حلمى فى صفيحة قمامة الجزء 1
عندما تهبطين على |
لا تبدئي بالسلامْ |
فهمُ الآنَ يقتسمون صغاركِ |
فوق صحافِ الطعامْ |
بعد أن أشعلوا النارَ في العشِّ.. |
والقشِّ.. |
والسنبله.. |
وغداً يذبحونكِ.. بحثاً عن الكنز |
في الحوصله! للشاعرأمل دنقل |
فحصت الطفل الهامد الممدد على السرير أمامى، فى حيرة ممزوجة بالرعب..فلم أكن قد رأيت خلال فترة عملى بالمستشفى-و هى قصيرة-حالة بهذا السوء!
بالكاد اسمع -بالسماعة-نبض قلبه الواهن شبه النائم داخل قفصه الصدرى الذى يكسوه جلده الشاحب..فقد كان الولد-جلداً على عظم -بالمعنى الحرفي للكلمة!
يعانى من حالة مروعة من سوء التغذية..كأنه لم يأكل منذ عام!
و الأسوء تلك الجروح الغائرة على معصميه،و كاحله الأيسر!
"هو كويس يا دكتور؟..طمني الله يخليك!"
سألت السيدة شاحبة الوجه محمرة العينين،التى أحضرت الطفل:
-أنتى أمه؟!
سألتها فى شك ،و قد بدأت أظن أنها خطفت هذا الطفل من أهله..لتستغله فى التسول..لكننى فوجئت بها تقول بحرقة :
- أيوا..أنا أمه!..ريحنى ربنا يسترك ،هو هيعيش!
قلت بغير ثقة:
- إن شاء الله!..بس ممكن اعرف أيه اللى عمل فيه كده؟!..و أيه الحز إللى على أيده و رجله ده؟!
قالت المرأة في تعاسة:
- أصل هو بقى له أسبوع مكالش، و لا حط لقمة فى بقه!
" واضح!"قلت فى عدائية واضحة ، و قد بدأت افكر فى أن هذه المرأة لو كانت أم الطفل-كما تزعم -لما تركته يصل إلى هذا الحال المفزع!
أكملت المرأة التى لم تلاحظ ارتيابى فيها
- هو رافض ياكل حاجه من ساعة ما ربطته عشان ما يخرجش!
سألتها فى تحفز:
- ربطتيه؟!..ربطتيه بأيه مقطّع أيداه و رجله بالشكل ده؟!حرام عليك يا ستى..ليه كده؟!
ردت السيدة فى تعب:
- مانا غلبت فيه يا دكتور ..و مش عارفة أعمل معه أيه عشان يبطل ضرب!
نظرت للطفل ذى الثمان سنوات،قبل أن أسأل فى حيرة:
- و هو عشان بيضرب أخواته،تعذيبه بالشكل ده؟
اتسعت عينا المرأة فى دهشة ،و هى تنظر لى فى إستغراب-كأنها ترى مخلوقاً فضائياً-:
- أخواته أيه يا دكتور ؟!..بقولك بيضرب كيميا!.. يعنى بياخد برشام!
-.............................!
***********************************
مدت"نادين"يدها لى بالساندويش قائلة:
- تفطر معايا؟
- لأ ..شكراً مش هأقدر.
قضمت"نادين"قضمة كبيرة من ساندويتشها،و قالت و هى تمضغها:
- ليه؟..أنت أفطرت من غيرى؟
- و لا أتعشيت أمبارح!
سألتنى مداعبة بهتاف مرح:
- ليه يا"جوجو"بس!..كده هتخس..و انا بحب الرجالة المتختخين!
- و انا مش فايق للهزار على فكرة!
ردت"نادين"بابتسامة مندهشة:
- و بتقلوا البنات نكديه!..أنا جايه أفطر معك،و أنا لسه طالعه من العمليات..و كنت مع د."وليد "بقالى ست ساعات واقفه على رجلي و أنت اللى مش فايق؟!..
- تعبان شوية يا"نادين"!
- تعبان مالك يعنى؟!
- يعني..مرهق شويه..ضهرى كمان بقاله كام يوم هيموتنى!
سألت فى مشاكسة:
- جربت تروح للدكتور؟
ابتسمت رغماً عني حين تذكرت أننا نعمل فى مستشفى..و مع ذلك لم يخطر ببالى أن أحصل على فحص..حقاً إن الأطباء هم أسوء المرضى طرا!
- متكبريش الموضوع..ده مجرد إرهاق..عادى..اللى مش عادى الحاله اللى فحصتها النهارده..حالة طفل عندى تمن سنين..أسوء
حالة سوء تغذية شوفتها فى حياتى..و الأسوء كمان إنه addict!
- يا سكر!..و ده مدمن أيه إن شاء الله؟!..مدمن عسليه؟!
سألت"نادين"فى إسخفاف..فأجبت و أنا أتأمل وجهها لطيف القسمات :
- لأ..مدمن تارامادول.
- تارامادول؟!..أزاى يعنى؟
هززت كتفى بمعنى أننى لا أعرف..و سألتها محاولاً تتغير هذا الموضوع الكئيب:
- خلصتي الshiftا بتاعك؟
- آه خلاص مروّحه..أنا الshiftا بتاعى خلصان من زمان..هتوصلنى؟
- للأسف لأ..لسه بدأ الshiftا بتاعى من ساعتين..لما توصلى البيت أبقى طمنينى.
قالت فى مشاغبة:
- لأ!
نظرت لها فى عجب:
- لأ؟..بالله عليك يا"نادين"تتصلى تطمننى..بلاش قلق..يا ريتك أشتغلت فى المستشفى التانيه..كنت هابقى مطمن عليك أكتر.
أخرجت تفاحة و مدّتها لى فى عرض صامت، فتناولتها شاكراً..قبل أن تخرج أخرى،وتقضم منها قضمة قبل أن تقول:
- هنا أقرب!
استحضرت منظر الشوارع المحيطة بالمستشفى..بما فيها قمامة و كلاب ضالة،و بلطجية لا يقلون شراسة عن الكلاب،و قلت:
- لكن هناك أنضف!
قالت"نادين"ممازحة-رغم أنها تفهم قصدى-:
- ليه؟..دا حتى أم"جميلة" لسه ماسحه المستشفى كلها بالفينيك!
