حلمى فى صفيحة قمامة الجزء 3

 


قوانين الضرب!



"خلاص يا بنتى ماشيه!"سألت أم"حلمى"عزة"و هى تفطر معها هى و أطفالها الخمسة ..قبل أن تضيف فى أسى:

- مش عارفه ليه مصممه تسبينا؟!..ما تخليك قاعده  معانا!

- هاتى حتة فلافل يا بت الجزمه!

ردت"عزة"معتذرة:

- يا ريت ينفع يا خالتى..أنتو عيشتكوا يدوب على القد..و مش ناقصين حد يجي يزاحمكوا!

- أخص عليكي يا بت يا"عزة"!..دانتى الحمل منك ريش..و احنا هنتقل منك يعني؟!..و النبى دانتى بقيتى فى غلاوة عيالى !

- معلش يا خالتى..خليني على راحتى..أصل أنا أتعود على البراح..هابقى مرتاحه لو رجعت المقلب..و بعدين أنا خايفه من الواد اللى أسمه"بيجو"ده..سارح ورايا فى الرايحه و الجايه..مش عارفه عايز مني أيه؟!

نظرت لها"فاطمة"شذراً..قبل أن تمسك يد"محروس"،و هى تقول زاجرة:

-بس متخلّصشي المخلل كله يا فجعان!

شهقت أم"حلمى"فى جزع:

- الله يخيبه البعيد أكتر ماهو خايب!..دا أمه بتدعي عليه دعا يوقع الطير من عالشجر..ربنا يجعله من حده و نصيبه قادر يا كريم!

قامت"فاطمة"غضبى..فسألتها أمها فى دهشة:

- ماكملتيش أكلك ليه يا "بطه"؟!

ردت"فاطمة"محتدة:

- و هما عيالك خلوا حاجه تتاكل!..و بعدين مالك أنتى ب"بيجو"؟..بتدعى عليه ليه يا وليه؟!..مش كفايه أمه اللى تتشك فى لسانها!

هتفت أم"حلمى"بدهشة غاضبة:

- ألهى تتشكى فى قلبك أنتى و هو، فساعه واحده!.. أيه اللى عاجبك فيه الصدمان الندمان ده؟!

صاحت"كوكب"باكية فى نفس اللحظة..فهتفت أمها فى غيظ:

- بتعيطى ليه أنتى كمان؟!

- "حلمى" قرصنى .. جنبى!

ربتت"عزة"على كتفها،و قالت مهدئة:

- متزعليش من"بطه"يا خالتى..دى لسه عيلّه صغيره مش فاهمه حاجه!

- سبنالك الفهم يا ست العاقلين..أنتى أتحدفتى علينا من أنهى داهيه؟!..و أه اللى مقعدك معانا..ماتغورى بقى..هى المشرحه ناقصه فتلى! 

 قالتها"بطه"بغل:شديد..و خرجت..بينما أمها تهتف فى أثرها:

- آه يا بت الصرمه!..أصبرى عليا يا......دانا هقطّع لحمك يا واطيه يا بت......!

- متأخذنيش يا"عزة"يا بنتى..دى عيله مطيوره!..أمسحيها فيا انا..أصلها موعوده له من ساعة ما كانت فى اللفه!قالتها أم"حلمى"معتذرة ل"عزة" ..قبل أن تضيف سائلة بدهشة:

- هوا أنتى مش قولتى أن جوز أمك مات؟..مينفعش ترجعى أسكندريه عند أمك؟

سرحت "عزة"لحظة ،و بدت كأنما تذكرت شيئاً أمها جعلها تعض على نواجذها قهراً.. قالت و قد أمتلئت عينيها بالدموع:

- مش هينفع يا أم"حلمى" ..أمى بلغت عنى البوليس..و أتهمتنى إن أنا اللى قتلت جوزها! 

*************

"هوا حد يعرف عنوان بيت د"نعمان"؟"

سألت بعض الزملاء بينما كنت أتناول بعض البسكويت على سبيل الإفطار..فأجاب د"رامى"بسؤال مندهش:

- ليه بيته؟..لو عايزه.. روحله قسم الباطنة!

سألته بدهشة لا تقل عن دهشته:

- هوا جه النهارده؟!

رد مبتسما:

- أيوا يا ابنى عادى..أيه إللى هيخليه ميجيش؟!

قلت بسرعة:

- سمعت إنه قدم استقالته!

"هوا مين ده إللى جايبين فى سيرته عالصبح يا دكاترة؟!"

ألتفت مندهشاً لصاحب الصوت..كان الدكتور"نعمان"بنفسه!

"صباح الخير يا دكتور"

نظر لى برعب كأنما رأى شبحا ! 

حدجنى بنظرة غضبى..ثم قال بصوت آمر:

- تعالى ورايا!

تبعته فى صمت متوجس..متسائلاً فى نفسى عن سر غضبه مني..

- فطرت؟سألنى دون أن يلتفت أو يتوقف عن المشى..فأجبت محاولاً ابتلاع البسكويت الذى تحول لأسمنت سريع التصلب فى فمى:

- بافطر!

رماني بنظرة حارقة،و سأل مستنكراً:

- بتفطر بسكويت؟!

كان من العسير أن أشرح له.. إننى إن ذهبت للعمل دون إفطار سأظل دون طعام حتى أعود إلى المنزل..وقد أحتضر جوعاً قبل أن أنسى منظر الحروق و الغيارات الملوثة بالقيح و الصديد..فمن المفترض أننى طبيب ،و معتاد على رؤية هذا.. لكن من سيقنع معدتى بهذا الكلام!

- أنت كنت فين أمبارح؟!أتبع سؤاله بسؤال قبل أن أتمكن من الرد على سؤاله الأول..قلت مرتبكاً:

- كنت...

و صمتّ محتاراً فيما يجب أن أقول ..فقد تأخرت عن موعد العمل ثلاث ساعات قضيتهما فى البحث عن"حلمى"وإعادته لبيته.. لا أعتقد أن هذا سيعجبه!

سأل مستنكراً:

- أيه؟..نسيت كنت فين أمبارح؟!

- لأ..بس.....!

