حلمى فى صفيحة قمامة الجزء 4

 


القاتل



"بُرّيه منك وليه!"هتفت"فاطمة"فى إستنكار حين سمعت طرفاً من حديث أمها معى..و أضفت بحرقة :

- أنتى يا مره ماوركيش شغلانه غير" بيجو"تقطعى فى فروته!

كنت قد رأيت هذا ال" بيجو"من قبل..و قد جعلتنى عبارتها أتخيله كخروف مكسو بالفراء..فبدت صورة تليق به فعلاً..هذه البنت عبقرية!

ربما كانت"عزة"سيئة الحظ لأن" بيجو"يحبها..لكن هذه الفتاة منحوسة حقاً..فهى غارقة فى حبه حتى الأذنين!

-..بتصدقى مُحن البنات......"عزة"أيه دى اللى " بيجو"هيبص لها؟!..لمامة الشوارع دى..اللى نايمه  وسط اكوام الزباله!

و كأنما سكب أحدهم دلو ماء بارد على رأسى..وقفت بين الأم و ابنتها محرجاً ..لا أدرى ماذا أقول..عندما لفت أنتباهى السواد المائل للبنفسجى و الإنتفاخ الغريب حول عيني البنت.. أثار دهشتى كم كان تشخيصى الأول لحالتها دقيقاً!..فما كان شكاً فى المرة السابقة قد بدا لى اليوم يقيناً ..إن هذه الفتاه الصغيرة..بل هذه الطفلة المسكينة مصابة بالفشل الكلوى !..

- و أنت بتبص على أيه أنت كمان؟!..دا النصيبه دي؟!

هتفت البنت التى لم يعجبها تحديقى المندهش فى وجهها،و غادرت المكان غاضبة..قبل أن تبكى أمامنا..

- نصيبة تشيلك يا بعيده!..حقك عليا أنا يا دكتور..أمسحها فيا..و النبى دى بت هبله!

مهلاً أيتها الحداءة..أصبرى قليلاً فالمصيبة التى ستأخذ ابنتك توزن بالطن لا بالكيلو جرام!

قلت بهدوء"سقراط"و هو يمسح بصقة زوجته:

- لا يا ستى مفيش حاجه!..بس ممكن أسألك سؤال؟..هوا أبو"حلمى"الله يرحمه كان عنده فشل كلوى؟

نظرت لى بدهشة-كأنما ترى عرافاً-يرجم بالغيب،و قالت متعجبه:

- اللهم صلى على النبى!..و عرفت منين يا دكتور؟!لما رحنا المستشفى قالولنا كده!

- طيب و فى المستشفى ما قالولكيش أيه السبب؟

ردت فى إيمان عجيب :

- دى حاجه بتاعة ربنا!..بس هما قالوا الميه الملوثة هى السبب!

قلت ناظراً للصفحتي السمن الضخمتين الصدئتين المملؤتان بماء-لا أستبعد أن تكون قد ملئته من النيل-:

- ميه ملوثه زى دى يعنى؟!

أجبت فى إستنكار:

- بس أحنا ما بنشربش من الميه ده،و بنشرب من الأزايز!

- الحمد لله!

أكملت فى ذكاء:

- الميه دى بنطبخ بيها!

***

  عدت للمنزل مضطرب الأفكار..فالتورم حول عيني الصبية ناتج -غالباً-عن تسرب البروتين من الكلى للبول..و يجب أن تخضع لفحص طبي دقيق على وجه السرعة..لقد لمحّت لأمها،فبدت غير مبالية..ليتنى صارحتها بشكوكى!

لكن وقتها بدا من المحرج أن أسألها إن كانت أبنتها المراهقة تشكو من القئ و  الغثيان ..ألم فى البطن أو الظهر،مع قلة عدد مرات التبول أو زيادته،مع تغيير لون البول..الله وحده يعلم بماذا كانت ستفكر وقتها!