قلت متجاهلاً الرد على مزحتها:
-"نادين"..هتتصلى؟
- لأ..مش أنت مش عاوز توصلنى؟.. خليك قلقان!
سألتها ساخطاً:
- هى مستشفى اللى خلفونى يا بنتى؟!..طب خلاص..أنا هبقى أتصل..بس أبقى ردى..و سلميلى على ماما.
تبسمت ضاحكة،وقالت فى مشاكسة:
- لأ برضو!
********************************************************
"دكتور"نعمان"..ممكن لحظه يا دكتور؟"هتفت منادياً دكتور"نعمان"..و هو واحداً من أهم أطباء الباطنة فى المستشفى العام الذى أعمل فيه منذ بضعة أشهر
التفت..و قد تهلل وجهه بالبشر حين رأنى.. صافحنى فى مودة،و هو يهتف:
- أهلاً يا دكتور"مجد"..أيه الأخبار؟تمام؟
أحمر وجهى خجلاً و فخراً-فى نفس الوقت-..من كلمة "دكتور"التى قالها لى ..كأنما قلدنى وساماً ، و غمغمت بصوت مبحوح من فرط الرهبة..فقد كنت أقدر الرجل جداً،و أعتبره أستاذي
- الحمد لله يا دكتور..حضرتك كنت قلت لى إن لو عندى سؤال، أو أستفسار..أقدر أطلب مساعدة حضرتك..
- طبعاً..قول اللى أنت عاوزه من غير مقدمات..مالك مرتبك ليه؟ثم أضاف بإبتسامة مشجعة:
-أنا مكنتش واخد بالى فى الأول..بس برافو إنك بدأت دايت..كدا أحسن كتير.
سألته بدهشة:
- دايت أيه يا دكتور؟..أنا معملتش دايت و لا حاجه!
أرتفع حاجبه فى إستغراب و قال متعجباً بعد برهة:
- معقولة!..شكلك خاسس أكتر من سته كيلو عن ساعة ما شفتك أخر مرة.
لم يكن قد رانى منذ شهور-لا أدرى-أربعة أو خمسة..لهذا لم أقلق..من الممكن أن أفقد بعض الوزن خلال هذه المدة ..خاصة مع نظام حياتى المقلوب رأساً على عقب..
قلت له ضاحكاً:
- حضرتك بقالى قريب من شهرين فالطوارئ..و ما أدراك بالطوارئ!..maximum تلت اربعتيام و أضطر أعمل أختراق ضاحية!..once المريض مات..أهله ينتقموا مننا أحنا كأننا اللى قتلناه!..و الله يا دكتور من ساعة ما أشتغلت الشغلانه ده.. باجرى جرى ما يجريهوش كلب!
هز رأسه ،و هو يتنهد..قال فى ضيق:
- ناس mentally retarded!..لعلمك مش بس دكاترة الطوارئ اللى بيضربوا..لأ..و بيضروا دكاترة العناية و الإسعاف كمان!
أستدركت بسرعة:
-يلا الحمد لله!.. المهم يا دكتور..كنت عاوز أستفسر عن حالة الطفل اللى جه أمبارح..هوا عندهmalnutrition و severe anemia..ممكن أعرف برتوكول العلاج بتاعه.
- عادى..هوا بياخد محلول مغذى و حقن "....."و لما حالته تتحسن هيخرج..أعتقد خلال كام يوم هيكون تمام.
قلت بسرعة:
- فيه حاجه كمان يا دكتور.. الولد بياخد drugs من الopium derivatives..ترامادول على الأرجح..ده هيغير حاجه فى خطة العلاج؟
هرش ذقنه الحليق مفكراً..قبل أن يجيب بسؤال:
- و المفروض حاجه زى دى هتغير أيه فى خطة العلاج؟
- يعنى مش هيقعد وقت أطول فى المستشفى؟..ممكن ده يسعده على العلاج من الإدمان.
تغيرت ملامح وجهه فجأة،و قال فى جفاء:
- دى مش مصحة علاج إدمان يا"مجد"..كل اللى مطلوب مننا أننا نعالجه من الmalnutrition..بعد كده هو حر.. ياخد ترامادول،يشرب دي دي تي مش قصتنا!
فاجأنى أسلوبه العدوانى..،فصمت مذهولاً،و لم أستطع التفوه بحرف..حتى أننى أجفلت، حين ربت بكفه على كتفى و قال بلهجة أبوية:
- أنت شاب ذكى..و هتبقى دكتور ممتاز..عيبك الوحيد..إنك عاطفى بزيادة..أحياناً بتكون محتاج شوية قسوة علشان تقدر تاخد القرار الصح..فى الوقت المناسب..فاهمنى يا ابنى.
هززت رأسى مؤمناً على كلامه لكن فى غير اقتناع..فأضاف مبتسماً:
- و بالمناسبة الولد اللى بتتكلم عنه- تقريباً-اتخطى الفترة الحرجة..يعنى قرب يعدى فترة الأنسحاب اللى هى أصعب فترة فى علاج الأدمان..و نصيحه منى تسيبك منه و تركز فى شغلك!..أتفقنا.
***
رن جرس هاتفى المحمول،و كانت"نادين" المتصلة..وضعت السماعات المتصلة بالمحمول فى أذنى و قلت لها فى لوم:
- لسه فاكره تتصلى دلوقتّ!
سمعت من الطرف صوتاً غليظاً و به بحة غريبة يقول:
- أنا مش خطيبتك..أنا المعلم "كنكه" اللى خطفتها و عايزه..قصدى عايز فديه ..عشان أرجعها.
- "كنكه"؟!..طب أشربها بقى يا معلم "كنكه"..عشان مش عاوزها!
كانت"نادين"هى المتصلة..و قد عرفت صوتها على الفور-رغم أنها حاولت تغييره-لكننى جاريتها بينما كنت فى المطبخ أبحث عن شئ يصلح لغلى الماء:
- طب أنت يرضيك يا معلم"كنكه"؟..بتصل بيها من الساعه عشرة الصبح..أتصلت بيها أكتر من عشرين مرة ..و برضو متردش!..ده كلام؟ ولا دى عمايل؟!
ردت بصوتها الطبيعى:
- مش عشرين مره و لا حاجة!..دا هما تمنتاشر رنه بس!
- يعنى تمنتاشر رنه و عداهم كمان؟!..أمال مردتيش ليه يا بارده؟!