رد فى ملل:

- خلاص مش مهم!..بس ما تبقاش تعمل كده تاني..عارف إن مكافأة الإمتياز ملاليم..بس لو اتعرف إنك بتسيب شغلك..و تروح  نابطشياتprivate.......و لم يكمل كلامه الذى فهمت فحواه 

- تخيل بقى رهبان العلم اللى ماليين المستشفى و فكرنكوا أصنام خشب لا بتاكل و لا بتشرب هيعلموا فيك أيه ؟! 

قالها بسخرية حزينة قبل أن يضاف بضيق:

- لأ و أنتا رايح تخطب!.. مش عارف ليه مستعجل على الخطوبه و الجواز!..أدينا اتجوزنا وخلفنا.. خدنا أيه؟!

استغربت كم هو دانياً من مشاكلنا إلى هذا الحد..فقد كان -بإستثناء موضوع الزواج- يتكلم بلسانى و لسان أغلب إن لم يكن كل الأطباء الشبان.. و وجدتنى أسأل نفسى بدهشة لماذا لم يقبل هذا الرجل المحترم بمنصب مدير المستشفى؟!..كان ليكون الحال افضل على يديه

كنا قد وصلنا إلى المعمل،الذى أمتد أمام بابه طابور لا ينتهي من المرضى ..أجتازهم د"نعمان"فأفسحوا له المجال إحتراماً لمعطفه الأبيض،و الشيب الذى وخط فوديه..و تبعته بلا إعتراض

- صباح الخير يا "شوقى".

- صباح النور يا دكتور!هتف د"شوقى" بحماس:

- أيه الزياره الجميله دي!..أى خدمه أقدر أقدمها لحضرتك؟

رد د"نعمان"و هو ينظر نحوى:

- زميلك د"مجد"كان محتاج شوية تحاليل..

عاد ينظر ل د"شوقى"..و قال آمراً:

- يا ريت تخلصلي التحاليل بتاعته أول حاجة.

قالها و ظل يكتب التحاليل المطلوبة بسرعة على ورقة وجدها على مكتب د"شوقى"

 يا خبر أسود!

سأتأخر!..لقد أفلت من براثن د"مصطفى"بالأمس  بسبب الربكة التى حدثت، وبركة دعاء الوالدين فقط..لكن لن تسلم الجرة فى كل مرة!

- أيه؟فيه عند حضرتك إعتراض!..

رددت على سؤاله الساخر بهمهمة غير مفهومة..فأضاف زاعقاً:

- معلش ماهو كان لازم أسحبك من أيدك زي العيل الصغير..عشان لما قولتك روح حلل من تلت أيام نفضتلي،و مروحتش!..مش بتقولوها كده يا دكتور و لا أيه؟!

تدفق الدم فى أذناي إحراجاً ..يبدو أننى صرت "ملطشة"المستشفى..لا يكد يمضى وقت حد يأتى أحدهم ليصرخ فى وجهى!

و ما زاد شعورى بالإرتباك و الحرج ،ان يحدث هذا أمام كل هذا الحشد من المرضى،الذين بدا عليهم الإستمتاع..عندما أضاف د"نعمان"فى لوم غاضب:

- مانت لو شايف نفسك شكلك بقيت عامل أزاى..و خسيت قد أيه.. كنت أتخضيت!

- بس يا دكتور....!حاولت الإحتجاج،فقاطعنى  واضعاً أصبعه على فمه ينهانى عن الكلام:

- هس! ..و لا كلمه!..أنت تقعد هنا،و تعمل اللى أقولك عليه!قالها و دفعنى لأسقط جالساً على الكرسي الوحيد الموجود بالمعمل..فأسرع  د"شوقى"يغرس محقنه فى ذراعى الذى شمرته فى خضوع،ليسحب عينة دم..

- ميطلعش من هنا ..قبل ما تعمل له كل التحاليل اللازمه..وجه كلامه ل د"شوقى"ثم أضاف منذراً قبل أن ينصرف

- يا أما هاعرف شغلى معاكم أنتوا الأتنين..مفهوم!

********

تمتم  د/"شوقى" ساخطاً و هو يسحب الدم :

-هوا  يطرقعله ..يجي يفش غله فينا.. و أحنا مالنا أحنا!

كان يقصد د"عشماوى" المدير و مشاجرته مع د/"نعمان"!

ضايقتنى لهجته المتبجحة..لكننى لم أعلق-حتى لا أُتهم بالنفاق- ..فسأل:

-  أيه رأيك فى إللي حصل أمبارح؟

قلت متصنعاً البله :

- و هو أيه اللى حصل؟!

هتف فى دهشة و هو يسحب المحقن:

- حمد الله على السلامه!..و أنت كنت مسافر و لا حاجه؟!..أزاى متعرفش؟..يعنى محضرتش الخناقة إللى كانت لرب السما..بلاش..د"نادين"محكتلكش؟!

أضاف محاولاً أثارة فضولى:

- مش عايز تعرف مين إللى كانوا بيتخانقوا؟..و اتخانقوا ليه؟

تثائبت فى ملل..و قمت من على الكرسى متوجهاً لباب الخروج قائلاً:

- مادام "نادين"عارفه هابقى أسألها!

قفز أمامى وألصق ورقة التحاليل بوجهى حتى لامست أنفى..و هو يسأل مستنكراً:

- رايح فين يا بويا؟!.. التحاليل دي هاعملها لمين؟..لأمى؟!

أخذت منه الورقة و طالعتها سريعاً..صفرت بفمى بدهشة:

-الله أكبر..كل دى تحاليل.. لا يا عم دا جاي على بيات..و أنا عندى شغل مش هينفع!.. هابقى أعدي عليك بعدين!

-  بعدين أيه الله يخرب بيتك!..متدبسنيش مع د"نعمان".

- خلاص يا"شوقى بلا رخامه!..د"مصطقى"مستنيلي على غلطة..لو أتأخرت هيخرب بيتى!

طويت الورقة و وضعتها فى كفه..و هو يهتف بإنفعال:

- و د"نعمان" هيعلقنى أنا!..و أنت كمان..و لا نسيت قال أيه؟!

لم أعره إلتفاتاً و خرجت و هو يصيح فى أثرى:

-أستنى يا زفت رايح فين؟..يا د"مجد"؟..أنت يلا!

*******

فى الصباح التالى-وكان يوم الأجازة- أستيقظت عازماً على  عدم تناول المسكن..و هى الفكرة التى تراودنى منذ أول يوم لى فى عنبر الحروق..خاصة حين تكلم د"طارق عن المورفين"و وجدت نفسى أفكر -رغماًعنى-فى تلك المادة السحرية!