فتحت الباب بالمفتاح،فوجدت أمى تشاهد التلفاز فى الصالة..قلت بلهجة متعبة:

- السلام عليكم

- و عليكم السلام..مال يا بنى؟..شكلك تعبان؟

أجبت فى أحباط ملقياً بنفسى على الكنبة بجوارها:

- مصدوم..النهاره قابلت بنت صغيره عندها مرض خطير..و ممكن تموت بسببه..و معرفتش أقولها حاجه زي كده أزاى!

سألت أمى التى بدا عليها الإهتمام:

- و المرض ده ملوش علاج؟

صمت لحظة لأتمكن من السيطرة على إنفعالى..ثم قلت متنهداً فى أسف:

- له علاج بس مؤلم و مكلف...

و غص حلقى بباقى العبارة ..ربتت أمى على كتفى فى حنو..قالت فى إشفاق:

- يا حبيبى!.. أنت بتعيط يا"مجد"؟!..للدرجة دي صعبانه عليك!

و فطنت بإندهاش لأننى بكيت بالفعل!

***

جلست على عرشها المزين بالنقوش فرعونية الطابع..فتاة شديدة الجمال بملامح مصرية.. سمراء حوراء العينين..ترتدى ثوباً فرعونياً من حرير أرزق اللون..تنظر بحزن لمراسم تقديمها كتضحية بشرية لآله النيل حابى..كانت"عزة"!

 بجوار عرشها وقفت كاهنة جميلة، ناعمة كالأفعى.. ترتدى غلالة سوداء شفافة.. ترنو إليها بنظرة ثعبانية متمسكنة،تخفى شرسة نمرة متوحشة .. كانت المعلمة"كهرمان"!

 بعد إنتصاف الطقس الجنائزى،و العزف المصاحب بالهمهمات الحزينة..قامت"عزة" تمشى نحو صفحة النيل الهادئ بوقار!

و من خلفها الكاهنة ،و موكب الوصيفات..ثم جرت"عزة"فجأة فى الأتجاه المعاكس!

و أضطرب الموقف ..و أحاط بها الجميع يبغون القبض عليها..و هى تراوغهم..و تتفلت من بين أياديهم الممدودة..عندما ظهر "بيجو"

من العدم.. بصدره العارى الموشم بوشم غير مفهوم.. يرتدى سروال جينز قذر و يجرى نحو الموكب المرتبك،شاهراً مديته

- أوعى يالا..لاشأخ!

حتى فى الحلم يتكلم بتلك اللثغة الغريبة!

ألتفت وراءه ملوحاً بمديته فى الهواء يهدد"فاطمة"التى كانت تلاحقه:

- أرخعى يا بت ..و المصخف أعورخ!

تراجعت البنت فى أسى..بينما هجم هو على الجمع المتزاحم حول حبيبته،بسلاحه الأبيض..فتفرقوا فى ذعر!

 تقدم هو نحو الفتاة الخائفة..بينما تراجعت هى للوراء فى مزيج من الخوف و الإستغراب..فأحاطها بذراعيه ليسد عليها طريق الهروب..ثم حملها على كتفه كأنه يحمل جوالاً..و هى تصرخ و تحاول النزول ..

هنا تدخل عقلى فى مسار الحلم!-كأنما يأبى أن يتم إنقاذها على يده -لتفلت من يده و تسقط فى النهر تصارع الغرق!

بينما وقف"بيجو"ينظر إليها مذهولاً..يصيح فى هلع واضعاً يده على رأسه :

-البت وخعت!  أخلعها ازاى دلوختي ؟!

***

"مجد"يا "مجد"..أنت نمت؟!..قوم نام جوه..

افقت على ألم رقبتى المتصلبة و صوت أمى..فعلمت أننى غفوت ،و أنا جالساً فى مكانى ..و التلفزيون مازال يعرض فيلم"عروس النيل"،الذى دمجت أحداثه مع حلماً رأيته فى غفوة،لم تدم سوى بضع دقائق ..

فركت جبهتى لتخفيف ألم الصداع متساءاً ..لم يكن من عادتي أن أغفو فى مكانى هكذا!