وضعت كوب ماء فى البراد ،و وضعته على النار بينما تجيب"نادين"فى تكاسل:
- مانا أتغظت منك عشان سبتنى أروح لوحدى..كان عندى حكاية عايزه أحكيهالك!
- بتعاقبينى يعنى؟..
- أصلك حنبلي أوى!..فيها أيه يعنى لو زوغت نص ساعة عشانى؟..مكانتش الدنيا هتتهد!..المستشفى مليانه دكاتره.
أستغربت منطقها الطفولى..لكننى قلت بصبر:
- و مليانه عيانين!..ده كويس أنى عرفت أتكلم معاكى كلمتين..طول الوقت حوادث و عيانين حالاتهم حرجه..عايزانى أسيب كل ده و أروح أوصلك !
قلّبت النسكافيه بالملعقة داخل الكوب-من أجل الحصول على بعض الفوم-و سألتها ممازحاً:
- بس أيه التمثيل الزباله ده؟
سألت فى جزع كأنما تفاجئت:
- وحش!
- زفت..حاجه ضعيفه أوى يا عبد الرسول يعنى.
سألت بصوت ضاحك:
-"عبد الرسول"مين؟!
- هاقولك بعدين!..حد ميعرفش "عبد الرسول"؟!..يا بنتى المخبر اللى....
هتفت فى فهم و قد تذكرت:
- أه..أه أفتكرته..ثم أستدركت سائلة:
- أنما أيه اللى مسهرك لحد دلوقت؟الساعة أتنين صباحاً..أيه؟.. بتفكر فى اللى ناسيك؟
- لأ..بفكر فى "حلمى".
قالت فى تهريج:
- فيا أنا يعنى؟..و لا بتفكر فى حلم الدكتور؟..الأربعه عين و لا الخمسه عين؟
- الأربعه أيه؟!
سألتها مستغرباً بينما أصب الماء الساخن على النسكافيه
قالت فى شرح:
- بيقولوا أول ما الدكتور يتخرج من الجامعه،يبتدى يفكر فى الأربعه عين..عيادة ..عربيه ..عروسه..و الرابعه كانت عماره باين!
قلت ساخراً:
- أو عزبه مثلاً!
- ممكن.. ليه لأ؟
- لأ يا ستى ..كنت بفكر فى"حلمى"الولد الصغير اللى حكيتلك عليه.
- أه يا حرام..و ده هتعمل معاه أيه؟
صمت لحظه أفكر فى سؤالها الذى لم أطرحه على نفسى بعد..ونفخت فى ضيق ثم قلت ببطء:
- و لا حاجه..هوا مع د/"نعمان"و هوا هيعمل اللازم..و قال لى مليش دعوه بالموضوع!
سألت"نادين"باستغراب:
- أيه زعقلك؟!
- لا أبداً..نصحنى إنى أركز فى الشغل..بس اللى فهمته من كلامه،إن "حلمى"هيخرج من المستشفى يوم الأربع..مع أحتمال إنه يرجع للبرشام..يعنى هوا و حظه ..ياعاش يامات!
- و طبعاً معجبكش الكلام؟
صمت فى حيرة لا أجد ما أقول..و شعرت بغصه أليمة فى حلقى ..أبتلعتها ببعض النسكافيه
أضافت"نادين":
- د/"نعمان" مهتم بيك،و حاسس أنك خامه كويسه...
قاطعتها بضيق ،وقد ظننتها ستكرر نفس ما قاله الدكتور"نعمان:
- عارف يا"نادين"..هحاول أتفرج و انا ساكت!
هتفت"نادين" فى دهشة:
- و هتسيب"حلمى"؟!..يعنى مفيش حاجه نقدر نساعده بيها؟
و مرة أخرى أستغربت سؤالها.و لم أدر أتتحدث صدقاً،أم تسخر منى...فما دام"حلمى"فى نفس الوسط و الظروف التى دفعته للإدمان،فسيعود إليه بسهولة-و بمجرد عودته إلى الشارع-فعملياً ليس بوسعنا عمل أى شئ فى هذه الحالة..الحل الوحيد هو تغير بيئته أو ظروفه..كأن يوضع فى دار رعاية مثلاً.
ساد الصمت برهة.قبل أن تسأل "نادين":
- و أنت هتعمل ايه دلوقتي يا"مجد"؟
قلت فى إحباط:- هاعمل نسكافيه!..اعملك كوبايا؟
- نسكافيه ؟! أنت بتهزر..صح؟
- لأ والله..عامل نسكافيه بجد..هذاكر شويه..و بعدين هاخد دوش و أنام لغاية الضهر..
- طيب تصبح خير .
- و أنتى من أهل الخير.
و قبل أن أغلق الخط..استدركت"نادين"بسرعة:
- آ.."مجد"..عارف أيه اللي محيرنى؟.. أيه اللي ممكن يخلي ولد صغير فى سن"حلمى"يبقى مدمن؟!.. حاجه غريبه اوي الصراحه!
و وجدتنى اسرح مع سؤالها.. فلم أكن أعلم..كيف أدمن ؟لكن فيما بعد أخبرتنى أمه بالقصة كلها ..مرت دقيقة دون أن يغلق أياً منا الخط..
- طيب ممكن نتكلم كمان ربع ساعة!
قلتها ل"نادين"و قد بدأت أشعر بالوحدة منذ قررت إنهاء المكالمة..ردت فى دلال:
- و بعدين ترجع تقول لي عطلتينى عن المذاكرة!
قلت نافياَ فى لهفة:
- عمرى!..يلا بقى أحكى..كنت عاوزة تقولى أيه و أحنا مروّحين؟!
ردت فى مشاكسة:
- لأ.. أبقى أحكيلك فى تزويغة بكرة!
قات مازجاً:
- خلي بالك.. أنتى كده بتضطرينى أني بكرة..مازوغش برضه!
ضحكت قبل أن تقول برقة :
- لأ أحسن أسيبك تذاكر يا دكتور.. كدت أشكرها على إهتمامها بمصلحتى -رغم اللوم-الذى يفوح من مقاطع كلمة دكتور..كما تفوح عينات التشريح برائحة الفورمالين .. لو ما أضافت-بمنتهى الرومانسية-:
-أنا كمان عندى مذاكرة..فاكر لما رغينا المره اللى فاتت فى التليفون و ضيعنا الوقت قبل إمتحان الORAL..قعدت بعدها يومين أضرب نفسى بالجزمه !
