لكن ليس اليوم بالتأكيد، تركها ودلف إلى دورة المياه ينظف الملابس لتجلس فوق مقعدها وهي تنفخ أوداجها بغضبٍ والنيران تندلع داخل صدرها زاحفةً حتى أطرافها فلن تجلس تبعد عنهُ النساء، فلن تسير معهُ في الطريق مُجددًا وجوده مع لمار في المكتب أهون، لتنشغل بـ لمار، هذه ماقصتها معهُ يلتصق بها معظم الوقت أيضًا؟!.

مال على بنطاله أمام الحوض ينظفه ليخترق أذنه صوت صراخ رجل وهو يطرق الباب دورة المياه بقوة موبخًا تلك التي تختبأ داخله: أنتِ يا مها الزفت أخرجي بدل ما أكسر الباب ده عليكِ..
أتاه صوتها من الداخل بـ عند وإصرا ر: مش خارجة يا خرتيت يا خنزير يا خاين أنا غلطانة إني اتجوزت واحد زيك..

صاح هادرًا بغضب وهو يكاد يهشم الباب: انا لحقت اتجوزك عشان اخونك يا نحس؟ اخرجي ايه اللي مدخلك حمام الرجالة استخبي في حته ثانية..
قهقهة عمّار وهو يحدق في ظهره عبر المرآة، فمن المريح أن يرى شخصًا آخر يتم نعته بـ خنزير وخرتيت، ليس هو الوحيد على الكوكب هذا مُريح..

زفر وأقترب يغسل وجهه بعنف وهو يتنفس بثوران بسبب تلك المجنونة التي علق معها كي يبعدها عن شقيقة فراس، سأله عمّار بخفوت: أنت ضربتها بالقلم قبل كده؟
رفع فارس رأسهُ وهو يرمش بتفكير ثم قال والمياه تتقطر من وجهه: أه مرة..
ابتسم عمّار وربت على كتفه قائلا: كل ما تضرب أكتر هتتشتم أكتر ربنا معاك..
كاد يرد لكن اندفعت مها وركضت كالفأر خارجًا ليزمجر فارس وركضً خلفها بسرعة البرق..

قهقهة عمّار وخرج بعد إنتهاء تنظيفه، وقف بعيدًا يراقبها بثقب كيف تحدق في النادلات بتفحص وشمول كأنها تنتقي عروس لإبنها، لكن لمَ كل هذا التهجم في نظراتها بالتأكيد تلك ليست غيرة!.
ـ مش بتاكلي ليه؟، قال وهو يجلس مقابلها لتهز رأسها قائلة بدون شهية: مش عايزة، مش هنمشي بقى؟

أومأ وهو يتذوق الحساء الساخن الذي أتت النادلة بغيرة بخجل وندم: لا هنمشي بس عايز اكلمك في موضوع كده، نادين كلمتنى امبارح و عايزاني اروح معاها شرم!
قطبت جبينها بضيق وهي تومئ بخفة ثم قالت: آه قالتلي انها عايزه تروح عشان خلصت امتحانات تغير جو بس مقلتش انها عايزاك تروح معاها؟.

توقف عن تناول الطعام ثم قال بنبرة كانت أقرب للتهكم: أنا مش بقولك أننا رايحين انا عايز اعرف أنتِ إزاي توافقي إنها تسافر سواء لوحدها أو معايا؟!
قطبت كلا حاجبيها بانزعاج وهي تنظر لهُ ليتابع قبل أن تتحدث: عارف أنك مش بيهون عليكِ تزعليها وبتوافقيها على كُل حاجة عشان متحسش بالنص صح؟! بس مينفعش! ليه ماتروحيش معاها أنتِ وتقضوا وقت مع بعض؟

لعقت شفتيها بشهية وهي تراقب كيف يأكل بتلذذ جعل لعابها يسيل على الطعام ومعدتها تصرخ مطالبة به، رفع رأسه عِندما طال صمتها لتتسع ابتسامته مكرًا مراقبا ملامحها عن كثب وتسليط نظرها في طبقة برغبة لأول مرة يراها..
سألها بتردد وخبث وهو يقلب الطعام: أطلبلك تاكلي؟، أومأت بدون وعي وهي تعض شفتيها ومقلتيها تكاد تسقط فوق الطاولة متربصة بالطعام الذي علق بجانب شفتيه، وكم بدت لطيفة وبريق الرغبة يشِع في عينيها.

طلب لها الطعام وحثها على الرد على سؤاله حتى يأتي الطعام: مردتيش على سؤالى؟.
تنحنحت تجلي حنجرتها ثم أجابت بهدوء وهي تتجاهل الطعام: نادين بتسافر مع صحابها مش لوحدها، وأنا بثق فيها..
ـ الثقة مش كفاية؟! تعرفي أنتِ إيه عن اللي بيحصل في شرم والساحل؟!
تهجمت ملامحها وقالت باستنكار: أنت بتشككنى فيها؟

نفى قبل أن تفهمه خطأ وتنفعل من لا شيء ممتص غضبها: مش بشكك ولا بقولك عليها حاجة مش كويسة؟ انا قابلتها هناك ولو كُنت شايفها مش كويسة عمري ما كُنت هاجي ولا اقابلك عشان أخطبها! كل الموضوع اني بقولك خفي شويه ومش كل ما تطلب تسافر توافقي نادين بريئة بس اللي هتقابلهم مش كده، الأكل جه كُلي عشان هنروح في حته..

رفعت الملعقة بتردد وبدأت تتناول الطعام الدسم والأفكار تتداخل وتتشابك في رأسها وتتعقد أكثر أثناء تفكيرها في نادين بقلق، مرت دقائق عليهما، انتهت من تناول الطعام بشهية وأنهت طبقها كاملاً على غير عادتها، حدقت في الطبق الفارغ أمامها بحسرة وهي تقف قائلة بحزن وتأنيب الضمير يغمرها كمن ارتكب جريمة: انا كلت كُل ده؟

برم عمّار شفتيه بسخرية ثم صاح بانفعال: مش معقول تخنتي، هبط نظرها بتلقائية فوق جسدها بجزع ليهز رأسهُ بسخرية ثم التقط حقيبتها و وضعها بين يدها، وشابك أنامله معها وسار بها إلى الخارج وهو يتمتم بإزدراء: هتتحسبي على الجوع اللى بتجوعيه لنفسك ده..
كانت تحدق في قبضته التي تمسك بها باستنكار وحنق إزداد أكثر بسبب انسياقها و سيرها خلفه بخنوع!
دمدمت وهي تحاول التملص من قبضته بقوة وضيق: سيب إيدي ماسكني ليه؟!

تجاهلها ولم يفلتها قط حتى وصل إلى السيارة وأشرف على صعودها وغادر وهو يردد أنهُ سيأخدها إلى مكانٍ ما، فاليوم سيخترق جميع قوانينها..

أطلت من خلف باب جامعتها أخيرًا بعد اجتياز الاختبار الأخير، شاردة تطرق برأسها، نظرها مُعلق على حذائها تسير بتباطؤ مُثيرًا لأعصابه وهو الذي يقف ينتظرها من نصف ساعةٍ تقريبًا..
توقفت أمامه ومعالم وجهها مجهولة لا يظهر عليها تعبيرًا مُعين لا بالفرح أو بالحزن يبدو أنه الإحباط الذي يصاحبها بعد خوض كُل مادة لا تتوفق بها..
سألها جاسم بيأس مترقبًا أجابه تسعده: عملتي ايه؟

زمت شفتيها وهي تناوله القلم وزجاجة المياه التي لم تمسها وبإحباطٍ قالت: حليت سؤالين بس ومش عارف صح ولا غلط..
سأل بجزع: اثنين من كام؟
ـ تلاتة يعني ممكن أجيب مقبول بعد درجات الرأفة ده لو عندهم يعني، قالت باستياء وهي تعقد يديها أمام صدرها..

زفر بضيق وهو يقذف زجاجة المياه داخل السيارة من النافذة ثم صاح فجأة أفزعها: أنتِ عارفة لو منجحتيش في المادة دى بالذات هعمل فيكِ ايه؟ أنا سهرت طول الليل عليها يعني أقل من امتياز مش هقبل..

ضحكت على خيبتها حتى أدمعت عينيها وأخذت تبكِ بتقطع وهي تخفي عينيها براحة يدها، ضمها إلى صدره بذراعيه بحنان يهدئها برقة يبث داخلها الاطمئنان، وقبل أن يتحدث همست هي من وسط بكائها وهي تدس نفسها داخل أحضانه: هسقط يا جاسم هسقط..

واساها وهو يُمرر يديه على طول ظهرها برفق قائلاً بلا بأس: أنتِ عملتي اللي عليكِ مش مهم الباقي، سكت قليلا واستطرد ممازحًا عِندما شعر بـ بلل قميصه من على الصدر إثر عبراتها: متقلقيش انا اللي هصحح الورق..
ضحكت بنعومة وهي ترفع رأسها ليمحي عبراتها ببطء ورقة كأنها زجاج هش بابتسامة عابسة وهو يحسها على الذهاب: يلا اركبي عشان نروح ناكل في أي حته شكلك مكلتيش ولا حتى شربتى ميه..

أومأت بخفة وقبل أن تحط قدمها داخل السيارة التفتت وأخذت تتطلع حولها بريبة وقبلها يخفق بعُنف، فهي تشعر بأن هُناك من يُراقبها، مُنذُ عودتها تشعر بأن هُناك يحوم حولها..
ـ في حاجة يا عشق؟، قطع وصله تحديقها حولها سؤال جاسم باستفهام، هزَّت رأسها بنفي وقالت بهدوء وهي تصعد للسيارة: لأ مفيش، يلا بينا..

نظر حول السيارة بريبة ثم هز كتفيه مع رأسهُ وصعد السيارة وغادر، ليصل آدم بعد ذهابه مباشرةً ويصِّف سيارته مكان سيارة جاسم..
ترجل وجلس على مقدمة السيارة ينتظر خروج تالين بابتسامتها الرقيقة المعتادة التي تخبره أنها صنعت جيدًا في الداخل..
ظلّ خمس دقائق جالسًا ينتظرها وهو يفكر في خطوته القادمة، لكنهُ سيتراجع لن يتقدم معها ولن يفعل شيء سوى بطلبها هي، يكفي علمها بكونه يُحبها ماذا يفعل لها أكثر..

خرج من شروده على صوتها الناعم الذي يدغدغ حواسه كُلما سمع أسمه من بين شفتيها: آدم..
ابتسم بسرور وهو يقفز من فوق السيارة ليستقر أمامها سائلا بصوتٍ رخيم: عملتي إيه؟
ضمت قبضتها لقلبها بسعادة وهتفت بحماس: حليت كويس الحمد لله، ثم صمتت لثوانٍ تحرك أهدابها بقوة وصاحت بصوتٍ مُرتفع: هجيب امتياز..
ضحك بفرحة وهو يطالعها بفخرٍ شديد ثم فتح باب السيارة من أجلها وقال بتهذيب: اتفضلي يا حضرة الدكتورة..

ابتسمت بعذوبة رغم شحوب وجهها في الأونه الأخيرة وهي تصعد إلى السيارة..
ـ هتاكلي فين؟، سألها بهدوء وهو يحدق في المرآة أثناء قيادته..
ردت بنبرة عادية: أي مكان مش مهم، صح مش قابلت عشق في الكلية النهاردة..
سأل بشك: مع مين؟
قالت وهي تتذكر ما حدث معها في الداخل: انا قابلتها اتكلمنا شويه وبعدين قالت لي لازم تمشي عشان جاسم مستنيها بره..

أومأ بملامح جامدة دون أن يُعقب وتابع قيادته بتركيز حتى قاطعته هي: آدم إحنا هنعمل ايه؟
قال بدون تعبير وهو ينعطف بالسيارة: أحنا مين؟ أصدق أنتِ!، صمت ثم أستطرد يخيرها ببرود دون أن يلقي عليها نظرة: شوفي أنتِ هتعملي إيه، لو عايزة ترجعي لمصطفي أكلمه ويرجعك مش عايزة براحتك بس لازم تعرفي إنه هيعرف أنك مش بيت أهلك لأن شهيرة هتخليه يرجعك ومش هتسيبك..

هزَّت رأسها بإيماءة بالكاد ظهرت لمحها بطرف عينيه وتركها غارقةً في زخم أفكارها وإحباطها من رده الجامد فماذا ظنت أنه سيقول؟ احصلي على الطلاق كي نتزوج ثم يقبلها ويغرقها بكلامه المعسول؟! لن يحدث مجددًا، كان هذا سابقا قبل أن تصفعه وتخبره أنها لن تقبل أن تكون خائنة، وهو لن يجعلها خائنة..
تنبهت حواسه وأوقف السيارة مشدودًا عِندما صاحت فجأة بغثيان وهي على وشك التقيؤ: وقف العربية وقف وقف..