لكننى أشعر بإرهاق شديد فى الآونة الأخيرة..و أزدادت ساعات نومى كثيراً..لدرجة تدعو للقلق!

قالت أمى فى اشفاق:

- روح ريح ساعه..و هابقى اصحيك  علشان نتغدا مع بعض.

قمت فشعرت بدوار مفاجئ،مع تشوش فى الرؤية..قلت و أنا افرك وجهى استجلاباً لبعض التركيز:

- لأ هاصلى الأول!

هتفت أمى فى حيرة:

- هتصلى أيه العصر لسه مأذنش؟!الساعه لسه تلاته و نص!*..و لا لسه مصلتش الضهر؟

- لأ صليته فى المستشفى قبل ما اجى!

ذهبت إلى غرفتى و ارتميت بملابسى على السرير..و برغم إنه قد تبقت دقائق قليلة على آذان العصر..لم أقو على البقاء مستيقظاً-رغم محاولاتى-..و غرقت على الفور فى نوماً ثقيل تملأه الكوابيس!

****************

بدأت مناوبتى فى قسم الغسيل الكلوى الذى نقلت إليه منذ خمسة أيام بعد نقل زميلى د"هشام"إلى محافظة بور سعيد..

.جزاءاً لإهماله الذى أودى بحياة مريض فى هذه الغرفة ذاتها ..بعد أن تركه على جهاز الغسيل فانفلت الخرطوم الذى يعيد الدم  بعد تنقيته ..ليتصفى كله على الأرض!

 جاءت "سوسن".الممرضة الجديدة متأخرة خمس دقائق..كدت ألومها على التأخير ثم رأيت أن الأمر لا يستحق..إنها مجرد خمس دقائق فى النهاية..لكنها ما أن رأت وجهى حتى صاحت مندهشة:

- يا خبر أبيض!..مالك يا دكتور؟!

- مالى؟!سألتها منزعجاً..فأجابت:

- شكلك خاسس عن اخر مرة شوفت حضرتك فيها!...أنت تعبان؟!

لقد صار الأمر مملاً فعلاً!

لدرجة أننى مستعد لدفع مليون جنيه-لو كنت أملكها-لأول شخص يقابلنى ..و لا يحدثنى عن وزنى و سوء حالتى الصحية!

- بتفكرنى ب"إسلام"ابن عمى لما جاله سرطان فى الدم..الله يرحمه مات و هو عز شبابه، لسه يدوب عشرين سنه!..

ياله من أمسية بهيجة!

عدلت النظارة التى لم تعد تثبت على وجهى..و منحتها أحدى ابتساماتى السخفية المصنفة عالمياً ضمن أسوء عشر ابتسامات.. قلت ساخراً:

-الله يبشرك بالخير يا ستى!..عموماً لو عايزه تبلغيه رساله..ممكن تقوليهالي أوصلها له..إحتمال أروح له قريّب!

تقلصت ملامحها-ربما من الرعب-قبل أن تقول ضاحكة بإفتعال:

- دمك خفيف يا دكتور..زى إسلام الله يرحمه تمام!

ما اجملك أيتها البومة البيضاء!

فتحت الخزانة البيضاء المثبتة على الجدار ،و قلت دون ان أتلفت إليها:

- حضرى عم "صبحى" لجلسة الغسيل و علقى له محلول..على ما أجهز الحقنة..

وقفت تتطلع من فوق كتفى -دون مناسبة- داخل الخزانة الطبية التى فتحتها للتو بمفتاحى،و سألت مصدومة:

- أيه دا يا دكتور؟!..مش دى حقن الحديد بتاعة الغسيل الكلوى اللى خلصانه بقلها مده؟!

قلت بلا إهتمام:

- أيوا..ماهى جت أول أمبارح.

سألت بدهشة:

- و قافل عليها بالمفتاح ليه؟!

كدت أخبرها بأن كل شئ يُسرق فى هذه المستشفى الشبيهة بالخرابة..حتى المحاقن و غيارات الجروح و الحروق..لكن!