*******************************************
" يا حبيبى..كبرت قبل الأوان يا ضنايا"قالتها أم"حلمى"لطفلها الذى بالكاد تجاوز السابعة..عندما نقدها أول أجرة حصل عليها من عمله ..و قلبها يتنازعه شعورين متباينين..فقد كانت تشعر بالسعادة لأن ابنها قد صار رجلاً يعتمد عليه خاصة بعد وفاة زوجها-أبو"حلمى"،و فى نفس الوقت أعتصر قلبها الأسى على صغيرها الذى "شال "الهم قبل الأوان..و طفرت الدموع من عينيها..و هى ترمق عوده الناحل المتصالب،بكبريائه الطفولية..فإحتوته بين ذراعيها بحنو..و أنخرطت فى بكاء حار..فمد"حلمى"الصغير أصابعه السمراء الدقيقة..ليمسح دموع أمه التى نزلت تكوى وجنتيها..فلم تكن تنقطع عن البكاء حزناً على موت أبيه،متأثراً بمرضه العضال.
قال له الصبى لائماً و الدمع يغزو عينيه:
- بتعيطى ليه ياما دلوقت؟..متشليش هم الدنيا ياما..أنتى خلفتى راجل.
ضمته أكثر حتى لتوشك أن تخفيه داخل ضلوعها حدباً عليه و خوفاً ..و هطلت دموعها مدراراً،و هى تقول بإعجاب و صوت مبحوح من فرط التأثر و الألم:
- يا حبيبى!..راجل يا"حلمى"و سيد الرجالة كمان.
ربتت على رأسه و هو يبلل كتفها بدموعه،و هو يقول برجولة مبكرة:
- من هنا و رايح مش عايزك تشتغلى..لا انت و لا "فاطمة"مش عاوزكوا تتبهدلوا.
أرسلته أمه و هى ماتزال تحيط خصره الضامر بكفيها،و قالت مستصعبة قوله:
- حمل تقيل عليك يا ابنى يا حبيبى..داحنا سته..أنا و أنت،و"محروس"و التلات بنات..و شغلى أنا"فاطمة"يساعد..حتى يمكن نعرف نعّلم الواد..بلاش البنات.
و لم تكد تكمل كلامها،حتى أعتصر الألم قلبها بكف جبار..و تذكرت أبو"حلمى"حين سماه..قال لها فى أمل،و بسمة تضئ وجهه بالبشر..حلمى الواد ده يتعلم..و يبقى حاجه كبيره أوى!
لكنه لم يخطو داخل المدرسة بقدميه..و لن يدخلها أبداً..بعدما مات أبيه..و ذهب هو ليعمل من أجل قوت اليوم!
و تنهدت فى حسرة..و قالت تواسي نفسها:
- يعنى هما اللى دخلوا المدارس كانوا فلحوا يعنى!
و فكرت فى نفسها أنه من الأنسب أن تترك"فاطمة"و"شهندة"المدرسة..فقد أخبرها المدرسين أن الكراسي التى تجلسان عليها تفهم أكثر منهما!
"طبعاً!..و هوا انت عندك غير"حلمى"حبيب القلب" قالتها"فاطمة"التى جاءت بالفول و المخلل من أجل الغداء مدراية غيرتها بابتسامة
فزجرتها أمها بضيق:
- بس يا بت الجزمة!.."حلمى"بقى راجل البيت بعد أبوك الله يرحمه.
قالت"فاطمة"بغيط:
- راجل عنده سبع سنين!
هتفت أمها بإنفعال:
- سيدك و سيد أبوك يا بت ال.....و اسكتى بدل ما اقوم اديكى شبشبين على بُقك المفتوح زى البكبورت ده..يلا حطى الأكل و نادى أخواتك..عشان ناكل لقمة و نروح نغسل سجاد الست أم"سماح".
هتفت البنت معاندة:
- روحى لوحدك ياختى..أنا حالى مهدود من امبارح..و لا خدى الراجل بتاعك معاكى!
- حاضر..هاخدو بعد ما اخد روحك إن شاء الله يا بت ال....
قالتها أم"حلمى"و هى تهجم على ابنتها الكبرى ذات السنوات العشر لتصفعها بما يعتمل فى صدرها من غل و كبت،و أرادت أن تضربها مجدداً..فأمسك"حلمى يدها،و هو يهتف متوسلاً
-خلاص ياما و النبى.!
- معوجه على أيه يا بنت ال....قال على رأى المثل..أدلعى يا عوجه فى السنين السوده!هتفت أمها وهى تهجم عليها مرة أخرى مصرّة على ضربها..لكنّ"حلمى"حال بينها و بين مبتغاها..و هو يحمى أخته الكبرى بجسد الضئيل متوسلاً:
- سايق عليك النبى..و حياة عضم التربه ما تضربيها!..دا أبوها كان روحه فيها الله يرحمه..و مكنش يقولها غير يا"بطة"و يا حبيبة أبوكى.
أحتضنته الطفلة الباكية فى امتنان..بينما زعقت أمها:
- شوفتى يا سودا يا بنت الواطية!و الله لولا أخوكى..أنا كنت أكلتك باسنانى!
****************
تخطت أم"حلمى".. أجساد اطفالها النائمين..محاذرة ان تدوس فوق أحدهم..و وقفت تنظر من باب عشتها الموارب على الزقاق المظلم فى قلق.. فقد تأخر"حلمى"أكثر من المعتاد..صحيح أنه أصبح يتأخر-فى الأونة الأخيرة-لكن لم يحدث أن تأخر كل هذا الوقت!
عضت على شفتها فى عجز..لا تدرى ألى أين تذهب..و لا كيف تتصرف.. و لامت نفسها على أنها تركته يخرج ..ثم فكرت أنها ما يجب أن تتركه يعمل و هو بعد طفل..لقد تغير كثيراً منذ ذلك الحين!
لكن ماذا كان بوسعها أن تفعل؟لقد وافقت تحت ضغط الحاجة ..الآن هى لا تدرى كيف تتصرف،و قد وقر فى نفسها أن صغيرها فى مأزق كبير!
- ليه يا"حلمى"؟..ليه يا ابنى تقلقنى عليك كده بس؟!تمتمت بصوت خفيض تحدث نفسها..ثم استدركت
ليه يا ربى كده؟!بعد ما قلت ربنا صلح الحال!