توقف على جانب الطريق وهو يتفحصها بقلق، لتفتح السيارة سريعًا لكن لم تستطع الصمود والسيطرة على نفسها حتى تخرج فـ تقيأت بإعياء وهي تخرج جذعها العلوي من السيارة كادت تسقط على وجهها..
رفعها آدم من ذراعها برفق ثم نظف حول فمها بأحد المناديل برقة وهو يسألها بذعر احتل قلبه بسبب اصفرار وجهها بهذا القدر: مالك خدتي برد؟ حاسه بإيه؟

التقطت أنفاسها بصعوبة وهي ترخي رأسها فوق المقعد وجبينها يتفصد عرقًا بغزارة و وجهها إزداد شحوبًا لتوصد جفنيها قليلا بقوة تستعيد نفسها وقوتها ثم قالت بين أنفاسها المتسارعة بإرهاق: مش عارفه، بقالي كام يوم تعبانة كُنت فاكراه برد بس مبقتش عارفة..
جفف جبهتها براحة يده متحسسًا حرارتها، وبقلقٍ ينخر عظامه قال وهو يدير محرك السيارة: هاخدك المستشفى..

في شقة سالي في أحد البنايات الضخمة، داخل غرفة نومها..
كانت تتمطى وهي تتقلب عارية أسفل الغطاء الناعم الوثير الذي كان يحوطها، فتحت عينيها بثقل لتبصر مصطفي يقف أمام المرآة يُمشط شعره بعد أن أخذ حمامًا دافئ، ابتسمت وهي ترفع ذراعها تلوح لهُ، رآها عبر المرآة لتتسع ابتسامته ويعود بخطواته إليها..

قبل شفتيها بنهم وهو يضم خصرها إليه بحميمية ويديه تعبث بجرأة مستبيحًا لنفسه تلمس أي موضع في جسدها دون خجل بتلك الورقة التي وقعاها معًا..
فصل القبلة لاهثًا وهو يبتسم باتساع و يديه تداعب وجنتها برقة لترفع نفسها قليلًا وهي تثبت الملائه على صدرها مُداعبة أنفها بأنفه وهي تسأل بدلال أنثوي: جبت الورقة؟

أومأ وهو يقربها إليه أكثر حتى التحم صدريهما هامسًا من بين شفتيها بخدر وهو يستنشق رائحتها بانتشاء: أه جبتها، أول مرة اشوف حد بيدي ورقة جوازه لمراته بإيديه بدل ما ياخد بتاعتها هي..
لثَّمت جبهته بنعومة وهمست بدلال مغوي: هُمه مش سالي يا بيبي..
اتسعت ابتسامته وهو يمرر أطراف أنامله على ذراعها العاري بحركة غير بريئة وهو يعدها بصدق: صدقيني جوازنا هيبقي رسمي قُريب أنتِ عارفة أنا بحبك أد إيه..

أومأت وطرف شفتيها يرتفع بسخرية قائلةً وهي تسند رأسها فوق ذراعة المُعضل: عارفة طبعًا زي ما أنا عارفة إن شهيرة هي اللي مسيطرة عليك..
تبدلت ملامحه لأخرى منزعجة، ابتعد عنها ووقف يتابع غلق ازراره المغلقة ولا يعرف حتى ما يفعل لقد عكَّرت صفوه..
استعد للذهاب بعد أن قذف ورقة الزواج بجانبها لتستوقفة بقولها: آدم كلمني و فسخ خطوبتنا..

قطب كلا حاجبيه مستذكرا، فحديث آدم عن رغبته في الزواج وتكوين العائلة يذكره! ماذا حدث؟!
أومأ بتفهم وهو يهز رأسهُ ثم قال قبل أن يغادر: ماشي، خلي بالك من نفسك..
ـ شهيرة عامله ايه؟ الوقعة مكسحتهاش؟!، سألت بسخرية وهي تقرأ ورقة الزواج الخاصة بها جعلته يتوقف أمام الباب زافراً بضيق ثم استدار وهدر بغضب: سالي، لو سمحتي دي أمي ومسمحلكيش مهما أضايق واشتكي هتفضل أمي وحماتك ياريت تبطلى الطريقة دي بقي!

لفت الملائه حول جسدها بطريقة مُبعثرة وغادرت السرير، تقدمت منهُ بغضبٍ سافر صائحة بعصبية وتحدٍ وهي تضرب صدره بقوة: لا مش هبطل عارف ليه؟ لأنك معلقني بسببها ولو مكنتش مسيطرة عليك مكنش ده هيبقى حالنا دلوقتي! نفسي يبقي عندي بيت وولاد ونعيش زي أي اثنين لكن طول ما أنت مطاوعها ودلدول تحت رجليـ، صرخت بألم عندما هوى على وجنتها بصفعة قاسية أصابتها بطنين كادت تسقط إثرها لكنها تماسكت، رفعت رأسها بقوة وعلامات الذهول شقت طريقها لوجهها وهي تنظر إليه بعدم تصديق! هل صفعها الآن!.

ازدردت ريقها بغصه وشفتيها ترتجف من المهانة التي تشعر بها، ضمت قبضتها بقوة ثم هدرت بشراسة والغدر يشق طريقة لعينيها الدامعتين: هندِمك يا مصطفي هتندم، وتركته ودلفت إلى دورة المياه وصفعت الباب خلفها بقوة، وهو تأفف بغضب وهو يحملق في كفه الذي صفعها مؤنبًا نفسهُ ثم غادر عائدًا إلى المنزل..

صعد إلى غُرفته في المنزل لـ يتفاجأ بجلوس والدته على سريره تنتظره، خلع سترته وهو يأخذ شهيقًا طويلًا يُروح به عن نفسه ثم سألها عن حالها وهو يخلع حذاءه: عاملة ايه النهاردة يا أمي خدتى العلاج؟
أومأت وهي تقف متكئة على عصاها بضعف، لوقتٍ مؤقت حتى تتعافى نهائيا لأنها تضررت كثيرا من الوقعة، كانت قوية على جسدها ليتحمله دون ضرر..
ـ الحمد الله يا حبيبي أه خدته، انا كنت بدور عليك عشان نتغدى سوا..

تثاءب وتأسف وهو يدلك نحره: مش جعان خالص دلوقتي كُلي أنتِ انا هرتاح شويه..
أومأت لهُ وهي تتحامل على نفسها، تسير ببطء وهي تقضم شفتيها بألم، أغلقت الباب خلفها وهي تهز رأسها
بسخرية مما يحدث معها، ابنها لم يساعدها حتى بالخروج من الغرفة وتركها رغم أنها قالت غداء وهي لا تستطيع أن تصنعه..

لفحتها تلك الذكريات التي كانت كـ صفعةٍ قاسيةٍ توقظها، ذكريات حرصت على عدم تذكرها ودفنها عميقًا في أكثر الأماكن سوداوية داخلها لكن انقباض قلبها حُزنًا لا يضاهيه حُزنًا الآن، تتذكر دائما لحظات مرضها وضعفها عِندما لا يكون بجانبها سوى آدم يعتني بها، يمرضها ويطهو من أجلها ويظل بجانبها حتى تتحسن، لن تنسى، لطالما كانت تغير لأنه يملك جمال وطيبة والدته التي جعلتها تشعر بوجودها وسيطرتها عليهم حتى بعد موتها، المشكلة كانت تكمن هُنا، لم تستطيع أن تحبه قط رغم أنها من ربته، الغيرة والحقد النسائي كان يسيطر عليها فهي اختطفت زوجها ولم يعد كما في السابق بفضلها علاوة على هذا تركت طفلا يفسد عليها حياتها! كيف تستطيع أن تحبه كيف؟، هذا أبن نوال وسيظل هكذا، لم يكن أبن شهيرة قط ولم يتطبع بطبعها و يصطبغ بصبغتها، كُل شيء تفعله يكون بدافع الغيرة ليس إلا وتعترف بهذا..

والآن عادت إلى غرفتها بتباطؤ، أبطأ من السلحفاة نفسها، تمدد فوق سريرها وهاتفت الخادمة كي تأتي من أجلها يبدو أن أملها في أن تأكل من يدِ ابنها لن يحدث قط..

داخل المستشفي..
كان آدم يدور حول نفسه في الممر خارج الغرفة بقلق منتظر خروج الطبيب بقلب مُنقبض ولا يعلم لمَ، جلس على المقعد وبدأ يهز قدميه بقوة وتوتر بالغ ورقبته معلقة فوق الباب المغلق في ترقب للطبيب كي يطمئن وياليته لم يستعجل بهذا القدر..
خرج الطبيب والابتسامة تزين ثغره لـ يصفع آدم بقوة أسقطه من سابع سماء لأقصى بقاع الأرض بقوله بسرور: مبروك المدام حامل..

تسمر محله وظل جالسًا يحملق في الطبيب بعد أن كاد يقف، قدميه لم تعد تحملانه، ذهوله كان ظاهرًا بطريقة مبالغًا بها، كان يعرف أنهُ منحوس، لكنهُ تأكد من هذا الآن، حامل يعني طفل في المنتصف، طفل يعني استمرار علاقتها مع والده كي لا يتأزم نفسيًا، هو مقصي من حياتها لا وجود لهُ بمستقبلها لا وجود لهُ وهذا ما يجب أن يستوعبه ويبتعد عنها..
استعاد رباطة جأشه ثم وقف وسأل الطبيب بوجه شاحب ونبرة أقرب للارتعاش: متأكد؟

أومأ بثقة وقال مؤكدًا من جديد: طبعًا مُتأكد مبروك يتربي في عزك..
تركه الطبيب ومضى في طريقه تاركًا آدم يقف يُحدق فى الباب بتردد لا يُريد الدخول..
بينما هي في الداخل كانت تضع يدها على معدتها تتحسسها برقة، مُضطربة لا تعرف ماهية مشاعرها، لكنها متأكدة أنها سعيدة تتغير مع التغيرات التي تطرأ على حياتها..

غمرها الدفء وهي تفكر في كونه سيكبر كُل يوم داخلها حتى يأتي إلى هذه الحياة وتحمله في يومٍ ما بين يديها، هذا شعور يدغدغ غريزتها الأمومية ومن الآن أصبحت تتوق لرؤيته..

استفاقت من شرودها على أطراف أنامله الناعمة التي كانت تمر فوق وجنتها برقةٍ بالغة، ابتسمت ابتسامة مهزوزة وهي تتهرب من نظراته كأنها أجرمت في حقه ليقابلها بأخرى سعيدة مسرورة قبل أن يضمها إلى صدره بقوة، لفت ذراعيها حول خصره تستكين برأسها فوق كتفه براحة كانت تفتقدها لتفاجئ قبل تظفر براحتها بجسده يهتز وهو يشدد قبضته حولها أكثر، هل يبكِ؟، اتسعت عيناها ورفعت رأسها مبتعدة عنهُ للخلف لتفرغ شفتيها بتعجب وهي تراه يضحك، يضحك، يضحك حتى أدمعت عيناه، هذا ليس ضحك ليس من المفترض أن يكون ضحكًا!

رفعت راحة يدها إلى وجنته تتحسسها برقة سائلةً إياه بحزن بسبب حاله: بتضحك على ايه يا آدم؟!
هزَّ رأسهُ بلا بأس وهو يرفع يدها من على وجهه مقبلاً باطنها وهو يغمض عينيه لتنسل تلك العبرة التي خانته من بين أجفانه أشعرتها بالذنب تجاهه..
فتح عينيه الحمراء ثم لثَّم جبهتها بحنان وهو يدفن يده بشعرها هامسًا بدفء مزق نياط قلبه: مبسوط عشانك، مبروك..
هتفت بإسمه بصوتٍ موجوع وهي تشعر بشفتيه على جبهتها: آدم..

ابتعد وأبعد خصله خلف أذنها وهو يبتسم قائلًا بغصه مؤلمة: هتبقي أم جميلة يا تالين..

انسابت عبراتها وهي تنظر لهُ بتأنيب ليمسح عبراتها بحنان وهو يحثها على الذهاب بابتسامة ماخفى خلفها من ألمٍ كان أعظم: يلا عشان تاكلي، لازم تهتمي بأكلك و هنتفق مع دكتور دلوقتي عشان تتابعي معاها لحد معاد الولادة، ثم تهرب منها عِندما لم يستطع التحمل أكثر: أنا هشوف دكتور ارتاحي أنتِ لحد ما ألاقي واحد واجي أخدك، وقبل أن ترد كان يغلق الباب خلفه وذهب..

