-->

ود البحر قصه مرعبه


 

يواظب خالد على اقتناء الصحف اليومية، يقلب في صفحاتها باحثاً عن خبرٍ جديد وغرائب تحدث في كل يوم. (كلاب وذئاب، أم حواء وضنب تملأ سماء الخرطوم)، عنوان بارز للصحفية الرصينة (آخر لحظة). يُشد انتباه خالد، ليقرأ تفاصيل الخبر بصوته الأجش على زملائه في الجامعة، حول موضوع يدور عن كلاب وذئاب برية جاءت من (أثيوبيا) عبر الحدود، تهاجم الأطفال والحيوانات ليلاً، أما (حواء أم ضنب) فتعني حواء التي لها ذيل، حكاية عن قبيلة أو قبائل سكنت غرب السودان، تمارس طقوساً ترتبط بالجن والعفاريت، فتتحول إلى مسوخ بأذناب، تعتدي على البشر ثأراً وانتقاماً.

لم تكن الجريدة هي المصدر الوحيد، في البحث الذي يشغل وقت (خالد)، ثمة أصدقاء وزملاء يشاركونه رحلته، على متن باخرة تمخر عباب نهر (النيل الأزرق)، وصولاً إلى الجنوب في (الفونج)، حينما استقرت بهم الباخرة في القرية النائية (يابوس)، على الحدود السودانية - الأثيوبية. كان مقصده في البحث، دراسة عادات وطبائع القبائل، وبيئتهم.

نسمات الهواء تفتح قريحة الأصدقاء؛ لقضاء ليلة على ضفة نهر (خور يابوس)، حيث المياه المنسابة تتدفق بسرعة من عمق الأراضي الأثيوبية، تغري بالمكوث وقضاء ليلة سمر. قهقهات ضحك تتعالى، مع دخان نار موقدة، تكوروا حولها؛ لتمنحهم الضوء والحماية من الدواب، التي تتواجد بكثرة على ضفاف نهر يابوس.

(علاف) سائق الباخرة، قبطان الرحلة، تعوّد أن ينام على الباخرة، هروباً من دواب اليابسة، وما قد يؤول إليه من مخاطر بعد منتصف الليل الساكن، خَبـِرْ المكان جيداً، وحذّر خالد ورفاقه من خطر اليابسة قرب جرف يابوس، وبيّن أن ما من مكان آمن لهم، سوى باخرة تعوم على سطح الماء. أخذ علاف أعلى المركب مستقراً له لينام بأمان، وهم ينظرون إليه مستغربين خوفه وكثرة احترازه من اليابسة، لم يكن ينصت إليهم وهم يتغامزون وينادون عليه :

   - هيه يا علاف... تعال يا رجل، سنحميك إذا ما هاجمك ضب هنا.

   يردف أحدهم قائلاً:

   - نحن كثرٌ، واحد منا يكفي ليشبع ضباً أو نمراً قد يهاجمنا؛ ريثما تهرب أنت ومن معك.

   يستمر ضحكهم ومناداتهم على علاف، وهو لا يرد بجواب يشفي فضولهم. كان نومه أهدأ من سكرة النهر وما يحيطه، بعد منتصف الليل.

   سكن الأصدقاء، غط بعضهم في نومٍ عميق. الهدوء يعم المكان، بدا القمر أكثر سطوعاً؛ بدراً يتوسط السماء، والنجوم مصابيح تتلألأ من حوله.

   تصاعد صوت جريان الماء، كأن شيئاً ما يلج منه، ظن خالد أنه أحد رفاقه انساب إلى النهر؛ لينتشي بالماء ويُذهب التعب عنه. نهض خالد، وبهدف المزحة تسلل خلال الشجيرات الصغيرات، محاولاً إخافة من ظنه انساب إلى النهر من رفاقه. توقف خالد في مكانه، وعيناه مفتوحتان على وسعهما، وهو يراقب مخلوقاً يخرج من وسط النهر، يتحرك صوب الضفة، منتصباً كإنسان يمشي على قدميه. كانت الرؤية واضحة، ما جعلت خالد يعود راكضاً الى أصدقائه، ينادي الصاحين منهم ويوقظ النائمين.

   اتجه بسرعة صوب حقيبته، فضها بارتباك، استل منها الكاميرا ليصور المشهد. ولكن سرعان ما هرب المخلوق، اختفى بين الأشجار المكتظـّة على الضفة الأخرى. هرع خالد ورفاقه إلى الباخرة وهم ينادون على علاف ليوصلهم إلى الضفة الأخرى من النهر، ليلحقوا بالمخلوق، ويتحققوا من أمره.

ما إن حطت أقدامهم على الضفة الأخرى، وبدأوا بتفقد المكان، حتى ظهر لهم حارس ببزة عسكرية رافعاً السلاح في وجوههم بحزم... أمرَهم بأن يعودو أدراجهم.
   وقفوا في أماكنهم مصغين لأمر الحارس، وهو يقول لهم بحزم وشدة :
   - اتركوه بسلام، فهو يتعايش معنا، يأكل النباتات والفواكه، وأحياناً يأكل السمك، لا يأكل البشر ولا يؤذي أحداً.

عادوا أدراجهم بهدوء تام، استلقوا على متن الباخرة حتى الصباح، كان علاف طيلة الوقت في صمت غريب، لم يتفوه بكلمة، بينما خالد ورفاقه تسودهم الدهشة. اقترب خالد من علاف محاولاً ان يستلّ منه بعض المعلومات، كون علاف من أهل ضواحي النيل الأزرق، ويعرف عن أسرار هذه المنطقة ما لا يعرفه القادمون إلى ضفاف النيل في الجنوب.

وقف علاف قرب سارية الباخرة الصغيرة، نظر بإسهاب إلى النهر أمامه، اقترب منه خالد بعد أن صعد إلى السارية، شرح الهواء نفسه، أطرب حفيف الشجيرات مسمعه، كأنه سمفونية تعزف أوتارها بانسجام تام، وقف خالد قرب علاف وسأله :

   - أشهـِدتَ ما شهـِدناه ليلة أمس؟ وكأنه كان حلماً !

   أجابه علاف وهو مدبر عنه، قرب السارية :

   - شهدت كل شيء، وحذرتكم قبل ذلك.

   -  وهل كنا نعقـِل وجود مخلوقات تعيش في الماء والبر؟ كان منتصباً يمشي على الماء، شيء عجيب! هل رأيته أنت ؟

  استدار علاف نحو خالد مبتسماً بملامح غريبة؛ تغير كل شيء في وجهه، بدا جلده كجلد تمساح، وعيناه واسعتان كعيني سمكة، نما له شاربان طويلان رفيعان، وكبر فمه. تجمد خالد من هول ما رآه، لم يستطع أن ينطق بكلمة، نظر علاف في عينيه وقال :

   - كل يوم أراه لأنه مني وأنا منه... نخافكم وتخافوننا.

   قفز علاف بسرعة إلى النهر، أغمي على خالد، لم يصحُ إلا وهو في ردهة الطوارئ، يهلوس ويصرخ:

   - علاف... علاف... علاف.