..فقد مرت الأيام و الشهور و"حلمى"يعمل بجد ،و إجتهاد ليساعدها فى نفقة أشقائه و نفقة البيت..حتى ضاعف أجرته..بل و كان أحياناً يحضر بعض الأغراض الصالحة للأستعمال مثل الأحذية ،و الملابس المستعملة..فهو يعمل فى فرز القمامة،و كان كلما وجد ملعقة أو طبقاً أو فرشاة شعر أو أسنان..أحضرها لعشتهم المتواضعة ليستعملوها..و كانت هى سعيدة..بل و نجرؤ أن نقول مرتاحة البال أيضاً..و قد أطمئنت لأن"حلمى سيكون سنداً لأخواته-خاصة أخواته البنات..و خير معين لأخيه على مصائب الدهر..
لكن سرعان ما تغيرت الأحوال!..فقد تغير"حلمى"كثيراً..لم يعد يهتم بشئ..حتى أنها كسرت عصا المكنسة على ظهر"شهندة"أخته التى تكبره بعام واحد-و كان حاضراً-وقتها..لم يحاول منعها،بل و لم يسألها حتى لما فعلت ذلك!
و عندما جاء من عمله ذات يوم،و وجد أخيه"محروس"متورم الوجه و الرأس-بعد أن ضربته أمه بالشبشب-لم يبدو منزعجاً من شئ سوى أنه-أخوه-يبكى بصوت عال،و يمنعه من النوم!
كم تغيرت يا"حلمى"!..لا لم يتغير فقط ..لقد تبدّل!
أزداد جسده سمرة و نحولاً ..حتى أنه لم يعد يأكل أو ينام!..
هى تشعر به كل ليلة، و هو يتململ فى مرقده-حتى أنه-أحياناً كان يخرج ليلاً من العشة..و هو بلباسه الداخلي الممزق-لا يبلى- بالبرد..
كأنما إنعدم منه الأحساس فجأة أو كأن به مس من الجان!
"- هوا "حلمى" فين ياما؟!"سألت"فاطمة"فى قلق..عندما أستيقظت لتشرب فلم تجد أخيها نائماً إلى جوارها..فصرخت أمها بأعصاب منفلته:
- أنا أيش عرفنى؟..ربنا يقطع"حلمى"..على اليوم اللى خلفت فيه"حلمى"...ربنا ياخدنى من وشكوا يا شيخة ،عشان استريح!
اخذت"كوكب"ذات الثلاث سنوات تفرك عنيها وتبكى..و قد استيقظت فزعة على صوت صريخ أمها..فصاحت فيها"فاطمة":
-بس يا بت يا "نونا"..نامى!
فنامت الصغيرة على الفور..بينما وضعت أم"حلمى"على رأسها طرحة..و ذهبت لتبحث عن"حلمى..سألته"فاطمة":
- رايحه فين ياما دلوقت؟
- رايحه أدور على أخوكى..خلى بالك من اخواتك على ما أرجع.
البحث عن "حلمى"
"مالك يا أم"بيجو"ياختى؟زعلانه ليه يا حبيبتى؟!
سألت أم"إسماعيل"جارتها أم"بهجت"التى أجابتها فى غم:
- متقوليليش يا أم الزفت..قُطع و قطعت سيرته!..دا ضارب أخته مكسر عضمها..أهى نايمه مدغدغه.. مش قادره تقوم تروح الشغل.
و لوحّت بيديها فى الهواء..و هى تهتف فى إنفعال:
- دا هى اللى بتصرف على البيت..و بتصرف عليه هو كمان البغل!..يبقى يورينى هيجيب طفح منين يطفحه..الموكوس أبن الموكوسه!
هتفت أم"إسماعيل" فى ذكاء:
- عشان كده كانت بتصرخ!
هتفت أم"بهجت"الشهير ب"بيجو"فى إستنكار:
- شوف الوليه ال......!..يعنى سامعه صريخ البت ومجتيش تحوشي يا مره ؟!
هتفت أم"إسماعيل"فى تساهل:
- ياختى يا أم"بيجو"..يعنى هوا ابنك بيكبر لحد؟..أديكي أنت أمه و معرفتيش تحوشيه....
و بترت كلامها بغتة،قبل أن تسأل بدهشه و هى تشير بأصبعها نحو أم"حلمى":
- مش دى أم"بطة"؟..مالها ماشيه معمية كده؟!
جاوبتها أم"بيجو"فى قلق:
- أه والله دا هى!..يا أم بطة..يا بت يا أم"حلمى"!
سمعت أم"حلمى"أسمه فألتفت نحو مصدر الصوت فى إضطراب..و ما أن رأت وجه محدثتها حتى سألتها فى لهفة:
- هوا"بيجو"قاعد يا خالتى؟
-ألهى يعقد مكسّر..لأ غار بعد ما دغ البت"سياده"العلقة زى عوايده..داهيه تجحمه مطرح ماهو قاعد..ثم رفعت ذراعيها تجاه السماء فى ضراعة،و هى تدعو عليه:
-ألهى يجيني خبرك يا"بيجو"من بره ،قادر يا كريم!
قالت أم"إسماعيل"بسرعة و هى تمسك بذراع صاحبتها لتمنعها من الإسترسال:
- استنى بس يا أم"بيجو"..لما نعرف ياختى أيه الحكايه..أيه اللى حصل يا أم"بطة"؟حد من العيال جراله حاجه؟
هتفت أم"حلمى"فى لوعة، و جرت دمعة سريعة على وجنتها:
- الواد"حلمى"لسه مرجعش من أمبارح!
هتفت أم"بيجو"بدهشة مستنكرة:
- يالهوى يا"تهانى"!..الواد بايت بره من أمبارح يا مايله؟! دا أنا أبنى "بيجو" الصايع الضايع عمره ما بات بره البيت..غير بعد ما أتلم على العيال البرشامجيه.
"- ماتقطمنيش يا خالتى و النبى..أنا مش ناقصه،و اللى فيا مكفينى ..و كنت عايزه"بيجو يدور معايا على الوله..أنا رايحه أدور عليه لوحدى!" زعقت أم"حلمى"فى غضب،و قد عيل صبرها،فربتت أم"إسماعيل" على صدرها مهدئة،و هى تقول:
-أستنى بس،و هدى نفسك يا بنتى.."بيجو"أيه ده اللى هيجيبلك أبنك؟ ..دا اللى"بيجو"يعرف طريقه ..يبقى الله يعوض عليه!..أنا هصحيلك"سمعه"يدورلك عليه، هو و"عبده".