..و ما جعلنى أشعر بخطورة الموقف..  أننى لم أعد أفكر فى شئ  و على  مدار يوم كامل سوى فى حقن نفسى بالمورفين! 

لم ينقذنى سوى مراقبة د"طارق"اللصيقة- بحكم أننا نعمل فى نفس المكان-..فلو تركنى وحدى مع المورفين من كان يدرى؟!

و حين أويت للفراش مبكراً فى تلك الليلة،و ما أن أغمضت عينى حتى رأيتنى بعين الخيال ..واقعاً فى فخ المورفين لا أستطيع أن أعيش دون الحقنة اللعينة..و بدأت أرتجف ذعراً!

تشاغلت بممارسة هوايتى برسم الخط الديوانى..محاولاً نسيان مخاوف و هواجس الليلة الماضية ..و ما أن مر بضع دقائق..حتى رن هاتفى.. كانت"نادين"المتصلة..وضعت السماعة فى أذنى..قلت :

- صباح الخير..لسه كنت بقكر فيكي!

"أنا زعلانه منك!"قالتها"نادين"بصوت شهى..لسبباً ما بدا صوتها جميلاً جداً..فابتسمت..قلت أراضيها:

- طب أنا آسف!

سألت فى دهشة:

- كده من غير ما تعرف ليه؟!

قلت مواصلاً رسم الخط بسهولة ولّدها المران الطويل:

- مقدرش أزعل القمر!..ها..زعلانه ليه يا ستي؟

صمتت  برهة متفاجئة..ثم قالت:

- واضح إن مزاجك رايق النهارده!..بس برضو أيه اللى أنت عملته أمبارح ده؟

يبدو أننى أغضبت الجميع بالأمس! 

- ليه مكملتش التحاليل بتاعتك..حرام عليك يا"مجد"..لو مش خايف على نفسك ..أحنا كلنا خايفين و قلقنين عليك و عايزين نطمن!

- متكبريش الموضوع يا"نودى"..الحكايه مش مستهله!..أنتى عارفه إن ظروفى مكعبله فى الشغل شويه..و د/"مصطفى"واقفلي على الواحده.

هتفت فى إنفعال:

- هوا الموضوع كبير لوحده!..يا ابنى دا انت خسيت النص الكام أسبوع اللى فاتوا دول..لدرجة إن هدومك كلها وسعت عليك

 جداً..و بقيت تلبس حاجات باباك الله يرحمه!

- و بعدين د"نعمان"كده هيزعل منك..مش كفايه إنك أختفيت يوم خناقته مع د"عشماوى"كل اللى فى المستشقى كانوا واقفين ،و أنت 

ما شافش وشك غير تانى يوم..و بالصدفه كمان!

قلت بسخرية:

- آه ..كانوا واقفين بيتفرجوا..لو حد فيهم كان عايز يسلك ما بينهم..مكنش وقف ساكت..بس كله كان جاي يتفرج على خناقة الديناصورات..الديبلودوكس (Diplodocus)آكل العشب ضد التيراكس( terax)آكل اللحوم!

قالت"نادين"بلوم:

- و أنت مدّخلتش ليه؟..سبتهم يتخنقوا عادى..و روحت تدور على"حلمى"و ياريتك لقيته!

- لقيته!..هتفت بسرعة..قبل أن أضيف:

- لقيته..و روحته بيته..و أظن ده اللى  د"نعمان"كان هيعمله لو كانت ظروفه تسمح..

هتفت بدهشة مستنكرة:

- ما قولتليش بعنى؟!..كل اللى قولته أنك ملقتهوش ،فى المكان اللى الممرض سابه فيه!

فطنت فى دهشة لإننى لم أحكى لها باقى الحكاية..لهذا قلت بسرعة:

- بصى يا ستى...

********

بينما كنا عائدين للمستشفى..جذبنى الممرض العملاق-الذى عرفت أن أسمه "عبّود"من ذراعى جذبة مؤلمة..فسحبت ذراعى من يده صائحاً فى غيظ:

- نزل أيدك..أنت عايز أيه؟..مش كفايه اللى أنت عملته؟!

فى هذه اللحظة كنت مستعداً للشجار- رغم تفوقه الجسدى الواضح-لكنه صاح بفرحة غامرة:

- الواد هناك أهه يا دكتور!

نظرت حيث أشار فوجدت"حلمى"يتهادى على الجانب الآخر من الطريق المزدحم بالسيارات..أسرعت أجتاز السيارات محاذراً أن تصدمنى أحداها،و أنا ألوح بذراعى..طالباً تقليل السرعة..بينما أبواق السيارات تدوى منذرة بالويل..فى أغرب منظر قد يراه المرء فى الثامنة صباحاً..رجل يرتدى معطف طبيب..يحاول المرور من بين السيارات..يركض خلفه ممرض عملاق بزى التمريض الأزرق..لابد أن الإنطباع العام عنا..هو ممرض يحاول إعادة مريض عفلى هارب..متنكر بزى طبيب لمستشفى العباسية!

- حلمى!..صحت منادياً بأعلى صوتى..فألتفت الولد الذى جذبته الضجة..ابتسم حين رأنى أقترب..قبل أن تختفى ابتسامته..ويطلق ساقيه للريح..لم أفهم لما يهرب منى..إلا عندما رأيت "عبّود"يركض قادماً من ورائى..تخطنى بوثبة واحدة..لينقض على الصبى المرعوب،ليمسكه من قذاله كأنه يصطاد أرنب..بينما الأخير يحاول التملص منه فى رعب.

********

-"حلمى"!..أنت رجعت؟.. يا ألف نهار أبيض!

هتفت سيدة  سمراء ،متغضنة الوجه ،قد تساقطت أغلب أسنانها..من قاطنى المنطقة العشوائية..التى تسكن فيها أسرة"حلمى"..حين رأته يسير بيننا..سألت بحيرة:

- مين دول يا وله يا"حلمى"؟!

رد "حلمى"الممسك بيدى..و هويشير إليّ:

- ده دكتور"مجد"اللى كان بيعالجنى فى المستشفى..و ده.....

عمو زفت!قلتها فى سري طبعاً..حين صمت"حلمى"محتاراً،لا يدرى بما يقدم "عبود".