فى منزل قُصيّ، في غُرفة النوم..
كان يجلس على السرير يضع الحاسوب فوق فخذيه يعمل بتركيز غير عابئا بالتى تجلس بجانبه على الطرف الآخر تتأمله تارة، تعبث في شعرة تارة أخرى، تمرر يدها فوق صدره المعضل، هذا ما تفعله من شهرٍ تقريبًا تتحرش به طوال الوقت كي يلتفت إليها، لا تتقبل فكرة أنهُ لم يعد يرغبها قط..

أغلقت الحاسوب فوق أنامله جعلته يرفع نظره إليها، سحبت أنامله خارجًا ثم وضعت الحاسوب بعيد و أراحت رأسها محلهُ فوق فخذيه وظلت تتبادل معه النظرات، إنها عشق متجسدة أمامه لكن بأعين بنية الآن. لا يعرف إلى الآن سِر صبغ شعرها..
تنهد بيأس وهو يحاول عدم التفكير بها والتطلع لحالها، رفع يده وأخذ يمسح على شعرها بخفة ونطق بنبرة ضيق جلية: عايزة إيه يا جـنّـة؟.

زحفت برأسها أكثر حتى صدره ثم لفت يديها حول رقبته هامسة بنبرة ضارعة غلب عليها الشوق: هعوز ايه غيرك أنت يا قُصيّ؟! هتفضل زعلان مني كده كتير؟!
ابتسم في وجهها بسخرية ومازال يمسح على شعرها برفق صامتًا لا يتحدث حتى رأي عينيها تدمع..

ـ عينك تعبتك مش كده؟، أومأت وهي تمحي تلك الدموع التي لا مناسبة لها قائلة بإزدراء: العدسة كانت بتفضل ساعات طويلة في عيني مكنتش بقدر اشيلها غير وقت النوم بس، لم يعقب ومازالت نظراته الجامدة تتفحص ملامحها، تنهدت بـ هم ورفعت نفسها قليلا تتناول هاتفها عِندما سمعت صوت رسالة نصية ومن دون إنتباه ضغطت على معدته بـ مرفقها أطلق إثرها صيحة متألمة..

رفعت نفسها بجزع وناظرته بقلق وهي ترى تقليص ملامحه بألم، مسدت محل مرفقها فوق معدته بقلق وهي تسأله بحنو: قُصيّ إنت كويس؟ إنت مش بتنام كويس وبتاكل بالعافية وخسيت وتحت عينك بقي أسود مالك؟!
هزَّ رأسهُ بلا مبالاه قائلا بنبرة فضولية وهو يحدق في هاتفها: مفيش أنا كويس، مين بعتلك رسالة؟!

ابتسمت وعادت تتوسد صدره وهي تفتح الهاتف لتسمع زمجرته الوحشية وهو ينزع الهاتف من يدها بعنف عِندما أبصر تلك الصورة التى تضعها..
ـ صوره غرام دي جبتيها منين؟!، سألها بغضبٍ جامح لترد عليه بهدوء وثبات لكنها لم تستطع السيطرة على تلك الرجفة وهي تتحدث عنها: ريمة بتبعتلي كُل حاجة مش عشان تطمني عليها لأ، عشان تندمني وتوريني اني بضيع أحلى لحظات ممكن تعيشها أي أم وانا ضيعتها..

غمغم بسخرية وهو ينظر إليها بقسوة خالصة لتأخذ الهاتف من يده وبدأت تمرر أناملها على ملامح طفلتها بأعين دامعة وقلبٍ مُلتاع قائلةً بندم وهي تذرف الدموع: عارفة اني قاسية ومستاهلش بس هي بنتي يا قُصيّ حته مني و هتبقي معايا فى الأخر كُلها كام شهر بس..
ـ والسنين اللى فاتت؟، سألها بأكثر نبره متهكمة حملها يوما..

أمسكت يده بقوة قائلة بلهفة وهي تتطلع للمستقبل: عارفه اني قصرت معاها وحرمتها مني بس هعوضها والله هعوضها..
ابتسم ابتسامة غريبة وقال برفق وهو يربت على رأسها كـ جرو: مين قالك انها محرومة منك؟ دي عارفاكِ وبتشوف صورك دايمًا أول ما هتشوفك هتعرفك..

ابتسمت بعدم تصديق وسألته بأملٍ أحياه داخلها و عبراتها لا تتوقف عن الهطول: بجد يا قُصيّ عارفاني يعني لما تشوفني هتعرفني ومش هحتاج أشرح انا كُنت فين وبعيدة عنها ليه؟
اتسعت ابتسامته أكثر وهو يؤكد بثقة: ولا تقولي أي حاجة هي عارفاكِ..
عانقته بقوة وهي تقول بامتنان وتأثر: شكرا يا قُصيّ..
ربت على ظهرها وابتسامته الساخرة تتسع لأقصى شفتيه قائلا بـ وِد: على ايه بس أنتِ مراتي ومهما حصل هتفضلي أم بنتي..

طبعت قُبلة رقيقة على رقبته ممتنه بينما تقول بابتسامة رقيقة: كُنت عارفة إنك هتسامحني وهترجع قُصيّ بتاع زمان، سكتت وابتعدت قليلا ثم فتحت الهاتف تُريه الصور التي أتتها الآن وهي تقول ببراءة اختبأ خلفها خُبثٍ كبير: شوف حتي جاسم سامح عشق رغم اللى حصل و بيروح معاها الامتحانات شوف حاضنها ازاي؟ شايف نظرته يا قُصيّ؟ بيحبها وسامحها وإنت مش قادر تسامحني!
أتاها صوته الجامد بملامح مكفهرة: أنا مش جاسم!

أومأت وهي تمحي الدموع بطرف أناملها قائلةً بنبرة مستفزة: فعلا أنت مش جاسم هو أحسن..
زمجر بخشونة هادرًا بتحذير: بنت حبيب..
رفعت حاجبها الأيسر باستمتاع وهي ترفع يدها لذقنه الطويلة تداعبها وهي تسأل بتلذذ بسبب عودة الذكريات الخاصة بهذا الأسم: بقالك كتير مش بتناديني بالأسم ده؟ رجعت تكرهني تاني يا قُصيّ؟!
ودفعها بعيدًا عنهُ وذهابه كانت إجابة حصلت عليها..

دلف إلى دورة المياه بغضب كبحه كي لا يخرجه عليها هي تلك المتبجحة، قصدت أن تُريه كيف يعانق جاسم عشق فكل شيء تفعله تقصده، وضع رأسهُ أسفل المياه الباردة لعل النيران المتأججة داخل صدره تنطفئ، رفع رأسهُ بقوة يجففها بالمنشفة أمام المرآة محدقا في انعكاسه بجمود، فما بال هذا الشحوب والتعب؟، تجاهل هذا وراح يحدق في زجاجة الغسول و السائل الكريمي والمرطبات الخاصة بـ جـنّـة التى تستخدمهم عشق من البداية ووجب عليه عِندما رآهم أن يأتي بمثلهم إلى جـنّـة كي تتغير رائحة شعرها وجسدها..

جمعهم معًا بغضب وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة ثم حملهم وخرج إلى الغرفة كعاصفة هوجاء ومنها صوب الأسفل مباشرةً وتحديدًا إلى صندوق القمامة، هرولت خلفه بفضول وترقب لمَ سيفعل، توقفت أمام الباب تُراقب صفعة لغطاء صندوق القامة في طريق عودته إلى الداخل، لمَ يغلقه فهو للعامة ليس ملكة؟

تنحت جانبا تفسح لهُ الطريق ليصفع الباب بقوة خلفه ووقف يحدق بها بتهجم، ازدردت ريقها وهي تقترب بخطوات حثيثة ترى هل طريقتها في استمالته مازالت تنجح مثل سابقا أم لا..

أمسكت بـ كفه، وضعته فوق قلبها النابض ببطء أي فوق جسدها العاري بسبب منامتها التي لا تخفي الكثير ليشعر بتلك الانتفاضة أسفل كفه البارد ونعومة بشرتها الدافئة، مازالت رائعة كما هي، أبعد كفه بضجر لكنها أعادته بإصرار تضمه إليها وهي تقترب حتى تلاصق صدريهما معًا وتلاقت أعينهما تحت غيمة الحُب وأخرى الكره..
توسله بنبرة مفعمة بالمشاعر: بُصلي يا قُصيّ..

ازدرد ريقه بحلق جاف متهربا من نظراتها والرغبة بدأت تزحف إلى أوصاله، رفع كفه من فوق صدرها بقوة وهو يهز رأسهُ برفض ثم أبعدها عن طريقة وسار لكنها لحقت به و توقفت أمامه تنظر إليه برجاء ليصرخ بها بعصبية: عايزة ايه؟
عانقته بقوة وحميمية حتى التحمت مفاتنها بجسده متعمدة، وبهمسٍ شديد وصوتٍ مغوي نطقت: عايزاك يا قُصيّ وأنت عارف..

دفعها عنهُ متأففًا بنفاذِ صبر وهدر برفض أقرب للاشمئزاز: وأنا مش عايزك وأنتِ عارفة..
تحرك لكنها أحاطت ذراعيه بيديها تتودد إليه بحب: قُصيّ أنا مراتك و بحبك وبتحبني ليه منـ..
قاطعها صارخًا بحدة: لا مش بحبك كُنت بحبك..
ارتجفت شفتيها واغرورقت عيناها بالدموع مع انتفاضة قلبها وهي تسأله بحالةٍ مُضنية وقبضتها تشتد فوق ملابسه: كُل ده عشان عشق؟ أنت بتاعي أنا أنت فاهم ومش هسيبك ليها..

ردَّ ببرودٍ غُلف بقسوة: كُنت، كُنت كُل حاجة لكن أنتِ استغنيتي، دفعها بنهاية حديثة وصعد إلي الغرفة لتتهاوي وتسقط محلها تبكِ بمهانة وذُل إلي ما آلت إليه علاقتهما، تستحق، هي لا تعرف كيف تستعيده..
مرت الساعات ومضى اليوم وحل الليل..
حدق في انعكاسه مرة أخيرة وهو يمشط شعره ثم نثر عطره وحمل هاتفه وحافظة أمواله وترك مفتاح سيارته فـ آدم ينتظره في الأسفل..

استوقفه سؤال جـنّـة باهتمام وهي تجلس على طرف السرير تقلب الدعوة التي أتتهم بين يديها باهتمام: رايح فين؟
رد ببرود: عيد ميلاد..
سألته بحنو: طيب مش هتاكل؟
نظر اليها بدون تعبير وتمتم: شكرا مليش نفس..
اقتربت منهُ وهي تبتسم بعذوبة، عدلت ياقة قميصة وهي تقول بحنان: انا عملتلك المكرونة زي ما بتحبها..

قال بسخرية: كُليها أنتِ، ومال يقبل وجنتها وتركها تقف محلها وغادر، شدَّت شعرها بقوة زافرةً بغضب وهي تلهث، أخذت الدعوة تقرأ محتواها ليعتلي ثغرها ابتسامة خبيثة، وضعت ساق فوق الأخرى وأخذت تحدق في السقف وهي تلف أحد خصلاتها حول سبابتها تفكر بما ستفعل باستمتاع..

توقفت وسط فساتين الزفاف عاقدة يديها أمام صدرها ببرود والأستنكار يشِع من مقلتيها تجاهه الذي يقف يعقد يديه أمام صدره بالمثل، فما بال تلك الملامح لمَ لا تبتسم و تقفز فرحًا تلك الكئيبة المتكبرة!
ـ جايبني هنا ليه؟، سألت ليلى بدون تعبير
فرك حاجبه الأيسر وهو يخفض رأسه يلوك بلسانه داخل شفتيه بتفكير حتى قال متحجج بنادين لأنها لا تفهم: جبتك تختاري فستان لـ نادين..

رفعت طرف شفتيها باستنكار ثم قالت بتهكم وهي تتحرك بين الفساتين المعروضة أمامها: نادين تختاره لنفسها هو انا اللى هختاره؟
أبعد نظره عنها بضجر تلك مدمرة اللحظات ثم لوح لأحد الفتيات وهمس في أذنها بشيءً ما وهو يأشر على أحد الفساتين..