********
"ألو..أيوه يا"نادين"..روّحت.. أهو طالع على السلم"قلتها ل"نادين"على الهاتف قبل أن تٍسأل:
- ليه طالع على السلم؟..أمال فين الأسانسير؟!
- راح مشوار بس هيطّول!..عطلان طبعاً كالعادة..عموماً هانت قربت أوصل الرابع .
ثم سألتها مداعباً :
-أيه رأيك فى شقتك يا عروسه؟
ردت فى تخابث:
- تقصد شقة مامتك.
قلت فى ضيق أنا أفتح باب الشقة:
- شقتنا يا"نادين"..أحنا أتفقنا على أننا هنقعد مع ماما!
ردت"نادين"بسرعة:
-ماشى يا أسطى ..مالك متعصب كده ليه؟
ثم أضافت مقلدة الفنان"عبد الفتاح القصري":
- و بعدين أن أديت كلمة،و لا ممكن أرجع فى كلمتى أبداً!
ألقيت الحقيبة على أقرب كرسي جوار الباب..قائلاً:
- و لّا ترجعى!... It's all I can do.
- مالك nervous أوى كده النهارده؟
- مش عصبى و لا حاجه..ضغط الشغل بس..بقالى أتناشر ساعة واقف فى أستقبال الطوارئ من الساعة تمانيه بالليل لتمانيه الصبح.
سألت فى دهشة:
- أتناشر ساعة أزاى يا بنى؟.. shiftالطوارئ ست ساعات بس!
ألقيت نفسي لأجلس على طرف الفراش،وخلعت النظارة،و فردة الحذاء اليمني قائلاً فى أستغراب مماثل:
- مش عارف..مستشفى بايظه!كان المفروض أخلص،و أطلع على المستشفى التانيه..لكن أول ما خلصت أول shift لقيتهم بينادوا أسمى فى الintercom عشان يبلغونى أن عندى shift تانى..قلتها و خلعت فردة الحذاء الأخرى،و ارتميت على السرير
- و أكيد قضيت الأتناشر ساعه واقف على رجلك!......
-"مجد"..يا"مجد"..أنت نمت و لا أيه؟!
أنتبهت على صوتها ..فتحت عينى بصعوبة..و قلت نافياً:
- لأ صاحى!
كنت بسألك مبدلتش مع زميلك ليه و نمت شويه؟!
- لأ ما هى كانت Literally ليله زرقا..بدأت بحادثة ميكروباص..قضيناها جرى على العناية..و على نص الليل جه واحد واقع من على السقاله-مش عارف بيبنوا أيه-فى الوقت ده!..ده كان عنده fracture base of skull،و تقريباً وصل المستشفى ميت دخل عالتلاجة عالطول ما تعبناش!..قبل الفجر بشويه واحد فرقع فى وشه موقد بريموس ،وختمت بحالة arrest على الساعه سبعه الصبح
- دلوقتي طبعاً رايح تنام.
-انا نايم أصلاً، و باكلمك من على السرير..تصدقي مش قادر حتى اقوم اغير هدومى!.. أنتى فين دلوقت؟!
- لسه واصله المستشفى من نص ساعه.
- يعني وقت ما روحت أنتى جيتى. .يا خوفى يا"بدران"نفضل على كده ،حتى بعد الجواز ..و اقبلك صدفه فى الصاله..و لا فى الطرقه اللى قدام الحمام!..."نادين" .."نادين" ؟!
لم ترد.. نظرت لشاشة الهاتف فوجدته قد فرغ شحنه..يجب أن اضعه على الشاحن... لكنني لا اتذكر أين وضعته .. حاولت النهوض للبحث عنه..فلم أستطع.. فيما بعد عندما استيقظ،يمكننى تشغيله ومعاودة الأتصال بها
..لكن ربما اتصلوا من المستشفى لأى سبب..لا يهم..هؤلاء بالذات يستحسن ألا يجدونى..
يبدو أنهم اشترونى من سوق عكاظ.. لكنني لا أذكر متى!
لابد أن النخاس قد وقف يومها و هو يمسكنى من عضدى العاري ينادي -وهو ادرى بادعاءه:
- إن هذا العبد القوقازى نطاسي بارع.. يستطيع أن يعمل٢٤ساعه فى قسم الطوارئ بلا كلل أو ملل..فاشترانى د/"عشماوى"مدير المستشفى بدرهمين!
وأخذ وعي يذوب كالآيس كريم خارج المجمد فى منتصف يوليو،و تحول السرير فجأة إلى لجة عميقة من المياه.. سقطت فيها غارقاً فى نوم يشبه الغيبوبة
*********
فتحت عيني بصعوبة بالغة.. تنبأ بأننى لم أنم إلا دقائق معدودة..و قد تذكرت أننى نمت على الفور دون أن أطمئن على أمى-المريضة بالروماتيد- ..و احتجت أكثر من قوة الإرادة كى انتزع نفسي من الفراش..و أذهب للاطمئنان عليها فى غرفتها..كانت نائمة كالملاك .. وضعت كفى على موضع قلبها الواهن،الذى ينبض بحبي.. نبضة خافتة تؤكد أنه مازال يعمل.. لم يخذلني يوماً هذا القلب..قبلت يدها ..و مفرق شعرها كما اعتدت فى بداية كل صباح
ربتت على وجنتى باحدى يديها.. بينما وضعت يدها الأخرى على قلبي.. فتحت عيني و استغرقت بضع دقائق لاكتشف.. أنها هى التى كانت فى غرفتى تتفقدنى..احتضنت ذراعها،وقبلته ..و غرقت مجدداً فى النعاس
******************
انتصف النهار دون أن يعثر أحد على"حلمى..و بينما كانت أمه تسير وحدها.بعدما تفرقوا-كما أقترح"عبده"-ليغطوا مساحة أكبر أثناء البحث..خطر ببالها أن تبحث عنه فى مكب النفايات،حيث يعمل..و انتعش الأمل فى قلبها من جديد..كيف لم تفكر أن تبحث عنه هناك؟!..المفترض أن يكون هذا أول مكان تبحث فيه..و بينما هى تجرى نحو مكب النفايات..لمحت ولداً تعرفه يعمل هناك يدعى"رجب"..نادته بأعلى صوت :
-"رجب".. يا"رجب"..أخوك"حلمى"فين؟
أرتج بدن الولد فى صدمة،و سأل مرتبكاً:
- "حلمى"؟..ماله"حلمى"؟!