- يا حلوه يا ولاد!هما فى المستشفيات بيوصلوا العيانين لبيوتهم اليومين دول؟!هتفت السيدة  الخمسينية مبدية دهشتها من منظر موكبنا العجيب-ومعها حق-قلت فى نفسى ..بل يلقونهم فى الشارع فى الواقع!

توجهت للسيدة المخيفة سائلاً:

- لو سمحتى يا ستى..هى الست أم"حلمى"فين؟

- أم"حلمى"راحت الشغل هى و "بطه"بنتها الكبيره يا ضنايا!

ثم أضافت قبل أن أسأل:

- مش هيرجعوا قبل المغرب لو هتسأل!قالتها و هى تسحب الولد من يدى:

- خلي"حلمى" معايا على ما يرجعوا.

تمسكت بيده الصغيرة رافضاً تركه..فلم أكن أعرف تلك السيدة..و لا أدرى هل يجب أن أتركه معها..خاصة أن أمه قد أغلقت الباب على أخويه الصغيرين..لم تتركهما مع جارتها تلك.

قطع"عبود"حبل أفكارى هامساً:

- يا دكتور!

-أيه؟.. عايز أيه؟!

- أنا بقول نسيبهولها..و هى تتصرف مع أمه..لو أستنيناها ممكن مترداش تخده!

ألتفت أنظر إليه فى دهشة..فأضاف شارحاً:

- أصل أمه من ساعة ما جبته المستشفى من عشرتيام ماجتيش  تسأل عليه،و لا تشوفه..شكلها مش عايزاه!

همست من بين أسنانى بغل:

- و لسه فاكر تقول لى دلوقت!

سألت"حلمى"متشككاً فى كلام الثور الأدمى الذى يصاحبنا:

- هى أمك ماجتش تزورك،من ساعة ما دخلت المستشفى؟!

أبتلع الصبى ريقه متوتراً،و قد بدأ يشعر بأن شيئاً ما ليس على ما يرام ..قبل أن يهز رأسه مؤمناً على كلام"عبود"

الله يخرب بيتك على بيت أمك!

عندما فكرت سريعاً فيما يجب عمله.. لم تعد فكرة تركه مع تلك الجارة التى لا أعرفها، سيئة إلى ذلك الحد..تبدو عجوز طيبة..و لا أعتقد أنها تلتهم الأطفال!

- طيب يا ست....

- أم"بيجو" يا خويا..عندى أسم الله "بيجو"من دورك كده..قالت المرأة بسرعة..قبل أن تصيح متعجبة و هى تنظر ورائي:

- أستنى كده !..أهى أم"حلمى رجعت هى و "بطه"

"-دانتى وليه ظالمه منك لله يا بعيده"هتفت"بطه"،و هى تلوم أمها فى حنق..قبل أن تضيف ساخطة:

- أدينا أتمشورنا رايح جاي على قلة فايده!

- يعنى و أنا كنت هاعرف منين إن الست مش فى البيت يا بنتى!

- كل ده عشان كام ملطوش!..قالتها البنت قبل أن يتبدل حالها فجأة لتصيح فى فرح وهى تجرى نحو"حلمى":

- "حلمى" رجع يامه!..أخويا رجع يا"تهانى"!

************************

- بس يا ستى.. بعدها الست دخلتنا..و حكتلى الحكايه كلها مالأول..بعدها مفيش دقايق لقيت د"طارق"بيتصل..بيقولّى أرجع المستشفى حالاً!

قال لى إنه مضى بدالي فدفتر الحضور..قلته له ليه يا دكتور تعمل كده؟!..كنت أعملها أجازه عارضه!..فلقيته بيقولى بهدوئه الشديد المعروف عنه..ماكنش ينفع..الأجازات ممنوعه..مفيش أجازات  لا عارضه و لا غيره..أنت عايز د"عشماوى" يجي يولع فعنبر الحروق بالدكاتره و العيانين اللى فيه؟!..فاضطريت أرجع جرى!

 قالت"نادين"فى تفهم:

- علشان كده مبسوط..بس اللى أنا مش فهماه ..أزاى الست دى تسيب أبنها فى المستشفى؟،و متحولش و لا مره تتطمن عليه؟!

رددت عليها بسرعة:

- هو دا بالظبط اللى كنت بفكر فيه لغاية ما شفت الأوضه اللى هما عايشين فيها..أوضة أيه؟!..دى عشه!..عايشين فيها هما السته..تخيلي أمه كانت ربطاه  بجنزير حديد -قبل ما تجيبه المستشفى-علشان ما يخرجش !

- تعرفى أول مالأطفال الصغيرين شافوا"حلمى"راجع ..خافوا يقربوا منه..عارفه ليه؟..علشان حاول يشنق أخوه بالجنزير..علشان يخلى أمه تسيبه يجيب pills

شهقت"نادين"متقاجئة..قلت مصدومة:

- للدرجه دى!

- أمه لحقته يومها قبل ما يموت..تصورى الجنزير لسه سايب أثر واضح على رقبة الولد!..علشان كده كانت خايفه إنها ترجعه البيت.

سألت"نادين"فى إستغراب:

- يعنى هى كانت فاكره إن ابنها هيعيش فى المستشفى بقية عمره؟!

-معاكى إنها غلطانه..بس أنتى متعرفيش كم المعاناة اللى وصلها لكده.. الفقر و المعيشه الصعبه بتعطل التفكير..ساعات بتحول الناس لوحوش..يمكن أنسب تلخيص للموقف كله..بيت شعر للشاعر حافظ إبراهيم..بيقول فيه:

لو سألوك عن قلبي ومـا قاسى
فقل قاسى وقل قاسى وقل قاسى

أستدركت"نادين":

- آه بمناسبة القسوه..شوفت د/"عونى"عمل أيه أمبارح؟!

- أيوا طبعاً..المستشفى كلها بتتكلم عن الست اللى ضربها بالقلم على وشها..و الله ما هساتغرب لو لقيتها طلعت فى نشرة تسعه اللى بتيجي عالتلفزيون!