أومأت بابتسامة لبقة تحت نظرات ليلى الحارقة التى كانت ترشقها بها أثناء مرورها بجانبها ظنا أنها ذاهبة لمكانٍ ما، لكنها توقفت أمامها ثم شملتها بنظرة متفحصة تقيمية قبل أن تأخذ الفستان وتضعه داخل غرفة القياس، عادت أمامها من جديد ثم أمسكت يدها برفق كـ طفلة عنيدة لا تريد الذهاب وهتفت برقة: ممكن تيجي معايا؟

نظرت ليلى لها بارتياب ثم إلى عمّار الذي يلوح لها بإيجاب كي تذهب بتلك النظرة الماكرة والبريق الذي يتلألأ داخل خضراوية تعرفه جيّدًا، تمتمت وهي تحرك أهدابها بسرعة تحاول تجميع كلمة عندما أخذتها الفتاة خلفها: ثـ، ثواني، أنا، أنا، مش العروسة!
ـ جوزك قلي اني خجولة بزيادة بس متتكسفيش احنا بنات زى بعض، قالتها ببشاشة وهي تأخذها..

استدارت تنظر إلى عمّار لتجده يقف يتكأ على الحائط يعقد يديه أمام صدره وهو يُراقبها باستمتاع، كشرت في وجهه ليبعث لها قبلة في الهواء، احتدت نظراتها الشرسة له من خلف الستار الذي أغلقته الفتاة ليفصل بينهم..
ساعدتها بخلع معطفها السميك الجلدي الأسود القصير من فوق فستانها وعلقته ثم بادرت بفتح سحاب فستانها النبيذي الضيق لتضع يدها على يديها تمنعها قائلة: أنا هغير مش محتاجة مساعدة شكرا..

أذعنت لها وخرجت بهدوء لتجلس ليلى على الكرسي الموجود، تحدق في الفستان بدون تعبير، تلك المزحة ثقيلة على قلبها ولن تصمد، هي لطالما منعت نفسها عن أي شيء قد يؤثر عليها سلباً ويجعلها تكره نمط حياتها الروتيني و رتابته وتسعى للتغير، وضعت نادين في المقدمة دائمًا ووهبت حياتها لأجلها لما تخيب الآن وتضل الطريق وتلتفت لتفاهات، أي شيء قد يلامس قلبها ويحرك مشاعرها لا يوجد مسمى لهُ سوى تفاهات، كاذبة تعرف، تبالغ بتفكيرها وهي تتوق وتتمنى تلك التفاهات..

تنهدت تنهيدة قوية خرجت من أعماقها وهي تحدق بالفستان ببرود كأنهُ عدو، عزمت على قياسه فلن تخاف تجربته بالتأكيد، خلعت فستانها ليتبدل بفستان الزفاف، علقت فستانها بأنامل مرتجفة وهي تزدرد ريقها بصعوبة، تجمعت الدموع داخل عينيها وهي ترى انعكاسها في المرآة، عروسًا جميلة لطالما كانت جميلة، لم ترى نفسها بهذا الجمال يومًا قط، فلو ظن عمّار أنهُ لمس وترا حساسًا لديها لقد نجح بجدارة، انسلت عبراتها واحدة تلو الأخرى وهي ترى نفسها تُجر وتُباع في عُمر الخامسة عشر دون شيء فقط بعقدٍ مُوقع..

لملمت شعرها وهي تعض شفتيها كي لا يسمع أنينها، رفعته إلى الأعلى وتأملت نفسها برؤية ضبابية منكسرة ثم حررته وأجهشت في بكاءٍ مرير وهي تغمر وجهها بين راحة يدها، فوالدها هذا الذي دمر حياتها لن تسامحه مهما حيت لن تسامحه أبدًا، يا إلهي كم هى وحيدة بائسة، ولبي النداء وآنس وحدتها..

اخترقت تلك الرائحة المألوفة أنفها، استحل لنفسه اعتقال خصرها بذراعه وضمها بقوة من الخلف حتى التحم ظهرها بصدره، ليغمرها الدفء، انتفاضتها المفاجئة آلمته، صوت نحيبها مزق نياط قلبه..
همسهِ الناعم بجانب أذنها من أوج مشاعره بعثرها: مش نفسك تلبسيه؟، ظلت تبكِ دون الردّ.

مرَّغ أنفهُ في شعرها بانتشاء وهو يضمها أكثر ولا يعلم أين ستذهب أكثر من هذا، همس بين خصلاتها جعلها تتاطير متضرعا كي تقبل به: مش عايزة تحبي وتتحبي وتبدأي من جديد؟!، ازداد نحيبها ليهبط من شعرها إلى نحرها المكشوف لهُ ببذخ ممررا أنفه عليه نافثًا أنفاسه الحارة فوق خلايا جلدها أذابها، ارتجفت بشكلٍ ملحوظ وقد ثار قلبها وثقلت أنفاسها، حاولت التحرر والهروب لكن قبضته الفولاذية أبت أن تحررها وارتفعت عن خصرها حتى معدتها مشتده حولها أكثر فأكثر..

سار الخدر في جسدة وثقلت أنفاسه وهمس بإرهاق وأنفه تمر على نحرها ببطء ألهبها: أنتِ بتسويني على نار هادية..
همست باسمه بأنفاسها المثقلة وهي تقبض على جانبي الفستان، تغمض عينيها بقوة وصدرها يعلو ويهبط باضطراب وكان هذا كافيًا ليأخذه إلى عالمٍ آخر: عـ، عمـ، عمّار..
ردّ بتهدج وهو يدس رأسهُ في رقبتها أكثر: عمّار هيحصله حاجة لو متجوزكيش في أقرب وقت..
لتجيب بـ كلمتان مرتعشتان وهي تنتحب: بنتي بتحبك..

شهقت بتفاجئ وهي تشعر بنفسها تدور حتى أصبحت مواجهة لهُ وانتقلت يديه إلى ظهرها ليخترق سؤاله المفعم بالأمل أذنيها: ولو موضوع نادين انتهي تتجوزيني؟!
أطرقت برأسها وتمتمت بخجل من نفسها لأول مرة تشعر به: أنا أكبر منك!

رفع رأسها وهو يبتسم ابتسامة عذبة وقلبه يقفز داخله: ده مش عُذر، انسلت عبراتها وهي تعض شفتيها بقوة وأعادت طرق رأسها لكنه لم يسمح لها تلك المرة، محي عبراتها وهمس بدفء و عينيه تجول على ملامحها الناعمة: متعيطيش انا هعوضك، اسمحيلي أدخل حياتك..
ضحكت رغمًا عنها برقة تسببت في ذرف المزيد الدموع وهي تقول ببحة: تدخل حياتي اكتر من كده؟ فين؟

ـ هنا، قال وهو يأشر على قلبها ليستطرد وهو يداعب وجنتها بنعومة و خضراويه تخترق نهر العسل خاصتها: عايز أشوف نفسي في عيونك، نفسي أعيش الحُب اللى بتمناه معاكِ وأنتِ مراتي..
توردت وجنتيها و اخفضت رأسها بارتباك ولكي تهرب من هذا الحصار المعلن عليها همست راغبة: عايزة أروح..
كاد يلقي على مسامعها ردًا يبكيها تلك المتكبرة مدمرة اللحظات لكن صوت الفتاة تسلل من الخارج إليهم: محتاجين مساعدة؟ في مشكلة؟

ـ لأ شكرًا، قال عمّار ببرود وهو يحرر جسدها أخيرًا واستدار على عقبيه وذهب لتتنفس الصعداء لكن كتمت نفسها مع شهقتها عِندما عاد وسحبها من خصرها بقوة لتصطدم بصدره و بتلقائية أراحت يديها على صدره الذي انقبض إثر ملمس يدها الناعمة وازداد ضخ الدماء في أنحاء جسده، صنعت تواصلا بصريًا معهُ لـ تحتجز داخل غابته الواسعة بتيه وهي تشعر بخفقات قلبه الجنونية تضرب راحة يدها..

ـ هتلبسية وهتتزفي بيه معايا، وهتحبيني بجنون يا ندى، ده لو لسه محبتنيش ولو مش واخدة بالك أنتِ بتغيري عليا، ألقاهم في وجهها دفعةً واحدة بتحدٍ ووعيد والأخيرة كانت بتهكم استشفت به الذُل وكم كان طفولي في طريقة إلقائه بسبب تهربها منهُ، وتركها وغادر..

تهاوت على المقعد بعد ذهابه تريح قدميها الهلامية وهي تلهث، وحرارة جسدها ارتفعت وهي تطرف بعينيها بتعجب إزاء قوله! فمن تلك التى تغير؟ ولمَ ندى! وماذا يحدث لها بحق الجحيم؟ أنه رجل أبنتها!، يُجب أن توقف هذا..
طوال طريق عودتها كانت تحدق من النافذة بشرود وهي تقبض على حقيبتها بقوة تتوعده بغضب..
أوقف السيارة أمام منزلها وظل واقفا ينتظر ذهابها..

حرك شفتيه وكاد ينبهها على وصولهم لكنها التفتت صائحة بحدّة جعلته يتعجب: دي أول وآخر تتخطي حدودك معايا فاهم؟
حرك أهدابه متعجبًا وهو يهز رأسهُ بخفة ثم أمرها بدون تعبير: انزلي..
ـ أنت بتطردني؟، قالتها باستنكار وهي تنظر حولها تستوعب ما قال
أومأ قائلا بنزق: العربية بتاعتي وبقولك انزلي يلا..

صرّت على أسنانها واكفهر وجهها بغضب ثم ضربت كتفه بحقيبتها بقوة وهي تتمتم من الغيظ: طظ فيها عربيتك، وترجلت بعصبية ثم صفقت الباب في وجهه وذهبت تحت نظراته الجامدة المشوبة بسخرية وهو يرفع حاجبه غير متأثرة بمَ فعلت، أخفض ذراعه بعد ذهابها عن المقود ثم مسدها براحة يده مغمغما بألم: تقيلة أوي، حطة فيها ايه؟

وضعت المفتاح داخل المقبض بعصبية و مازالت شفتيها تتمتم بالكلمات من فرط حنقها، تركت الباب مفتوح بقلق خلفها عِندما وجدت المنزل مُظلم والسكون يعم المكان..
بسطت يدها بجانب إطار الباب تتحسس الحائط باحثة عن زر الضوء وهي تهتف باسم نادين بخوف: نادين، أنتِ هنا؟!، لارد، سكون..
استعمر الخوف قلبها وادمعت عينيها وصاحت بنبرة مرتجفة: حبيبتي أنتِ هنـ..؟!

أفزعها صدوح صوت المفرقعات وصوتهم الجماعي المرح تزامناً مع فتح الأضواء: Surprise
فغرت شفتيها بتفاجئ وهي تستقبل نادين التى اندفعت تعانقها بقوة قائلة بسعادة: كُل سنه وأنتِ طيبة يا أجمل مامي في الدنيا..
ضحكت بعدم تصديق وهي تربت على ظهرها و عينيها تجيل في غرفة الجلوس المُزينه، وفوق تلك البالونات الوردية والبيضاء التي تفترش الأرضية، والكعكة ذات الطابقين تخصها!، عيد مولدها لقد نسيت هذا..

أجابتها بنبرة ممتنه وهي تضمها أكثر وقلبها يخفق فرحًا: وأنتِ طيبة يا حبيبتي..
قبلتها ثم بدأت بالرد على التهاني الموجهة إليها بابتسامة عذبة متعجبة بسبب وجود قُصيّ وآدم وإختفاء عمّار الذي طـ، توقف ضخ الأفكار في رأسها عِندما سمعت صوت نادين تهتف بحماس: عمّار جبت الشمع؟

استدرات ليلى على عقبيها وهي تقطب كلا حاجبيها بتعجب تراقب تقدمه منها بابتسامة جذابة حاملًا بين يديه صندوق أسود مخملي، بسطت كفيها أمامها عِندما أشار برأسهُ بخفة، وضع الصندوق بين يديها هامسًا وكأن لاشيء حدث في الخارج: كل سنة وأنتِ طيبة والسنة الجاية نحتفل بيه وإحنا مع بعض، ضحكت بخفوت وهي تهز رأسها فهذا ليس وقت شجار، لطالما كرهت هذا اليوم وكرهت تذكره والاحتفال به، لكن الآن قلبها يقفز فرحًا بحيوية ونشاط..

أجابت والسعادة تغمرها والبسمة لا تفارقها: وأنت طيب يا عمّار، أومأ بابتسامة حانية ثم أخذ نادين إلى منتصف غرفة الجلوس وهو يتمتم: تعالى نولع الشمعة
راقبتهم ليلى بابتسامة باهتة حتى توقفت رنا أمامها عزولا، وضعت صندوق مُزين فوق الخاص بـ عمّار وهي تعايدها بابتسامة لا تليق بتعابير وجهها: كل سنة وأنتِ طيبة يا ليلى..