هتفت أم "حلمى"فى هستيرية:
- مرجعش من أمبارح..أنت متعرفش هوا فين؟
هرب الولد بعينيه تلقائياً..و هو يقول نافياً:
- لأ معرفش.
لطمت أم "حلمى"وجهها..و تفجرت الدموع من عينيها كالينابيع الحارة،و أخذت تنوح:
- ابنى ضاع يا ابنى.. ابنى ضاع يا "رجب"!
عندما أقبلت عليهما جرياً فتاة بعمر الخامسة عشر ترتدى سروايل أسود اللون.. و قميص رجالى أبيض يشوبه أصفرار و قد عقصت شعرها بإيشارب بنى متسخ..دفعت الفتاة الصبي فى منكبه بخشونة..و خاطبته محتدة:
- بقى متعرفش "حلمى"فين يا كداب؟!..و الله لتروحوا جهنم حدف على أنتوا بتعملوه فى الوله ده!
تعلقت أم "حلمى"بذراع الفتاة و هى تسألها بلهفة:
-يعنى أنتى عارفة ابنى فين؟
- بس يا بت يا"سمنه"أخرسى..مالكيش دعوه أنت!
صاح "رجب"بغضب و هو يحاول أن يضع يده على فمها ليمنعها من الكلام ..لكنها كانت اطول منه بكثير..لهذا قالت له استفزازو هى تزيح يده:
- بس يا أوزعه!..
ثم ألتفتت لأم "حلمى"قائلة فى ثقة:
- تعالي معايا يا خالتى و أنا أدّلك على مكانه
***
مشت أم "حلمى"مع الفتاة المجهولة،التى تأبطت ذراعها..وقد هبط عليها شعور مزعج من الغباء و عدم الفهم..و بدأت تشعر أنها تعيش كابوس ملون..لكن هذا لم يمنعها أن تسأل الفتاة:
- لسه بدرى على ما نوصل يا"سمنه"يا بنتى؟
ربتت الفتاة على كفها ،و هى تقول:
- أسمى"عزه"يا خالتى..أبويا الله يرحمه سّمانى "عزه"..لكن لما أشتغلت فى المقلب سمونى "سمنه".
ردت أم "حلمى"فى سقم :
- طيب يا حبيبتى..كده يا "رجب"؟!..هى دى الأمانه يا بنى؟..تشرب أخوك مخدرات؟
رد "رجب"الذى كان يسير خلفهما بخطوة مدافعاً عن نفسه:
- و الله يا خالتى"هيما"و"عبادة"هما اللى عرفوه طريق البرشام..و أنا ياما نصحته ،مفيش فايدة!
بصقت "عزة"على الأرض،و قالت مستنكرة:
- بس أنت اللى عرفته طريق"كهرمان"..روح يا شيخ ربنا ينتقم منكم!
هتف "رجب"منفعلاً:
- هى اللى قالتلى هاته البيت..أنا قولت هتحن عليه بلقمة حلوه،و لا هدمه نضيفه!
أصدرت الفتاة صوتاً قبيحاً من أنفها قبل أن تقول فى أستهجان:
- .......دى وليه جاحده عامله زى أمى،الله لا يكسبها ،لا هى و جوزها ،اللى ربنا يحرقه مطرح ما راح..و بعدين أيه اللى جايبك معانا يا عرة الصحاب أنت..غور ياله أمشى.قالتها و هى تلطم صدره بظهر يدها بقوة ألمته..فأمسك يدها بيسراه..و مد يده اليمنى ليخمش وجهها..كقط غاضب..فتراجعت للوراء حتى لا يصيب وجهها منمق القسمات..بينما يصيح "رجب":
- متمديش أيدك يا بت.. أما و المصحف أكسرهالك !
سحبت "عزة"يدها و لكمته بقبضتيها المضمومتين فى كتفيه بقوة أزاحته خطوة للخلف..و هى تهتف :
- و لا تعرف تعمل حاجه..دانت بق ياله..صدق اللى سماك "بقو"!
قفز "رجب"ليتعلق برقبتها..بينما أمسكت وجهه بقوة بأصابعها العشرة..فصرخت أم "حلمى":
- يا ناس حرام عليكوا..دلونى أبنى فين؟
قالتها و هى تحاول الفصل بين الطفلين دون جدوى وقد أطبق "رجب"على شعر البنت،و أخذ يشده بقوة كأنما يريد خلعه..بينما غرست الأخيرة أسنانها فى كتفه..و سرعان ما سقط الأثنان على الأرض متشابكين فى عراك شرس
*****************************
صاح"رجب"متألما:
- متفرعنة على أيه يا بت ؟!دانت عايشة فى الشارع وسط الزبالة..لا لكى لبيت ولا متوى!
- أنا عايشه فوسط الزبالة..عشان حاجه ما يفهمها العيل اللى زيك!..عشان مرضيتش حد يلمس شعره منى.
هتف "رجب" بغيظ و استنكار:
-و مين عايز يلمس شعرك المعفن ده؟!دا أنا أيدى أتوسّخت لما مسكته!
" جرى أيه يا غجر؟..جايين تتحنقوا قدام بيتى يارمم.. يا ولاد الكلب!"زعقت أمرأة ،على مشارف الأربعين ..و برغم الغضب البادي عليها بدت فاتنة الجمال ..بوجه أبيض ممتلئ ،و شفتين مكتنزتين مصبوغتين بأحمر شفاه قانى.. كانت"كهرمان"نفسها!
و برغم أنها كانت تكبر أم"حلمى"سناً بما يقارب العشر سنوات..بدت أصغر منها بكثير..أرتمت الأخيرة على أقدام "كهرمان" الناعمة تقبلها و قد تعلقت بطرف عباءتها السوداء المطرزة فى توسل:
- أبوس رجلك يا معلمة..رجعيلى أبنى..دا الواد الحنين اللى طلعت بيه من الدنيا!
- أبنك مين يا مره أنت؟..أنتى شيفانى فاتحه حضانه؟!..مين دى يا "بجا"؟و مين البت اللى بتتخانق معاها دى كمان؟!