هتفت"نادين"فى غيظ:

- ما هي تستاهل برضو يا"مجد"..الست جايه لابسه drass لونه أحمر مستفز..و شايه أبنها يا حبيبى ريحتوا طالعه..و هدومه حاجه تقرف..ده غير ريحة اللبخه اللى حطاها عليه علشان عنه overtemp-درجة حرارته40-..و برغم إن توأمه مات و هيا بتعلجه بنفس الطريقة..بره مصره على اللبخه،و التخلف ده!

- طيب معاكى.. هى مش فاهمه حاجه..و جت المستشفى علشان ننقذ الطفل..نقوم نضربها!..أكيد مش ده الحل.. ده لو حصل فى مستشفى محترمه كان اللى عمل كده بعتوه ماشي لقمر من أقمار المشترى !

ردت"نادين ضاحكة:

-تلاقيه أشتغل فى الطوارئ كتير!.. شوف بقاله كام سنه بيضرب..كوّن خبره كويسه فى الملاكمه ،و  قال يضرب هو المره دى!

- بتضحكى؟!سألت مستغرباً..فأجابت:

- أعمل أيه؟.. بضحك غلب و الله!..بيقولوا الرياضه غالب و مغلوب..دلوقت المستشفيات الحكومى بقت ضارب و مضروب!

أضافت"نادين"كأنما تذكرت شيئاً فجأة:

 - بس عارف أغرب حاجه مش مصدقها؟..أنك رحت وصلت "حلمى"و قعدت و حكيت..و عرفت قصة حياته..و رجعت المستشفى تانى..كل ده فى ساعتين..و من غير ما حد يلاحظ غيابك حتى!

أثار كلامها أستغربى..كيف لم ألاحظ هذا القدر الهائل من حسن الحظ،الذى رافقنى فى ذلك اليوم؟!..أننى حين أتأمل الآن ما حدث..أشعر أنها كرامة تقترب من كرامات الأولياء الصالحين!..لكن لم تكن تلك الحادثة الفريدة هى الوحيدة، التى حدثت لى بينما كنت أحاول مساعدة تلك الأسرة البائسة... 

-


 أرزاق!


بعد ثلاثة أو أربعة أيام عرجت على منزل"حلمى"قبل أن أذهب للمستشفى..ففوجئت بأخته"شهندة"الشهيرة ب"شوشو"تبكى بصوت مرتفع ،و حرقة شديدة..سألتها مغتاظاً-من بكائها المستفز-:

- أيه مالك؟..بتعيطى ليه؟!

مسحت مخاطها بيدها،و قالت بكأبة:

- لا و لا حاجه!..أنت جاي ل"حلمى"؟

يا بنت ال...!..منعت نفسى قهراً من تهشيم رأسها، بزجاجة البيرة الفارغة التى ألقاها أحدهم هناك بجوار ذلك الجدار الأسود العطن..فسيكونن تفسير ذلك بعدها-لأمها-عسيراً بعض الشئ!.. 

قلت فى جفاء:

- كل العياط ده عشان و لا حاجه؟!..أيوا يا ستى جاي أطمن على "حلمى"..

تقدمتنى متجهة لعشتهم،كأنها تمشى إلى المقصلة..و قد أستعادت mode البكاء..و أخذت دموعها تهطل بسخاء..حتى ظننت أنها ستترك خلفها خيطاً من البلل !

يال المصيبة!

ماذا ستقول أمها حين تراها تبكى بهذا الشكل؟..بينما أتبعها كخروف أبله..!

على الأغلب ستظننى حاولت التحرش بها..لهذا تركتها تسبقنى ببعض خطوات..و قد أحكمت قبضتى على سير الحقيبة التى أحملها على كتفى،فربما أحتجت للركض بعد قليل!

و صدق ظنى فقد دوت صرخة حادة..و قبل أن أقفل راجعاً من حيث أتيت..سمعت أم "حلمى"تصيح:

- ضيعتيها فين يا موكوسه؟!

***

ركضت باتجاه البكاء و الصريخ..فوجدت أم "حلمى"تعجن البنت الواقعة على الأرض بين قدميها ..و هى تصيح فيها:

- اللهى تتشلي يا بعيده!..ضيعتي الخمسه جنيه فين ياللى تتجني؟!

"- أستهدي بالله يا ستى!..البنت هتموت فأيدك".قلت محاولاً تخليص البنت من بين يديها..بينما هى تصيح غاضبة:

-  تموت و لا تطلع روحها.. أشرب نارك يا"شوشو"يا رب..أخد عزاكى عن قريب قادر يا كريم!

حاولت البنت الفرار من أمامها زحفاً ،على يديها و ركبتيها..فهوت الأخيرة براحتيها المفرودتين على ظهر الطفلة بضربة قاصمة..فتكومت مكانها صارخة  باكية..بينما أمها تصيح فى غل:

- الفلوس دى أنقطم ضهرى أنا و أختك بيهم ياللى تتعمى..تقومى تضيعيهم زى الجاموسه!

- ميصحش يا ستى كده!..خلاص هندور عليهم و نلاقيهم قلت محاولاً تهدئتها،فصاحت البنت البلهاء من بين دموعها:

- أنا دوّرت فى كل حته..و ملقتهموش!

- طبعاً تلاقى حد لقاهم و خدهم..مش زي خيبتك!

قالتها الأم الغاضبة محاولة الفتك بالبنت التى أختبئت وراء ظهرى..فحجزتها منها صائحاً:

- ندوّر تانى!.. أنتى بس سمى الله..و إنشاء الله نلاقيها.

هدئت قليلاً و بدأت تبحث فى الأرض حولنا..أخرجت من جيبى خمسة جنيهات مهترئة،و وضعتها على الأرض.بينما كنت ألتقطت حقيبتى التى سقطت على الأرض أثناء المعركة ..و ما أن قمت حتى صاحت "شهندة"بفرح،و هى تنظر تحت قدمى:

- لقيت عشرين جنيه!

تحسست الورقة الراقدة فى جيبى فى شك..فقد كان معى خمسة و عشرين جنيه-أول عن آخر-و يبدو أننى أسقطت العشرين بدلاً من الخمسة!

أجر سهرة أمس بطوارئ المستشفى الثانيه ضاع بسبب غلطة غبية

..نظرت للعشرين جنيه فى يدها متحسراً بصمت..مجهود تسع ساعات سهر و حرقة أعصاب ضاع فى نصف دقيقة!