تفاجأت ليلى في بادئ الأمر بسبب وجودها سرعان ما تداركت نفسها ورسمت بسمة على وجهها وأجابت ملاطفة: وأنتِ طيبة يا رنا نورتيني، أومأت لها بابتسامة ثم تركتها وجلست على الأريكة..
راقبتها بتعجب ليتسلل إليها صوت لمار الهامس بأسف: كُنت فاكره إنك بتحبيها أوي عشان كده عزمتها..
ابتسمت ليلى وهي تهز رأسها بلا بأس، تنظر إليها بامتنان ثم شكرتها: شكرًا ليكِ يا لمار..

عانقتها بحنان كـ شقيقة وهي تعايدها: كُل سنة وأنتِ طيبة، وعلى فكرة دي فكرة عمّار هو أخرِّك لحد ما خلصنا..
خفق قلبها بعنفٍ شديد وأخذت تبحث عنهُ بعينيها بلهفة لتتوقف على ظهره وهو يميل بجذعه فوق الطاولة مستغرقا في عمل شيءً ما..
ـ عمّار عايزة أتكلم معاك شويه، نطقت نادين بعبوس وهي تنظر لهُ لـ يصلها رده الهادئ بعد ثواني قليلة: بُكره يا نادين، تنهدت بحزن وآثرت الصمت..

اختفى عمّار عن ناظريها مع توقف قُصيّ أمامها وهو يضيق عينيه مشاكسا: قافشة في البوكس اوي كده ليه؟
هبطت بنظراتها فوقه بارتباك ثم قالت بتلعثم: لـ، لا، عادي، مسكاه!
قهقهة وهو يُراقب توردها ثم قدم لها هديته الصغيرة المغلقة بعناية التي لا يتخطى حجمها حجم ثمرة فراولة أصابت في نفسها التعجب والحيرة بما يوجد داخلها..

حركت شفتيها وكادت تسأله بفضول لكن آدم ازاحه من أمامه وقدم هديته بابتسامة اغتصبها لاحظتها لمار لتعبس بحزن، فهو منذ مجيئه شارد وحزين..
ـ انا بجد متشكرة ومبسوطه بوجودكم معايا مش هنسي اليوم ده أبدًا، قالت ليلى بامتنان..
ليرد قُصيّ بغرور: مش محتاجة كلام إحنا عارفين..
كشرت بوجهه وكادت ترد لكن نادين اندفعت بينهم وحملت الهدايا من يدِ ليلى وقالت بعجله: انا هطلعهم اوضتك بسرعة عشان تطفي الشمع، يلا..

أومأت وسارت ناحية المنضدة الدائرية، ليسأل قُصيّ آدم بهمس: معاك كبريت ولاعه أي حاجة؟
هز رأسهُ بنفي وسأله بتعجب: ليه؟
قال وهو يضع يديه داخل جيب بنطاله: معايا ديناميت عاوز اولعه..
وبخه آدم بحدّة: ديناميت ايه يا تافه أنت بلاش..
ـ هروح أجيب كبريت بسرعة، قالت لمار بحماس وهي تهرول إلى المطبخ ليضحك قُصيّ وهو يحدق بابتعادها: بدأت تعجبني.

توقفت ليلى أمام الكعكة مقابل عمّار الذي أشعل الشمعة الوحيدة التى أتي بها لم تكن رقما ولا اثنين بل كانت كلمة شهرين يخرج منها اللهب..
نظرت لها بتعجب ثم سألته بعدم فهم: شهرين!

رفع رأسه ونظر لها من خلف ضوء الشمعة بابتسامة أظهرت نواجذه لـ ينطفأ الضوء وتبدأ الشمعة تنوس وتعبث داخل مقلتيه حتى استقرت صورة ليلى داخلها ليهمس بعبث صانعا تواصلا بصريا مع نهر العسل الذي يتلألأ منهُ الضوء: أنتِ اتولدتي من جديد لما أنا دخلت حياتك و انا دخلتها من شهرين بس الباقي مش محسوب.

رفعت كلا حاجبيها بتفاجئ وهي تبتسم فهذا غير متوقع!، ضحكت بخفة بسبب تلك الثقة وهي تحدق في الشمعة ثم قالت ما لم يتوقعة: بس أنت داخل حياتي من شهرين ويوم يا عمّار..
ـ شهرين ويوم و 18 ساعة إلا دقيقتين، قال وهو يرفع حاجبيه بثقة، فهو مهتم أكثر منها، صدح صوت فرقعة تلته صرخة أنثوية وفرقعة تلتها صرخة أخرى مُزِجت مع صوت قهقهات قُصيّ المتسلية..
زفر عمّار وصاح بوعيد: قُصيّ ولع النور وتعالي بدل ما اجيلك..

صدح صوت فرقعة أخري مع صرخة أنثوية تخص ليلى، تنبهت حواسه وكاد يقترب لكنها أخذت تضحك بقوة والسعادة تغمرها جعلته يتوقف يتأمل ضحكتها المداعبة لحواسه وصوتها العازف على اوتار قلبه..

تجمعوا حول الطاولة بابتسامة وبدأوا بغناء أغنية الميلاد المتعارف عليها ليظل هو على وضعه جامد يتأمل ضحكتها وبهجتها التي لم يراها قبلا أثناء غنائها معهم وهي تحوط نادين أسفل ضوء الشمعة الساحر، فهذه الذكرى الجميلة لن يجرؤ على نسيانها قط ستظل قابعة في ذهنه..
أطفأت الشمعة وهرولت لمار تضيء الأنوار ليستيقظ عمّار من صفونه بها على قبضه قُصيّ التي ضربت ذراعه بخفة كي يستيقظ: فوق..

تنهد عمّار بتعب وهتف بشرود: ليلى حلم جميل هيتحول لكابوس..
ضم قُصيّ شفتيه باستياء ثم نظر لآدم الذي تغلفة هالة الكآبة: وأنت مالك من ساعة ماجيت مش مظبوط؟
ـ تالين حامل، قال بسخرية التفتا إثرها الأثنين بتفاجئ ليسأله قُصيّ بجزع: منك؟
تسللت شهقة من بينهم كانت شهقة لمار التي سألت بصدمة: أنت متجوز؟

هزّ رأسهُ بنفي أقرب للسخرية وهتف وعينيه تنتقل بين قُصيّ وعمّار: تالين حلم جميل عمره ما هيتحقق، وتركهم وخرج يستنشق بعض الهواء النقي لأنه يكاد يختنق، هرولت خلفه لمار، لتصدم بجسد كان يدخل من الباب أثناء خروجها، شهقت بتفاجئ وتابعت خروجها متمتمة بتعجب: سعيد؟!
هتف قُصيّ بتعجب وهو يهز كتفيه: هو انا مبحلمش زيكم ليه؟
ـ أنكل سعيد نورت، تلاشت البسمة وتهجمت الملامح واستدارت ليلى متعجبة عِندما سمعت نادين!

ربت سعيد على وجنتها بحنان ثم ساقته ساقه إلى محل وقوف ليلى، توقف أمامها والندم أخذ نصيبه من معالم وجهه..

تحدث بندم لائمًا نفسه أمامهم: أنا جاي أتأسف قدامهم كلهم و أعترف اني غلطت في حقك، أنا مهما دورت مش هلاقي واحدة زيك أنا آسف و بتمنى تقبلي اعتذاري، وعشان أثبتلك حُسن نيتي فلوسي وكُل ما أملك كل حاجة هتبقى تحت رجلك ورهن إشارتك، هزت رأسها بعدم فهم وهي تنظر إليه بترقب ليرفع يده ويخرج علبة مخملية من جيب سترته، فتحها أمام وجهها واستطرد طالبًا بتضرع وتمني: اتجوزينى، اديني فرصة ثانية اثبتلك اني مش وِحش..

فكت رنا عقده يديها بصدمة والغِل ينهش احشائها من الحقد وهي تحدق في أناملها التى قربتها منهُ كي يلبسها الخاتم، هل وافقت بتلك السهولة؟ المغفلة هذا فخًا آخر!.
ازدرت نادين ريقها بتوتر بسبب هذا الصمت المطبق، حدقت في وجه والدتها التي تنظر إلى الخاتم بأعين دامعة، التفتت تنظر إلى عمّار ولا تستطيع وصف ماتراه سوى أن الجحيم مُتجسد أمامها وثانية أخرى سيفقأ عينا سعيد ثم يقتلع رأسهُ من محلها..

رفعت رأسها وهي تستنشق ما بأنفها ثم اغتصبت ابتسامه وهي ترحب به بغصه مؤلمة: محصلش حاجة يا سعيد ولا يهمك، أنا مش هلاقي احسن منك، انا، انا، لازم اجيب طبق، وهربت وتركته يقف وسارعت بذهابها إلى المطبخ بخطواتٍ شبه راكضة وهي تكتم شهقتها، لم تكن تعرف أنها تجيد الكذب إلى هذا الحد، هي مجبرة على فعل هذا، يُجب أن تبعد عمّار عنها يُجب أن يبتعد، سواء كان يكذب أم لا لم يعد يفرق معها فحياتها ليست بذلك الجمال وسعيد هو سيفسدها عليها، فقط تتمنى أن تتحلى بالصبر حتى ينتهي هذا بسلام..

نزع كوب المياه الغازية من يدِ قُصيّ بقوة و ارتشفه في رمق واحد ثم ناوله الكوب وذهب صوب المطبخ بخطواتٍ جحيمية..
حدق قُصيّ في الكوب الفارغ بتعجب ثم صاح: على فكرة دي شويبس عادي!

بسطت كفها و مررت أناملها فوق الخاتم وهي تعض شفتيها المرتجفة بقوة وعبراتها تهطل بغزارة، لقد تم إفساد يومها وتلاشت سعادتها، تنبهت حواسها و ثارت حفيظتها عِندما استنشقت رائحته، هو لن يؤذيها بالتأكيد، استدارت كي تذهب لتجد نفسها تُدفع بهمجية التصق إثرها ظهرها في حافة الحوض مشرفًا عليها بقامته المهيبة..

رفعت نظرها لهُ لتخفض عينيها سريعا مهابةً وخوفًا منهُ وهي ترى نظراته الزاهقة لروحها تخترقها بلا هوادة، سارت رجفة بسيطة فى أنحاء جسدها وهي تشعر به يرفع كفها و أنامله تمتد لأخراج ذلك الخاتم بقوة، ضمت قبضتها بقوة فوقه وهي تهز رأسها برفض وإصرار على عدم خلعه..

زمجر بغضب وهو يضغط على عظامها بقوة جعلها تطلق صيحة متألمة وعبراتها تتسابق على وجنتيها، فهي لا تعرف كيف يضبط نفسه بأعجوبة كي لا يؤذيها وهي كالغبية لا تتعظ أبدًا وتستمر بتصرفاتها المستفزة التي تجعله يفقد صوابه ويؤذيها وفي النهاية تنعته بالهمجي..

صرخ بوجهها بنبرة جهورية موحشة أرعدت دواخلها جعلتها ترتجف وتغلق عينيها بخوف: افتحي ايدك، فتحتها بانصياع وهي تنتحب لينتزع الخاتم من يدها بقسوة كأنه يستأصل ورم خبيث كاد يكسر بنصرها إثره..
قبض على فكها بقسوة جعلها تفتح عينيها الحمراء المتورمة تناظره بوهن..

هسهس بتحذير وقبضته تشتد فوق فكها جعل ملامحها تتقلص بألم: انا بحذرك لآخر مرة، لو مبطلتيش تتصرفي بغباء والله هزعلك، أنتِ مش هتتجوزي غيري فاهمة؟، أنهي قوله الأخير بحدّة لتصرخ به بانهيار وهي تصفع يده عنها: لأ مش فاهمة، ابعد عني انا بكرهك..
قال بتزلف وهو يمسك ذقنها بقسوة: هتكرهيني أكتر لو مسمعتيش الكلام لأني جبت أخرى منك خلاص وزهقت..

أتاه صوت سعيد المحتج من الخلف: ايه اللي بيحصل هنا؟، توحشت ملامح عمّار وثار وانقبضت عضلات صدره وغلت الدماء داخل عروقه عِندما سمع صوته، استدار وقذف الخاتم بوجهه عقبة قوله بحدّة: مفيش جواز و اتفضل اخرج برا..
زفر سعيد وسأل بعصبية: ايه اللي بيحصل هنا يا ليلي..