حين وزنت الكلمات التى ستخرج من فمى وجدتها ذات وقع ثقيل على النفس..ستبدو إتهاماً منى لجميع العاملين بالمستشفى-و هى منهم-بالسرقة..لهذا قلت مبرراً بتحفظ:

- الإحتياط واجب يا آنسة"سكر"!

قالت مصححة  فى حرج بينما كنت أجهز الحقنة :

- أسمى"سوسن"يا دكتور!

إلتوى فمى بإبتسامة ساخرة ..كأننى نسيته يا وجه السعد!

قلت مغالباً الغثيان المفاجئ الذى انتابنى -من ثرثرتها-ربما:

- متأسف يا آنسة "سندس"..ممكن حضرتك نشوف شغلنا؟!

*****

كنت عائداً للتو من المرحاض  بعد ان تقيئت كل ما فى بطنى..و قد ابتعت كوباً من الشاى بالليمون ..عندما سمعت صوت د"مصطفى"يجلجل:

"فين الدكتور الحمار..المسئول عن الحاله دى؟!"

كان صوته قادماً من قسم الغسيل الكلوى ..الذى غادرته قبل قليل يصدح بالسباب!

هرعت  إلى هناك مهرولاً..لأستطلع ما الخبر-حتى أن الشاى أنسكب على يدي.ليحرقها بسخونته..

رميت بقيته فى غيظ..وذهبت جرياً لأستبين حقيقة ما يحدث.. بلغت الباب بوثبتين..و ..

أرتددت للوراء مصعوقاً..فقد كان ما رأيته صادماً

..صادماً بحق!

 


* تدور أحداث الرواية فى عام2007..قبل إلغاء التوقيت الصيفي


الأشقياء الثلاثة


هلل د"مصطفى"ما أن رأى وجهى :
 "أنت شرفت يا بيه؟!..كنت فين و سايب المريض بتاعك بيموت؟!"

لم أرد على الفور ..بل حدقت فيه مبهوتاً..و قد إنقلبت حوله وحدة الغسيل الكلوى إلى سيرك..نبض قلبى الواجف طبله!

عم "صبحى"شبه غائب عن الوعى..و قد أُقصى الحامل المعدنى بمحلوله الذى لم يستهلك نصفه بعيداً عن سريره..بينما د"كاميليا"راكعة بجوار فراشه..تعطيه حقنة وريدية ما!

"سوسن"تبكى الفقيد مقدماً.بينما ممرض و ممرضة يهيمان فى المكان بإرتباك!

رباه.. ما ااذى يحدث هنا؟!

حاولت تجاوز د"مصطفى"لأطمئن على مريضي الذى بدا فى حالة صدمة.. لكن الأخير جذبنى من ذراعي الضامر و طوحنى بعيداً.. ألمتنى جذبته-لا أدرى لقوتها أم لوهنى-بينما يصيح غاضباً:

- طبعاً أنت فاكر إن الموضوع ده هيعدى..شبه ما طرمخوا على غلطة زميلك لا..

لا يا بابا.. أنسى إن دا هيتكرر تانى..أنت فاهم؟!

ألتقطت النظارة فى الهواء،قبل أن تسقط على الأرض،و أرتديتها سائلاً بعصبية:

- و هوا أيه اللى حصل يا دكتور؟!..أنا يدوب روحت الحمام و رجعت!

- اللى حصل؟!..هاقولك أنا أيه اللى حصل!..زام بعصبية ،و هو يتلفت حوله..قبل أن يصيح فى الواقفين راعداً:

- فين الأكسجين يا بهايم؟!..واقفين تتفرجوا و الراجل بيموت!

ثم ألتفت إليه قائلاً بصوت هادر:

-اللى حصل أنه محدش شايف شغله يا دكتور!..حضرتك داير تتصرمح و سايب الآنسه خيبه هنا لوحدها..

أيه اللى جرالكو بالظبط؟!

و أشار إليً بأصبعه مستنكراً..قال:

- أنت بالذات ايه اللى جرالك؟!..خبت ليه؟.. وبقيت مهمل!..أنت بتتعاطى حاجه؟!