رد "رجب" الذى قام ،هو و غريمته ينفضان التراب عن ثيابهما:
- دى أم"حلمى" يا ست الناس..عيل كده شغال نباش معانا..و دى البت "سمنه"اللى حكيتلك عليها!
برقت عينا "كهرمان" ببريق عجيب،و هى تسأل"عزة"بلهفة ليس لها مبرر:
- أنت "عزة" بقى اللى بيقولوا عليها؟!
سحبت"كهرمان"طرف عباءتها من أم"حلمى"و هى تقول فى غلظة:
- أوعى كده يا وليه!
و مدت يدها تتحسس قسمات وجه"عزة"الوسيم و هى تقول بدهشة حقيقية:
- دانتى زى قمر بجد!..خسارة فى شغل الزباله يابنت الأيه!
أبعدت"عزة"يدها مشمئزة،و هى تصيح فى غضب:
- لأ أوعى أيدك كده يا ست أنت ..أنا مش مطمنالك أساساً!..وديتى الواد فين.. خلينا نخده و نمشي من هنا,
-أزاى بتكلمى المعلمة كده يا بت؟..دى هى اللى بتوكلك عيش!هتف"رجب"و قد أقترب منها كأنه يهم بضربها..لكن "كهرمان" أوقفته بأشارة من يدها..بينما "عزة"تقول فى ثورة:
- مالكش دعوه يا دلدول أنت!..الله الغنى عن دى شغلانه..الأرزاق على الله!..خليها تجيب الوله لأمه..و مش عايزين حاجه منك و لا منها!
- ماشي يا"عزة"..عشان خاطرك بس هسيبكوا تمشوا!..الواد سكة تمان سنين كده؟
هتفت أم "حلمى"فى لهفة:
-أيوه يا ست الناس.
- خشى خديه مالجنينة!
هرعت أم "حلمى" تعبر البوابة الحديدية،و هى لا تصدق نفسها من الفرحة..فوجدت صغيرها
"حلمى"نائماً يفترش العشب الأخضر..فحملته مسرعة..و ما أن لمسته حتى تشنج جسده النائم فى خوف!..ثم إستكان بين ذراعيها..فأنطلقت تعدو به..و قد نسيت تماماً أمر الصبيين اللذين جاءا معها!
*****
لم أكن أعلم شئياً من هذا كله -و قد نسيت"حلمى"وأمه.-مؤقتاً-.فهو فى النهاية مجرد حالة من مئات الحالات التى نراها-لن أكون مبالغاً-إذا قلت كل يوم..و لو علمت فى وقت مبكر..لكنت أستطعت الربط بين ما جرى ل"حلمى"،و بين"كهرمان"..لكن هذا لايهم الآن!.. فبعد أسبوع حافل بالعمل و مشاكله..أعتقد أن من حقى الحصول على بعض الراحة..فاليوم هو يوم الأثنين ..أجمل أيام الأسبوع!
لهذا أستيقظت الساعة الثانية ..حلقت ذقنى و أغتسلت،و صليت الظهر- الذى فات موعده - و ارتديت ملابسى على عجل-فاليوم موعد زيارتى الأسبوعية لدار"نادين"خطيبتى..طرقت امى باب غرفتى ففتحت بسرعة ، و فوجئت بانها ما زالت بثياب المنزل..
- أيه يا ماما ده؟..لسه ملبستيش..هنتأخر على الناس !
ردت بابتسامة معاتبة:
- مالك؟..براحه شويه..دنيا مش هتطير..ده بدل ما تقول صباح الخير!
قبلت رأسها معتذراً:
- صباح الخير يا حبيبة قلبى.
- يا بكّاش!حبيبة قلبك برضه؟حبيبة قلبك هناك.."نودا"اللى انت خايف تتأخر عليها.
- مفيش فى القلب غيرك يا"منمن"يا قمر..بس يالا اجهزى بسرعه الشوارع زحمة..وأحنا دخلين على العصر!
هتفت بدهشة:
- أنت مش هتاكل قبل ما نمشي؟! ..يالا أنا حضرت الغدا.
قلت مستعجلاً:
- مش مهم دلوقت ..أبقى أتغدى هناك عند"نادين".
قالت أمى فى إحباط:
- دأنا مرضتيتش اتغدى من غيرك.
نظرت لساعة الحائط -لا أرادياً-كانت تقترب من الثالثة و النصف*..قلت بضيق:
- معقوله كده يا ماما!..أنت عندك مواعيد علاج يعنى لازم تاكلى كويس و بالمعاد..يعنى تفطرى الصبح بدرى،و تتغدى الضهر..أخر مره تعمليها لو سمحتي!
قالت فى تبرير:
- مانت نايم من أمبارح..لا فطرت ،و لا أتغديت..و قبلها جاى من بره بالليل متأخر..يعنى ممكن متكونش أتعشيت أمبارح كمان..شايف الهدوم وسعت عليك أزاى!
"- أكلت"قاطعتها مسرعاً كأننى أنفى تهمة:
- أكلت سندويتشات فى الطريق و انا جاى من المستشفى..
كان سندويدشاً واحداً فى الحقيقة و متبقياً من الغداء..لكننى لن أخبرها بذلك بالطبع..و السبب أنها قلقة بالفعل بشأن وزنى الذى مازال يتناقص
ثم أضفت بعصبية:
- ممكن متشغليش بالك بيا خالص..رحت جيت نمت أتهببت..مش مهم ..المهم صحتك أنتى
- خلاص يا"مجد"أنا غلطانة..و من هنا و رايح..أعمل اللى تعمله يابنى..مليش دعوة بيك.
قالتها،و هى تنسحب نحو حجرتها..قتلنى الأنكسار البادى فى نبرة صوتها ..فأمسكت يدها،و قبلتها معتذراً
- طيب خلاص متزعليشش ..أنا آسف.. و الله ماعارف كلمتك كده أزاى..كل الحكاية أنى خايف عليكى.
رفعت رأسها فأحطت وجهها بكفي ّو أضفت قبل أن تقاطعنى:
- و عارف والله أنك خايفه عليا ..بس أطمنى..أنا بعرف أدبر أمورى..يالا بقى نتغدى ..عشان البنت اللى حمضت من الركنه دى!
*******
* حسب التوقيت الصيفي الذى كان معمولاً به فى ذلك الوقت
يتبع