كور قبضته وتقدم منهُ كـ عاصفة هوجاء، ضرب كتفه بعنف جعله يترنح وهو يسأله باستهجان: مش عاجبك انا؟ ليلي هتعملك ايه يعني؟ براا وخُد القرف ده معاك، وازاح الخاتم بقدمه ليتدحرج وحثه على الخروج بوحشية عِندما لم يجد ردة فعل: قُلت براااااا..
نظر لهُ سعيد بوجه مكفهر من الغضب وتوعده بإصرار سينفذه: مش هسيبك..

ـ يلي يا(، )! من هنا، شهقت رنا بتفاجئ ووضعت يدها على فمها بصدمة ليطردها هي الأخرى بـ مقتٍ شديد: أنتِ واقفة بتعملي ايه؟ براا أنتِ كمان..
أومأت سريعا ثم انحنت واخذت الخاتم و ركضت إلى الخارج كي تلحق به..
التقط أنفاسه المتسارعة بثوران ثم استدار ورشقها بنظرةٍ حارقة وهتف بتهديد: دي أخر مرة هحذرك فيها..
قالت بنشيج وهي تتهاوى جالسة على الأرضية الباردة: بكرهك، بكرهك، شملها بنظرةٍ قاسية صاغرة ثم استدار وذهب..

غمرت وجهها بين راحتيّ يديها، تبكِ بصوتٍ مكتوم وهي تهز رأسها رافضة ما يحدث داخلها من تضارب مشاعر، هي لا تكذب تكرهه، لا تنجذب إليه، ولا تهتم لهُ، لا تُحب رائحته، تكرهه..
وقف قُصيّ من مكانه بعد سماع كُل شيء بالتأكيد، قال و امارة الأسف تظهر على وجهه بسبب ماحدث: انا ماشي عشان تعبان هكلمك بكرة واهدي كده وبراحة..
ـ فين نادين؟، سأله من بين أنفاسه وهو يبحث عنها بعينيه..

ردَّ بهدوء وهو يأشر على الأعلى - قاصدًا غرفتها-: جالها تليفون قبل ما تهجم على المطبخ خدته وطلعت، انا ماشي بقي، أومأ لهُ بهدوء وجلس على الأريكة بعد ذهابه، يعتصر رأسهُ بين يديه بقوة ونبرتها ترن داخل أذنيه بكرهك، بكرهك، لقد أتت في الصميم تلك المرة..

لمَ الحزن تلك ليست المرة الأولى التي تقولها، لقد سأم وملّ هذا التجريح فهو يشعر ويملك قلبًا أيضًا!، كُلما ظن أنه تقدم معها تعيده إلى نقطة البداية من جديد، ماذا يفعل، لا يستطيع مجابهتها، نظراتها تدمره، واذيتها تؤلمه، فماذا يفعل معها..
ـ مامي فين؟، سألت نادين وهي تجلس بجانبه..
رفع رأسه وقال باقتضاب: في المطبخ..
تنحنحت ثم طلبت منهُ برجاء: عمّار أنا عايزة أتكلم معاك..

قال وهو يقف كي يذهب: بُكره يا نادين بُكره، واعملي حسابك مفيش سفر، انا ماشي، وتركها تقف تحدق في أثرة بحزن..
دفع قُصيّ الأرجوحة في الحديقة بقوة لتشهق لمار بخضة وتعانق آدم بقوة مدثرة نفسها بأحضانه بحميمة، غمزها قُصيّ بتواطؤ هاتفًا بخبث: اي خدمة..
ابتعدت سريعًا عن صدر آدم وهي تحمحم، هل تم الإمساك بها؟ هذا الخبيث لاحظ أعجابها به، وقف آدم بهدوء وكأن شيءً لم يحدث ثم سأل: رايح فين؟
قال بهدوء: ماشي..

ـ خدني معاك، أتاه صوت عمّار الغاضب من الخلف..
هبَّت لمار واقفة وسألت بحزن: عيد الميلاد خلص؟
قال عمّار بوجه مكفهر سائم: بلا عيد ميلاد بلا زفت انا مسافر، وتركهم وغادر، هرول قُصيّ خلفه لأنه لم يأتي بالسيارة، بينما لوح آدم بيديه باعتراض وهو يحدق في أثرهما بسبب تركه وحده معها، تنهد بعمق واستدار يسألها باستفهام: معاكِ عربية؟
هزَّت رأسها بحزن وهي تزم شفتيها ليقول بهدوء وهو يسبقها للخارج: تعالي هوصلك..

صاحت بسعادة وهي تدور حول نفسها ثم قفزت بفرح وركضت إلى الخارج..
وصل قُصيّ إلى منزله بعد بعض يجر قدميه خلفه، يصعد السلم بتعب مضاعف لا يعرف مصدره، وجد الغرفة مظلمة ويبدو أن جـنّـة نائمة، بدل ملابسه في هدوء وسط الظلام ثم استلقي جوارها بوهن، يتوسد مرفقة وظل يحدق في السقف المظلم بأنفاس متسارعة حارة..

تحركت جـنّـة بعدم راحة، توسدت صدره وأحاطت خصره قائلة بنعاس وهي تدس نفسها بأحضانة: العب في شعري مش عارفة انام..
تنهد وهو ينظر لها في الظلام مستسلمًا، خلل أنامله داخل شعرها وأخذ يدلك رأسها برفق ونعومه حتى غفيت وغفي بعد بعض الوقت هو الأخر وهو يضمها إليه..

في هذا الوقت، كان آدم يقف أمام العمارة التي تمكث بها لمار متعجبًا وهو يتساءل في نفسه سبب وصوله إلى هُنا؟ عمّار قال سابقا إنها لم تجعله يوصلها إلى المنزل من قبل لما سمحت لهُ أن يوصلها هو إلى هُنا؟!
تنبه وخرج من شروده ليجدها تنظر إليه بابتسامة عذبة، تحمحم ثم قال معتذرًا: آسف سرحت، أنتِ قاعدة هنا؟
أومأت بحماس ثم أشارت إلى الأعلى من النافذة قائلة بـ وِد: قاعدة في الدور التالت الشقة اللى على اليمين..

أومأ بتفهم وهو يحدق عبر النافذة في الأعلى لـ تُكرر قولها وهي تُضيق عينيها: في الدور التالت الشقة اللى على اليمين..
أومأ من جديد وهو يرفع حاجبيه مراقبًا ترجلها من السيارة، أدار المقود وكاد يذهب لكنها أدخلت رأسها من النافذة وأكدت عليه: الدور التالت الشقة اللى على اليمين..
ضحك وهو يومئ بقوة وقال وهو ينظر إلي وجهها الباسم: الدور التالت الشقة اللى على اليمين عرِفت خلاص، هبقي اجي اغير لك الامبوبه..

ضحكت برقة ثم لوحت له مودعة ودلفت من مدخل العمارة إلى الأعلى مباشرةً، راقبها بابتسامة حتى اختفت عن وقع أنظارة ثم استدار بالسيارة وغادر..
وصل بعد بعض الوقت، دلف إلى الشقة وأغلق الباب خلفه بخفة كي لا يصدر صوتًا ويزعجها لو كانت نائمة، سار تجاه غرفته لكن استوقفه الضوء المنبعث من الشرفة ونسمات الهواء الباردة التي تطايرت إثرها الستائر..

وضع الهاتف من يده فوق المنضدة الدائرية التي في غرفة الجلوس تتوسط الأثاث، تردد في الدخول لكن الشوق تمكن منهُ وجعله يتطفل عليها بقلبٍ يخفق كمراهق، دلف بتسلل كي يرى ما تفعل ليبتسم بدفء عِندما وجدها غافية على المقعد مستغرقة في النوم وشعرها يرفرف حول وجهها بنعومة تضم وشاح ثقيل عليها مطالبةً بالدفء، خلع سترته الصوفية ووضعها فوق جذعها العلوي برفق وعينيه تمر على ملامحها الناعمة بحنان، قرص وجنتها المكتسبة حمرة بخفة وهو يبتسم ثم استدار واستند بمرفقيه على سور الشُرفة الزجاجى وأخذ يحدق في النهر يتابع تموجاته الهادئة بشرود..

إستقام زافرًا بقوة، نظر إليها مجددًا والنيران تتأجج بين جنبات صدره، فهو يعلم أنهُ خسرها وللأبد فلا فرصة لهُ معها بعد الآن..

اشتدت الرياح وزحفت البرودة إلى جسده، سعُل بخفة وهو يفرك يديه معًا ثم مال عليها ووضع يد أسفل فخذيها والأخرى خلف ظهرها وحملها لتستقر رأسها فوق صدره، وذهب بها إلى غُرفتها، سطحها فوق السرير، دثرها أسفل الغطاء جيّدًا ثم أخذ الهاتف الذي كانت تقبض عليه بقوة بين يديها كـ طفلة وهو يبتسم، وضعه على الكومود ثم مسح على شعرها المفترش الوسادة برقة، لثَّم جبهتها بحنان ثم ذهب إلى غُرفته وهو يفكر بمصطفي الآن، ماذا يفعل؟ بالتأكيد نائمًا في أحضان سالي الخروف عديم الاحساس..

دقت الثانية عشر وحلّ مُنتصف الليل..
كانت مسطحة على السرير تعانق وسادتها بقوة، تحرك جفنيها المتورم بثقل ونظرها معلق على الشرفة تراقب تراقص اوراق الشجر من الخارج إثر الرياح بسكون، إنه تمامًا كالرياح، يأتي دائمًا دون سابق إنذار، أحيانا لطيفا مداعبًا، وأحياناً عاصفًا باردًا، إنهُ عمّار..
طرقات رقيقة على الباب أخرجتها من شرودها، أذنت لها بالدخول بصوتٍ خافت لم يصل لها لكن رغم هذا دخلت..

تمددت بجانبها ظنًا أنها نائمة لكن وجدتها مستيقظة تبتسم في وجهها..
زمت شفتيها وطلبت بعبوس: ينفع أنام جنبك النهاردة؟
ـ طبعًا، قالت بحنان وهي تبعد الوسادة عنها وفتحت يديها لتقترب نادين وتدثر نفسها بأحضانها بقوة..
قبلت ليلى رأسها بحنان سائلةً: مالك ياحبيبتي زعلانة ليه؟
أجابت بعبوس: عيد الميلاد باظ وعمّار قلي متسافريش و أنكل سعيد عايز يتجوزك أنتِ بجد هتتجوزيه؟ ده كبير اوي!

ضحكت ليلى بخفة ورفعت يدها تتأمل بنصرها المكتسب حمرة الذي مازال يرتجف إلى الآن، أخذت تبسط كفها وتضمه بشكل متكرر كي يتوقف هذا الارتجاف فهو أتلف اعصابها..
ـ مفيش جواز خلاص متقلقيش من هنا ورايح هبقي فاضيالك أنتِ وتجهيزات فرحك وبس..
أثار القول حفيظتها جعلها ترفع رأسها وتسألها بابتسامة مهزوزة: فرحي!
أومأت وهي تقرص وجنتها بخفة: اه مش عايزة؟
نفيت بشرود: لا عايزة بس مش دلوقتي انا لسه مخلصتش جامعة..

مسحت على شعرها بحنان قائلة وهي تحدق في العدم: اكيد مش هتتجوزى بُكره يا حبيبتي لسه بدري، هزت رأسها بإيجاب وهي تدفع بنفسها لأحضانها أكثر باحثة عن الدفء والاطمئنان لتستطرد ليلى: تعرفي ايه عن عمّار؟ تعرفي إنه عنده أخ وأم؟!
توسعت عينيها بتفاجئ ورفعت رأسها تسألها بتعجب: بجد! ازاي؟ مش عايشين معاه ليه عمره ما اتكلم عنهم؟
أجابت بهدوء: مش عارفة مش هو اللي قلي وشكله مش ناوي يقول أنا بعرفك أنتِ بس..

أومأت بتفهم ثم عادت تتوسد صدرها بإحباط: كده هسافر لوحدي..
احتل الخوف كيانها وخصوصا وهي تسترجع حديث عمّارفاقترحت: خليكِ لما الجو يبدأ يدفي شويه ونبقي نسافر سوى؟، نادين!، لم يأتها رد..

ـ نادين!، قالت بتعجب عندما وجدتها غفيت! كانت تتحدث معها الآن ما هذا؟! تبسمت ثم قبلت رأسها ووضعت الغطاء فوقهما وتابعت تحديقها في الشرفة، لتفتح نادين عينيها ببطء وظلت صامته تخفي نفسها، فيُجب عليها أن تذهب ولن تتناقش في هذا ستذهب يعني ستذهب، سواء بـ عمّار أو بغير عمّار..
وفي هذه الأثناء تحديدًا..