صحت بعصبية:

- لو سمحت يا دكتور مفيش داعى للإهانه..لو حضرتك شافنى غلطان حولنى للتحقيق!

هتفت"سوسن"مستعطفة والدموع تملأ عينيها:

- لأ!..يا د"مصطفى"..د"مجد" ماغبش بره  أكثر من عشر دقايق و الله العظيم!

لم يلتفت إليها الأخير-و قد وجد فرصته للقضاء علي-سألنى مستنكراً:

- يعنى مش عايز تعترف بغلطك..و بتزعق كمان؟!

كم أمقت هذا الرجل!

كل الحب و التقدير الذى حملته نفسى له يوماً  ،يتحول الآن لكره صريح..و السبب أمراة!

"- لأ يا دكتور هوا مش قصده يزعق لحضرتك!"

صاحت"سوسن"بهلع..و هى تتمسك بذراعى كأنها تمنعنى من ضربه ..فتراجع الأخير خطوة للوراء بقلق!

- ممكن  تخرسى خالص،.و متتدخليش.؟!صحت فيها حانقاً،و سحبت ذراعي ، فصاح بذعر:

-أيه؟.. عايز تضربنى!..طب أنت موقوف عن العمل من بكره..و متحول للتحقيق! 

*****************

تقلبت فى الفراش و قد منعنى  القلق من النوم..ترى ماذا حدث لعم"صبحى"بالضبط؟!..و هل تمكنوا من إسعافه؟

إن ما حدث له لن يعدو امراً من أثنين..إما جرعة زائدة من الحديد..و..أو حساسية من عقار "......."و هو إحتمال ضعيف ..لأن عم"صبحى "يتعاطى تلك الحقن منذ مدة دون مشاكل

أعتدلت جالساً فى السرير..و قد أنتابنى ذعراً مفاجئ ..ماذا لو لم يتم تشخيص حالته على النحو الصحيح..و أعطوه علاجاً خاطئاً؟.. 

ربما يموت و يقع الذنب  كله على رأسى!

المثير للإستغراب أننى ظلت بجوار المريض ما يقارب الثلاث ساعات دون أن تظهر عليه أى أعراض ..و ما أن غادرت المكان لمدة لا تتجاوز النصف ساعة..إنقلبت الأحوال فجأة!

حتى أننى-لولا وجود كل هؤلاء الناس -فى الغرفة و حول المريض لظننت أن د"مصطفى"قام بالتلاعب بجهاز الغسيل ..أو حقن المريض بعقار مجهول ليضعنى فى هذه الورطة!

و أختلطت بداخل كم هائل من المشاعر نحو هذا الرجل ..من خوف و إشمئزاز و كراهية..بل و بعض الحب!

شيئاً ما ذكرنى بأيام الجامعة عندما كنت أحد طلابه..حين كنت أراه  قدوة..و  كان هو يتوسم فيّ خيراً..

حتى حين كان يلومنى بغضب و إتهام..كان فى عينيه شيئاً يوحى أنه مازال مهتماً بى على نحواً ما!

ربما كان أكثر ما ضايقنى فى إتهامه..هو أن فيه ظلاً من الحقيقة!

ماذا يُسمى إعتياد المسكنات لدرجة تجعل التخلى عنها أمراًشبه مستحيل..

إن لم يكن هذا إدماناً..فماذا يكون إذاً؟!

"نادين"كم أحتاج إليك فى هذه اللحظات إلى جوارى!

نظرت لهاتفى المحمول فى عتاب..عابثت أزراره فوجدته يعمل!..لماذا لم أتلقى-رغم محاولاتى لإتصال بها- أى إتصالات منها منذ أمس أذن؟

حاولت الإتصال بها دون رد -كالعادة-هل يُعقل أن تكون قد تخلت عنى ؟!