خطفت أم "حلمى"العملة من يد البنت التى أتسعت أبتسامتها-من الأذن للأذن-و هى-الأم-تهتف بسعادة-:

- وشك حلو يا دكتور..أنا عمرى مالقيت فى الحته دى ربع جنيه مخروم!


قصص اخرى

***

"معك عشره ساغ!"سألنى د"محمد".بينما كنت أنوى شراء البسكويت للأفطار..بحثت فى جيبى فلم أجد أى عملات معدنية..

سامحك الله يا أم "حلمى"!..بسببك لم يعد معى نقود-بإستثناء خمسة جنيهات- حتى آخر الشهر

قلت معتذراً-و أنا أوصل البحث عن الخمسة جنيهات فى الجيب الواسع:

-و الله يا دكتور ما معايا غير الخمس...متيين جنيه دى!

..أكملت جملتى فى حيرة وعجب ...،مطالعاً العملة  التى خرجت من جيبى بإندهاش:

 ورقة بمائتي جنيه جديدة كأنها خرجت للتو من المطبعة!

من أين جاءت؟!

فلم أكن حتى هذه اللحظة قد لمست بيدى تلك العملة التى تم  أصدارها هذا العام* 

برقت عينا د"محمد"زميلى حسداً..و هو ينظر للعملة الجديدة فى يدى..قبل أن يقطع عم"جمعة"عامل المقصف أفكارى بهتافه:

"- يا دى النيله!..أنت كمان ما معكش فكه؟!"،نظر لى شذراً قبل أن يضيف فى ضيق:

- يعنى ما حدش فيكو يجمد و يشترى بخمسه جنيه حتى،عشان أفكلك المتيين جنيه دى؟!..إلا واحد عايز يصرف جنيه و التانى عايز يصرف نص!..أمال أخر الشهر هتعملوا أيه؟!

 - خلاص يا دكاتره يبقى لى و اللى عن الله ما يروحش!

***

كنت ذاهباً إلى عنبر الحروق،و على يدى علبة البسكويت التى أضطررت لشرائها بعشرة جنيهات-أكثر من بدل التغذية- من عم "جمعة"-حتى لا يتهمنى بالبخل-عندما

قالت دكتورة"مريهان"بصوت عذب ،و ابتسامة لطيفة:

"صباح الخير"

لم أرد..فقد ظننتها تحدث شخصاً آخراً..لكنها أضافت بابتسامة مجاملة:

- شكلك بقى أحلى كتير لما خسيت!

نظرت حولى بدهشة..لم يكن ثمة أحد غيرنا فى الطرقة

- حضرتك بتكلمينى أنا؟!

- أيوا بكلم حضرتك..هو فيه غيرنا يعنى؟!هتفت فى مرح..فقلت:

- عشان كده مستغرب!

ضحكت بإفتعال واضح:

- و ليه مستغرب؟!..للدرجه دي مستهون بنفسك؟!

اخذت لمبة إنذار تومض فى عقلى..ماذا تريدين يا فتاة؟!

لست من تنشدين..ألا يكفيك كل الرجال الذين يدورون فى فلكك؟!

قلت بنفاد صبر:

- حضرتك لو فيه حاجه مهمه.. قوليها مباشرة.. عشان معنديش وقت للكلام الفارغ!

قالت منفعلة:

- خلاص يا دكتور.. انا آسفه! ..كل الحكايه إنى كنت عايزه أزيل سوء التفاهم إللى بينّا.

قلت بلهجة قاطعة:

- أحنا مفيش بينّا تعامل اصلاً ..غير فى حدود الشغل..يعني مفيش مجال  لسوء تفاهم و لا غيره!

ردت هى بسؤال مستنكر:

- حد قال لك قبل كده أنك قليل الذوق؟!انت حد جلياط جداً على فكره! 

قلت فى برود:

- و ساعات ببقى قليل الأدب..فيريت نحترم نفسنا عشان متزعليش !

- قلة أدب!

قالتها وانصرفت و قد عقد الغضب سحابة سوداء فوق رأسها..راقبت انصرافها الغاضب فى استمتاع سادي.. هل تظننى سأصدقها بعد ما حدث؟. .تحسبنى أحمق تلك الغانية!

*****

و قفت أتأمل جذعى العارى فى المرآة مستغرباً..عن أى حُسن تتحدث تلك الأفاقة!..أبدو  بهذا الجسد الهزيل وهذه العظام البارزة كسحلية مصابة بالجفاف..فقط لو أن السحالى تصب بترهل الجلد!

"- و ليه مستغرب؟!..للدرجه دي مستهون بنفسك؟!"

أنعقد حاجباى فى غضب عندما تذكرت كلماتها الساخرة و ثقتها المبالغ فيها..تحسب نفسها شئ تلك الحمقاء!

 تتصرف و كأنها قمة يرنو إليها الطامحين..بينما هى-فى حقيقة أمرها-قعر هاوية مظلمة..لا أكثر و لا أقل!

طرقت أمى الباب،قلت بسرعة:

- لحظة يا ماما!

 سارعت بارتداء جاكت البيجامة-لا أريدها أن ترى هذه الفضيحة-و ذهبت لأفتح الباب:

- أنت جيت يا حبيبى؟..حالاً الأكل هيكون جاهز.

- براحتك ..مش مستعجل
- أيه دا يا"مجد"؟!..أنت لبست البنطلون ده برضو؟!..عشان كده ملقتهوش فالغسيل!

هتفت أمى فى ملامة..جلست على طرف الفراش قائلاً فى تبرير:

- أعمل أيه ؟هوا دا البنطلون الوحيد اللى بيجيي على مقاسى!هدومى كلها وسعت..يعنى كان لازم توزعى هدوم بابا كلها؟..كان زمنها نفعت دلوقت!

جلست بجوارى،و هى تقول فى استغراب:

-يعنى هو أنا كنت هاعرف منين أنك هتخس أوى كده!..عموماً أظن كان فيه بنطلون بتاعك ،ماكنتش بتلبسه علشان ضيق ..أظن كده ممكن تلاقيه بقى مقاسك..البنطلون السمنى..فاكره؟

- آه..أفتكرته..بس دا تلاقيه قصر!

تنهدت أمى فى تعب:

- طب ما تشترى حاجه جديده..بدل بنطلون أبوك وقمصانه اللى أتهلكوا دول!..و بعدين أنت شاب و دكتور.. مينفعشى تمشى  مبهدل كده!