كانت عشق تقف في شرفة شقتهم المستأجرة تحوط كتفيها بوشاح ثقيل ترفع شعرها بمشبك الشعر غير مكترثة للرياح القوية التي جعلتها ترتجف نسبيا وينسل شعرها من المشبك ويتحرر ويتطاير بقوة كأنها تقف أمام طائرة تهبط من السماء أمامها، تحدق في شرفة البناية المقابلة لها باهتمام وتركيز، تراقب ذلك الرجل الذي يقف فوق سلم خشبي ينظف اللافتة الخاصة به من الأتربة، ليس هذا ما لفت نظرها بل كم الوقت الذي استغرقه!، فهي منذُ أن دلفت إلى الشرفة وهو يقف ينظف اللافتة بتفانِ، نصف ساعة أو أكثر و الفضول يقتلها لهذا تقف تنتظر انتهائه كي ترى ما المنقوش عليها ولمَ ينظفها هو بنفسه؟

سقط فجأة من فوق السلم الخشبي لتنفجر ضاحكة تصفق بيدها بعفوية دون أن تنتبه لصدي صوتها الذي تكرر في هذا السكون وقد يكون سمعه، اتسعت عينيها تزامنًا مع شهقتها وركضها إلى الداخل عِندما وجدته يقف باستقامة يحدق ناحيتها، لم ترى ملامحه لكن متأكدة أنهُ متهجم و يُريد الفتك بها..

تمتم بكلمات غير مفهومة تعبر عن حنقه وهو يعاود الصعود يتابع تنظيف اللافتة التي هجرها لفترة، لتتابع هي الأخرى مراقبته عن طريق إخراج جزءًا من رأسها من جانب الإطار خلسة وهي تبتسم منتظرة أن يسقط مرة أخرى لكنه لم يسقط بل أضاء اللافتة ليتلألأ أسمه المنقوش باللون الأبيض فوق اللون الأزرق الداكن بإسم عيادة / كُلنا معاك للطب النفسي دكتور وليد الدسوقي.

أعادت قراءتها مرارًا وتكرارًا، أزاحت باب الشرفة ودلفت باهتمام، ظلت تحدق في الأسم بشرود وهي تفكر، فهي بحاجة إلى طبيب..

ابتسم وليد باتساع ونزل من على السلم بفخر وانتباه كي لا يسقط، حانت منهُ التفاتة ليبصرها تقف تحدق ناحيته، تأفف بضيق بسبب عدم رؤيته لتلك الوقحة التي ضحكت عليه، الأضواء لديها مغلقة ولا يرى سوى منامة بيضاء وفوقها وشاح كريمي لا غير هذا، لا ملامح، صعد السُلم مجددًا، أطفأ اللافتة لأنهُ ذاهب ودلف يستعد للمغادرة..

أضاءت الشُرفة فجأة جعلتها تفرك عينيها وهي تخفض رأسها تزامنًا مع دلوف جاسم وهتافه باسمها بحنان: عشق! أنتِ لسه منمتيش؟
ابتسمت وهي تعدل الوشاح فوقها قائلة بهدوء: كُنت داخلة دلوقتي، أومأ بتفهم ثم قال بعد تفكير دام لخمس دقائق وهو يحدق بمشبك الشعر الساقط: عشق في دعوة جاتلي لـ حفلة بكرة تروحي ولا نرجع إسكندرية على طول؟

هزَّت كتفيها وهي تبرم شفتيها قائلة بنبرة عادية: مش هتفرق اي حاجة عاوز تروح نروح مش عايز عادي.

ابتسم وانحنى يلتقط مشبك الشعر، انتصب واقفا ثم لملم خصلاتها المتطايرة وجمعهم مع بقية شعرها بشغف وثبتهم بالمشبك، ليستوقف هذا المشهد وليد عن أغلاق النافذة، قرب رأسهُ وراقب ما يحدث بتركيز لكنهُ لم يرى وجهها فقط ظهرها وابتسامه ذلك الرجل الذي يقف أمامها، يبدو عاشقًا لها من نظراته، يحسده حقًا بالتأكيد سعيد، زم شفتيه مراقبًا محاوطته لها بحميمة وأخذها معهُ إلى الداخل وهو يمسد ذراعها من البرودة، أطلق صفيرًا شاعريًا وهو يضيق عينيه بمكر فماذا سوف يفعل معها في الداخل يا تري لكي يغمرها الدفء؟

تمتم بخيبة أمل وهو يغلق النافذة: يا بخته..
وانتهى وأغلق عيادته وذهب..

اليوم التالي في منتصف النهار..
نظر إلى فعل يده بابتسامة راضية ثم حمل صينية الطعام الذي حضره بحب وصعد به إلى الأعلى..

طرق على الباب بخفة وهو يهتف باسمها: تالين، تالين، لم يأته رد، وقف قليلاً يُفكر فيما قد تكون تفعله في الداخل، تنهد بقلق ثم أدار المقبض ودلف، وضع الصينية فوق الطاولة وبحث عنها بأنظاره بلهفة عِندما وجد السرير فارغ، تقدم وكاد يطرق على باب دورة المياه لتتوقف قبضته في الهواء عندما فتح الباب وأطلت عليه بوجه شاحب وجبين يتفصد عرقًا..

سارت خطوتين بترنح والثالثة سقطت بتعب لكن يديه حالت هذا، أحاطها بقوة ورفعها من خصرها بقلق وهو يتحسس جبهتها: أنتِ كويسة؟
نفت بهز رأسها بوهن شاعرة بالغثيان، ساعدها على التسطح فوق السرير، وضع وسادةً خلف ظهرها وعدل من جلستها كي تكون مُريحة أكثر ثم وضع صينية الطعام على فخذيها وبدأ بإطعامها برفق وهو يبسط كفه أسفل الملعقة كي لا يتساقط الحساء عليها..

أكلت من بين يديه وهي تبلع غصتها المريرة، شعرت بالحرقة داخل عينيها لتبدأ بتحريك أهدابها بقوة كي لا تبكِ لكن شفتيها التي أخذت في الارتعاش كان لها رأيًا آخر، ستظل ممنونة لهُ طوال حياتها، فلم يحني عليها أحدًا في هذه الحياة بقدرة قط..
أمسك ذقنها برقة وقال بحنو وهو يضع الملعقة بين شفتيها: متفكريش كتير وكُلى..

أومأت وقد انسلت عبرة حارقة من بين جفنيها رغمًا عنها قام بمحيها سريعًا بحزن، يحثها على تناول الطعام بهدوء وبقلبٍ مُلتاع قال: تالين، أرجوكِ أنتِ بتتعبيني بلاش عياط ها! أنتِ هتبقي أم لازم تبقي مبسوطة وتهتمي بنفسك وبصحتك عشانه بلاش زعل ها؟

أومأت بطاعة وهي تمسك كفه بين يدها تضغط عليه تستمد منهُ قوتها المسلوبة، رفع يده الأخرى وداعب وجنتها برقة مبعدًا شعرها خلف أذنها لتحرك رأسها ضد يده بنعومة وهي تغمض عينيها بخدر، قبلت باطن يده قبله سطحية لينتفض قلبه ويثور داخله ضاربًا قفصه الصدري بعنف، لثَّم جبينها بحنان وصدره يعلو ويهبط باضطراب هامسًا بلهاث كي يخرج قبل أن يحدث مالايحمد عقباة: في حاجات مهمة لازم أخرج أجبيها مش هتأخر كملي أكلك، تمام، أومأت وهي تزدرد ريقها، تخفض رأسها بخجل و بارتباك أمسكت الملعقة وتابعت تناول الطعام..

تقلب عمّار بعدم راحة وهو يدس رأسهُ أسفل الوسادة بقوة بسبب رنين الهاتف المزعج، غمغم بغضب ثم التقطه وأجاب بحدّة جلية كانت ناعسة رغم هذا: الو؟
هتفت باستنكار وهي تسمع صوته الناعس: والله؟ أنت نايم الشغل يابيه؟
غمغم بغضب وهو يستقيم جالسًا: مش جاي تاني ومسافر سلام..
ـ لأ لأ، استنـ، أغلق بوجهها لتهتف بحزن وهي تدبدب بقدميها أرضًا متذمرة: ملحقتش اخد رقم آدم اووف..

قذف الهاتف بعيدا وقفز مغادرًا الفراش، دلف يغتسل بملامح متهجمه بتقطيبه كلا حاجبيه بوجوم منذُ أمس لم تتبدل ملامحه..
خرج بعد بعض الوقت يجفف شعره بحركة عصبية سريعة لكن استوقفه رنين الهاتف، تناوله بضيق لم يختفي حتى بعد رؤية أسمها..
أجاب ببرود: نعم؟
ردت بعملية وهي تغلق المكنسة الكهربائية وقد توقفت عن التنظيف: ممكن تيجي عايزاك..

انتفخت أنفه بغضب كالثور حقًا الآن وسحق شفتيه بغضب مستشفًا في نبرتها الأمر فمن تظن نفسها؟!
هدأ نفسه بـ شهيقًا طويل عميق ثم هدر رافضًا: لأ مش جاي، سلام، أبعد الهاتف عن أذنهُ وكاد يغلقه لكن صوتها الضارع الحزين في طلبه استوقفه: عمّار لو سمحت تعالى..
تنهد وهو يغمض عينيه بقوة هامسًا لنفسه بالرفض، الرفض لا محالة..

شتم نفسهُ وهو يكز على أسنانه بغضب ثم قال بغلظة: طيب جاي، أغلق الهاتف وقذفه ثم ألقي نفسه فوق السرير وأخذ يحدق في السقف بنظراتٍ خاوية، فهو يخشى السفر، يخاف أن يذهب وعِندما يعود يجدها متزوجة تلك المتهورة عديمة العقل، يجزم أنها تملك عقل جاموسًا..
سيذهب إليها لكن في الوقت الذي يُريد فلتنتظر هي من تحتاجه..

أغلق جاسم الباب بقدمه بابتسامة، تحرك صوب الداخل وهو يهتف بإسمها أثناء تحريك الأكياس البلاستيكية في يده: عشق، ياعشق..
أتت مهرولة من الداخل وهي تبتسم قائلة بهدوء: نعم..
ناولها أحد الأكياس وهتف بحماس: جبتلك فستان عشان الحفلة شوفيه ووريني..
ابتسمت وهي تخرجه بهدوء لتتسع ابتسامتها أكثر عِندما رأت لونه الكريمي، هذا أجمل من الأسود الذي كانت تُفكر به سيكون رائعًا عليها..

عانقته بقوة شاكرةً لهُ بامتنان: جميل أوي ياجاسم تسلم ايدك، قبّل قمَّه رأسها وهو يربت على ظهرها بحنان لتستطرد: انا عملت الاكل وجهزت الشُنط ناكل وبعدين أقيسه تمام..
قرص وجنتها بخفة وهمس بابتسامة: تمام..

قلَّب قُصي الدعوة بين يديه وهو يبرم شفتيه ثم قذفها بعدم اهتمام وسأل جـنّـة: هتروحي؟
هزَّت رأسها بنفي وقالت بإحباط: لو كانت تنكرية كُنت روحت عارف أني بحب الحفلات دي..
لاحت ابتسامة ساخرة أعلى شفتيه وهو ينظر إليها ثم قال مؤكدًا: عندك حق ومش محتاجة تتنكري أنتِ متنكرة جاهزة..

ابتلعت سخريته ولم تُعقب عليها وظلت ساكنة لثوانٍ حتى وقف فأمسكت يده وسألته بلهفة لم يغفلها ولم تخفيها هي مع بريق عينيها الراغب: هتروح؟!
قال بنبرة عادية وهو يبعد يدها عن ساعده: هفكر وأنا باخد دُش، وتركها ودلف إلى دورة المياه تحت نظراتها المتربصة به حتى أختفي خلف الباب..

هبَّت واقفة سريعا والتقطت الهاتف وطلبت الرجل المتعقب لـ عشق وجاسم وهي تذرع الغرفة من ركنٍ لأخر بتوتر: الو عملت ايه؟ مُتأكد طيب تشتري نفس الفستان و تبعتهولي على البيت فورًا ومش عايزة تأخير سلام..
أغلقت الهاتف وقذفته من يدها وهي تعض شفتيها بقوة، أخذت تفرك يديها بتوتر وهي تكتم أنينها ورغبتها في الانتشاء، ازدردت ريقها بألم وهي تمسد جبينها بأنامل مرتجفة ورغبتها تتضاعف وتفقدها سيطرتها على أعصابها..