قفزت من السرير و قد تذكرت أمراً كنت قد نسيته فى غمرة ما حدث..جعلنى أرتدى ملابسى ،و أخرج على عجل ..و قد بدا فى -تلك اللحظة-  أمراً لا يقبل التأجيل

*******

"خود آ بشمهندز..أنت رايح فين؟"أشار إليً أحد صًيع المنطقة العشوائية التى تقطن به ام"حلمى"و أولادها الخمسة..و هو يقف بجوار"بيجو"ذو الوشم الظاهر على صدره العارى..و آخر يدعى"شامبو"على ما أتذكر..

- حضرتك بتكلمنى؟!سألته متشككاً..فبصق على الأرض قبل أن يجيب بإستخفاف:

- لا باكلم خيالك!..أيوه يا عم بكلمك أنت..أومال بكلم مين يعنى؟!

-أفندم؟..

- بقولك كنت رايح فين يا حيلتها؟

قلت متحسساً كلماتى:

- أولاً  يا ريت نتكلم بأسلوب أحسن من كده..ثانياً حضرتك أنا راجع ..مش رايح!

أصدر صوتاً قبيحاً من أنفه قبل أن ينعر مستنكراً:

-راجع فين يا كابتن؟!..تكونش سكنت عندنا و أحنا منعرفش؟!

       قلت متلاطفاً:


قصص اخرى
- ممكن أعرف اسم حضرتك الأول؟

رد بعنجهية:

- ليه هتصاحبنى؟!..أنت مين  و أيه اللى جابك هنا يا بشمهندز؟و جاي لمين فى الحته الوسخه دى؟

كنت قد جاءت خصيصاً من أجل الحصول على عينة دم من"فاطمة"لأقوم بتحليلها..فقلت بغيظ مكبوت:

- كنت عند الست أم"حلمى".

تنخم و بصق بصقة معتبرة..قبل أن يقول بإستهجان:

- أخيي!..ملقتش غير المره العرمه دى؟!..و لا الكلام على البت بطه؟

أحمر وجهى حتى صار كالطماطم من شدة الغضب..فلم يسبق أن تعرضت لهذه الإهانة..و لا أتُهمت بمثل هذا الإتهام البشع من قبل..قلت فى شمم:

- أنا كنت باطمن على المريض بتاعى..مش اللى فى دماغك ده خالص!

- ده دختور"مخدى"اللى خان بيعالخ الواد"خلمى"يا ليس"صفيخه!

تطوع "بيجو"بالأجابة عنى..فسأله الأخير مستنكراً:

- و عرفت منين إنه ضكتور ياض؟!

هتف "بيجو"بذكاء:

- لما خوفته المله اللى فاتت..خان لابس نداله!

سألته متوجساً:

- هوا قال أيه بالظبط؟!

نفث"شامبو"مغمض العينين دخان سيجارة المحشوة من أنفه ببطء..و أجاب كأنما يفيق من حلم أو إغماءة: 

- بيقول لما شافه المره اللى فاتت كان لابس نضارة! 

حاولت فتح الحقيبة لأخرج بطاقتى الطبية..عندما سمعت تكة مطواة"صفيحة..بينما لوح"شامبو"بسنجة شريرة المنظر ظهرت فى يده-لا أدرى من أين - صاح الأول فى غضب:

- ما تفتحش الشنطه..و ارميها على الأرض!

وضعت الحقيبة على الأرض بحذر كى لا تنكسر العينة.. و رفعت يداى الخاليتين بحيث يراهما..قلت بسرعة:

- براحه!..و الله كنت بطلع النضاره..قصدى الكارنيه بتاع المستشفى!

سأل""شامبو"حالماً و هو يهرش بين فخذيه بمقبض السنجة:

و النضارة؟!

- النضارة!.. شكلها مش معايا..نضارة نظر هى.. بس مش بلبسها غير بليل..عشان عندى

Nyctalopia..آ.. عشى ليلي!

رد:صفيحة" بسخط:

- و أنا مال أمى تتعشى لوبيا ولا فصوليا !..كل ده ميخصنيش..و لا حتى يدخل ذمتى بساغ!..بص يا عم"مجدى" أحنا معندناش عيانين هنا..و مش عايزين نشوف وش ديك أمك  هنا تانى..يأما هتزعل!..و هتجيب ناس تزعل!..أستبينا يا كابتن ؟

حملت حقيبتى و أنصرفت دون أن أنبث ببنت شفة..