ابتسمت رغماً عنى..قلت كاذباً:

- آه..إن شاء الله!

- ممكن أسلّفك لو ما معكش فلوس.

- و دي هتبقى السلفه الكام على كده ؟!  سألت بضيق..فردت بابتسامة عذبة:

- ما انت بتديني المرتب بتاعك أول كل شهر.

قلت ضاحكاً بمرارة:

- الله على المرتب إللى بتحطى عليه من معاشك..علشان تدفعي الجمعيتين  إللى عاملهملي!

- أمال يا ابنى هنستر نفسنا مع الناس ازاى؟!  و بعدين ده خير ربنا،و معاش أبوك الله يرحمه.قالتها قبل أن تضيف سائلة..كأنما تذكرت أمراً :

- انت فاكر يعني أبوك الله يرحمه اتجوزنى ،من غير ما جدك الله يرحمه يساعده؟!..ده يمكن لولا مساعدته هو،و جدتك الله يرحمها..كان زمنّا عنسنا أحنا الإتنين! 

قلت لارضيها:

- خلاص يا ماما ..هبقى أصّغر الهدوم  إللى عندي على مقاسى.

ردت فى أسف:

- ليه؟..خساره..ما يمكن ترجع تملى تانى؟..انت لو تبطل الحبوب إللى يا بتاخدها دي..هتبقى كويس خالص!

اصفرّت الرؤية فجأة أمام عيني..و سألت برعب:

- حبوب أيه ؟!

********

- حبوب التخسيس!...أنت مش قولت لى....

- آه..آه..إن شاء الله هبطلها!قاطعتها متنفساً الصعداء .. نسيت إننى أخبرتها أتناول حبوب للتخسيس..كى تتوقف عن الهلع بشأن وزنى الذى يتناقص بإطراد..حقاً على الكذوب أن يكون ذكوراً!

من الجيد أنها لم تعلم أيضاً،بأننى اتعاطى كمية ليست بقليلة من المسكنات!

قامت أمى وقالت و هى تأخذ البنطلون من جوارى :

- هاروح اسخن الغدا 

امسكته من يدها فقالت :

- هطلعك البنطلون السمنى..

- برضو!

تمددت السرير بينما سألت أمى بدهشة:

- إيه دا يابنى ؟!..هما قبًضوك تانى الشهر ده!

سألت بدهشة مماثلة:

- لأ طبعاً..ليه بتسألى ؟!

نظرت إليها فوجدت فى يدها باقى المائتين جنيه التى أخرجتها من جيبى..فقلت بسرعة:

- قصدك على باقى المتين جنيه اللى لقيتها فى جيبى..اللى فيها عشرين جنيه مقطوعه من النص..لأ معرفش جت منين الفلوس دى!

ابتسمت مظنة أننى أمزح..و قالت بلوم :

- و الله عيب كده!..أنتا  كلامك  كله هزار عالطول؟!

*******

رن الهاتف،فخفق قلبى طرباً!..كانت"نادين" المتصلة كما توقعت..لهذا وضعت الهاتف على أذنى بحب كأننى أحتضنه..

أتانى صوتها الحبيب سائلاً:

- لسه صاحى!..

تنهدت قائلاً:

- مستنيكى تتصلى!

سألت بضحكة متعجبة:

- و مين قالك إنى هتصل دلوقت؟!

- آمم..كنت بتقلب فالسرير،مش عارف أنام..و لقتنى بفكر فيكى..قلت ياسلام لو كنتى بتفكرى فيا..لقيتك بتتصلى!

- يا سلام على الرومانسيه!..عموماً أنا لسه طالعه من العمليات حالاً..ببص فى الساعه لقتها أتنين و تمنتاشر دقيقه..قولت أغلّس عليك و اصحيك..

و أكملت ببهجة:

- بس طلعت صاحى للأسف!.

-.كنت سهران بتذاكر أيه على كده؟

تنهدت فى تعب:

- كنت بحاول أذاكر..بس لقتنى مش فاهم حاجه..كأن الكتاب مكتوب بالصينى!

- شكلك زهقان..طب ما تجرب تعمل حاجه بتحبها..عارف أنا لما ببقى زهقانه بطلع الموبايل و ألعب لعبة الدوده!

سرحت قليلً فى كلامها،و فكرت أن الأكتئاب الذى ينهش روحى.. يمضغنى تماماً كدودة تأكل ورقة شجر..ربما كان ما يخفف عنى قليلاً زيارتى لبيت"حلمى"..على طريقة من شاف بلاوى الناس!

وعلى ذكر البلاوى

- شوفتى الست  الحامل اللى جت المستشفى أمبارح  بعد الضهر؟

- آه يا حرام..دى البنت اللى كبت على نفسها جاز،و حرقت نفسها فى الحمام!..كان أسمها"بدريه"صح؟

قلت مؤمناً على كلامها:

- "بدريه"آه.."بدريه"الفقريه!..يدوب سلمت من صلاة الضهر لقيتهم دخلين بالزفه بتعتها!..أمها و أختها و جوزها..و زعيق و صريخ،وخناق..قام د"طارق"طردهم بره المستشفى..يكملوا خناق مع الأمن بره!

سألت"نادين":

- بيتخانقوا مع بعض؟

-  مع بعض ومع د"طارق"و معايا!

ردت"نادين"بتعاطف:

- ربنا يكون فى عونهم الصراحه..و هى حالتها عامله أزاى؟

- جسمها كله محروق..و أغلبها حروق من الدرجه التالته..تخيلى إن عضم ضلوعها باين؟!..بس هتعيش!

- الطفل اللى فبطنها ربنا جعله سبب فى إنقاذ حياتها..الStem Cellsاللى فى الحبل السرى للجنين كانت بتجدد خلايا جسمها اللى بتموت!

سألت فى فضول:

- هو صحيح جوزها زعق مع د"طارق"؟و قال له يفتح بطنها و يطلع الbaby و مش مهم هى تعيش؟

- هرشت رأسى محاولاً التذكر..قلت:

- آه..أظنه قال حاجه شبه كده!