فتحت الخزانة بتحفز وهي تلهث باضطراب وحلق جاف، أخرجت شريط الحبوب المخدرة من أسفل الملابس وظلت تحدق به برغبة وتردد وهي تفكر في عواقب هذا، إن أخذت الآن مفعوله لن يزول سوى بعد إثنا عشر ساعة وهي تحتاج أن تكون مُستيقظة كي تُلقن عشق درسًا قاسيًا، ضعفت أمام رؤية الحبوب ولم تستطع السيطرة على رغبتها وضربت بعزيمتها على التوقف عن التعاطي عرض الحائط وأخرجت حبه صغيرة لكن انتفض جسدها وسقطت من يدها مع الشريط عِندما سمعت صوت قُصيّ يهتف بإسمها من الداخل..

وضعت يدها على قلبها المنتفض بقوة وهي تغلق عينيها، هدأت من روعها وهي تمسد محل قلبها بيد و تشد على أطراف شعرها بيدها الأخرى، تكز على أسنانها بقوة في محاولة مستميتة كي تسيطر على نفسها لكي لاتنفضح أمامه اليوم..
ـ جـنّـة هاتي فوطة، أعاد بحنق من الداخل.

أثارت النبرة حفيظتها، فتحت عينيها الراغبة، انحنت وأخذت الشريط تخفيه مكانه ثم أخذت منشفة من فوق أحد الرفوف وتحركت بـ آليه بعد أن إرتشفت كوب المياه كاملا من الظمأ الذي تشعر به..

طرقه تلتها طرقه فوق الباب، فتح ومدّ كفه المبلل لها ليجدها تضعها في يده وهي تدفع الباب بقدمها تريد الدخول، أخرج نصف رأسهُ التي تقطر مياه ودفعها من جبهتها بضجر وهو ينتزع المنشفة من يدها لتترنح إلى الخلف تزامنا مع سؤاله بتهكم استشفت بها سخرية: رايحة فين؟
حركت أهدابها بسرعة متعجبة ثم قالت ببساطة وهي تهز كتفيها: هدخل معاك مش عايز تتليف؟

نظر لها بقرف ثم هدر بمقتٍ شديد: امشي شوفي أنتِ رايحة فين امشي، وصفع الباب في وجهها في نهاية حديثة، جلست على طرف السرير وظلت ساكنة وهالة الهدوء تغلفها كأنها لم تتعرض لأي شيء مهين الآن، أتتها رسالة نصية، فتحتها لتبتسم بخبث ثم هرولت إلى الأسفل، فتحت الباب وأخذت الحقيبة التي وجدتها وصعدت بها إلى غُرفتها، أخفتها داخل الخزانة تزامنا مع خروج قُصيّ..

تفحصها بنظراتٍ متعجبة ثم سألها باستفهام: بتعملي ايه هنا؟
قالت بدلال وهي تقترب منهُ: بحضرلك البدلة..
تشدق بسخرية: كتر خيرك مش عايز شكرا
ابتسمت وساقيها تسوقها إليه، مررت أناملها فوق صدره المعضل العاري مراقبة خط المياه التي تتقطر من شعره في طريقها لصدره هامسة برغبة وعينيها تتجول مابين عينيه شفتيه بنظراتٍ حميمية: مفيش شكرا بين راجل ومراته، هاهي تستميله مجددًا تتودد إليه تذكره بأنها زوجته كي يقترب..

أمسك بكفها نازعًا إياه من فوق صدره ضاغطًا عليه بنفاذ صبر وهو يبتسم ابتسامة مبتسرة ثم هتف بهدوء وعلى مهل كي تفهم: جـنّـة افهمي بقي احنا مش هنرجع تاني زي الأول وأخرتنا الطلاق لكن في الوقت المناسب ولحد الوقت ده ياريت تبطلى الحركات دي، أنتِ عارفة أنك جميلة وأنا راجل معاكِ ولو حصل بينا حاجة مش هتحصل حُبًا فيكِ فاهمة؟ وفري مجهودك بقي و متتعبيش نفسك وابقي بدلي قمصان النوم بـ بيجامات عادي يعني أنتِ مش عروسة!، أنهي حديثة ببرود وأولاها ظهره وبدأ يخرج ملابس تحت نظراتها الجامدة والنيران تتأكلها حية من الشوق..

اماءت لنفسها بتفهم وهي تخفض رأسها وكلماته ترن داخل أذنيها، عاقدة يديها أمام صدرها تفكر بعمق، حدقت في ظهره قليلا ثم سألته بقلق: أنت مروحتش للدكتور!
أجاب بعدم اهتمام: لأ أروح ليه؟
صاحت بعصبية وهي تلوح بيدها: مش ملاحظ شكلك ولا مطنش روح للدكتور مش هسكت عليك أكتر من كده!
ضحك بسخرية وهو يستدير إليها سائلا ببرود: بجد! خايفة عليا..

أدمعت عينيها وهي تنظر إليه بعتاب، اقتربت واحتضنت وجهه بين يديها وهتفت بنبرة صادقة خرجت مرتعشة وهي تنظر داخل عينيه بحب: قُصيّ أنت بتقول ايه؟ انا معنديش أغلى مـ، صفع يديها بحدّة وهدر بغضب مُزِج بسأم من كثرة سماعه لهذا: متقوليش أغلى أنتِ انانيه ومش هتتغيري وابعدي عني بقي، ودفعها بعيدًا عنهُ وترك الغرفة ثائرًا ودمائه تغلي من الغضب..

مساءًا، في الفندق الذي يقام به الحفلة..
صاحت ريمة بغضب إلى الحارس الذي يمنعها من الدخول وهي تمسك بيد غرام: يعني ايه اسمي مش موجود عالقايمة أنت عارف أنا أخت مين دخلني لو سمحت وابعد عن الطريق..
ردّ عليها بنفاذ صبر وهو يتنحى جانبًا لبقية المدعوين: لو سمحتي يا آنسة امشي أنتِ مش هتخدلى متحاوليش..

اكفهر وجهها من فرط الغضب وهي ترشقه بنظراتٍ نارية فهي منذ نصف ساعة تقف أمامه كالطفلة تتوسل وهو بوهيمي لا يجعلها تمر فماذا سيحدث أن دخلت لن تفتعل المشكلات..
حاولت بيأس وهي تطلب برجاء: أرجوك دخلني أرجوك أنا مش هعمل مشاكل هي بس هتشوف مامتها ارجوك النهاردة عيد ميلادها..

زفر بغضب وقال بنفاذ صبر وهو يحدق بغرام العابسة: يا آنسة روحي احتفلي بيها بعيد دي أوامر اسمك موجود تدخلى مش موجود متدخليش ومش معاكِ الدعوة كمان اتفضلى بقي بدل ما اخليهم يشيلوكِ ويرموكِ بعيد..
ـ يرموا مين؟ ازاي تكلم أختي كده؟، استدارت بتفاجئ لتتسع عينيها حتى كادت تسقط من محجريها تزامنًا مع شهقة ذاهلة خرجت من بين شفتيها وهي ترى جاسم! جاسم؟!

أحاط خصرها بابتسامة حانية ليتبعثر كيانها ويقرع قلبها وهي تحملق به بفاه فاغر على مصراعيه لا تصدق أنهُ هو، أعطى الحارس الدعوة وهو يسألها باستنكار: ليه جيتي بدري كده..
رمشت بقوة قائلة بتلعثم غير قادرة على تكوين حرف واحد صحيح: أنـ، أنـ، انا، انا..

ضحك ملاطفا يتابع مسرحيته أمام الحارس الذي ينظر إليهم بشك: مش مهم اهم حاجة لقيتك اسبقيني انا لسه مستني عشق زي ما أنتِ عارفة، يلا، أومأت ببلاهة وهي تنظر لهُ مرة أخيرة ثم هرولت إلى الداخل وهي تسترجع قوله، عشق! هُنا هذا اليوم لن يمر مرور الكرام..

إبتسم بهدوء وهو يُراقب ظهرها الذي يبتعد بسرعة، تجر الطفلة خلفها كأنها تهرب من شيئًا ما، يتمنى ألا يكون أخطأ بمساعدتها، خرج من شروده على صوت رقيق فضولي ويدٍ ناعمه تترفق يده: مين دي؟
ابتسم بعشق وهو يسير بها إلى الداخل ثم همس بجانب أذنها: كانت محتاجة مُساعدة بس..

في منزل ليلى..
ذرعت غرفة الجلوس ذهابًا وجيئة وهي تلكم راحة يدها بقبضتها بغضب متوعدة له عِندما يصل هذا الـ، لا تجد لهُ وصفًا ذلك الكائن الصغير، صغير؟ هذا طفل بجسد بغل هذا هو عمّار، يُجب أن يأتي الآن نادين في الخارج تشتري بعض الأشياء ويجب أن تحادثه على انفراد قبل أن تعود نادين..

فتحت الباب بغضب كي تخرج تستنشق هواء نقي في الحديقة لتجده يقف أمامها يضع يديه في جيب بنطاله ينظر إليها ببرود دون أن يلقي التحية حتى، يبدو أنهُ وصل الآن..
نظرت له بشراسة ثم صاحت به بغضب: أنت مقولتش ليه انك هتيجي بليـ..
ـ مكنتش فاضي ووطي صوتك انا مش أطرش، قاطعها ببرود وهو يتحدث من أنفه بنبرة نافذة كانت جلية و لاحظتها بقوة، فهو لا يطيقها منذُ أمس..

نظرت لهُ بتمعن وهي تعقد يديها أمام صدرها، حركت شفتيها كي تتحدث لكن قاطعها سؤاله بعدم إهتمام ونزق: خير؟ معطلانى عن سفري عشان تتفرجي عليا؟
رفعت كلا حاجبيها وهي تحرك رأسها بخفه ثم قالت باستفزاز متعمد: عارف ان احلى حاجة ممكن أسمعها انك أخيرًا هتمشي بس قبل ما تمشي كلم نادين وقولها متسافرش، عشان مُصره واتخانقنا النهاردة..

اعتلي جانب شفتيه ابتسامة ساخرة غاضبة بسبب ثقتها الزائدة تلك، مسح وجهه بعصبية حتى أحمر فهو يوشك على صفعها يديه تحكه ويُريد أن يصفعها، هدأ نفسه ثم هدر بخشونة ورفضٍ قاطع: مبكلمش حد ولا هقول ولا هعيد بنتك عندك أنتِ حُرة فيها ولو صدف و اتكلمت معاها مش هقولها غير كلمتين اثنين بس، أنا هتجوز أمك ليه عشان انا بصراحة مش بحبك و استغليتك عشان أوصلها معنديش غير كده..

شحب وجهها وهي تحدق خلفه بصدمة وبعدم استيعاب تمتمت وهي تنظر إليه: عمّار، أنت، أنـ..
قاطعها بحدّة رغم تعجبه من حالة صدمتها لأنها تعرف كُل هذا سابقًا: انا فيا كُل العبر أنتِ عندك حق، وعشان اثبتلك أنا اول ما هشوف نادين هقولها مش بحبك وعمري ماحبيتـ..

انهمرت عبراتها بغزارة وصرخت به بانهيار وهي تضرب صدره بقبضتها كي يصمت: أسكت، أسكت، نادين، نادين هو بيهزر مش قصده، سقطت الحقيبة من يدها فوق العشب وهي تهز رأسها بصدمة، عائدة إلى الخلف بخطواتٍ مترنحة، توزع نظراتها عليهما بخذلان وركضت مبتعدة عن المنزل..
دفعته من أمامها وركضت خلفها وهي تصرخ باسمها بقوة وهي تبكِ، ركل أطار الباب بغضب وهو يلعن نفسه ثم التفت وركض خلفهما..

قطعت الطريق ركضًا وسط السيارات دون الإلتفات، دون أن تكترث بـ نداء والدتها التي تركض خلفها دون أن تنتبه إلى تلك السيارة المسرعة ناحيتها دون توقف..
صرخ باسمها بقوة وقلبه ينتفض داخله من الخوف: لــيــلــى
كادت تلتفت لكن صرخت بهلع وهي تشعر بمن يدفعها بقوة من وسط الطريق لتسقط بقسوة عقبها صوت ارتطام قوي..
تأوهت بألم وهي ترفع جسدها بوهن لتجحظ عينيها و تصرخ بذعر: عمّاااااار.

تااااابع ◄ 

أحدث أقدم

نموذج الاتصال