"- لو شفتك هنا تانى هشقك..أنت فاهم؟"قال صفيحة"مهدداً..قبل أن يضيف بإستخفاف مخاطباً صبيانه:

 - أبن حلال أوى كابتن"ماجد"ده!

- أسمه"مجدى"يا اسطى!

- بس يا .....!

***********

فتحت باب منزلنا..فوجدت أمى تنظر لى بطريقة غريبة ..بدت كأنما تنتظر عودتى ..لكننى أستبعدت أن تكون واقفة هكذا وراء الباب منذ فترة..لقد حدث هذا عفواً على الأرجح!  

حاولت رسم ابتسامة على وجهى ..فلم أفلح..و بصعوبة منعت نفسى من البكاء !

أردت أن أرتمى فى أحضانها ..لكننى عوضاًعن ذلك.. قبلت يديها و رأسها..و سألتها بصوت مبحوح يدعى المرح:

- أزيك يا حبيبتى ؟

- مالك؟!سألتنى بنرة هادئة..تقول دون كثير كلام..أنها كشفتنى!

- الحمد لله

لمحت فى عينيها عتاب رقيق..قبل أن تقول:

- "نادين"أتصلت بيك على التليفون الأرضي.

-"نادين"أتصلت!..هى فالبيت؟سألت أمى بلهفة، و أصابعى تجرى على أزرار الهاتف الأرضي الموجود بالصالة طالباً رقم منزل "نادين"..رن الهاتف حتى أنقطع الرنين دون أن يرد أحد!

ضربت الأرقام التى أحفظها عن ظهر قلب مجدداً..عندما سألتنى أمى:

- أيه اللى نزلك بدرى؟!..أنت مش قولت إنك واخد أجازة؟!

- أصلى رحت أزور جماعه صحابى!

قلت أمى بأسف"

- كبرت يا "مجد"و بقيت بتخبى عليا!..ماقولتليش ليه إنك أتوقفت عن العمل؟!

وضعت سماعة الهاتف مكانها..و سألتها بدهشة:

- مين اللى قالك الكلام ده يا ماما؟!.."نادين"؟!

- مش مهم مين اللى قال..المهم إن الكلام صحيح!..كل ده يحصل معاك من غير ما تقولى..كأننا مش عايشين فى بيت واحد!

سألتها بحنق:

و قالت لك أيه ست"نادين"كمان؟!

قالت أمى تدافع عنها:

- هى  مكانتش تعرف أنك ما قولتليش حاجه..أتصلت بيك عشان تطمن عليك ..كانت عايزه  تعرف أنت عامل أيه بعد ما وقفوك و حولوك للتحقيق..جرجرتها فى الكلام.. و هى حكت لى كل حاجه!

***********************

رن جرس الهاتف المنزلى..و ما أن رفعت السماعة حتى أتانى صوت"نادين"و هى تسأل بلهفة:

-أيه أخبارك؟ طمنى عليك..عملت أيه فى التحقيق؟!

- أنتى على طول مسروعه كده يا بنتى؟!..لبستنى فى الحيطه مع ماما!

سألتنى بدهشة:

- ليه؟! .. و هوا أنت كنت ما قولتلهاش؟!

- أستنى!نظرت حولى بقلق قبل أسحب الهاتف و أدخل به حجرتى..قلت لها:

- أقولها أيه يا شيخه حرام عليكى!..هى دى حاجه تتقال؟!أنتى عارفه ماما بتقلق قد أيه من كل حاجه!

- أوبا..شكلى لخبطت الدنيا!..طب و ماما عملت معاك أيه لما عرفت؟

قلت ضاحكاً:

- نيمتنى على الكنبه!

-أنت بتهرج!

..هتكون عملت أيه يعنى ؟زعلت شويه.. بس عرفت أصالحها.