- oh my god..مش كفايه إن هو السبب فى إنتحارها؟!..كويس إن د"طارق"طرده!. فى كام شهر جواز زهقها فحياتها..رغم أنه كان بينهمbig love story . .هى سنها ستاشر سنه صح؟

سألتها بدهشة:

- و أنتى عرفتى كل ده منين يا"نادين"؟

ردت بسرعة:

-و هوا فيه حاجه بتستخبى فى البلد دى؟!

أقشعر جلدى رعباً..اللهم سترك من الفضائح!

- و بالمناسبة يا"مجد"..هوا أنت كنت بتتوشوش مع الست"مريهان"أمبارح فى أيه؟!

***

"لا..ده احنا بقينا عال خالص!"ربت على كتف"حلمى"مشجعاً..ابتسم بينما سألت أمه بحبور:

- و النبى خّف يا دكتور؟

ارتسمت ابتسامة خفيفة لا تلاحظ على وجهى..مع شعور خفى بتأنيب الضمير..فلم أكن حتى أعالجه من شئ ،سوى محاولة فك أرتباطه بالمخدر..بالوهم و حبوب البلاسيبوPlacebo!

أخذت ألملم عدة النصب بخفة..كالحاوى!..فى الحقيقة لم يكن ثمة سبب-حقيقى-لوجودى هنا..فقد كنت أطارد خيالاً و شبحاً!

خيال أمرأة مهوسة بحب الأطفال،و شبح الإدمان..و للآن لم أقبض على أياً من هما!

يبدو أن"نادين"و د"نعمان" كانا محقان

لقد تماديت فى غيي..بينما أحتاج كل دقيقة من وقتى فى العمل و المذاكرة..أقتطع ساعتين من وقتى من أجل هذه الزيارة التى لا لزوم لها!

و فكرت أنه من الأفضل أن تكون هذه هى أخر زيارة..و بينما أتأهب للإنصراف..

فجأة تذكرت أثر تلك العضة ..فسألت أم "حلمى"فى إحراج منتهزاً فرصة خروج"حلمى":

- هوا لما كشفت على"حلمى"فى المستشفى ..كان فيه ف..جسمه يعنى أثر عضه..شكلها غريب شويه..متعرفيش كانت عضة أيه؟

قالت كأنها تفكر أو تتذكر:

-عضه؟!..أيوا ..أفتكرت ..فيه يوم "حلمى"رجع من بره بيعرج..و لما سألته مالك..قال إن فيه كلبه عضته!

كلبة!..أجل بالطبع..إنها كلبة مسعورة!

بدت لدى كلمتها قرينة ممتازة،تؤكد شكوكى فى"كهرمان"السيدة غير الأخلاقية..التى سمعت عنها الكثير..من نشأتها الغامضة لتجارتها بكل المحرمات من جنس و مخدرات..

لكننى لم أخبرها بشكوكى فى تعرض ابنها لواقعة إغتصاب..فلا أضمن رد فعلها..بالتأكيد ستصاب بنوبة من الهسيتريا..بل و -الأسوء-قد تعاير الولد بما جرى له و هو-تحت تأثير الإدمان- مسلوب القوى و الإرادة.

سألت أم"حلمى"بعجب:

-إلا هوا أنت كان بقالك تلات أربع أسابيع مابتجيشي ليه؟!

هل مر كل هذا الوقت حقاً؟!

أجبت بإبتسامة باهتة..و أنا أتذكر أمتحان النسا الذى إجتزته منذ يومين..بعد تفرغ لا يشوبه الكمال للمذاكرة

- كان عندى غسيل!

قال فى مجاملة:

-و النبى عسل يا دكتور!

قلت فى نفسى..عسل أسود طبعاً

..فهو أيضاً يحتاج للعصر و الغليان!

دعست -دون قصد-على قطعة قماش كارو خضراء-أتضح أنها قميص رجالى-ألتطقته،و نفضت التراب الذى طبعه حذائى فوقه محرجاً..

ناولتها القميص قائلاً فى حرج:

- متأسف..الظاهر إنى دست على قميص المرحوم من غير قصد.

- و لا يهمك ياخوى..و بعدين دا قميص البت"عزه"أبقى أغسله لها تانى!

أرتفع حاجبى بدهشة ساخرة:

- و "عزه"دى بتلبس قمصان رجالى ليه؟!

- و النبى دى بنت غلبانه!..و يا بخت ليجوزها..أنت متجوز يا دكتور؟

- لا خاطب..

سألت بجدية :

- و معندكش أخوات شباب؟

أضفت بابتسامة مندهشة:

- و لا بنات!

-"عزه"دى إللى ساعدتنى أخد"حلمى"من عند"كهرمان"اللى ربنا يعميها.. و النبى دى بت جدعه!

أضافت بسخرية مشيراً للقميص الرجالى الذى كنت أرتدى شبيهه لكن-بلون أحمر،و أبيض :

- و بميت راجل ..واضح!

هتفت مستنكرة:

- ميت راجل ده ايه؟..و نبى دي ست البنات!..و لسه عيله صغيره..عندها خمستاشر سنه تربيتها على إيدك!

قلت ضاحكاً :

- لا ستى يفتح الله!..أنا خاطب دكتوره زملتى..و متربيه جاهزه..متشكر جداً لحضرتك !

تذكرت لوم"نادين"لى على حديثى الهامس مع "مريهان"و أكملت فى سرى..و عاقلة !

حتى أنها لم تشك لحظة فى علاقة تجمعنى بها..فكان لومها من مطلق إتقاء الشبهات أمام الزملاء ليس إلا!

ردت مستغربة من- قلة عقلى-:

- أنت الخسران!..و النبى دي بت ما تهدى غير لملك..أدب و جمال..و عليها شرطة عين تهبل!

- استغفر الله!..عيب يا ستي للكلام ده!

- هوا أنت شيخ يا دكتور؟!سألت و هى تنظر لى بدهشة،فقلت بسرعة كأننى انفى تهمة:

- لا شيخ و لا غيره يا ستي!..يلا انا ماشي..السلام عليكم.

غمغمت فى أسف معتذرة :

- يالهوى..يقطعنى و النبى ما تزعل منى يا دكتور!..أصل البت صعبانه عليا قوى..و النبى خسارة تترمى فى الشارع كده..من بعد عز أبوها..يطمع فى لحمها اللى يسوى و اللى ميسواش!

*****

*صدرت عملة المائتين جنيه فى شهر مايو من العام2007


يتبع


أحدث أقدم

نموذج الاتصال