و بعدين هاعمل أيه غير إنى أهرج واحد  موقوف و على وش رفد.. عايزه يعمل أيه؟..دانا أثبّت فى الشارع كمان!

- أيه!..ثبتوك أزاى؟!..خدوا منك حاجه؟

- كانوا عايزين ياخدوا النضارة ..بس ربنا ستر! 

-أنت النهارده مش طبيعى!

- و الله يا بنتى أتثبت..و أترفع عليا مطواه كمان!..

هتفت بإنزعاج:

- و مالك مبسوط كده ليه؟!..حصل فين الكلام ده؟..أكيد فى الأماكن الغريبه اللى بتروحها!

كأننى أذهب هناك للتنزه !

قلت بضيق:

- عموماً دى أخر مره أروح هناك..كنت باخد عينه دم من"فاطمه"أخت"حلمى"!..ودتها المعمل عشان شاكك فى حاجه كده!

- يا دى"حلمى"و اخواته!..طب كمل..و بعدين عملت أيه؟

- بس رحت التحقيق الساعه أحداشر..و بعد ما خلصت ..لقيت نفسى فاضى ..رحت القسم أعمل محضر للتلاته اللى ثبتونى!

- عملت محضر فى قسم البوليس؟!

- لا و الله!..مكنش حد فاضى يعملّى محضر..الظابط سألنى سؤال واحد"أنت تعرف أسماء العيال اللى ثبتوك؟..

قلته"شامبو"و"بيجو"و"صفيحه"!..قال لى مترحشى هناك تانى أحسن!

قالت"نادين"فى إستحسان:
- و الله عنده حق!

سألتها مغيراً الموضوع:

- دكتور"مصطفى"عمل أيه بعد ما مشيت؟..

- هيعمل أيه؟..أصلاً محصلش حاجه مهمه!

ثم أضافت بسرعة:

- آه..أفتكرت ..أمبارح"بدرية"ولدت بعمليه قيصرية...جابت بنوته زى القمر!

-"بدريه"مين؟!..قصدك "بدرية"المحروقة!..بس ولدت أزاى يا بنتى ؟!..دى كانت لسه فى بدايات الشهر السابع! 

ردت بلوم:

-لأ كانت فى التاسع يا دكتور..!

أشعرتنى لهجتها اللائمة بالضيق.. كأنه يجب أن أعرف عمر جنينها بدون سونار!

و تذكرت بطن المريضة الصغير و تأكيدات أمها على أنها عروس جديدة ..متزوجة منذ أقل من سبع شهور-كما كُتب - فى عقد زواجها العرفى..

معنى هذا أنها كانت حبلى قبل أن تتزوج!

غمغمت بدهشة:

- طب ال...؟!

-عادى.. بتحصل!قالتها"نادين"ببساطة..

أجتاحت جسدى سخونة مفاجئة..بتأثير من الغيظ،و الغضب بل و بعض الحسد ربما!.. ذلك القط الأجرب-زوج المريضة- الذى يبلغ نصف عمرى و- برغم الظروف- مارس الحب و أنجب -حتى -قبل أن يتزوج..بينما أرى خطيبتى بتصريح أمنى ..بحضور أمين شرطة..و مخبرين!

قالت"نادين" بتساؤل مندهش حين طال صمتى:

- يا خبر أبيض!..أنت لسه ما فهمتش يا"مجد".؟!.خلاص هابقى أفهمك لما تكبر!

- لما أكبر و هاتفهميني؟!ماشى يا ست"نادين"!

قلتها فى ضيق بلغ منتهاه..خاصة عندما أنهت المكالمة قائلة:

- يلا  باى أنت بقى دلوقت..عشان داخله العمليات كمان ربع ساعه

- باى!

أجبت مغموماً حين علمت أن لديها عمل..بينما أنا أجلس فى البيت لا أدرى ماذا سيحدث معى غداً..

رباه لا تجعل هذا الوضع يدوم طويلاً!


يتبع


أحدث أقدم

نموذج الاتصال